مقدمة

في عقل كل مؤلِّف، هكذا افترض، خلفية يستطيع قرَّاء عمله الإفادة من التعرف عليها. في حالتي، تتمثل تلك الخلفية في مبرِّد المياه التقليدي في مكان العمل، حيث يجري — لدى وقوفنا عنده — تبادل الآراء والقيل والقال. آمل أن أُثري المفردات التي يستخدمها الناس عندما يتحدثون عن أحكام واختيارات الآخرين، أو السياسات الجديدة للشركة، أو القرارات الاستثمارية لأحد الزملاء. لماذا نهتم بالنميمة؟ لأن من السهولة بمكان — ومن الممتع أيضًا — تحديد ووسم أخطاء الآخرين أكثر من التعرف على أخطائنا. بينما تكون عملية مناقشةِ ما نعتقد به ونريده صعبةً في أفضل الأحوال، ويزداد الأمر صعوبة عندما نحتاج بحق للقيام بذلك، إلا أننا نستطيع الإفادة من الآراء المطلعة للآخرين. ينتظر كثير منا تلقائيًّا الكيفية التي سيقيِّم بها الأصدقاء والزملاء خياراتنا، ومن ثم تعتبر جودة ومحتوى هذه الأحكام المنتظرة مهمة. يمثل توقُّع توفر نميمة ذكية دافعًا قويًّا للنقد الذاتي الجاد، دافعًا أكثر قوة من القرارات التي نتخذها في بداية كل عام جديد لتحسين قدرة كل منا على اتخاذ القرارات في العمل والمنزل.

كي يكون الطبيب مُشخصًا جيدًا، عليه أن يعرف مجموعة كبيرة من أسماء الأمراض، يربط كل منها بين فكرة المرض وأعراضه، والسوابق والأسباب الممكنة، والتطورات والنتائج الممكنة، ووسائل التدخل الممكنة لعلاج المرض أو التخفيف من حدته. تتألف عملية تعلم الطب جزئيًّا من تعلم لغة الطب. يتطلب الفهم الأعمق للأحكام والاختيارات أيضًا مفردات أكثر ثراءً مما هو متوفر في لغة الحياة اليومية. إن أي نميمة مطلعة تقوم على توقُّع أن ثمة أنماطًا متمايزة في الأخطاء التي يرتكبها الناس. تُعرف الأخطاء المنهجية بالانحيازات، وهو نوع من الأخطاء يتكرر على نحو متوقع في ظروف خاصة. فعندما يرتقي المتحدث الوسيم الواثق إلى المنصة — على سبيل المثال — ربما تتوقع أن جمهور الحاضرين سيصدر حكمًا على تعليقاته بصورة أكثر إيجابية مما يستحق. يجعل توفر اسم تشخيصي لهذا النوع من الانحياز — تأثير الهالة — من الأسهل بمكانٍ توقعه، وإدراكه، وفهمه.

عندما يجري سؤالك عما تفكر به بشأن أمر ما، تستطيع عادةً الإجابة. فأنت تعتقد أنك تعرف ما يدور بخَلَدك، وهو ما يتألف عادةً من فكرة واعية واحدة تؤدي بصورة منظمة إلى فكرة أخرى. لكن ليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي يعمل بها العقل، كما أنها ليست الطريقة النمطية التي يعمل بها العقل. تنشأ معظم الانطباعات والأفكار في خبرتنا الواعية دون أن نعرف الكيفية التي بلغت بها وعينا. فلا يمكنك تقفِّي أثر الطريقة التي توصلت بها للاعتقاد بأن ثمة مصباحًا على المكتب أمامك، ولا كيفية تحديد وجود إشارة للغضب في نبرة صوت شريك حياتك عبر الهاتف، ولا كيفية تمكنك من تفادي خطر على الطريق قبل أن تعي بوجوده. يجري العمل العقلي الذي ينتج الانطباعات، والأفكار الحدسية، وكثيرًا من القرارات في صمت في عقولنا.

يدور معظم النقاش في هذا الكتاب حول انحيازات الحدس. ومع ذلك، لا يقلل التركيز على الخطأ من أهمية الذكاء الإنساني، مثلما لا ينفي التركيز على الأمراض في الكتب الطبية أهمية الصحة الجيدة. يتمتع معظمنا بصحة جيدة معظم الوقت، كما تكون معظم أحكامنا وأفعالنا ملائمة في كثير من الأحيان. أثناء المضي قدمًا في حياتنا، نسمح لأنفسنا عادةً بأن توجهنا انطباعاتنا ومشاعرنا، كما تكون الثقة التي نوليها في اعتقاداتنا وتفضيلاتنا الحدسية مبررة عادةً — وإن كان لا يحدث ذلك دومًا. فنحن نشعر بالثقة عادةً حتى عندما نكون مخطئين، ولعل أحد المراقبين المحايدين يستطيع تحديد أخطائنا أكثر مما نستطيع نحن.

لذا، يتمثل مرامي بالنسبة لمحادثات مبرِّد المياه في تحسين القدرة على تحديد وفهم الأخطاء في الأحكام والخيارات في الآخرين ثم — في نهاية المطاف — في أنفسنا، وذلك من خلال توفير لغة أكثر ثراءً ودقة لمناقشتها. على الأقل في بعض الحالات، ربما يقترح تشخيص دقيق إحداث تدخل من أجل الحد من الضرر الذي عادةً ما تتسبب فيه الأحكام والخيارات السيئة.

تمهيد

يعرض هذا الكتاب فهمي الحالي لعملية إصدار الأحكام واتخاذ القرارات، وهي العملية التي شكلتها الاكتشافات في مجال علم النفس في العقود الأخيرة. وأستطيع أن أُرجع الأفكار الرئيسية الواردة هنا إلى يوم سعدي في عام ١٩٦٩، عندما طلبتُ من أحد الزملاء أن يتحدث كضيف في حلقة دراسية كنت أدرس بها في قسم علم النفس بالجامعة العبرية في القدس. كان عاموس تفرسكي نجمًا صاعدًا في مجال بحوث اتخاذ القرار — بل كان كذلك في أي شيء يقوم به — لذا أدركت أننا سنُمضي وقتًا ممتعًا. كان كثيرون ممن يعرفون عاموس يرون أنه أكثر الأشخاص ذكاءً فيمن صادفوهم على الإطلاق. كان عاموس ألمعيًّا، وبليغًا، ويتمتع بشخصية كاريزمية. وكان أيضًا يتمتع بذاكرة مذهلة للنكات وقدرة استثنائية على استخدامها للتدليل على وجهة نظره. لم يكن ثمة وقت ممل على الإطلاق في ظل وجود عاموس. كان عاموس يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا، فيما كنت في الخامسة والثلاثين.

أخبر عاموس الحضور عن وجود برنامج بحثي قائم في جامعة ميشيجان يسعى إلى الإجابة على هذا السؤال: هل يتمتع الناس بمهارات إحصائية حدسية جيدة؟ نعلم في واقع الحال أن الناس يتمتعون بمهارات نحوية حدسية جيدة. ففي سن الرابعة، يتوافق الطفل دون جهد مع القواعد النحوية عند تحدثه، على الرغم من عدم معرفته بوجود هذه القواعد. هل يمتلك الناس شعورًا حدسيًّا مماثلًا للمبادئ الأساسية للإحصاء؟ أشار عاموس إلى أن الإجابة على السؤال هي «نعم» مشروطة. دار نقاش ثري في الحلقة الدراسية وخلصنا في النهاية إلى أن الإجابة ﺑ «لا» مشروطة هي الإجابة الأفضل.

استمتعنا — عاموس وأنا — بالحوار وخلصنا إلى أن الإحصاء الحدسي يعتبر موضوعًا شائقًا وسيكون من الممتع بحث هذا الموضوع معًا. التقينا تلك الجمعة على الغداء في مقهى ريمون — المقهى المفضل للبوهيميين والأساتذة في القدس — وخططنا لإجراء دراسة حول الإحصاء الحدسي لدى الباحثين المتميزين. كنا قد خلصنا في الحلقة الدراسية إلى أن حدسنا قاصر. وعلى الرغم من سنوات تدريس وتطبيق علم الإحصاء، لم نطوِّر شعورًا حدسيًّا بالثقة في النتائج الإحصائية التي لاحظناها في العينات الصغيرة. كانت أحكامنا الذاتية متحيزة. كنا نميل أكثر مما ينبغي للاعتقاد في صحة نتائج البحوث القائمة على الدلائل غير المناسبة، كما كنا معرضين إلى جمع ملاحظات أقل مما ينبغي في بحوثنا. هدفت دراستنا إلى تبيان ما إذا كان الباحثون الآخرون يعانون من المشكلة ذاتها.

أعددنا استقصاءً شمل سيناريوهات واقعية للموضوعات الإحصائية التي تتكشف في البحوث. جمع عاموس استجابات مجموعة من المشاركين الخبراء في اجتماع لجمعية علم النفس الرياضي، بما في ذلك مؤلفين لاثنين من المراجع الإحصائية. وكما كان متوقعًا، وجدنا أن زملاءنا الخبراء، مثلنا، كانوا يبالغون كثيرًا في احتمالية أن تتحقق النتائج الأصلية لإحدى التجارب بنجاح مرة ثانية حتى لو كان ذلك من خلال عينة صغيرة. بالإضافة إلى ذلك، قدَّم هؤلاء نصيحة سيئة للغاية لأحد طلاب الدراسات العليا الافتراضيين حول عدد الملاحظات التي يجب عليه جمعها. لم يكن علماء الإحصاء أنفسهم يتمتعون بحدس إحصائي جيد.

عندما كنا نكتب البحث الذي كان يتضمن هذه النتائج، اكتشفنا — عاموس وأنا — أننا كنا نستمتع بالعمل معًا. كان عاموس ظريفًا دومًا، وفي وجوده صرت أنا أيضًا ظريفًا؛ لذا قضينا ساعات من العمل الجاد في متعة متواصلة. جعلتنا المتعة التي وجدناها في العمل معًا صبورين بدرجة هائلة؛ فمن السهولة السعي من أجل الكمال عندما لا يشعر المرء بالضجر أبدًا. لعل أكثر الأشياء أهمية في كل ذلك هو أننا تفحصنا أسلحتنا الرئيسية عند بداية البحث. كان كلانا يتمتع بالحس النقدي وحب الجدل — بل كان هو أكثر مني في ذلك — على أننا خلال سنوات تعاوننا لم يستبعد أي منا دون روية أي شيء مما كان يقوله الآخر. في حقيقة الأمر، تمثلت أحد أسباب الحبور الكبير الذي وجدته في التعاون بيننا في أن عاموس كان كثيرًا ما يدرك الغاية من أفكاري الغامضة أكثر مما كنت أدركها. كان عاموس مفكرًا منطقيًّا أكثر مني، مع ميله إلى النظرية وحس لا يخطئ في تحديد الاتجاه. كنت أكثر حدسًا وتبحرًا في علم النفس الإدراكي، الذي اقترضنا منه الكثير من الأفكار. كنا متشابهيْن بما يكفي لأن يفهم أحدنا الآخر بسهولة، كما كنا مختلفيْن عن بعضنا بما يكفي لإدهاش أحدنا الآخر. وضعنا نظامًا قضينا من خلاله معظم وقت عملنا معًا، عادةً سائرين معًا لفترات طويلة. كان تعاوننا هو محور حياتنا خلال السنوات الأربع عشرة التالية، وكان العمل الذي قمنا به معًا خلال تلك السنوات هو أفضل ما قام به أي منا على الإطلاق.

تبنينا سريعًا أسلوبًا سرنا عليه لسنوات عديدة. كان بحثنا عبارة عن محادثة، نبتدع من خلالها الأسئلة ونبحث معًا إجاباتنا الحدسية. كان كل سؤال عبارة عن تجربة صغيرة، وكنا نُجري العديد من التجارب في اليوم الواحد. لم نكن نبحث جديًّا عن الإجابة الصحيحة على الأسئلة الإحصائية التي كنا نطرحها. كنا نهدف إلى تحديد وتحليل الإجابة الحدسية، الإجابة الأولى التي كانت ترد إلى الخاطر، الإجابة التي كنا نشعر برغبة في تقديمها حتى مع علمنا بخطئها. كنا نعتقد — على نحو صحيح، كما اتضح الأمر — أن أي شعور حدسي تشاركناه سيتشارك فيه كثيرون أيضًا، وأن من السهولة بمكان بيان آثاره على الأحكام.

اكتشفنا ذات مرة في سرور كبير أن لدينا أفكارًا سخيفة مماثلة حول المستقبل المهني للعديد من الأطفال الصغار الذين كنا نعرفهم. كنا نستطيع تحديد الطفل المحامي ذي السنوات الثلاث ذي القدرة على الجدال، وأستاذ الجامعة المشغول فكريًّا والمنعزل اجتماعيًّا، والمعالج النفسي المتعاطف المتطفل قليلًا. بطبيعة الحال، بينما كانت هذه التوقعات عبثية كنا لا نزال نجدها جذابة. كان من الواضح أيضًا أن أفكارنا الحدسية كان يحكمها تشابه كل طفل مع النموذج النمطي الثقافي لإحدى المهن. ساعدتنا هذه التجربة المثيرة على وضع نظرية كانت تبرز شيئًا فشيئًا في عقولنا آنذاك، حول دور التشابه في التوقعات. واصلنا اختبار وتطوير تلك النظرية في عشرات التجارب، مثلما في المثال التالي:

عند التفكير في هذا السؤال، رجاء افتراض أن ستيف جرى اختياره عشوائيًّا من عينة نموذجية:

وصِف شخصٌ من قِبَل أحد الجيران على النحو التالي: «يتسم ستيف بالخجل الشديد والانطوائية، وهو خدوم للغاية دون أن يبدي اهتمامًا كبيرًا بالناس أو بالعالم الواقعي. إن ستيف صبور ومرتب، ويميل إلى النظام والتنظيم، وهو شغوف بالتفاصيل.» هل يكون ستيف على الأرجح أمين مكتبة أم مزارعًا؟

يلفت الشبه بين شخصية ستيف والنموذج النمطي لأمين المكتبة نظر الجميع على الفور، في مقابل تجاهل بعض الاعتبارات الإحصائية ذات الصلة دومًا تقريبًا. هل دار بخَلَدك أن هناك أكثر من ٢٠ مزارعًا من الذكور مقابل كل أمين مكتبة في الولايات المتحدة؟ نظرًا لأن هناك عددًا أكبر بكثير من المزارعين، سيكون شبه مؤكد وجود عدد أكبر من الأشخاص «الصبورين والمرتبين» يقودون الجرارات أكثر من الأشخاص الذين يعملون في مكاتب الاستعلامات في المكتبات. لكننا وجدنا أن المشاركين في تجاربنا تجاهلوا الحقائق الإحصائية ذات الصلة واعتمدوا بصورة حصرية على التشابه. أشرنا إلى أن المشاركين استخدموا التشابه باعتباره طريقة استدلالية تعتمد على التجربة (والتي تنتج عنها قواعد عامة) لإصدار حكم صعب. تسبب الاعتماد على الطرق الاستدلالية في وقوع انحيازات يمكن توقعها (أخطاء منهجية) في توقعات المشاركين.

في تجربة أخرى، تساءلنا حول معدلات الطلاق بين الأساتذة في جامعتنا. لاحظنا أن السؤال أسفر عن عملية بحث في الذاكرة عن الأساتذة المطلقين الذين كنا نعرفهم أو نعرف شيئًا عنهم، كما لاحظنا أننا كنا نحكم على حجم التصنيفات من خلال سهولة ورود الحالات إلى الذهن. أطلقنا على عملية الاعتماد هذه على سهولة البحث في الذاكرة اسم «استدلال التوفر». في إحدى دراساتنا، طلبنا من المشاركين الإجابة على سؤال بسيط حول كلمات في نص إنجليزي تقليدي:

خذ مثلًا الحرف K.
هل الأرجح أن يظهر الحرف K كحرف أول في الكلمة أم كحرف ثالث؟
مثلما يعرف أي لاعب للعبة سكرابل، فإن التفكير في كلمات تبدأ بحرف معين أسهل كثيرًا من العثور على كلمات تمتلك الحرف نفسه في الموضع الثالث منها. ينطبق الأمر نفسه على جميع حروف الأبجدية. توقعنا من ثم أن يبالغ المشاركون في ذكر تكرار الأحرف التي تظهر في الموضع الأول، حتى تلك الحروف (مثل K وL وN وR وV) التي تظهر في حقيقة الأمر بصورة أكثر تكرارًا في الموضع الثالث. مرة أخرى، يؤدي الاعتماد على طريقة استدلالية إلى وقوع انحيازات متوقعة في الأحكام. على سبيل المثال، بدأت أشك مؤخرًا في انطباعي الذي دام طويلًا في أن الزنا أكثر شيوعًا بين السياسيين عنه بين الأطباء والمحامين، بل إنني كنت قد خرجت بتفسيرات لتلك «الحقيقة»، بما في ذلك الأثر الشهواني للسلطة وإغراءات الحياة بعيدًا عن المنزل. أدركت أخيرًا أن انتهاكات الساسة يجري الحديث عنها أكثر من انتهاكات المحامين والأطباء. ربما يرجع انطباعي الحدسي بالكامل إلى اختيارات الصحفيين للموضوعات وإلى اعتمادي على عملية استدلال التوفر.

قضينا، عاموس وأنا، سنوات عديدة ندرس ونوثِّق انحيازات التفكير الحدسي في مجالات متنوعة، مثل وضع الاحتمالات الخاصة بالأحداث، والتنبؤ بالمستقبل، وتقييم الافتراضات، وتقييم معدلات التكرار. في السنة الخامسة من عملنا معًا، قدَّمنا نتائج بحوثنا الرئيسية في مجلة «ساينس»، وهي مجلة يقرؤها العلماء في العديد من المجالات. كان عنوان البحث (الذي يعاد نشره كاملًا في نهاية هذا الكتاب) «إصدار الأحكام في ظل عدم اليقين: طرق الاستدلال والانحيازات». بيَّن هذا البحث الطرق المختصرة المبسطة للتفكير الحدسي وأشار إلى حوالي ٢٠ نمطًا من أنماط الانحياز باعتبارها تجليات للطرق الاستدلالية هذه، وكذلك باعتبارها أمثلة توضيحية على دور الاستدلال في إصدار الأحكام.

أشار مؤرخو العلم كثيرًا إلى أن العلماء في أي وقت ما في مجال محدد يميلون إلى تشارك الافتراضات الأساسية حول موضوع التخصص. ليس علماء العلوم الاجتماعية استثناءً في هذا الشأن؛ إذ يعتمدون على رؤية للطبيعة الإنسانية توفِّر الخلفية لمعظم النقاشات حول سلوكيات محددة، لكن لا يجري نقد هذه الرؤية إلا نادرًا. تقبَّل هؤلاء العلماء في سبعينيات القرن العشرين بصورة واسعة فكرتين حول الطبيعة الإنسانية؛ أولًا: الناس بصورة عامة عقلانيون، كما يتسم تفكيرهم بأنه سليم عادةً. ثانيًا: تفسِّر المشاعر؛ مثل الخوف والود والكراهية، معظم الحالات التي يبتعد الناس فيها عن التصرف بعقلانية. انتقد بحثنا كلا الافتراضين دون مناقشتهما مباشرةً. ووثَّقنا أخطاء منهجية في تفكير الأشخاص العاديين، وأرجعنا هذه الأخطاء إلى تصميم آلية الإدراك لا لفساد التفكير من خلال المشاعر.

جذب بحثنا الانتباه أكثر بكثير مما كنا نتوقع، ولا يزال أحد أكثر البحوث اقتباسًا في العلوم الاجتماعية (اقتبس منه أكثر من ثلاثمائة بحث علمي في عام ٢٠١٠). وجد العلماء في المجالات الأخرى البحث مفيدًا، كما جرى استخدام أفكار الطرق الاستدلالية والانحيازات بصورة مفيدة في مجالات كثيرة، بما في ذلك مجالات التشخيص الطبي، والأحكام القضائية، وتحليلات الاستخبارات، والفلسفة، والتمويل، والإحصاء، والاستراتيجية العسكرية.

على سبيل المثال، لاحظ طلاب السياسة أن استدلال التوفر يسهم في تفسير سبب بروز بعض الموضوعات في العقل الجمعي بينما يجري إهمال موضوعات أخرى. يميل الناس إلى تقييم الأهمية النسبية للموضوعات من خلال سهولة استرجاعها من الذاكرة، وهو ما يحدده إلى حد كبير مقدار التغطية الإعلامية لها. تشغل الموضوعات المذكورة بكثرة العقل في الوقت نفسه الذي تختفي فيه موضوعات أخرى من الوعي. بدورها، يتطابق ما تختار وسائل الإعلام أن تعرضه مع رؤيتها لما يدور في الوقت الحالي في العقل الجمعي. ولا يُعد من قبيل المصادفة أن الأنظمة السلطوية تمارس ضغوطًا هائلة على وسائل الإعلام المستقلة. ونظرًا لأن الاهتمام الجمعي يسهُل للغاية استثارته من خلال الأحداث الدرامية ومن خلال أخبار المشاهير، تكون حالات التأثر الشديدة التي تغذيها وسائل الإعلام مسألة شائعة. على سبيل المثال، لأسابيع عديدة بعد وفاة مايكل جاكسون، كان من المستحيل تقريبًا العثور على قناة تليفزيونية تقدِّم موضوعًا آخر غير ذلك. في المقابل، توجد تغطية محدودة لموضوعات مهمة للغاية لكنها لا تتسم بالإثارة ولا تنطوي على أحداث درامية هائلة، مثل موضوع تردي المعايير التعليمية أو الاستهلاك المفرط للموارد الطبية في السنة الأخيرة من حياة الأشخاص. (أثناء كتابتي هذه السطور، لاحظت أن اختياري للأمثلة «محدودة التغطية» إنما توجهه هو أيضًا مسألة التوفر. فالموضوعات التي انتقيتها كثيرًا ما يجري ذكرها كأمثلة، بينما الموضوعات المساوية في الأهمية المثارة بصورة أقل لم ترد إلى ذهني.)

بينما لم ندرك ذلك تمامًا آنذاك، تمثل أحد الأسباب الرئيسية في الجاذبية الهائلة التي تمتع بها بحثنا الخاص بالطرق الاستدلالية والانحيازات خارج مجال علم النفس في ملمح عَرَضي له. كنا نضمِّن دومًا في بحوثنا النص الكامل للأسئلة التي سألناها أنفسنا والمشاركين في بحوثنا. كانت هذه الأسئلة بمثابة أمثلة توضيحية للقارئ، ما سمح له بإدراك كيف كانت الانحيازات الإدراكية تصيب تفكيره بالعوار. آمل أن تكون قد مررت بالتجربة نفسها عند قراءة السؤال حول ستيف أمين المكتبة، وهو سؤال كان مقصودًا منه مساعدتك في تقييم قوة التشابه باعتبارها إشارة إلى الاحتمالية، وإلى إدراك كيف يكون من السهل تجاهل الحقائق الإحصائية ذات الصلة.

وفَّر استخدام الأمثلة التوضيحية للعلماء من مجالات متنوعة — خاصةً الفلاسفة وعلماء الاقتصاد — فرصة استثنائية لتحديد مكامن القصور الممكنة في تفكيرهم. فعند رؤيتهم أنفسهم يخطئون، نحا هؤلاء العلماء إلى نقد الافتراض الثابت — السائد آنذاك — القائل بأن العقل الإنساني يتسم بالعقلانية والمنطقية. كان اختيار المنهج غاية في الأهمية. ففي حال عرضنا نتائج التجارب التقليدية فقط، كان البحث سيصبح أقل قيمة وأقل جاذبية. بالإضافة إلى ذلك، كان القراء المتشككون سينأون بأنفسهم عن النتائج من خلال إلصاق الأخطاء في إصدار الأحكام لعدم كفاءة الطلاب الجامعيين، والذين هم المشاركون التقليديون في الدراسات النفسية. بطبيعة الحال، لم نفضِّل الأمثلة التوضيحية على التجارب القياسية؛ لأننا كنا نريد أن نؤثر على آراء الفلاسفة وعلماء الاقتصاد، بل فضلنا الأمثلة التوضيحية لأنها كانت أكثر متعة، وكنا أكثر حظًّا في اختيارنا هذا المنهج مثلما كنا محظوظين بأكثر من طريقة. من الموضوعات المتكررة في هذا الكتاب أن الحظ يلعب دورًا كبيرًا في كل قصة نجاح. من السهولة بمكان دومًا تحديد تغيير صغير في قصة النجاح الذي لولاه لتحولت قصة النجاح اللافتة إلى مجرد قصة عادية. وليست قصتنا استثناءً في هذا الإطار.

لم تكن ردود الفعل إزاء عملنا إيجابية دومًا. على وجه الخصوص، جرى انتقاد تركيزنا على الانحيازات باعتبارها تشير إلى رؤية سلبية غير عادلة للعقل. مثلما هو متوقع في العلم التقليدي، أجرى بعض الباحثين بعض التعديلات على أفكارنا، فيما قدَّم آخرون بدائل مقبولة. عمومًا، تعتبر الفكرة القائلة بأن عقولنا عرضة لارتكاب الأخطاء المنهجية فكرة مقبولة حاليًّا. كان لبحثنا حول إصدار الأحكام أثرًا أبعد بكثير على العلوم الاجتماعية مما ظننا ممكنًا عندما كنا لا نزال نعمل به.

بعد الانتهاء من بحثنا حول إصدار الأحكام مباشرةً، حولنا انتباهنا إلى عملية اتخاذ القرار في ظل عدم اليقين. كنا نهدف إلى وضع نظرية نفسية لطريقة اتخاذ الأشخاص القرارات حول المراهنات البسيطة. على سبيل المثال، هل تقبل رهانًا على إلقاء عملة معدنية تكسب فيه ١٣٠ دولارًا أمريكيًّا إذا أظهرت العملة صورة وتخسر ١٠٠ دولار أمريكي إذا أظهرت العملة كتابة؟ جرى استخدام هذه الخيارات الأساسية منذ وقت طويل لبحث الأسئلة الكبرى حول عملية اتخاذ القرار، مثل الوزن النسبي الذي يمنحه الناس للأشياء المؤكدة وللنتائج غير المؤكدة. لم يتغير منهجنا. قضينا أيامًا كثيرة نبتكر مسائل متعلقة بالاختيارات، ونبحث ما إذا كانت تفضيلاتنا الحدسية تتوافق مع منطق الاختيار. مرة أخرى، مثلما هو الحال في عملية إصدار الأحكام، لاحظنا وجود انحيازات منهجية في قراراتنا؛ فقد كانت التفضيلات الحدسية تخالف بصورة منتظمة قواعد الاختيار العقلاني. بعد مرور خمس سنوات من نشر بحث مجلة «ساينس»، نشرنا بحثًا بعنوان «نظرية التوقع: تحليل لعملية اتخاذ القرار في ظل المخاطرة»، وهي نظرية حول الاختيار ترى بعض التقديرات أنها أكثر تأثيرًا من عملنا حول إصدار الأحكام، كما تعتبر إحدى دعائم الاقتصاد السلوكي.

حتى جعل الانفصال الجغرافي من الصعوبة البالغة الاستمرار في العمل معًا، تمتعنا — عاموس وأنا — بالحظ السعيد الاستثنائي في مشاركة عقل تفوق على عقليْنا منفرديْن، وفي علاقة جعلت عملنا ممتعًا قدر ما هو مثمر. كان تعاوننا حول إصدار الأحكام واتخاذ القرار سببًا في حصولي على جائزة نوبل التي تلقيتها في عام ٢٠٠٢، والتي كان عاموس سيشاركني فيها لولا وفاته، عن عمر يناهز التاسعة والخمسين، في عام ١٩٩٦.

الهدف من الكتاب

لا يهدف هذا الكتاب إلى استعراض البحوث التي أجريناها — عاموس وأنا — معًا، وهي مهمة قام بها الكثير من المؤلفين باقتدار على مر السنوات. يتمثل هدفي الرئيسي هنا في عرض رؤية لكيفية عمل العقل، رؤية تعتمد على التطورات الأخيرة في علم النفس الإدراكي والاجتماعي. وأحد هذه التطورات المهمة هو أننا نفهم الآن عجائب التفكير الحدسي، إلى جانب نقائصه.

لم نتناول — عاموس وأنا — الأفكار الحدسية الدقيقة فيما يتجاوز العبارة العامة القائلة بأن طرق الاستدلال المستخدمة عند إصدار الأحكام «تعتبر مفيدة إلى حد ما، لكنها تؤدي في بعض الأحيان إلى أخطاء هائلة ومنهجية.» لقد ركَّزنا على الانحيازات؛ نظرًا لأننا وجدناها شائقة في حد ذاتها، ولأنها قدَّمت دليلًا على الطرق الاستدلالية الخاصة بإصدار الأحكام. لم نسأل أنفسنا عما إذا كانت جميع الأحكام الحدسية في ظل عدم اليقين تصدر عن طريق الطرق الاستدلالية التي درسناها، والتي يتضح الآن أنها لا تصدر عنها. بصورة خاصة، يمكن تفسير الأفكار الحدسية لدى الخبراء بصورة أفضل من خلال آثار الممارسة الممتدة عنها من خلال الطرق الاستدلالية. نستطيع الآن رسم صورة أكثر ثراءً واتزانًا، صورة تمثل فيها المهارة والطرق الاستدلالية مصادر للخيارات والأحكام الحدسية.

يذكر عالم النفس جاري كلاين قصة فريق المطافئ الذي دخل أحد المنازل وكان المطبخ فيه مشتعلًا. بعد إخماد النيران في المطبخ مباشرةً، صاح قائد الفريق قائلًا: «لنخرج من هنا!» دون أن يدرك ما دفعه إلى قول ذلك. انهارت أرضية المطبخ مباشرةً بعد فرار فريق المطافئ. بعدها فقط أدرك قائد الفريق أن النيران كانت هادئة بصورة غير عادية وكانت أذناه ساخنتين بصورة غير عادية. معًا، أثار هذان الانطباعان ما أطلق عليه قائد الفريق «الحاسة السادسة للخطر». بينما لم تكن لدى قائد الفريق أي فكرة عن ماهية المشكلة، كان يعلم أن ثمة شيئًا ليس على ما يرام. ظهر لاحقًا أن قلب النيران لم يكن في المطبخ بل في الطابق الأرضي بالأسفل حيث كان يقف رجال الإطفاء أعلاه.

سمعنا جميعًا قصصًا مثل هذه عن حدس الخبراء: أستاذ لعبة الشطرنج الذي يمر على لاعبَين في الشارع ويصيح قائلًا: «يموت الملك الأبيض في ثلاث حركات» دون أن يتوقف، والطبيب الذي يشخِّص تشخيصًا معقدًا بعد نظرة واحدة على المريض. بينما يدهشنا حدس الخبراء باعتباره شيئًا سحريًّا، إلا أنه ليس كذلك. في حقيقة الأمر، يمارس كل منا حدسًا مثل حدس الخبراء مرات كثيرة يوميًّا. يمتلك معظمنا حسًّا عظيمًا في تحديد نبرة الغضب في أول كلمة يتفوه بها المتحدث عبر الهاتف، وندرك أننا كنا موضوع الحديث عندما ندخل إحدى الغرف، وندرك سريعًا من خلال الإشارات الواضحة أن سائق السيارة في الحارة المجاورة يمثل خطرًا. لا تقل قدراتنا الحدسية اليومية في إدهاشها عن عمليات التبصر المدهشة لرجل إطفاء أو طبيب متمرس، بل هي أكثر شيوعًا.

لا يتضمن علم نفس الحدس الدقيق سحرًا. ربما يعبِّر عن ذلك أفضل تعبير العبارة القصيرة للعظيم هربرت سايمون، الذي درس أساتذة الشطرنج وبيَّن أنه بعد آلاف الساعات من الممارسة ينظر هؤلاء إلى القطع على اللوحة بطريقة مختلفة عنا. تستطيع أن تستشعر نفاد صبر سايمون إزاء إضفاء طابع خرافي على حدس الخبراء عندما كتب قائلًا: «وفَّر الموقف إشارة. منحتْ هذه الإشارة الخبير القدرة على الاطلاع على المعلومات المخزنة في الذاكرة. وقدَّمت المعلومات الإجابة. فالحدس لا يزيد أو ينقص عن كونه إدراكًا.»

لا نشعر بالدهشة عندما ينظر طفل يبلغ من العمر سنتين إلى كلب ويصيح قائلًا: «بوبي!» نظرًا لأننا اعتدنا على إعجاز تعلم الأطفال إدراك وتسمية الأشياء. تتمثل نقطة سايمون هنا في أن إعجاز حدس الخبراء يتسم بالطابع نفسه. تتطور الأفكار الحدسية الصحيحة عندما يكون الخبراء قد تعلموا إدراك العناصر المألوفة في موقف جديد والتصرف بطريقة تتناسب معه. ترد أحكام الحدس الجيدة إلى الذهن بالسرعة نفسها التي ترد بها كلمة «بوبي!»

لسوء الحظ، لا تنشأ الأفكار الحدسية للمهنيين جميعها عن خبرة حقيقية. زرتُ منذ سنوات بعيدة رئيس قطاع الاستثمار في إحدى الشركات المالية الكبرى، وأخبرني أنه استثمر مؤخرًا عشرات الملايين من الدولارات في أسهم شركة فورد للسيارات. عندما سألته عن طريقة اتخاذ هذا القرار، أجابني بأنه حضر مؤخرًا أحد معارض السيارات وكان منبهرًا. «يا إلهي، إنهم يعرفون حقًّا كيف يصنعون سيارة!» كان هذا تفسيره. أوضح الرجل جيدًا ثقته في حدسه ورضاءه عن نفسه وعن قراره. وجدتُ من المثير ألا يأخذ الرجل في الاعتبار السؤال الذي كان سيسأله رجل الاقتصاد في هذا السياق: هل سهم شركة فورد يباع الآن بسعر أقل من قيمته الحقيقية؟ بدلًا من ذلك، استمع رئيس قطاع الاستثمار إلى حدسه. كان الرجل يحب السيارات، وكان يحب شركة فورد، وكان يعجبه فكرة امتلاك أسهمها. مما نعرفه عن الدقة في عملية انتقاء الأسهم، من المنطقي بمكان الاعتقاد بأن الرجل لم يكن يعرف ما كان يفعل.

بينما لم تسهم الطرق الاستدلالية المحددة التي درسناها أنا وعاموس كثيرًا في فهم طريقة اتخاذ المسئول التنفيذي قرار الاستثمار في أسهم فورد، يوجد حاليًّا مفهوم أكثر اتساعًا لتلك الطرق، وهو ما يقدِّم تفسيرات جيدة. يتمثل أحد التطورات المهمة في أن المشاعر تشغل حاليًّا حيزًا أكبر بكثير في فهمنا للاختيارات والأحكام الحدسية مما كانت في الماضي. قد يوصف قرار المسئول التنفيذي اليوم باعتباره مثالًا على الاستدلال العاطفي؛ حيث يتم توجيه الأحكام والقرارات مباشرةً من خلال مشاعر الحب والنفور، دون كثير من التدبر أو التفكير.

عند مواجهة مشكلة ما — مثل اختيار حركة في لعبة الشطرنج أو اتخاذ قرار بما إذا كان ينبغي الاستثمار في أحد الأسهم من عدمه — تقوم آلية التفكير الحدسي بأفضل ما تستطيع القيام به. فإذا توفرت لدى الشخص الخبرة المناسبة، فسيدرك الموقف، وسيكون الحل الحدسي الذي يرد إلى ذهنه على الأرجح صحيحًا. هذا ما يحدث عندما ينظر أستاذ في لعبة الشطرنج إلى وضع معقد؛ فتكون الحركات القليلة التي ترد إلى ذهنه في الحال قوية جميعها. عندما يكون السؤال صعبًا ولا يكون الحل المهاري متوفرًا، يلعب الحدس دورًا. فربما ترد إجابة إلى الذهن سريعًا، لكنها ليست إجابة على السؤال الأصلي. فبينما كان السؤال الذي واجهه المسئول التنفيذي (هل يجب أن أستثمر في أسهم فورد؟) سؤالًا صعبًا، وردت الإجابة على سؤال أسهل وذي صلة (هل أحب سيارات فورد؟) إلى الذهن سريعًا وحددت خياره. هذا هو جوهر الطرق الاستدلالية الحدسية. فعندما يواجهنا سؤال صعب، نجيب في كثير من الأحيان على سؤال أسهل بدلًا منه، دون الإشارة إلى عملية الاستبدال هذه عادةً.

يفشل البحث التلقائي عن حل حدسي أحيانًا؛ إذ لا يرد حل خبير أو إجابة تعتمد على طريقة استدلالية إلى الذهن. في هذه الحالات، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان ننتقل إلى إحدى صور التفكير الأبطأ والأكثر تدبرًا وجهدًا. هذا هو نمط التفكير البطيء المُشار إليه في اسم الكتاب. في حين يشمل التفكير السريع نوعَيِ التفكير الحدسي — حدس الخبراء والحدث الذي يعتمد على طريقة استدلالية — فضلًا عن الأنشطة العقلية الآلية بالكامل للإدراك والذاكرة، وهي العمليات التي تمكنك من معرفة وجود مصباح على مكتبك أو استرجاع اسم عاصمة روسيا.

جرى بحث الفرق بين التفكير السريع والبطيء من قبل علماء نفس كثيرين خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. ولأسباب أوضحها تفصيلًا في الفصل التالي، سأتناول الحياة العقلية من خلال تسمية مجازية، بحيث أطلق على نظامي التفكير اللذيْن يصدر عنهما التفكير السريع والتفكير البطيء «النظام ١» و«النظام ٢»، على الترتيب. سأتحدث عن خواص التفكير الحدسي والتفكير التدبُّري كما لو كانت هذه الخواص سمات وميول شخصيتين في عقلك. في الصورة التي تتضح من البحوث الأخيرة، يعتبر النظام ١ الحدسي أكثر تأثيرًا مما تُنبِئك به خبرتك، وهو الفاعل السري لكثير من الخيارات والأحكام التي تتخذها. يدور هذا الكتاب في معظمه حول آليات عمل النظام ١ والتأثيرات المتبادلة بينه وبين النظام ٢.

تقسيم الكتاب

ينقسم الكتاب إلى خمسة أجزاء. يعرض الجزء الأول العناصر الأساسية لمنهج يعتمد على نظاميْن في تناول الأحكام والخيارات. يتناول هذا الجزء بالتفصيل الفرق بين العمليات الآلية للنظام ١ والعمليات التي يجري التحكم بها في النظام ٢، ويبين كيف تبني الذاكرة الترابطية، وهي لُب النظام ١، باستمرار تفسيرًا متماسكًا لما يجري في عالمنا في أي لحظة. سأحاول أن أعطي لمحة عن مدى تعقيد وثراء العمليات الآلية وغير الواعية في كثير من الأحيان التي تكمن وراء التفكير الحدسي، وكذلك طريقة تفسير هذه العمليات الآلية للطرق الاستدلالية التي تستخدم عند إصدار الأحكام. يتمثل أحد الأهداف هنا في توفير لغة للتفكير والحديث عن العقل.
يحدِّث الجزء الثاني دراسة الطرق الاستدلالية المستخدمة في إصدار الأحكام ويبحث في لغز كبير؛ ألا وهو: لماذا يصعب للغاية بالنسبة إلينا التفكير بصورة إحصائية؟ بينما نفكر بسهولة بطريقة ترابطية، ومجازية، وسببية، يتطلب الإحصاء التفكير في أشياء كثيرة في آن واحد، وهو شيء ليس النظام ١ مصممًا لتنفيذه.
يتعرض الجزء الثالث لصعوبات التفكير الإحصائي، والذي يتناول أحد أوجه القصور المحيرة في عقولنا، المتمثل في ثقتنا المفرطة فيما نعتقد أننا نعرفه، وعجزنا الظاهري في الإقرار بالمدى الكامل لجهلنا وعدم اليقين الذي يكتنف العالم الذي نعيش فيه. فنحن نميل إلى المبالغة في قدر فهمنا للعالم والتقليل من شأن دور المصادفة في وقوع الأحداث. يُغذِّي الثقةَ المفرطةَ اليقينُ الوهميُّ للإدراك المتأخر. تأثرت آرائي حول هذا الموضوع بنسيم طالب، مؤلف كتاب «البجعة السوداء». آمل أن تؤدي حوارات مبرد المياه دورها، وهي الحوارات التي تستكشف بذكاء الدروس التي يمكن تعلمها من الماضي مع مقاومة جاذبية الإدراك المتأخر ووهم اليقين.
يتمثل جوهر الجزء الرابع في حوار مع علم الاقتصاد حول طبيعة عملية اتخاذ القرار وحول الافتراض القائل بأن الفاعل الاقتصادي عقلاني. يقدِّم هذا الجزء من الكتاب رؤية راهنة — بالاستعانة بنموذج النظامين — للمفاهيم الرئيسية لنظرية التوقع، وهي نموذج الاختيار الذي نشره عاموس وأنا في عام ١٩٧٩. تتناول الفصول التالية الطرق العديدة التي تنحرف من خلالها الخيارات الإنسانية عن قواعد العقلانية. سأتناول الميل غير الموفق لمعالجة المشكلات بشكل منفصل، ومع تأثير التأطير؛ حيث يجري تشكيل القرارات عن طريق سمات غير مترابطة منطقيًّا لمشكلات الاختيار. تمثل هذه الملاحظات، التي تفسرها بصورة مباشرة خواص النظام ١، تحديًا كبيرًا لافتراض العقلانية المفضل في علم الاقتصاد التقليدي.
يتناول الجزء الخامس البحوث الأخيرة التي أشارت إلى وجود فرق بين نفسين: «النفس المستشعرة» و«النفس المتذكرة»، وهما نفسان لا تتشاركان الاهتمامات نفسها. على سبيل المثال، يمكن أن نعرِّض أشخاصًا لتجربتين مؤلمتين. تُعتبر إحدى هاتين التجربتين أكثر سوءًا من الأخرى؛ نظرًا لطولها. إلا أن العملية الآلية لتشكيل الذكريات — وهي إحدى خواص النظام ١ — تحظى بقواعدها الخاصة، والتي يُمكن استغلالها بحيث تترك التجربة الأسوأ ذكرى أفضل. عندما يختار الناس لاحقًا أي التجربتين يريدون أن يكرروها، توجههم، بصورة طبيعية، نفسهم المتذكرة ويعرِّضون أنفسهم (من خلال نفسهم المستشعرة) لألم لا داعيَ له. يطبَّق الفرق بين هاتين النفسين على قياس السعادة؛ إذ نجد مجددًا أن ما يُسعد النفس المستشعرة ليس هو نفسه ما يُرضي النفس المتذكرة. تثير طريقة سعي نفسين داخل جسد واحد نحو تحقيق السعادة بعض الأسئلة الصعبة، سواءٌ بالنسبة إلى الأفراد أو المجتمعات التي تنظر إلى سعادة المجتمع باعتبارها هدفًا لسياساتها.

يستعرض الفصل الختامي، في ترتيب عكسي، تداعيات ثلاثة تمييزات جرى تحديدها في الكتاب، بين النفسين المستشعرة والمتذكرة، وبين مفهوم العوامل الفاعلة في علم الاقتصاد التقليدي وفي علم الاقتصاد السلوكي (الذي يقترض مفاهيمه من علم النفس)، وبين النظام ١ الآلي والنظام ٢ التدبري. سأعود مجددًا إلى ذكر فضائل النميمة المطلعة، وإلى ما يمكن أن تقوم به المؤسسات لتحسين جودة الأحكام والقرارات التي يجري اتخاذها نيابةً عنها.

سأعيد عرض بحثيْن كتبتهما مع عاموس كملحقيْن للكتاب؛ البحث الأول: هو بحث عن عملية إصدار الأحكام في ظل عدم اليقين الذي أشرت إليه سابقًا. والبحث الثاني: الذي نُشر عام ١٩٨٤، يلخِّص نظرية التوقع فضلًا عن دراساتنا حول تأثير التأطير. يمثل البحثان الإسهامات التي أشارت إليها لجنة التحكيم المسئولة عن جائزة نوبل — وربما تصيبك الدهشة من بساطتهما. ستمنحك قراءتهما القدرة على معرفة مقدار ما كنا نعرف منذ وقت طويل، وأيضًا مقدار ما تعلمناه في العقود الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤