الفصل التاسع

إعادة رسم الخريطة

البعض يريدون إعادة إحياء سُنَّة شيفاجي ورَفع عَلَم الإمبراطورية الماراثية في ساميوكتا مهاراشترا (أي، مهاراشترا المتحدة)، بينما يرغب آخرون في توسيع الإمبراطورية الاقتصادية لمليونيرات بومباي وأحمد أباد حتى تشمل مهاجوجارات قاطبة. والتحيُّزات والخصومات والأحقاد الإقليمية يُعاد إحياؤها في جميع الأنحاء، والجميع يَبدون متلهِّفين للانفصال عن الآخرين، وليس الاتِّحاد معهم؛ فالآساميون يودُّون اقتطاع تلك الأرض من البنغال، والبنغاليون يرغبون في قطعةٍ من بيهار، والتيلوجيون غير راضين في أوريسا، والأقليَّة التاميلية تريد الانفصال عن ترافنكور.

الكاتب اليساري كيه إيه عباس، يناير ١٩٥١

١

لطالما أدرك قادة الحركة القومية الهندية قدرة اللغة الأم على استثارة الناس وتحريكهم؛ فقد كانت الهند أرضَ لغاتٍ كثيرة، كلٌّ منها لها أبجديتها الخاصة، وقواعدها النحويَّة، ومفرداتها، وتراثها الأدبي. وعوضًا عن إنكار ذلك التنوُّع، سعى حزب المؤتمر إلى إفساح المجال له؛ فمنذ عام ١٩١٧، ألزم الحزب نفسه بإقامة أقاليم لغوية في الهند الحرة؛ فشُكِّلَت دائرة منفصلة لأندرا ذلك العام، ودائرة منفصلة للسند في العام التالي. وبعد عقد جلسة حزب المؤتمر في ناجبور عام ١٩٢٠، وُسِّع تطبيق ذلك المبدأ واتَّخذ شكلًا رسميًّا بإنشاء لجانٍ إقليميةٍ لحزب المؤتمر حسب المناطق اللغوية؛ وذلك على غرار: لجنة حزب المؤتمر في كارناتاكا براديش، ولجنة حزب المؤتمر في أوريسا، ولجنة حزب المؤتمر في مهاراشترا، وهكذا دواليك. والجدير بالذكر أنَّ تلك اللجان لم تتبع التقسيمات الإدارية للهند البريطانية، بل أحيانًا ما تنافت معها.

وقد شجَّع المهاتما غاندي عملية إعادة تنظيم حزب المؤتمر على أساس اللغة ودعمها. وعندما جاء الاستقلال — في أغسطس ١٩٤٧ — رأى غاندي أنَّ ولايات الدولة الجديدة ينبغي أنْ تتحدَّد على أساس اللغة. وفي يوم ١٠ أكتوبر من عام ١٩٤٧ كتب إلى زميلٍ له قائلًا: «أرى أننا ينبغي أن نُعجِّل بإعادة تنظيم المقاطعات اللغوية … ربما توهَّمنا حاليًّا أنَّ اختلاف اللغات دلالة على اختلاف الثقافات، ولكنْ ثَمَّةَ احتمال أيضًا في أن يختفيَ هذا التوهم بإنشاء المقاطعات اللغوية. سوف أكتب شيئًا عن هذا الموضوع إذا سنح لي الوقت … أعلم أنَّه ثَمَّةَ فئة من الناس يقولون إنَّ فكرة إقامة أقاليم لغوية فكرة خاطئة. وفي رأيي أنَّ هذه الفئة تتفنَّن في اختلاق العقبات.»1
وكان جواهر لال نهرو أيضًا يُقدِّر التنوُّع اللغوي الذي تتميَّز به الهند؛ ففي مقالٍ كتبه عام ١٩٣٧، قال: «إنَّ اللغات الحَيَّة كيان نابض نشِط، متغيِّر باستمرار، مطَّرِد النمو، يُعَبِّر عن الأشخاص الذين يتحدَّثونه ويكتبونه.» وأضاف: «لغاتنا المحلية العظيمة ليست مجرد لهجاتٍ أو لغاتٍ دارجة، كما يدعوها الجُهَلاء أحيانًا؛ بل هي لغات عريقة، ذات ميراثٍ ثَرٍ، وكلٌّ منها يتحدثها ملايين البشر، وكلٌّ منها مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بحياة العامَّة وثقافتهم وأفكارهم وكذلك حياة الطوائف العليا وثقافتها وأفكارها. ومن البديهي أنَّ جموع الشعب لا يمكن أنْ تنموَ تعليميًّا وثقافيًّا إلا من خلال لغتها الخاصة.»2

كانت تلك هي رؤية نهرو عام ١٩٣٧، ولكن بحلول عام ١٩٤٧ كان فكره قد تغيَّر؛ فآنذاك كانت البلاد قد قُسِّمَت لتوِّها على أساس الدين، فَأَمَا كان لتقسيمها مرةً أخرى على أساس اللغة ليشجِّع على تفكيك الاتحاد الهندي؟ ولِمَ لا يُحتفَظ بالوحدات الإدارية القائمة؛ مثل مدراس — التي ضمَّت جماعاتٍ سُكَّانيةً من متحدثي التاميلية والمالايالامية والتيلوجِوية والكانادية والأردية والكونكانية — وبومباي، التي يتحدث سكانها الماراثية والجوجاراتية والأردية والسِّندية والجُندية وغيرها من اللغات؟ أليس من شأن تلك الولايات المتعددة اللغات والثقافات أنْ تُقدِّم ممارسة نموذجية لتناغُم العيش؟ وعلى أي حال، ألا ينبغي للدولة الجديدة أنْ تتَّحِد على المُثُل العلمانية المتمثِّلة في السلام والاستقرار والنمو الاقتصادي، عوضًا عن إعادة إحياء الهويات الطبقية واللغوية البدائيَّة؟

أعرب نهرو عن تلك التحفُّظات في خطابٍ أدلى به في الجمعية التأسيسيَّة بعد الاستقلال بثلاثة أشهر؛ فقال إنَّه على الرغم من أنَّ حزب المؤتمر وعد يومًا بإقامة أقاليم لغويَّة، فالبلاد تواجه الآن «وضعًا حرِجًا للغاية نتيجةً للتقسيم»؛ فقد «برزت النزاعات الانشقاقية إلى السطح»، ويستلزم التصدِّي لها التشديد على «أمن الهند واستقرارها … ومن ثَمَّ تتمثَّل الضرورة الأولى في أنْ تصير الهند كلها قويةً راسخةَ الدعائم، وواثقة في قدرتها على مواجهة الأخطار كافةً ومواجهة المشكلات كافةً والتصدِّي لها؛ فبحياة الهند، تحيا جميع أجزائها وتزدهر. وبضعف الهند، تضعف العناصر المكوِّنة لها كافة».3
ومن ثَمَّ وجب تأجيل إنشاء أقاليم لغوية، لحين تمتُّع الهند بالقوة والثقة بنفسها. يبدو أنَّ نهرو أقنع غاندي نفسه بذلك؛ إذ إنَّه في نوفمبر من عام ١٩٤٧، كتب المهاتما قائلًا إنَّه «ربما كان الإحجام عن فرض إعادة التوزيع على أساس اللغة مبرَّرًا في ظل المناخ الكئيب الحالي؛ فالروح الإقصائيَّة تأتي في المقام الأول دائمًا. لا أحد يفكر في الهند ككلٍّ». كان غاندي يرى آنذاك أنَّ إعادة تنظيم الأقاليم يجدر تأجيله لوقتٍ أهدأ، عندما يخبو لهب القلاقل الطائفية ويحل محلها «مناخ صحي، يُشجِّع الوفاق عوضًا عن الشِّقاق، والسلام عوضًا عن القلاقل، والتقدُّم عوضًا عن الرجعِيَّة، والحياة عوضًا عن الموت».4
وكما هي الحال دائمًا، شدَّد غاندي على ضرورة اتِّخاذ «خطوات تدريجية». ولكنَّه لم يكن مستعدًّا للتخلي عن المبدأ في حد ذاته؛ ففي مجلس صلاة انعقد يوم ٢٥ يناير ١٩٤٨، عاد غاندي للحديث عن موضوع الولايات اللغوية. وقال مُذكِّرًا: «منذ نحو عشرين عامًا قرَّر حزب المؤتمر إقامة مقاطعاتٍ في هذا البلد قدر عدد لغاته الرئيسية.» وقد وصل الحزب إلى السلطة، وأصبح في موقعٍ يتيح له تنفيذ ذلك الوعد. كان غاندي يرى أنَّه إنْ أُقيمت مقاطعات جديدة على أساس اللغة، و«وُضِعَت كلها تحت سيطرة دلهي، فلن يكون في ذلك أيُّ ضرر. ولكنَّ الوضع سيكون سيئًا جدًّا إنْ رغبت كلها في التحرُّر ورفضت القَبول بالسلطة المركزية؛ فلا ينبغي آنذاك أنْ تكون بومباي بمعزلٍ عن مهاراشترا، ومهاراشترا بمعزلٍ عن كارناتاكا، وكارناتاكا بمعزلٍ عن أندرا؛ وإنما لنحيا جميعًا إخوة. وإضافةً إلى ذلك، فإذا أُقيمت مقاطعات لغوية فسيعطي ذلك دَفعَة للغات الإقليمية؛ فمن السخف أنْ نجعل الهندوستانية لغة التعليم في المناطق كافة، ومن الأسخف أن نستخدم الإنجليزية لهذا الغرض».5

في غضون أسبوع تُوُفِّيَ غاندي، وكان لدى الْمُمْسِكين بزمام السلطة مسائل أخرى أكثر إلحاحًا يُعْنَون بها؛ فقد لزِم تهيئة سَكَن وعمل مُجزٍ لملايين اللاجئين الوافدين من باكستان الشرقية والغربية، وكذلك كان ثَمَّةَ حرب غير معلنةٍ دائرة في كشمير، ووجب وضع دستور جديد، وتحديد موعد للانتخابات، وصياغة سياسات اقتصادية وتنفيذها؛ لذا لزم آنذاك إرجاء إنشاء المقاطعات الجديدة، ربما لأجلٍ غير مُسمًّى.

حَظِيَ نهرو بتأييد كلٍّ من فالابهاي باتيل وسي راجا جوبالاتشاري في إحجامه عن إضافة التقسيمات اللغوية إلى التقسيم الديني الأخير، وأصرَّ سي راجا جوبالاتشاري على ضرورة وقف «القوى الانفصالية الأخرى» عند حدِّها فورًا.6 كذلك فقد عمل باتيل جاهدًا في إطار الجمعية التأسيسية على تغيير الموقف الرسمي لحزب المؤتمر. وتحت إدارته، عيَّنت الجمعية التأسيسية لجنةً من الفقهاء القانونيين والموظفين الحكوميين لإعداد تقارير عن تلك المسألة؛ فأقرَّت اللجنة بقوةٍ المشاعر الشعبية — «النداء القوي» الذي تُوجِّهه المطالبات بالمشاعر اللغوية إلى «كثير من أبناء وطننا» — ولكنها خلُصَت إلى أنَّه في ظل الوضع المضطرب السائد «الضرورة الأولى والأخيرة للهند في الوقت الحالي هي أنْ تصير دولة … فأيُّ شيءٍ يساعد على تنمية المشاعر القومية لا بد أنْ يستمر، وأيُّ شيءٍ يلقي العقبات في طريقها لا بد من رفضه أو تنحيته جانبًا. لقد طبَّقنا ذلك الاختبار على المقاطعات اللغوية أيضًا، واحتكامًا إليه، نرى أنه لا يمكن تأييدها».7

أثار ذلك الحُكم استياء قطاعاتٍ كبيرةٍ من الجمعية التأسيسية؛ فمعظم أعضاء حزب المؤتمر من متحدثي الماراثية أصرُّوا على إنشاء ولاية مهاراشترا المستقلة. وبالمِثل، رغِب أعضاء الحزب الذين مثَّلت الجوجاراتية لغتهم الأم في مقاطعة خاصة بهم. وشابههم في تطلُّعاتهم أعضاء حزب المؤتمر المتحدِّثون بلغات التيلوجوية أو الكانادية أو المالايالامية أو الأورِيَّة؛ فبغية تهدئة الصخب، عُيِّنَت لجنة جديدة، شارك فيها كلٌّ من نهرو وباتيل، بينما كان العضو الثالث هو مؤرِّخ الحزب ورئيسه السابق باتَّابي سيتارامايا.

سحبت تلك اللجنة — التي سُمِّيَت لجنة جيه في بي، نِسبةً إلى الأحرف الأولى من أسماء أعضائها — موافقة حزب المؤتمر السابقة على مبدأ المقاطعات اللغوية، قائلةً: «إنَّ اللغة ليست قوة رابِطة فحسب، بل مُفَرِّقة أيضًا.» وفي ذلك الوقت، حيث «لزم أنْ يكون الاعتبار الأول هو أمن الهند ووحدتها ورخاؤها الاقتصادي»، «لا بد من التصدِّي لأي ميولٍ انفصاليةٍ وانشقاقيةٍ بكل صرامة».

٢

نقلًا عن أحد المصادر الموثوقة — روبرت كينج — كان تقرير لجنة جيه في بي نوعًا من «العلاج بالمياه الباردة». فقد «هدَّأ الأمور لبُرهة».8 ولكنْ سرعان ما اشتعلت النيران من جديد؛ فخلال عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩ تجدَّدت الحركات الساعية إلى الاستقلال اللغوي؛ منها حملة ساميوكتا كارناتاكا أو كارناتاكا العظمى، التي سعت إلى توحيد متحدثي اللغة الكانادية في ولايات مدراس ومَيْسور وبومباي وحيدر أباد. وإلى جانب تلك الحركة كانت المعركة من أجل مهاراشترا العظمى، التي سعت إلى لَمِّ شَمل متحدثي اللغة الماراثية في وحدةٍ سياسيةٍ واحدة. كذلك أراد المالاياليون ولاية خاصة بهم، على أساس دمج إمارتَي كوتشِن وترافنكور مع مالابار. وهبَّت أيضًا حركة مَهاجوجارات.

ودارت معركة من نوعٍ خاصٍّ من أجل إقامة ولاية سيخية في البنجاب، جمعت بين المزاعم اللغوية والدينية؛ فالسيخ ربما كانوا الفئة الأكثر تضرُّرًا من التقسيم؛ فقد خَسِرَوا أكثر أراضيهم إنتاجيةً بضمِّها إلى باكستان، واضْطُرُّوا إلى تقاسم المساحة والنفوذ مع الهندوس فيما تبقَّى من الهند.

نحو عام ١٩٥٠، بلغت نسبة السكان الهندوس في البنجاب الهندية قرابة ٦٢٪، مقابل ٣٥٪ من السيخ. إلا أنَّ تلك النِّسَب أخفت فجوة إقليمية كُبرى؛ فالنصف الشرقي من ذلك الإقليم سادت فيه اللغة الهندية، ومثَّل الهندوس نحو ٨٨٪ من سُكَّانه. أما النصف الغربي فسادت فيه اللغة البنجابية، ومثَّل السيخ ما يربو قليلًا على نصف تعداد سُكَّانه.

ولم يكن الانقسام الديني مطابقًا للانقسام اللغوي تمامًا؛ فالبنجابية كانت اللغة الأولى للسيخ كافة، وكذلك كثير من الهندوس. إلا أنَّ الهندوس كانوا يميلون إلى اعتبار البنجابية مجردَ لهجةٍ محليةٍ من اللغة الهندية، بينما أَصَرَّ السيخ ليس على أنَّها لغة قائمة بذاتها فحسب، بل أنَّها لغة مقدَّسة أيضًا؛ فقد كان السيخ يقرءون البنجابية ويكتبونها في النصوص الجورموخية، التي يؤمن السيخ بأنَّ أبجديتها جاءت على لسان الجورو (المُعلِّم).9

منذ عشرينيات القرن العشرين، مثَّل حزب أكالي دال مصالح السيخ ذوي الوعي السياسي؛ فكان كيانًا دينيًّا وحزبًا سياسيًّا في الوقت نفسه؛ فقد كان هو المتحكِّم في المعابد السيخية، ولكنه نافس في الانتخابات أيضًا. لفترةٍ طويلةٍ كان زعيم الحزب هو المعلِّم تارا سينج، وهو شخصية مهمة مثيرة للفضول و(مثل شخصيات كثيرة مثله في التاريخ الهندي) لم تُدَوَّن سيرتها بعد.

وُلِدَ تارا سينج في يونيو من عام ١٨٨٥، هندوسيًّا. لا ينبغي أن تثير تلك الحقيقة دهشتنا؛ إذ إنَّ الجيل الأول من معتنقي دينٍ جديد، يكون في أغلب الأحيان هو الأكثر فاعلية، بل الأكثر أصوليَّة من بين الزعماء الدينيين. دَرَس تارا سينج في كلية خالصا بأمريتسار، حيث تفوَّق في دراسته الأكاديمية وكذلك في كرة القدم؛ حيث أكسبه ثباته كمدافعٍ لقب «الصخرة». وعوضًا عن الالتحاق بالعمل في حكومة الاستعمار، أصبح ناظر مدرسة سيخية في ليالبور، وفيها نال لقب «المعلِّم».10
في عشرينيات القرن العشرين انضمَّ تارا سينج إلى الحركة الساعية إلى تطهير المعابد السيخيَّة من الكَهَنة الفاسدين الذين كانوا يديرونها. وفي عام ١٩٣١ تولَّى منصب رئيس اللجنة العليا لإدارة المعابد، وهو منصب واسع النفوذ والتأثير، لا سيما على المال. وطوال الأعوام الثلاثين التالية كان أشدَّ المدافعين عن «الطريقة» السيخية عزيمةً وإصرارًا. واستطاع إظهار نفسه بصورة «الشخص الوحيد المثابر المتجلِّد في اعتناق الطريقة السيخية ككيانٍ سياسيٍّ مستقل، والزعيم السيخي الوحيد الذي سعى دون كللٍ أو مللٍ وراء هدف منح المجتمع السيخي سلطة سياسية منظَّمة جغرافيًّا، والزعيم الغَيْري المتحرِّر من الطموحات الشخصية».11
قبل عام ١٩٤٧ كان تارا سينج مُصِرًّا على أنَّ الطريقة السيخية في خطرٍ من المسلمين والعصبة الإسلامية. وبعد عام ١٩٤٧ قال إنها في خطرٍ من الهندوس وحزب المؤتمر. وازدادت خُطَبه قوةً مع اقتراب موعد الانتخابات العامة للعام ١٩٥١-١٩٥٢. فقد نَدَّد بالهيمنة الهندوسية وزعم أنَّه «في سبيل الدين والثقافة والطريقة، وبغية إعلاء راية الجورو، السيخ على استعداد لفعل أي شيء لنيل الاستقلال».12

قُبِضَ على تارا سينج عدة مراتٍ بين عامَي ١٩٤٨ و١٩٥٢، لتحدِّيه حظر التجمُّعات العامة وما اعْتُبِرَ خُطَبًا «تهييجيَّة». وسُجِن معه مئاتٌ من أنصاره؛ فقد حَظِيَ بدعمٍ قويٍّ من جانب المزارعين السيخ، لا سيما بين أفراد طائفة الجات العليا. كان استخدام تارا سينج للفظة «الاستقلال» غامضًا عن عمد؛ فقد كان مزارعو الجات يرغبون في مقاطعةٍ سيخيةٍ داخل الهند، وليس دولة ذات سيادة. كانوا يريدون التخلُّص من هيمنة الهندوس على البنجاب الشرقية، ليتبقَّى لهم بذلك ولاية يمكن أن يمثِّلوا أغلبية كبيرة فيها. ولكن تارا سينج بتلميحه إلى الانفصال ضغط على الحكومة، وفي الوقت نفسه أقنع أتباعه بالتزامه الشخصي بالقضية.

إلا أنَّ تارا سينج لم يحظَ بدعم السيخ جميعًا؛ فالطوائف الاجتماعية الدنيا من السيخ — المتخوِّفة من الجات — كانت معارضة لحزب أكالي دال. وبعض الجات انضموا إلى حزب المؤتمر. وفي بادرةٍ للمحاباة، أعلن كثير من الهندوس متحدثي البنجابية أنَّ اللغة الهندية هي لغتهم الأم في تعداد عام ١٩٥١.

إلا أنَّ الضربة القاصمة لتارا سينج كانت الانتخابات العامة ذاتها؛ ففي مجلس البنجاب — الذي تضمَّن ١٢٦ مقعدًا — لم يحصل حزب أكالي دال إلا على أربعة عشر مقعدًا.

٣

لا شك أنَّ أشرس الحركات المطالبة بالِانْفِصال على أساس اللغة كانت حركة متحدِّثي التيلوجوية في أندرا؛ فقد كان متحدثو تلك اللغة أكثر من متحدثي أيِّ لغةٍ أخرى في الهند عدا اللغة الهندية. وتميَّزت هذه اللغة بثراء تاريخها الأدبي، وارتبطت برموز لمجد أندرا؛ مثل إمبراطورية فيجاياناجارا؛ فحينما كانت الهند لا تزال واقعةً تحت الحكم البريطاني، عملت منظمة أندرا ماهاسابها جاهدةً على إنماء حِسِّ الهوية بين جماعات المتحدثين باللغة التيلوجوية في رئاسة مدراس، الذين ادَّعت المنظمة تعرُّضهم للاضطهاد على يد التاميليين. كذلك نشطت منظمة أندرا ماهاسابها في إمارة حيدر أباد.

بعد الاستقلال، طالب متحدِّثو التيلوجوية حزب المؤتمر بتنفيذ قراراته القديمة الصادرة لصالح إنشاء ولايات لغوية. واستخدموا أساليب متنوعة في الدفع بقضيتهم؛ من عرائض وشكاوى ومسيرات في الشوارع وحالات صيام عن الطعام. وفي ضربة كبرى لحزب المؤتمر، استقال تي براكاسام — رئيس وزراء ولاية مدراس الأسبق — من منصبه في الحزب عام ١٩٥٠ بسبب قضية الولايات. ومن ناحية أخرى، دعا الأعضاء متحدثو اللغة التيلوجوية في مجلس مدراس بإلحاح إلى إقامة ولاية باسم «أندرا براديش» فورًا. وأثناء نوبة الرياح الموسمية لعام ١٩٥١ صام رجل كان عضوًا في حزب المؤتمر وأصبح السوامي (الكاهن) — يُدْعَى سيتارام — عن الطعام تأييدًا لتلك الفكرة. وبعد خمسة أسابيع أنهى صيامه، استجابةً لمناشدة الزعيم المحترَم تلميذ غاندي، فينوبا بهافي.13
ثم وُضِعَت قضية أندرا أمام اختبار الاقتراع العام للبالغين؛ فأثناء جولات نهرو الانتخابية في المناطق المتحدثة باللغة التيلوجوية، قابل متظاهرين في أماكن عِدَّة ملوِّحين بأعلامٍ سوداء وهاتفين: «نريد أندرا.»14 وكتبت الصحيفة الرسمية لحزب المؤتمر باستياءٍ أنَّ «رئيس حزب المؤتمر شهِد تظاهراتٍ من أنصار إقامة ولاية أندرا، صحبتها شعارات ولافتات وملصقات؛ فكان يبتسم لهم في بعض الأماكن، ويشتاط غضبًا من سلوكهم في أماكنَ أخرى».15 كانت العلامات غير مبشِّرة، وبالفعل على الرغم من نجاحات حزب المؤتمر في سائر الأنحاء، كان أداؤه ضعيفًا جدًّا في تلك المنطقة؛ فمن بين ١٤٥ مقعدًا لتلك المنطقة في مجلس مدراس التشريعي، لم يفز الحزب إلا بثلاثة وأربعين مقعدًا. وفازت أحزاب داعمة لحركة أندرا بمعظم المقاعد الأخرى. كان من تلك الأحزاب الشيوعيون، الذين ربحوا واحدًا وأربعين مقعدًا.
شجَّعت نتائج الانتخابات إعادة إحياء حركة أندرا؛ فقرب نهاية فبراير ١٩٥٢، بدأ السوامي سيتارام مسيرةً في المناطق المتحدثة باللغة التيلوجوية، بغيةَ حشد الدعم للحركة؛ فقال إنَّ إقامة الولاية «لا يمكن إرجاؤها أكثر من ذلك»، وإنَّ قبائل أندرا «مستعدة لدفع ثمن تحقيق ذلك الهدف». وحَثَّ السوامي جميع أعضاء مجلس مدراس المتحدثين باللغة التيلوجوية على مقاطعة أعمال المجلس لحين إنشاء الولاية التي يحلمون بها.16
كان المحرِّضون على إقامة ولاية أندرا يبغضون شخصين على وجه التحديد: رئيس الوزراء نهرو، ورئيس وزراء مدراس سي راجا جوبالاتشاري؛ فكلاهما سُجِّل له قولٌ أنَّه لا يرى إقامة ولاية أندرا فكرة صائبة. وكلاهما أكَّد أنَّه حتى إذا نشأت تلك الولاية — خِلافًا لرغبتهما — فلن تُشكِّل مدينة مدراس جزءًا منها، وهو ما أثار سخط قبائل أندرا، التي كان لها حضور ديموغرافي واقتصادي قوي في المدينة، ورأت أنَّ لها حقًّا فيها مثلما للتاميليين.17

وفي يوم ٢٢ مايو، أخبر نهرو البرلمان أنَّه «لأعوامٍ حتى الآن وجَّهنا جهودنا القصوى نحو توحيد الهند. أنا عن نفسي أعتبر أي شيءٍ لا يساعد في عملية التوحيد تلك غير مستساغ؛ فحتى إنْ كان تشكيل مقاطعات لغوية مستحسَنًا في بعض الحالات، فمن الجليِّ أنَّ هذا ليس هو الوقتَ المناسب. وعندما يحين الوقت المناسب، فسننشئها دون إبطاء».

وحسبما كتب كيه في ناريانا راو: «بدا ذلك الموقف من نهرو مفرط الغموض والمراوغة لقبائل أندرا؛ فلا أحد يعلم ما هو الوقت المناسب ومتي يحين.» فكثَّفوا احتجاجهم تعجُّلًا للرد على ذلك التساؤل. وفي يوم ١٩ أكتوبر ١٩٥٢، بدأ رجل يُدعى بوتِّي سريرامولو صيامًا عن الطعام حتى الموت في مدراس. وباركه في ذلك السوامي سيتارام، وآلاف غيره من متحدثي التيلوجوية.18

وُلِدَ سريرامولو في مدراس عام ١٩٠١، ودرس الهندسة الصحِّيَّة قبل أنْ يلتحق بالعمل في هيئة السكك الحديدية. وفي عام ١٩٢٨ تعرَّض لمأساةٍ مزدوجة، عندما تُوُفِّيَت زوجته وابنهما الوليد. وبعد عامين استقال من منصبه لكي ينضمَّ إلى مسيرة الملح. وفيما بعدُ قضى بُرهةً من الزمن في أشرم سبرماتي الذي عاش فيه غاندي. وفي فترةٍ لاحقة، قضى ثمانية عشر شهرًا في السجن ضمن حملة الساتياجراها (المقاومة السِّلميَّة) الفردية لعام ١٩٤٠-١٩٤١.

ادَّعت دراسة مُغرِقة في المَدح نشرتها اللجنة المختصة بتاريخ حركة أندرا عام ١٩٨٥ أنَّ إقامة بوتِّي سريرامولو في أشرَم المهاتما غاندي «كانت عَظَمَتها ملحميَّة؛ فها هو طالب عِلم ممتلئ بالمحبَّة والتواضع، كله خدمة وتضحية لإخوانه البشر، وها هو أيضًا جورو؛ المعلِّم العالمي، الممتلئ مثله بالمحبة والصدق واللاعنف والتقارب مع الفقراء الكادحين. أثناء إقامة سريرامولو في سبرماتي … أدَّى مهامه ببهجةٍ وتفانٍ، وكسب محبَّة المقرَّبين ورضا المعلم الأكبر، غاندي».19
صحيح أنَّ غاندي كان يُكِنُّ محبَّةً لسريرامولو، ولكن يتحتم علينا قول إنَّه أثار حنقه أيضًا إلى حدٍّ ما؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٤٦ أقدم التلميذ على الصيام عن الطعام حتى الموت طلبًا لفتح المعابد كافة في مقاطعة مدراس للمنبوذين. آنذاك حثَّه رجال آخرون في حزب المؤتمر على التوقُّف؛ إذ تركَّز اهتمامهم أكثر على حرية الهند الوشيكة. وحين رفض، لجَئُوا إلى غاندي، الذي أقنعه بالتخلِّي عن صيامه. وبعدها كتب المهاتما إلى تي براكاسام قائلًا إنه «سعيد لانتهاء صيام سريرامولو على النحو السارِّ الذي تصفه. وقد أبرَق إليَّ ما إنْ أفطر. أعلم أنَّه مجتهد، وإنْ كان غريب الأطوار بعض الشيء».20

كان بوتِّي سريرامولو قد أنهى صيامه عام ١٩٤٦ إثر إصرار غاندي. ولكن عام ١٩٥٢ كان غاندي قد تُوُفِّيَ، وعلى أي حالٍ فقد كانت مسألة أندرا أكثر أهمية بالنسبة إلى سريرامولو مما كانت مسألة المَنْبوذين قبلًا؛ فكان عازمًا على المُضِي في ذلك الصيام حتى النهاية، أو حتى ترضخ حكومة الهند.

ففي يوم ٣ ديسمبر، كتب نهرو إلى راجا جوبالاتشاري قائلًا: «ثَمَّةَ نوع ما من الصيام عن الطعام يجري في سبيل إقامة مقاطعة أندرا وبلغتني بشأنه برقيات محمومة. ذلك الأمر لن يؤثر فيَّ مطلقًا، وأقترح أنْ نتجاهل الأمر برمَّته.» بحلول ذلك الوقت كان سريرامولو صائمًا عن الطعام منذ ستة أسابيع. وإذ استمرَّت مِحنته، تنامى الدعم لقضيَّته؛ فدُعِي إلى إقامة إضراباتٍ عامةٍ في مدنٍ كثيرة. ويذكر عالِم الاجتماع الهندي أندريه بيتِي — الذي كان مسافرًا من مدراس إلى كلكتا آنذاك — إيقاف جموع غاضبة لقطاره في فيزاج وهتافها بشعاراتٍ معاديةٍ لراجا ونهرو.21
حينذاك اضْطُرَّ نهرو إلى التسليم بقوة المشاعر الشعبية؛ ففي يوم ١٢ ديسمبر كتب إلى راجا جي مرةً أخرى، مشيرًا إلى أنَّ الوقت قد حان لقَبول مطلب ولاية أندرا. وقال: «وإلا نشأ سخط كامل فيما بين قبائل أندرا، ولن نتمكَّن من احتوائه.» بعد مرور يومين أبرَق راجا جي إلى رئيس الوزراء، وقال يائسًا: «ربما أمكن كَفُّ الأذى بدرجةٍ أكبر إذا قمت باستدعاء — أكرِّر استدعاء — السوامي سيتارام إلى دلهي؛ فهو الآن في مدراس يحوم حول الرجل الصائم عن الطعام، سريرامولو. والأذى كله نشأ عن تلك البؤرة، إذْ إنَّ شباب أندرا انفعاليون جدًّا وميَّالون إلى الشغب؛ فإذا دعوت سيتارام لإجراء مباحثات، فربما تغيَّر الجو العام والأرجح أنْ يتلاشى الأذى.»22
كان الوقت قد فات آنذاك؛ ففي يوم ١٥ ديسمبر — بعد ثمانية وخمسين يومًا من بدء الصيام — تُوُفِّيَ بوتِّي سريرامولو، وفُتِحَت أبواب الجحيم. «أنباء وفاة سريرامولو أوقعت أندرا كلها في بحرٍ من الفوضى.» فهُوجِمت المصالح الحكومية، وأُوقِفَت القطارات وشُوِّهَت جدرانها. وبلغت تكلفة تلف الممتلكات العامة ملايين الروبيات. كذلك فقد قُتِلَ العديد من المتظاهرين عندما أطلقت الشرطة النار عليهم.23 زعم نهرو يومًا أنَّ «الحقائق لا الصيام» ستحسم المسألة. والآن إذ واجه رئيس الوزراء احتمال انتشار الاحتجاجات وربما خروجها عن السيطرة، رضخ؛ فبعد مرور يومين على وفاة سريرامولو، أصدر بيانًا أعلن فيه عزمه إقامة ولاية أندرا.
وخلال الأشهر القليلة التالية، حُدِّدَت المناطق المتحدثة بالتيلوجوية في مقاطعة مَدراس لفصلها. وحسبما كتب رئيس وزراء مدراس، فإنَّ تقسيم المقاطعة «صحبه الكثير من السباب والسلوكيات السيئة والتشكُّك والغضب».24 وقد كبح راجا جوبالاتشاري جماح مشاعره ليحضر مراسم الاحتفال بولاية أندرا الجديدة في كرنول يوم ١ أكتوبر ١٩٥٣. وكان من بين الحضور أيضًا — بصفته ضيف الحفل الرئيسي — عدو قبائل أندرا الآخر حتى ذلك الحين؛ رئيس الوزراء جواهر لال نهرو.

٤

كان رئيس الوزراء منزعجًا من تشكُّل ولاية أندرا براديش؛ فقد كتب إلى زميلٍ له في مجلس الوزراء في وجومٍ قائلًا: «سترى أننا أيقظنا المارد النائم، وأغلب الظن أنَّ معظمنا لن يفلت من بطشه.»25

وقد حدث ما كان نهرو يخشاه؛ إذ زادت إقامةُ ولاية أندرا حدةَ المطالبات المشابهة من جماعاتٍ لغويَّةٍ أخرى. وعيَّنت حكومة الهند — دون كامل إرادتها — لجنة لإعادة تنظيم الولايات بغية «إصدار التوصيات بشأن المبادئ العامة التي ينبغي أنْ تحكم حل هذه المشكلة». خلال عامي ١٩٥٤ و١٩٥٥ تنقَّل أعضاء اللجنة في أنحاء الهند؛ فزاروا ١٠٤ مدن وبلدات، وأجرَوْا حواراتٍ مع أكثر من ٩ آلاف شخص، وتلقَّوْا ما يصل إلى ١٥٢٢٥٠ عريضة كتابية.

كان من العرائض الأكثر طولًا وإثارةً للاهتمام تلك التي قدَّمتها لجنة مواطني بومباي، التي رأسها أحد أقطاب صناعة القطن الرائدين — السير بُروشُتَّمداس تهاكورداس — وضَمَّت صفوفها رجال صناعة بارزين آخرين؛ مثل: جيه آر دي تاتا. وحوت ترويسة العريضة المُقَدَّمة أسماء العديد من أنجح المحامين والباحثين والأطباء في المدينة.

كان جدول أعمال تلك اللجنة يقتصر على بندٍ واحد؛ هو إبقاء المدينة خارج حدود ولاية مهاراشترا. وفي عرضها لقضيتها، طبعت كتابًا مبهِرًا من ٢٠٠ صفحة، مليئًا بالرسوم البيانية والخرائط والجداول. كان الفصل الأول مقدِّمة تاريخية، توضِّح توافد موجات متعاقبة من المستوطنين على المدينة من جماعاتٍ لغويةٍ مختلفة. وزعم ذلك الفصل أنَّ هجرة المهاراشتريين كانت محدودة قبل نهاية القرن التاسع عشر. وحتى وقت صدور الكتاب لم يكن متحدثو الماراثية يمثِّلون أكثر من ٤٣٪ من تعداد سكان المدينة. وتحدَّث الفصل الثاني عن أهمية بومباي للحياة الاقتصادية الهندية؛ فقد كانت المركز الرئيسي لقطاعات الصناعة والأموال والتجارة الخارجية. وكانت نافذة الهند على العالم؛ إذ فاقت حركة الطائرات منها وإليها نظيرتَها في المدن الأخرى كلها مُجتمعة. كان الفصلان الثالث والرابع معنيَّين بالجوانب الاجتماعية، وعبَّرا عن الطابع الذي تتميز به المدينة من تعدد للغات والثقافات. ونقلًا عن مراقب أوروبي، بومباي «ربما كانت التجمع البشري الأكثر تنافرًا في ربوع الكرة الأرضية». ونقلًا عن آخر، كانت «بؤرة حقيقيَّة لأنواع البشر وصنوفهم المتباينة، على نحوٍ يفوق كثيرًا تنوُّع الجنسيات في القاهرة والقسطنطينية». أما الفصل الخامس فتناول الجغرافيا، وتحدَّث عن عُزلة بومباي الطبيعية؛ إذْ كان البحر والجبال يفصلانها عن البرِّ الناطق بالماراثية.

كان أول المستوطنين فيها من الأوروبيين، وكان كبار التجار والرأسماليين هم الجوجاراتيِّين والبارسيِّين، وأكثر المستوطنين إحسانًا هم البارسيِّون؛ فالمدينة قامت على سواعد غير الماراثيين. وحتى في نطاق الطبقة العاملة، كان الوافدون من شمال الهند والمسيحيون أكثر عددًا في أكثر الأحيان من متحدثي الماراثية؛ فمن وجهة نظر لجنة مواطني بومباي، كان من الواضح أنَّه «استنادًا إلى الجغرافيا أو التاريخ أو اللغة أو السكان أو المنظومة القانونية، لا يمكن اعتبار بومباي وشمال كونكان جزءًا من إقليم ماراثا مثلما يزعم أنصار ساميوكتا مهاراشترا».26
ووراء واجهة الرؤية العالمية تزعَّمت جماعة لغوية بعينها حركة «أنقِذوا بومباي»: الجوجاراتيون؛ فلو أصبحت بومباي عاصمة ولاية مهاراشترا الكبرى، فسيكون معظم السياسيين والوزراء من متحدِّثي الماراثية، وهو الاحتمال الذي لم يرُقْ تمامًا للطبقة البرجوازية الناطقة بالجوجاراتية، سواءٌ الهندوس منها أو البارسيون؛ فقد كانت تلك الطبقة هي التي أمدَّت لجنة مواطني بومباي بالعمالة والتمويل، وتولَّت إدارتها فعليًّا.27
fig5
نهرو نفسه بدا متقبِّلًا إلى حدٍّ ما لفكرة إبعاد بومباي عن سيطرة جماعة لغوية واحدة، وكذلك كان إم إس جُلوالكَر الناطق بالماراثية، وهو تلاقٍ فكري نادر الحدوث بين رئيس الوزراء وزعيم منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج؛ فكلاهما كان يرى أنَّ إقامة ولايات لغوية من شأنه أنْ «يولِّد شعورًا بالمرارة ويُنمِّي ميولًا انشقاقية تُشكِّل خطرًا على وحدة البلاد».28 وفي مايو ١٩٥٤ ألقى جُلوالكَر خطابًا في بومباي بناءً على دعوة مؤتمر مناهضة النزعة الإقليمية، الذي اعتبر المطالب اللغوية دلالةً على «التهديد الذي تُمثِّله النزعة الإقليمية والنزعة الطائفية»؛ فقد دوَّى صوته متوعِّدًا في قوله: «التشرذم يولِّد القلاقل؛ فالأمة الواحدة والثقافة الواحدة هما مبدآي.» وإن رؤية المرء نفسه تاميليًّا أو ماراثيًّا أو بنغاليًّا مؤدَّاها «استنزاف حيوية الأمة». كان يتمنى أنْ يستخدموا جميعًا وصف «هندوسي»، وهنا حاد مساره عن مسار نهرو، الذي كان يتمنى أنْ يكونوا جميعًا «هنودًا» بالطبع.29

ولكن مثلما اختلف رجال آخرون في حزب المؤتمر مع نهرو بخصوص هذه المسألة، خالف بعض أعضاء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج زعيمهم؛ فقد بدأ نشاط منظمة ساميوكتا مهاراشترا باريشاد منذ عام ١٩٤٦، وضَمَّ في صفوفه مهاراشتريين من جميع الألوان السياسية؛ اليميني واليساري، والعلماني والطائفي، والبرهمي والماراثي والهاريجان. كانت المنظمة ترغب في ولايةٍ من شأنها أنْ تُوحِّد متحدِّثي الماراثية المتفرِّقين في وحداتٍ سياسيةٍ مختلفة. إلا أنَّهم في قرارة أنفسهم لم يداخلهم شَكٌّ في ألا يكون لتلك الولاية سوى عاصمة واحدة، وهي: بومباي.

كان رئيس ساميوكتا مهاراشترا باريشاد هو عضو حزب المؤتمر المخضرَم شانكار راو ديو، وكان أمينُ المنظمة ومُنظِّرها الأكبر هو عالم الاقتصاد المرموق خرِّيج جامعة كامبريدج: دي آر جادجيل. وكان جادجيل يرى أنه على الرغم من أنَّ بومباي يمكن أنْ تظل الميناء والمركز الاقتصادي الرئيسي لمهاراشترا، فلا بد من «فرض لامركزية إجبارية» على صناعات المدينة. وكان ثَمَّةَ مُنظِّر آخر أكثر صراحةً منه — جي في دِشموك — قال إنَّه ما لم تصِرْ مدينة بومباي جزءًا من ولاية المهاراشتريين، فسيُضْطَرُّون إلى أنْ يَقْنَعوا ﺑ «الِاضْطِلاع بدور الوسطاء الثانويين لدى الوسطاء، والوكلاء الثانويين لدى الوكلاء، والأستاذة المساعدين للأساتذة، والموظفين لدى المديرين، والأُجراء لدى أصحاب المتاجر».30

وردًّا على لجنة المواطنين التي أنشأها الجوجاراتيون، أعَدَّت ساميوكتا مهاراشترا باريشاد وثيقة مبهرة من ٢٠٠ صفحة هي الأخرى. قدَّم الجزء الأول منها دفاعًا نظريًّا عن مبدأ الولايات اللغوية؛ بحجة أن من شأنها أنْ تُرسِّخ الفيدرالية، بجمع متحدِّثي اللغة الواحدة في وحدةٍ واحدةٍ مترابطةٍ موحَّدة؛ ومن ثَمَّ، فإنَّ «المقاطعة اللغوية التي تُدار بلغة عامة الشعب، تتيح لهم استشعار وتفهُّم مُجريات الديمقراطية وضرورة المشاركة فيها».

وعندما بلغ الحديث مسألة ولاية مهاراشترا تحديدًا، زعمت الوثيقة أنَّ «المجتمع في المناطق الماراثية متجانس بدرجةٍ ملحوظة». فقد كان تكوين الطوائف الاجتماعية واحدًا، والآلهة والقديسين والتراث الشعبي والأساطير واحدة. وإنَّ تفرُّق متحدِّثي الماراثية في ذلك الوقت بين ثلاث وحداتٍ سياسية — حيدر أباد وولاية بومباي والمقاطعات المركزية — مصادفة تاريخية لا بد من تصحيحها فورًا.

وذهبت المنظمة إلى أنَّه لا بد من إنشاء ولاية مهاراشترا جديدة متحدة، عاصمتها بومباي؛ لأنَّ الأرض التي تقف عليها تلك المدينة الجُزرية لطالما سَكَنَها متحدِّثو الماراثية؛ ففي حين يمتدُّ البحر إلى غرب بومباي، يسود متحدِّثو الماراثية الأراضيَ أجزاءها الشمالية والجنوبية والشرقية. والمدينة نفسها هي المركز الرئيسي للصحافة والمطبوعات والأعمال المسرحية الماراثية. كذلك فقد كانت بومباي شديدة الاعتماد على محيطها الداخلي الماراثي من الناحية الاقتصادية؛ إذ تستمد منه قدرًا كبيرًا من عمالتها وكافة احتياجاتها من المياه والنفوذ. وجميع طرق الاتصال المتاحة لبومباي تَمُرُّ عبر مهاراشترا. وفي المُجمَل، «لا مجال للتفكير في إقامة ولاية مهاراشترا بعاصمةٍ غير بومباي، وسيستحيل سير تلك الولاية إنْ جرت أي محاولةٍ لفصل مدينة بومباي عنها». وَرَدَّ المجلس على الحجة القائلة بعدم وجود أغلبية ماراثية بالمدينة، قائلًا إنَّ جماعة المتحدثين بتلك اللغة أكبر من أي جماعةٍ أخرى فيها. وعلى أي حال، فقد كان تعدُّد اللغات من طبيعة مدن الموانئ الكبيرة؛ ففي عاصمة بورما، لا يتحدث سوى ٣٢٪ من سكانها اللغة الوطنية، ولكن «لم يجرؤ أحد على الإشارة إلى أنَّ رانجون ينبغي اعتبارها أرضًا غير بورمية».31
كانت بومباي مُحاطة بمناطقَ متحدثةٍ بالماراثية؛ ومن ثَمَّ كان لا بد أن تصير عاصمة ولاية مهاراشترا الجديدة. كانت تلك هي حجة ساميوكتا مهاراشترا باريشاد. إلا أنَّ لجنة مواطني بومباي زعمت أنَّ بومباي نشأت على أيدي غير المهاراشتريين بالأساس؛ ولذا يجب أنْ تُشكِّل دولة مدينية منفصلة؛ فهل كان يمكن أن يتلاقى الطرفان؟ في يونيو ١٩٥٤ زار شانكار راو ديو السير بُروشُتَّمداس تهاكورداس للوصول لتسوية. قال ديو إنَّه لا يمكن الوصول إلى تسويةٍ بشأن المطلَب الأساسي — أي أنْ تكون بومباي عاصمة مهاراشترا — ولكن يمكنهما العمل معًا للحفاظ على «الطابع المستقل ذاته لتلك المدينة العالمية التوجُّه، بما يكفل توجهها هذا، من حيث التداول فيها، والتجارة والصناعة، وما إلى ذلك». ومن جانبه، أعرب السيد بُروشُتَّمداس عن استعداده للتنازل عن فكرة الدولة المدينية مقابل مقاطعة مركَّبَة ثنائية اللغة مكوَّنة من متحدثي الماراثية ومتحدثي الجوجاراتية.32

دار الاجتماع في إطارٍ مهذَّب، ولكنه لم يصل إلى شيء. وأُحيلَت مسألة بومباي إلى أعضاء لجنة إعادة تنظيم الولايات، لتكون أعقد المسائل الشائكة التي ابتُلوا بها.

٥

تألَّف أعضاء لجنة إعادة تنظيم الولايات من فقيهٍ قانوني؛ هو إس فضل علي، ومؤرِّخ ومسئول حكومي؛ هو كيه إم بانيكار، وأخصائي اجتماعي؛ هو إتش إن كونزرو. ومن الجدير بالذكر أنَّ أيًّا منهم لم يكن له صلة رسمية — في الماضي أو الحاضر — بحزب المؤتمر. وفي أكتوبر ١٩٥٥، بعد ثمانية عشر شهرًا من العمل المكثَّف، قدَّم الثلاثة تقريرهم. في البداية وضعوا موجزًا وافيًا للحجج المؤيدة والحجج المعارضة لإقامة الولايات اللغوية، وحثُّوا على اتِّباع «نهج متوازن» يقرُّ «باعتبار التجانس اللغوي عاملًا مُهِمًّا يُفضي إلى تيسير المسائل الإدارية وكفاءتها» وإنْ لم يكن «هو المبدأ الوحيد والمُلزِم، الذي يتجاوز أي اعتباراتٍ أخرى». وكان من تلك الاعتبارات الأخرى وَحدة الهند كلها طبعًا وأمنها.33

وبعدها، أورد التقرير في تسعة عشر فصلًا المقترحات المحدَّدة لأعضاء اللجنة بخصوص إعادة تنظيم الولايات؛ ففيما يتعلق بالولايات الجنوبية، بدا يسيرًا إعادة توزيع المناطق حسب الأقسام اللغوية الرئيسية: التيلوجوية والكانادية والتاميلية والمالايالامية؛ حيث أُعيد توزيع المناطق والوحدات الإدارية المسماة بالتعلقة حسب الجماعة اللغوية التي تُمثِّل أغلبيةً سُكَّانيةً فيها. وتَقرَّر إحلال أربع ولايات صغيرة محلَّ خليط الأقاليم المتوارثة عن حقبة الاستعمار البريطاني.

وفيما يتعلق بشمال الهند، سعت اللجنة بالمِثل إلى تقسيم القطاع الهائل الناطق بالهندية إلى أربع ولايات، هي: بيهار وأُوتَّر براديش وماديا براديش وراجستان. وفي الشرق، تقرَّر إبقاء المقاطعات القائمة كما هي، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة. ورفضت اللجنة طلب اقتطاع ولايات قَبَلِيَّة من ولايتَي بيهار وآسام.

كذلك لم تقبل اللجنة بإنشاء ولاية سيخية، ورفضت تخصيص مدينة مدراس لولاية أندرا. إلا أنَّ التوصية الأكثر إثارةً للجدل كانت بعدم السماح بإقامة مهاراشترا المتحدة. وعلى سبيل الرشوة، اقترحت اللجنة إنشاء ولاية لمنطقة فيداربها، تضُمُّ المناطق الداخلية المتحدِّثة بالماراثية. ولكنَّ بومباي تقرَّر بقاؤها كما هي، مقاطعة ثنائية اللغة تشتمل على متحدثي اللغة الجوجاراتية ومتحدثي اللغة الماراثية. وقال أعضاء اللجنة إنهم يُكِنُّون كل احترامٍ للحجج التي ساقتها حركة ساميوكتا مهاراشترا، ولكنهم لم يستطيعوا «الاستهانة بمخاوف الجماعات الأخرى».

٦

طُرِحت توصية لجنة إعادة توزيع الولايات المتعلقة بجعْل بومباي عاصمة ولاية ثُنائية اللغة للنقاش في البرلمان في ١٥ نوفمبر ١٩٥٥. ورأى نائب بومباي الطَّموح — إس كيه باتيل — أنَّ اللجنة كان ينبغي ألا تتوقف عند هذا الحد؛ فكان يرى أنَّ الحكومة ينبغي أن تُنشئ دولة بومباي المدينية، آملًا بلا شكٍّ في أنْ يتولَّى هو إدارتها. وقال إنَّ تلك الدولة المدينية المأمولة تتمتع «بتركيبة سُكانيَّة عالمية من جميع النواحي»، وإنَّها «قامت على سواعد الجميع». وقال إنَّ بومباي إذا تُركَت لتحكم نفسها، فمن شأنها أنْ «تصير هِندًا مُصَغَّرة تُدار بالمقاييس الدولية … وبوتقة انصهار سوف تنشئ حضارةً جديدةً مجيدة … وإنه من قبيل المصادفة الاستثنائية أنْ يُمثِّل تعداد المدينة ١٪ بالضبط من تعداد البلد كله؛ فتلك النسبة المُستَمَدَّة من جميع أنحاء البلاد ستصير نموذجًا تقتدي به الولايات الأخرى في ممارسة العلمانية والتفاهُم المتبادل».

وطلب إس كيه باتيل — مثله في ذلك مثل اللجنة ذاتها — إلى المهاراشتريين أنْ يتحلَّوْا بروح التنازل ويتخلَّوْا عن المطالبة ببومباي. ولكن سرعان ما اتَّضح أنَّه لا يتحدَّث بلسان إخوته المهاراشتريين؛ ففي مجلس الشعب الهندي، تحدَّث بعد إس كيه باتيل مباشرةً عضو حزب المؤتمر من مدينة بونا، إن في جادجيل. وقال مُصِرًّا إنه على الرغم من تأييده لفكرة التنازل، «فثَمَّةَ حد له. وهذا الحد هو: أنَّه لا يمكن لأحدٍ التنازل عن احترامه لذاته، ولا يمكن لامرأةٍ أنْ تتنازل عن عِفَّتها، ولا أنْ يتنازل بلد عن حريَّته». وقد أُقِرَّ مبدأ اللغة في كل مكان، عدا تلك الحالة الوحيدة. وتسبَّب تقرير اللجنة في ألمٍ كبيرٍ في أنحاء المناطق الناطقة بالماراثية. وتقارير الاجتماعات الاحتجاجية أوضحت «أنَّ أيَّ شيء غير مهاراشترا متحدة عاصمتها مدينة بومباي لن يُقبَل». وحذَّر جادجيل من أنَّ تلك المشاعر لو لم تجد آذانًا مُصغِيَة، فسوف يتقرَّر مصير بومباي في شوارعها.

حثَّت لجنة إعادة توزيع الولايات المهاراشتريين على تقبُّل خسارة بومباي باسم الوحدة الوطنية. واحتجَّ جادجيل على محاولة الابتزاز تلك؛ فقال إنه طوال ١٥٠ عامًا مضت، ساهم المهاراشتريون بإيثارٍ في إنماء المشاعر الوطنية؛ فأسَّس متحدِّثو الماراثية أول مدرسة وجامعة هندية، وساهموا في تأسيس حزب المؤتمر الهندي. وكان الماراثيون «في طليعة التحرُّك العنيف» ضد البريطانيين. وفيما بعد، في مطلع القرن العشرين، عندما أصاب الضعف حزب المؤتمر، «من الذي ضخَّ فيه دماءً جديدة؟ من طرح العقائد الجديدة والفلسفة الجديدة؟ كان ذاك هو لوكمانيا تيلاك؛ ففي حركة الإدارة الذاتية التي تزعَّمها، وفي الحركة التي هبَّت في ١٩٢٠ لم نتخلَّف عن أيٍّ من المقاطعات وسبقنا كثيرًا منها … وسأكتفي بترديد الشهادة التي منحنا إياها المهاتما غاندي نفسه ولا غيره بأنَّ مهاراشترا خليَّة نشطة للعُمال الوطنيين». وحتى الآن، في الهند المستقلة، كان أحد أبناء مهاراشترا — فينوبا بهافي — هو الذي «يحمل راية الفلسفة الغاندية ويعمل على نشر رسالته من مكانٍ لآخر».

فيما يتعلق بمسألة بومباي، استمع أبناء مهاراشترا إلى مواعظ بشأن ضرورة «العمل من أجل وحدة البلاد وأمنها وصالحها». ولكن — حسبما قال جادجيل في مرارة — طوال السنين المنصرِمة «لم نفعل سوى ذلك». كان ختام خُطبة جادجيل مؤثِّرًا، وآخر جملة فيه كانت الأفضل؛ إذ قال: «إنَّ مُطالبتنا بخدمة الأمة كمطالبة خشب الصندل بنشر شذاه.»34
حينذاك تحوَّلت دفَّة المسألة — مثلما تنبَّأ جادجيل — من المجلس إلى الشوارع، التي حذَّرت إحدى صحف بومباي الأسبوعية من أنَّها «يعتمل في ثناياها اضْطِراب قد يتفجَّر في شكل قوةٍ جبريَّةٍ مخيفةٍ تستحيل معها الحياة المنظَّمة لفترةٍ من الوقت».35 وعمل رجال السياسة اليمينيون واليساريون على تأجيج مشاعر السخط. فالزعيم الشيوعي إس إيه دَنجى ألقى بثقله وراء ساميوكتا مهاراشترا، وكذلك فعل السياسي البارز ابن الطائفة الدُّنيا، بي آر أمبيدكار. وكان معهم حزب جانا سانج، والاشتراكيون، الذين ربما كانوا الأكثر نشاطًا على الإطلاق. كذلك انضمَّ إلى رِكابهم كثير من أعضاء حزب المؤتمر المعارضين، مشكِّلين بذلك ائتلافًا ممثِّلًا شاملًا من المهاراشتريين الغاضبين المُحبَطين.
وقد انعكس هذا النطاق الشمولي الرَّحب في صورة اسمٍ مُعَدَّل؛ حيث تحوَّلت ساميوكتا مهاراشترا باريشاد إلى ساميوكتا مهاراشترا ساميتي. أفضل ترجمة لكلمة «باريشاد» هو لفظ منظمة، الذي يُعبِّر عن محورية دور الموظَّفين المسئولين،36 أما كلمة «ساميتي» — أو جمعية — فتشير إلى مسعًى أكثر تعاونية وتشاركية.
في الساعات الأولى من يوم ١٦ يناير، هجمت شرطة بومباي على الزعماء والنشطاء في لجنة العمل الحديثة التشكيل لعموم أحزاب ساميوكتا مهاراشترا، خوفًا من وقوع متاعب، واعتقلت نحو ٤٠٠ شخص إجمالًا؛ مما استثار دعوةً لإقامة إضرابٍ عامٍّ يوم ١٨ يناير. وفي ذلك اليوم، أُغلِقَت المتاجر والمصانع، وتوقفت الحافلات والقطارات عن عملها، وانطلقت المسيرات في الشوارع تحرق دُمًى لنهرو ورئيس وزراء ولاية بومباي متحدث الجوجاراتية، مورارجي ديساي. وعندما توقف صحفي أوروبي لالتقاط صورة لصورة نهرو، وهي ممزَّقة ومُلقاة على أرض الشارع لتطأها الأقدام، «تعالت هتافات هائلة من الشُّرفات ومن أسطُح البنايات، وهتف الناس: «التقط الصورة، التقطها وأرِ العالم رأينا في نهرو».»37
وعصر يوم ١٦ يناير سُجِّلَت أول اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين. كانت الجماهير في حالة ثورة، وأعملت السلب والنهب في المتاجر والمكاتب. ولقرابة أسبوعٍ أُصيبت المدينة بحالة شللٍ كامل؛ فاسْتُدْعِيَ خمسة عشر ألف شرطي للتصدِّي لمُثيري الشغب. وعندما انقشع غبار المعركة، كشف عن أكثر من اثني عشر قتيلًا، ودمار ممتلكات تُقَدَّر بمليارات الروبيات. كانت تلك أسوأ نوبة شغب في الذاكرة الحية.38
تسبَّبت أحداث بومباي في هَزَّةٍ كبيرةٍ في أعماق جواهر لال نهرو؛ فقد كتب لأحد زملائه في مجلس الوزراء قائلًا: إن مسألة اللغة «أخطر حتى من الناجم الناشئ عن التقسيم وعلينا أنْ نُقدِّم نموذجًا إيجابيًّا».39 وإذِ انعقدت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في الأسبوع الثالث من يناير، أدانت العنف الذي «عرَّض بومباي والهند للخِزي والعار». وتحت توجيه نهرو، حَثَّ الحزب أعضاءه على تحجيم القوى التي تُثير «القلاقل والنعرات الانفصالية والإقليمية»، والعمل عوضًا عن ذلك على «وحدة جميع أجزاء هذا البلد العظيم». وأصدر رئيسا ولايتي بيهار وغرب البنغال المنتميان إلى حزب المؤتمر بيانًا مشتركًا اقترحا فيه دمج ولايتيهما في ولايةٍ واحدة، وأَملَا في أنْ يُثبِّط ذلك الاتحاد «النزعات الانفصالية»، ويساعد على التقدُّم الاقتصادي، والأهم من ذلك كله أنَّه سيقدِّم «نموذجًا مهمًّا لذلك النهج الإيجابي حيال مشكلة الوحدة الهندية» التي دعا إليها زعماء الحزب.40

كان من حلفاء نهرو وزير الداخلية جي بي بانت، ورئيس وزراء ولاية بومباي؛ مورارجي ديساي. قال ديساي إنَّ هدف المتظاهرين هو «الإطاحة بالحكومة عمليًّا والاستحواذ على المدينة بالقوة. وكان ذلك هدفهم أيضًا من إرهاب العناصر غير المهاراشترية في المدينة ودفعها إلى الخضوع والقَبول بانضمام مدينة بومباي إلى مهاراشترا».

عارض إن في جادجيل ذلك التأويل بشدة. وكان اعتقاده أنَّ الإدارة بالغت في رد فعلها. وكتب جادجيل إلى كلٍّ من نهرو وبانت قائلًا إنَّ استخدام الشرطة لإطلاق النار والضرب بالعِصِيِّ «بلغ نطاقًا يندى له جبين المسئولين البريطانيين السابقين في إنجلترا أنفسهم خجلًا». ففي عام ١٩١٩، كان البريطانيون قد وصفوا تجمُّعًا سِلميًّا في حديقة جليانوالا باج في أمريتسار بأنه «تمرُّد على الحكومة»، حتى يُبرِّروا المذبحة التي أمر بها الجنرال داير. وبالمِثل بالغ مورارجي ديساي في وصف التظاهرات في بومباي بغية «تبرير فظائع الشُّرطة». وكتب جادجيل بمرارة: عندما «كان الخِيار بين مورارجي ومهاراشترا»، اختارت دلهي مورارجي استنادًا إلى أنَّ «الشخص القادر على إطلاق النار هو إداري جيد». لكن التكاليف التي تكبَّدها الحزب نظير تلك المواجهة كانت باهظة؛ فقد «أسفر إطلاق النار العشوائي من جانب الشرطة وغير ذلك من الأعمال الوحشية عن تنفير المهاراشتريين تمامًا من حزب المؤتمر وحكومة الهند».41
وفي تلك الأثناء، تأجَّجت مشاعر السخط في الصدور. وكان الشعار الذي تردَّد على شفاه المهاراشتريين جميعًا (تقريبًا) هو: «سنواجه العِصِيَّ والرصاص، ولكننا سنحصل على مدينتنا بومباي في النهاية.»42 وفي يوم ٢٦ يناير — عيد الجمهورية — رُفِعَت رايات سوداء في عدة مناطق تسكنها الطبقات العاملة في بومباي. وعندما خطَّط جواهر لال نهرو لزيارة بومباي في شهر فبراير، أَعَدَّ أعضاء ساميوكتا مهاراشترا عَريضة وقَّعها ١٠٠ ألف طفل، بغية تقديمها إلى رئيس الوزراء، وعليها شعار «أيها العم نهرو، سلِّم بومباي». ثم جاء نهرو، ولكن في ظل حراسة مُشَدَّدة؛ فلم يلتقِ بالصحفيين، ناهيك عن الأطفال.43

وفي يونيو ١٩٥٦ كان من المُزمَع عقد جلسة حزب المؤتمر السنوية في بومباي، فقوبِل نهرو براياتٍ سوداء في المطار، وعلى طول الطريق إلى المدينة. كان التوتر سائدًا في الأجواء خارج قاعة الاجتماع. وفي اليوم الثاني من الجلسة، قذف حشد من الناس أعضاء الحزب بالحجارة، فأُصيب عدة أشخاص؛ مما دفع الشرطة إلى إغراق الحشود المتجمِّعة بوابلٍ من قذائف الغاز المسيل للدموع.

وفاقم من مشكلات نهرو عدم الرضا الذي أصبح جليًّا لدى بعض أعضاء حزب المؤتمر المهاراشتريين؛ فقد استقال وزير المالية — سي دي دشموك، الذي كان أيضًا نائب منطقة كوبالا الساحلية في البرلمان — من منصبه احتجاجًا على عدم تخصيص مدينة بومباي لولاية مهاراشترا، وتبعته استقالات أخرى.

أثناء صيف عام ١٩٥٦، انتظر الطرفان في لهفةٍ قرار الحكومة المركزية بشأن بومباي. فعلى الرغم من قَبول مجلس الوزراء بالتوصيات الأخرى للجنة إعادة توزيع الولايات، فقد أُشيع أنَّ نهرو ووزير الداخلية — جي بي بانت — كانا ميَّالَين لجعْل مدينة بومباي إقليمًا اتِّحاديًّا منفصلًا. ولكن في ظل المناخ السائد بدا ذلك الخيار غير قابلٍ للتطبيق. وفي يوم ١ نوفمبر نشأت الولايات الجديدة القائمة على اللغة، وانضمت إليها ولاية بومباي الثنائية اللغة. وكان التنازل الوحيد المُقَدَّم للمتظاهرين هو الاستعاضة عن رئيس الوزراء مورارجي ديساي بماراثي في الحادية والأربعين من عمره؛ هو واي بي تشافان.44

٧

مثَّل تشكيل الولايات اللغوية، ضمن ما مثَّل، انتصارًا للإرادة الشعبية؛ فتلك لم تكن رغبة جواهر لال نهرو، ولكنها كانت رغبة بوتِّي سريرامولو. وقد أضرب سريرامولو عن الطعام ثمانيةً وخمسين يومًا، تجاهل رئيس الوزراء الأمر تمامًا في أول خمسةٍ وخمسين يومًا منها. وخلال تلك الفترة — حسب رواية أحد الصحفيين — طاف نهرو أرجاء الهند، وألقى ١٣٢ خطابًا، كلها عن موضوعات غير اللغة.45 ولكن ما إنْ أَقَرَّ نهرو إقامة ولاية أندرا، وأنشأ لجنة إعادة تنظيم الولايات، لم يعد ثَمَّةَ مَفَرٌّ من إعادة تنظيم البلد كله على أساس اللغة.

كشفت حركات الولايات اللغوية عن عُمقٍ غير عاديٍّ في المشاعر الشعبية؛ فبالنسبة إلى الكاناديين والأندريين والأُورِيِّين والمهاراشتريين، مثَّلت اللغة علامةً على الهوية أقوى من الطائفة الاجتماعية أو الديانة. تجلَّى ذلك في كفاحهم، وفي السلوك الذي بَدَر منهم عندما كُلِّل كفاحهم بالنصر.

كان من العلامات الدالة على ذلك الرعاية الرسمية للفنون؛ فقد بُذِلَت جهود عظيمة وأموال طائلة لتمويل الكُتُب والمسرحيات والأفلام المؤلَّفة أو المعروضة باللغة الرسمية للولاية. نتج عن ذلك تمويل تفاهاتٍ كثيرة، وكثير من الأعمال القيِّمة أيضًا. وعلى وجه التحديد، فقد ازدهر الأدب الإقليمي منذ إعادة تنظيم الولايات على أساسٍ لغوي.

تجلَّى ذلك أيضًا في المِعمار؛ فأصبح بناء عاصمة جديدة — أو على الأقل مجلس تشريعي جديد — شرطًا لازمًا للولايات الجديدة؛ ففي أوريسا — على سبيل المثال — كُلِّف مُهَندِسَان معماريان بتصميم وتخطيط مجموعةٍ كبيرةٍ من البنايات الحكومية، وقيل لهما إنها لا بد أنْ «تُمثِّل الثقافة الأوريسية وحِرَفِيَّتها». وقد أكثر العمل النهائي من توظيف الأنماط الفنية ذات الطابع المحلي؛ من أعمدة، وأقواس، وصور منحوتة للآلهة. وكتب مؤرِّخ معمار مدينة بهوبانشوار الجديدة أنَّه «معمار انبثق من تراب الوطن، مقدَّسًا وطاهرًا».46

وتمثَّل تجلٍّ أكثر بهاءً للكبرياء الإقليمي في البناء الجديد الذي اسْتُخْدِمَ مجلسًا وأمانةً لولاية ميسور. شُيِّد ذلك البناء في مواجهة محكمة بنجالور العليا، البناء الأنيق ذي الأعمدة المدهون باللون الأحمر والذي ربما لا يزال هو البناء الأجمل في المدينة. إلا أنَّ رئيس وزراء ميسور — كيه هانومان تايا — اعتبر المحكمة العُليا أَثارةً للاستعمار؛ فسعى في البداية إلى الحصول على إذنٍ بهدمها، وعندما رُفِض طلبه، قرَّر تشييد بناء جديد للمجلس التشريعي يفوق المحكمة حجمًا وبهاءً. وكان على البناء الجديد أن يُعبِّر عن «فكرة القوة والكرامة، إذ شُيِّد على الطراز الهندي — ولا سيما الميسوري — ولم يكن غربيًّا خالصًا».

انتقى المنتج النهائي توليفة متنوعة من الطرازات المعمارية للممالك العظيمة التي قامت على هضبة كارناتاكا. وأعطى هانومان تايا عُمَّال البناء تعليماتٍ محدَّدةً للغاية؛ إذ طلب منهم محاكاة الأعمدة في حجرةٍ بعينها بإحدى قصور ميسور، أو أبواب من معبدٍ قديمٍ بعينه. وقد انتهى الأمر بالبناء إلى خليطٍ مهيب، إنْ جاز التعبير. إلا أنَّه حقَّق الهدف الرئيسي المرجوَّ منه، وهو: الوقوف «على قدم المساواة، والتفوُّق على المحكمة العليا الاستعمارية»؛ ومن ثَمَّ «يؤدي بنجاحٍ دورَ الجوهر المُستخلَص لكبرياء كانادا».47
عندما بدأت الحركة الساعية إلى إنشاء الولايات اللغوية، أثارت مخاوف عميقة لدى نخبة الحركة القومية؛ فقد خشوا أنْ تُسفر تلك الحركة عن تفتيت الهند، وإنشاء نماذج أخرى عديدة من باكستان. وجاء في صحيفة «تايمز أوف إنديا» في أوائل فبراير ١٩٥٢ أنَّ «أي محاولة لإعادة رسم خريطة الهند على أساسٍ لغويٍّ لن تُسفر إلا عن إتاحة فرصةٍ طال انتظارها للقوى الرجعيَّة كي تبرز إلى السطح وتوطِّد أقدامها، وهو ما من شأنه أنْ يقوِّض الوحدة الهندية من جذورها».48

ولكننا عندما نسترجع الأحداث، يبدو لنا أنَّ إعادة التنظيم على أساس اللغة عزَّزت وحدة الهند عوضًا عن تقويضها. صحيح أنَّ الآثار الناجمة عنها — مثل بناء المجلس التشريعي في بنجالور — لم تُرضِ أذواق الجميع، وصحيح أنَّ نزاعات خطيرة نشبت بين الولايات بشأن اقتسام مياه الأنهار، إلا أنَّه بصفةٍ عامةٍ مثَّل إنشاء الولايات اللغوية قناةً بنَّاءة إلى حدٍّ بعيد للتعبير عن الكبرياء الإقليمي؛ فقد ثبتت إمكانية أنْ يكون المرء كاناديًّا — أو تاميليًّا أو أوريًّا — مُسالمًا وكذلك هنديًّا راضيًا.

أتى مثال مبكِّر على ذلك في انتخابات المجلس التشريعي في أندرا عام ١٩٥٥؛ فقبل ثلاثة أعوام، كان أداء حزب المؤتمر في تلك المنطقة كارثيًّا. كان الحزب موضع ارتيابٍ بسبب مماطلته بشأن مسألة إنشاء ولاية أندرا. وفي المقابل، نجح الشيوعيون في ركوب موجة «أندرا العُظمى». ولكن عام ١٩٥٥، بعدما ترسَّخت أُسس ولاية أندرا براديش، حقَّق حزب المؤتمر نصرًا ساحقًا، بينما مُنِيَ خصومهم الرئيسيون — الشيوعيون — بهزيمةٍ منكرة. وحينذاك، كتب أحد الأشخاص معلِّقًا بارتياح: «لن تعود أندرا ديسا (أحد الأسماء التي أُطْلِقَت على أندرا براديش) مُشتبَهًا بها بصفتها معقلًا محتملًا للشيوعيين في الهند.»49

لم ينفصل الأندريون عن الهند، ولكنهم وضعوا تعريفًا جديدًا لكَوْن المرء هنديًّا، أو على الأقل أحدهم فعل ذلك. بوتِّي سريرامولو رجل طواه النسيان الآن، وهو أمر مؤسف؛ إذ إنَّه اضطلع بدورٍ غير هامشيٍّ في تاريخ بلاده، وكذلك جغرافيتها؛ فصيامه وما أتبعه أوقد شرارة إعادة رسم خريطة الهند على أسس لغوية؛ فإذا كان جواهر لال نهرو هو «صانع» الهند الحديثة، فربما ينبغي أنْ يُدْعَى بوتِّي سريرامولو مركاتور الهند الحديثة (مركاتور عالم جغرافيا ابتكر طريقة جديدة لرسم الخرائط، رسم بها خريطة للعالَم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤