الفصل الثالث والثلاثون

التحولات العكسية

أنت منوط بمهمة تحديد قيمة التعويض لضحايا جرائم العنف، وتدرس حالة رجل فقد القدرة على استخدام ذراعه اليمنى نتيجة إصابة في حادث إطلاق نار. فقد أُطلقت عليه النيران أثناء دخوله لدى وقوع حادث سطو على أحد المتاجر الصغيرة في منطقته.

تم رصد متجرين بالقرب من منزل الضحية، كان يتردد على أحدهما أكثر من الآخر. تأمل هذين السيناريوهين:
  • (أ)

    وقع حادث السطو في المتجر الذي يتردد عليه الرجل دائمًا.

  • (ب)

    كان المتجر الذي يتردد عليه الرجل مغلقًا لوقوع حالة وفاة؛ لذا قام بشراء احتياجاته من المتجر الآخر، حيث أطُلق عليه النار.

هل ينبغي أن يُحدِث المتجر الذي أُطلق عليه النيران فيه فارقًا فيما يتعلق بحكم التعويض؟

لقد أصدرت حكمك من خلال تقييم مشترك، حيث تقوم بدراسة سيناريوهين في نفس الوقت وتعقد مقارنة. ويمكنك أن تطبق قاعدة ما. فإذا اعتقدت أن السيناريو الثاني يستحق تعويضًا أعلى، ينبغي أن تحدد له قيمة نقدية أعلى.

هناك اتفاق شبه عام على الإجابة: ينبغي أن يكون التعويض واحدًا في كلتا الحالتين. فالتعويض من أجل حدوث إصابة تعجيزية، فلماذا إذن يُحدِث الموقع الذي وقعت فيه الإصابة أي فارق؟ لقد منحك التقييم المشترك للسيناريوهين فرصة لفحص مبادئك الأخلاقية فيما يتعلق بالعوامل المرتبطة بتعويض الضحية. وموقع الجريمة، في نظر معظم الناس، ليس من هذه العوامل. وكما في مواقف أخرى تتطلب مقارنة صريحة، فقد كان التفكير بطيئًا وتدخَّل فيه النظام ٢.

قام عالما النفس ديل ميلر وكاثي ماكفارلاند، اللذان وضعا السيناريوهين في الأساس، بعرضهما على أشخاص مختلفين من أجل إجراء تقييم فردي. وفي تجربتهما المصممة ما بين الأفراد، اطلع كل مشترك على سيناريو واحد فقط وحدد له قيمة نقدية دولارية. ووجدا — كما خمنت بالتأكيد — أن الضحية كان سيُمنح مبلغًا أكبر بكثير لو كانت إصابته قد وقعت في متجر نادرًا ما يتردد عليه عما لو أصيب في المتجر دائم التردد عليه. ويعد شعور الحسرة (وهو قريب من الدرجة الأولى للندم) شعورًا مغايرًا للواقع يثار بسبب تبادر فكرة «لو كان قد تسوق في متجره المعتاد …» بسهولة إلى العقل. وتعمل آليات الاستبدال ومطابقة الدرجة المعروفة بارتباطها بالنظام ١ على ترجمة قوة رد الفعل الانفعالي تجاه القصة على مقياس نقدي، مما يخلق فارقًا كبيرًا في التعويضات النقدية.

وتُظهر المقارنة بين التجربتين تباينًا حادًّا؛ فجميع من يرون كلا السيناريوهين معًا (بين الأفراد) يؤيدون مبدأ أن شعور الحسرة ليس اعتبارًا قانونيًّا. وللأسف يصبح المبدأ ذا صلة فقط حين يُشاهد السيناريوهان معًا، ولكن الحياة لا تسير على هذا النحو في العادة. فنحن بطبيعة الحال نعايش كل موقف من مواقف الحياة على نحو منفصل تغيب فيه البدائل المتناقضة التي قد تغير رأيك، وبالطبع يغيب مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك». ونتيجة لتلك المعتقدات التي تتبناها لا تحكم ردود أفعالك الانفعالية بالضرورة حين تفكر في الأخلاقيات، وتفتقر البداهات الأخلاقية التي تتبادر إلى ذهنك في مختلف المواقف إلى الاتساق الداخلي.

ينتمي الاختلاف بين التقييم الفردي والمشترك لسيناريو حادث السطو إلى عائلة عريضة من التحولات العكسية للحكم والاختيار. وقد اكتُشفت أولى التحولات العكسية للتفضيل في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وورد ذكر العديد من التحولات العكسية من أنواع أخرى على مدار السنين.

تحدي علم الاقتصاد

تحظى التحولات العكسية للتفضيل بمكانة مهمة في تاريخ الحوار بين علماء النفس وعلماء الاقتصاد. وقد ورد ذكر التحولات العكسية التي جذبت الأنظار على يد كل من سارة لشتنشتاين وبول سلوفيك، عالمي النفس اللذين كانا يقومان بدراساتهما العليا في جامعة ميشيجان في نفس الوقت مع عاموس. فقد أجريا تجربة على التفضيلات بين المراهنات، أعرضها فيما يلي في نسخة مبسطة قليلًا:
عرض عليك اختيار بين رهانين يفترض أن يتم لعبهما على عجلة روليت مقسمة إلى ٣٦ رقعة.
الرهان (أ): نسبة قدرها ١١ / ٣٦ للفوز ﺑ ١٦٠ دولارًا، ونسبة قدرها ٢٥ / ٣٦ لخسارة ١٥ دولارًا.
الرهان (ب): نسبة قدرها ٣٥ / ٣٦ للفوز ﺑ ٤٠ دولارًا، ونسبة قدرها ١ / ٣٦ خسارة ١٠ دولارات.

يطلب منك الاختيار بين رهان آمن ورهان أكثر خطورة: فوز مؤكد بمبلغ متواضع وفرصة ضئيلة للفوز بمبلغ أعلى بكثير واحتمال خسارة كبير. ولما كانت اليد العليا للأمان، يكون الرهان (ب) هو الاختيار الأكثر شيوعًا بشكل واضح.

الآن تأمل كل رهان على حدة: إذا كنت تمتلك هذا الرهان، فما أقل سعر سوف تبيعه به؟ تذكر أنك لا تتفاوض مع أي أحد ومهمتك فقط هي تحديد أقل سعر لكي تكون على استعداد حقًّا للتخلي عن الرهان. جرِّب؛ فقد تجد أن الجائزة التي يمكن الفوز بها واضحة في هذه المهمة، وأن تقييمك لقيمة الرهان مرتكز على هذه القيمة. والنتائج تدعم هذا التخمين، ومن ثم يكون سعر البيع أعلى بالنسبة للرهان (أ) عنه بالنسبة للرهان (ب). ويعد هذا تحولًا عكسيًّا للتفضيل: فالناس يفضلون الرهان (ب) عن الرهان (أ)، ولكنهم إذا تخيلوا أنهم يمتلكون واحدًا فقط منهما، فإنهم يحددون قيمة أعلى للرهان (أ) مقارنة بالرهان (ب). وكما في سيناريوهي حادث السطو، يظهر التفضيل المعكوس؛ لأن التقييم المشترك يركز الانتباه على جانب واحد من الموقف، ألا وهو حقيقة أن الرهان (أ) أقل أمانًا بكثير من الرهان (ب)، الأمر الذي كان أقل وضوحًا في التقييم الفردي لكل منهما على حدة. والسمات التي صنعت الفارق بين الأحكام على الخيارات في التقييم الفردي — التحسر على الضحية لتواجده في متجر البقالة الخطأ والتركيز على الجائزة — تطمس أو تصبح غير ذات صلة حين تقيَّم الخيارات بشكل مشترك. وردود الأفعال الانفعالية للنظام ١ أكثر ميلًا بكثير لتحديد التقييم الفردي؛ إذ إن المقارنة التي تحدث في التقييم المشترك دائمًا ما تتطلب تقييمًا أدق وأكثر مشقة مما يستدعي استخدام النظام ٢.

يمكن تدعيم التحولات العكسية للتفضيل في تجربة مصممة بين الأفراد، حيث يحدد أفراد العينة أسعارًا لكلتا المجموعتين كجزء من قائمة طويلة، ويفاضلون أيضًا بينهما. ولا يدرك المشاركون في التجربة عدم الاتساق القائم، ويمكن لردود أفعالهم عند مواجهتهم به أن تكون طريفة. ويعتبر الحوار الذي أجرته سارة لشتنشتاين مع أحد المشاركين في التجربة في عام ١٩٦٨ من كلاسيكيات المجال الباقية. فيتحدث المسئول عن التجربة باستفاضة مع مشارك حائر يفضل أحد الرهانين على الآخر، ولكنه بعد ذلك يكون على استعداد لدفع أموال لمبادلة الشيء الذي اختاره للتو بالشيء الذي رفضه، ويدور في هذه الدائرة بشكل متكرر.

لم يكن الاقتصاديون العقلانيون ليتعرضوا للتحولات العكسية للتفضيل، ومن ثم كانت الظاهرة بمنزلة تحدٍّ لنموذج الفاعل العقلاني وللنظرية الاقتصادية التي بنيت على هذا النموذج. كان من الممكن تجاهل هذا التحدي، ولكن لم يحدث ذلك، وبعد بضع سنوات من الإعلان عن التحولات العكسية للتفضيل، قام اثنان من الاقتصاديين المرموقين، هما ديفيد جريزر وتشارلز بلوت، بنشر مقال في الدورية المرموقة «أمريكان إيكونوميك ريفيو»، أوردا فيها دراساتهما عن الظاهرة التي وصفتها سارة لشتنشتاين وبول سلوفيك. ولعل هذه هي أول نتيجة يتوصل إليها علماء نفس تجريبيون وتجذب انتباه علماء الاقتصاد. كانت الفقرة الافتتاحية لمقال جريزر وبلوت درامية بشكل غير مألوف بالنسبة لبحث علمي، وكان مقصدهما واضحًا: «ثمة مجموعة من المعلومات والنظريات تتطور داخل علم النفس لا بد أن تكون مثار اهتمام علماء الاقتصاد. وهذه المعلومات، إذا أخذت بقيمتها الظاهرية، تبدو متناقضة مع نظرية التفضيل وتحوي دلالات بشأن الأولويات البحثية داخل علم الاقتصاد … وهذا البحث يورد نتائج سلسلة من التجارب المصممة للتقليل من قيمة دراسات علماء النفس المطبقة على علم الاقتصاد.»

سرد جريزر وبلوت ثلاث عشرة نظرية استطاعت تفسير النتائج الأصلية، وأوردا تجارب مصممة بدقة اختبرت هذه النظريات. وكانت إحدى فرضياتهما، التي وجدها علماء النفس استعلائية بالطبع، أن النتائج كانت على هذا النحو فقط لكون التجربة قد أجريت على يد علماء نفس! وفي النهاية لم تبقَ سوى فرضية واحدة فقط هي: أن علماء النفس كانوا على حق. وقد اعترف جريزر وبلوت بأن هذه الفرضية هي الأقل قبولًا من وجهة نظر نظرية التفضيل القياسية؛ لأنها «تسمح للاختيار الفردي بالاعتماد على السياق الذي تتخذ فيه الاختيارات»؛ وهو ما يعد انتهاكًا صريحًا لعقيدة التماسك.

قد تعتقد أن هذه النتيجة المفاجئة من شأنها أن تخلق بحثًا داخليًّا موجعًا بين علماء الاقتصاد؛ إذ إن افتراضًا أساسيًّا من افتراضات نظريتهم قد تم تحديه وتفنيده بنجاح. ولكن ليس هكذا تسير الأمور في العلوم الاجتماعية، بما في ذلك علم النفس والاقتصاد. فالمعتقدات النظرية متينة، والنظريات الراسخة تتطلب أكثر بكثير من مجرد نتيجة واحدة محرجة لكي تفند بشكل جاد. والواقع أن تقرير جريزر وبلوت الواضح والصريح بشكل يثير الإعجاب كان تأثيره المباشر على قناعات علماء الاقتصاد محدودًا، بمن فيهم جريزر وبلوت على الأرجح. غير أنه ساهم في خلق استعداد أكبر لدى مجتمع علماء الاقتصاد للتعامل بجدية مع الأبحاث السيكولوجية، مما أحدث تقدمًا هائلًا في الحوار عبر حدود المجالين.

التصنيفات

«كم يبلغ طول جون؟» إذا كان طول جون ٥ أقدام، فسوف تعتمد إجابتك على عمره؛ فهو فارع الطول إذا كان عمره ٦ أعوام، وبالغ القصر إذا كان عمره ١٦ عامًا، فالنظام ١ لديك يستعيد تلقائيًّا المعيار ذا الصلة، ويتم تعديل معنى مقياس الطول تلقائيًّا. كذلك تستطيع أن توائم الحدة عبر التصنيفات وتجيب عن سؤال: «كم يبلغ سعر وجبة مطعم توائم طول جون؟» سوف تعتمد إجابتك على عمر جون: فالوجبة تكون أرخص كثيرًا إذا كان عمره ١٦ عامًا عما إذا كان عمره ٦ أعوام.

ولكن ألقِ نظرة الآن على ما يلي:
عمر جون ٦ أعوام، وطوله ٥ أقدام.
عمر جيم ١٦ عامًا وطوله ٥ أقدام وبوصة واحدة.

في التقييمات الفردية، سوف يتفق الجميع على أن جون فارع الطول بينما جيم ليس كذلك؛ نظرًا لمقارنتهما بمعايير مختلفة. فإذا سُئلت سؤالًا مقارنًا بشكل مباشر: «هل جون في مثل طول جيم؟» فسوف تجيب بأنه ليس كذلك. ليس ثمة مفاجأة هنا، وإنما بعض الغموض. غير أنه في مواقف أخرى يمكن أن تؤدي العملية التي توظف بها الأشياء والأحداث سياق المقارنة الخاص بها إلى اختيارات غير مترابطة في أمور خطيرة.

لا ينبغي أن تكوِّن انطباعًا بأن التقييمات الفردية والمشتركة دائمًا ما تكون غير متسقة، أو أن الأحكام فوضوية تمامًا، فعالمنا ينقسم إلى تصنيفات لدينا لها معايير وقواعد، مثل الصبية ذوي الستة أعوام أو الطاولات. والأحكام والتفضيلات تكون متسقة داخل إطار التصنيفات، ولكنها قد لا تكون متسقة حين تنتمي الأشياء الخاضعة للتقييم لتصنيفات مختلفة. ولكي نضرب مثالًا، أجب عن الأسئلة الثلاثة التالية:
أيهما تحب أكثر، التفاح أم الخوخ؟
أيهما تحب أكثر، شرائح اللحم أم اليخنة؟
أيهما تحب أكثر، التفاح أم شرائح اللحم؟

يشير السؤالان الأول والثاني إلى أشياء تنتمي لنفس الفئة، ومن ثم تعرف على الفور أيهما تحب أكثر. علاوة على ذلك، ستكون قد استعدت نفس التصنيف من التقييم الفردي («إلى أي مدى تحب التفاح؟» و«إلى أي مدى تحب الخوخ؟») لأن التفاح والخوخ كليهما يستحضر الفواكه إلى الذهن. ولن يكون هناك تحول عكسي للتفضيل؛ لأن الفواكه المختلفة تقارن بنفس المعيار وتقارن ضمنيًّا إحداها بالأخرى في التقييم الفردي وكذلك المشترك. وعلى عكس الأسئلة التي تطرح داخل إطار التصنيف الواحد، لا توجد إجابة ثابتة للمقارنة بين التفاح وشرائح اللحم. فعلى عكس التفاح والخوخ، لا يعتبر التفاح وشرائح اللحم بدائل طبيعية يأخذ أحدهما مكان الآخر ولا يشبعان نفس الاحتياج. فأنت ترغب في شرائح اللحم تارة، وتارة ترغب في التفاح، ولكن نادرًا ما تقول إن أحدهما سوف يفي تمامًا مثل الآخر.

تخيل أنك تلقيت رسالة بريد إلكتروني من مؤسسة تثق فيها بشكل عام تطلب منك أن تساهم في قضية ما:

إن التلوث يهدد الدلافين في العديد من مواقع تربيتها، وهو ما يتوقع أن يسفر عن تدهور في سلالة الدلافين. وقد تم تأسيس صندوق خاص مدعوم بمساهمات خاصة لتوفير مواقع خالية من التلوث لتربية الدلافين.

ما الأفكار التي استدعاها هذا السؤال؟ سواء أكنت على وعي تام بها أم لا، فقد تبادرت الأفكار والذكريات الخاصة بالقضايا ذات الصلة إلى عقلك. وعلى الأرجح تُستدعى إلى الذهن بشكل خاص المشروعات الهادفة للحفاظ على الأنواع المهددة بالخطر. ويعتبر التقييم على مقياس الجيد والسيئ عملية تلقائية من عمليات النظام ١، وقد قمت بتكوين انطباع أولي يتمثل في تصنيف الدولفين ضمن الأنواع التي خطرت بالذهن. فالدلافين أكثر جاذبية بكثير من النمس، أو الحلزون، أو سمك الشبوط على سبيل المثال؛ وهي تحظى بتصنيف مميز للغاية في المجموعة التي تقارن بها تلقائيًّا.

السؤال المفروض أن تجيب عليه ليس هو ما إذا كنت تحب الدولفين أكثر من الشبوط؛ فقد طلب منك أن تضع قيمة نقدية له. قد تعرف بالطبع من خبرتك السابقة مع طلبات استجداء المساعدات أنك لا تستجيب قط لهذا النوع من الطلبات. تخيل نفسك لبضع دقائق كشخص يتبرع لمثل هذه المناشدات.

مثل العديد من الأسئلة الصعبة الأخرى، يمكن حل التقييم الخاص بالقيمة النقدية من خلال الاستبدال ومطابقة الدرجة. إن السؤال الخاص بالقيمة النقدية صعب، ولكن هناك سؤالًا أسهل متاحًا. ونظرًا لحبك للدلافين، سوف تشعر على الأرجح بأن إنقاذها يعد قضية جيدة. الخطوة التالية، التي تعتبر تلقائية أيضًا، تقوم بتوليد رقم دولاري من خلال ترجمة شدة حبك للدلافين على ميزان للمساهمات. إن لديك حسًّا بميزان مساهماتك السابقة في القضايا البيئية، الذي قد يختلف عن ميزان مساهماتك في السياسة أو فريق كرة قدم مدرستك التي تخرجت فيها. وتعلم أي مبلغ سيكون بمنزلة «مساهمة كبيرة للغاية» بالنسبة لك، وأي مبالغ ستكون «كبيرة» و«متواضعة»، و«صغيرة». كذلك لديك مقاييس لتوجهك إزاء النوع (من «أحبه بشدة» إلى «لا أحبه مطلقًا»). ومن ثم تستطيع ترجمة توجهك على الميزان الدولاري، منتقلًا تلقائيًّا من «أحبه كثيرًا» إلى «مساهمة كبيرة إلى حد ما»، ثم الانتقال من هذه النقطة إلى مبلغ محدد من الدولارات.

في موقف آخر يقدَّم لك التماس آخر للتبرع:

يرتفع معدل الإصابة بسرطان الجلد بين عمال المزارع، الذين يتعرضون للشمس لساعات عديدة، مقارنة بعامة السكان. والفحوصات الطبية المتكررة يمكن أن تقلل من خطر الإصابة. وعليه سوف يتم إنشاء صندوق لدعم الفحوصات الطبية الشاملة للمجموعات المهددة بالإصابة بالمرض.

هل هذه مشكلة مُلحة؟ أي تصنيف أثارته كمعيار حين قمت بتقييم درجة الإلحاح؟ إذا كنت قد صنفت المشكلة تلقائيًّا كقضية صحة عامة، فلعلك قد وجدت أن خطر سرطان الجلد بين عمال المزارع لا يحظى بتصنيف عالٍ للغاية بين تلك القضايا؛ بل إنه يحظى بشكل شبه مؤكد بتصنيف أقل من تصنيف الدولفين بين الأنواع المعرضة لخطر الانقراض. وبينما كنت تترجم انطباعك عن الأهمية النسبية لقضية سرطان الجلد إلى مبلغ نقدي بالدولار، ربما تكون قد توصلت لمساهمة أصغر من تلك التي قدمتها لحماية حيوان محبب. فقد جذبت الدلافين في التجارب مساهمات أكبر نوعًا ما من عمال المزارع في التقييم الفردي.

بعد ذلك تأمل القضيتين في تقييم مشترك. أي من القضيتين — الدلافين أم عمال المزارع — يستحق مساهمة نقدية أكبر؟ يُبرز التقييم المشترك سمة لم تكن ملحوظة في التقييم الفردي، ولكنها تصنف كسمة حاسمة عند اكتشافها؛ ألا وهي: أن عمال المزارع بشر، بينما الدلافين ليست كذلك. لقد كنت تعرف ذلك بالطبع، ولكنه لم يكن ذا صلة بالحكم الذي كونته في التقييم الفردي. إن حقيقة أن الدلافين ليست بشرًا لم تُثَر؛ لأن كل القضايا التي كانت تنشط في ذاكرتك كانت مشتركة في هذه السمة. ولم تخطر ببالك حقيقة أن عمال المزارع بشر؛ لأن جميع قضايا الصحة العامة تتضمن بشرًا. لقد سمح التأطير الضيق للتقييم الفردي أن تنال قضية الدلافين نقاطًا أعلى على مقياس الشدة، مما أدى إلى معدل مرتفع من المساهمات عن طريق مطابقة الدرجة. أما التقييم المشترك، فيغير من صورة القضايا: فتصبح سمة «الإنسان مقابل الحيوان» جلية فقط حين يُشاهد الاثنان معًا. ففي التقييم المشترك يُظهر الناس تفضيلًا ثابتًا وقويًّا لعمال المزارع واستعدادًا للمساهمة في رخائهم وسعادتهم أكثر بكثير من المساهمة من أجل حماية نوع محبب من غير البشر. ومرة أخرى لن تكون الأحكام التي تصدر في التقييم الفردي والتقييم المشترك متسقة، كما في حالتَي الرهانات والسطو المسلح.

وقد ساهم كريستوفر شي، أستاذ العلوم السلوكية والتسويق بجامعة شيكاجو، بالمثال التالي للتحولات العكسية للتفضيل، من بين العديد من أمثلة أخرى من نفس النوع. والأشياء التي سيتم تقييمها عبارة عن قاموسين موسيقيين مستعملين.

قاموس (أ) قاموس (ب)
سنة النشر ١٩٩٣ ١٩٩٣
عدد المدخلات ١٠٠٠٠ ٢٠٠٠٠
الحالة يبدو كالجديد الغلاف ممزق، فيما عدا ذلك يبدو كالجديد

حين عُرض القاموسان في تقييم فردي، قدِّر القاموس (أ) بقيمة أعلى، ولكن بالطبع يتغير التفضيل في التقييم المشترك. وتوضح النتيجة «فرضية القابلية للتقييم» التي وضعها شي: إن عدد مدخلات القاموس لا تعطي وزنًا في التقييم الفردي؛ لأن الأعداد غير «قابلة للتقييم» بمفردها. أما في التقييم المشترك، في المقابل، يتضح على الفور أن القاموس (ب) يتفوق في هذه السمة، ويتضح كذلك أن عدد المدخلات أهم بكثير من حالة الغلاف.

التحولات العكسية غير العادلة

يوجد سبب وجيه للاعتقاد أن تطبيق العدالة يُصاب بعدوى التفكك المتوقع في العديد من المجالات، وتُستمد الأدلة على ذلك في جزء منها من التجارب، التي من ضمنها هيئات المحلفين المستعارة، وفي جزء آخر، من ملاحظة الأنماط في التشريع، والتنظيم، والتقاضي.

في إحدى التجارب، طُلب من محلفين مستعارين تم توظيفهم من سجلات المحلفين في تكساس إجراء تقييم للتعويضات التأديبية في العديد من الدعاوى المدنية. جاءت الدعاوى في مجموعات ثنائية تتألف كل منها من ادعاء بإصابة جسدية وادعاء بخسارة مادية. قام المحلفون المستعارون بتقييم أحد السيناريوهين، ثم تم إطلاعهم على القضية المقترنة به، وطلب منهم المقارنة بين الاثنين. وفيما يلي ملخصات لزوج واحد من القضايا:
القضية (١): أصيب طفل بحروق متوسطة حين اشتعلت النار بلباس نومه بينما كان يعبث بأعواد الثقاب؛ إذ إن الشركة التي قامت بتصنيع لباس النوم لم تجعله مقاومًا للنار بما يكفي.
القضية (٢): تسببت المعاملات غير الأخلاقية لأحد البنوك في خسارة قدرها ١٠ ملايين دولار لبنك آخر.

قام نصف المشاركين بإصدار الحكم في القضية رقم (١) أولًا (في تقييم فردي) قبل مقارنة القضيتين في تقييم مشترك. وقد سار هذا التسلسل بشكل عكسي بالنسبة للمشاركين الآخرين؛ ففي التقييم الفردي، حكم المحلفون بتعويضات أعلى للبنك الذي تعرض للخداع عنه في قضية الطفل الذي أصيب بحروق؛ ربما لأن حجم الخسارة المالية شكَّل عامل دعم كبيرًا.

غير أنه مع نظر القضيتين معًا، طغى التعاطف مع الفرد الضحية على تأثير عامل الدعم، وقام المحلفون برفع قيمة التعويض للطفل لتفوق التعويض الذي حكموا به للبنك. وبحساب المتوسطات على العديد من مثل هذه المجموعات الثنائية من الدعاوى القضائية، اتضح أن التعويضات التي حُكِم بها للإصابة الشخصية كانت أكبر مرتين في التقييم المشترك عنها في التقييم الفردي. فالمحلفون الذي اطلعوا على قضية الطفل المصاب بالحروق بمفردها قدموا عرضًا يوائم شدة مشاعرهم وقوتها، ولم يستطيعوا توقع أن يبدو التعويض الخاص بالطفل غير كافٍ في سياق تعويض كبير لمؤسسة مالية. أما في التقييم المشترك، فقد ظل التعويض المادي عن الأضرار بالنسبة للبنك مركزًا على الخسارة التي تكبدها، ولكن مع زيادة التعويض الخاص بالطفل، مما يعكس الغضب الذي أثاره الإهمال الذي تسبب في إصابة لطفل.

كما رأينا، فإن الأطر الأوسع والأكثر شمولًا تخدم العقلانية بشكل عام، وإن التقييم المشترك أوسع بشكل واضح من التقييم الفردي. بالطبع ينبغي أن تتوخى الحذر من التقييم المشترك حين يكون للشخص الذي يتحكم فيما ترى حق مكتسب فيما تختار. فمندوبو المبيعات سرعان ما يتعلمون أن التلاعب بالسياق الذي يرى فيه المستهلكون سلعة ما يمكن أن يكون له تأثير عميق على التفضيلات. وفيما عدا حالات التلاعب المتعمد، هناك افتراض مسبق بأن الحُكم القائم على المقارنة، الذي يتضمن بالضرورة النظام ٢، أكثر ميلًا للثبات عن التقييمات الفردية، التي غالبًا ما تعكس حدة الاستجابات الانفعالية للنظام ١. ونحن نتوقع أن تقوم أي مؤسسة ترغب في انتزاع أحكام متروية بالسعي لتزويد القضاة بسياق عريض لتقييمات القضايا الفردية. وقد اندهشت حين علمت من كاس سنستاين أن المحلفين الذين يُنتدبون لتقييم التعويضات التأديبية يُمنعون صراحة من دراسة قضايا أخرى؛ فالنظام القضائي، على عكس المنطق السيكولوجي السليم، يفضل التقييم الفردي.

في دراسة أخرى لغياب الاتساق في النظام القضائي، قارن سنستاين بين العقوبات الإدارية التي يمكن فرضها من قبل الوكالات الحكومية الأمريكية المختلفة، ومن ضمنها إدارة الصحة والسلامة المهنية، ووكالة حماية البيئة. وخلص إلى أنه «في إطار التصنيفات، تبدو الجزاءات معقولة إلى حد بعيد، على الأقل في إطار أن الأضرار الأكثر خطورة تعاقب بشكل أكثر حدة. فعلى صعيد انتهاكات الصحة والسلامة المهنية، توجه أكبر العقوبات للانتهاكات المتكررة، يليها الانتهاكات المتعمدة والخطيرة في ذات الوقت، فيما توجه أقل العقوبات للإخفاقات في الاشتراك في الحفظ المطلوب للسجلات.» غير أنه لا ينبغي أن تفاجأ من أن حجم العقوبات كان يختلف إلى حد بعيد فيما بين الوكالات، بطريقة تعكس الاهتمام بالسياسة والتاريخ أكثر مما تعكس أي اهتمام عام بالعدالة. فالحد الأقصى للغرامة المفروضة على أي «انتهاك خطير» للوائح المتعلقة بسلامة العمال يبلغ ٧٠٠٠ دولار، بينما انتهاك لقانون حماية الطيور البرية يمكن أن يسفر عن غرامة تصل إلى ٢٥ ألف دولار. وتعد هذه الغرامات معقولة في سياق العقوبات الأخرى التي تفرضها كل وكالة، ولكنها تبدو غريبة حين تقارن إحداها بالأخرى. وكما في الأمثلة الأخرى الواردة بهذا الفصل، يمكنك أن ترى السخف المنافي للعقل فقط حين تشاهد القضيتين معًا في إطار واسع. فنظام الجزاءات الإدارية متماسك داخل الوكالات ولكنه مفكك على المستوى العام.

في الحديث عن التحولات العكسية

«لم تكن الوحدات الحرارية البريطانية تعني لي شيئًا حتى رأيت مدى اختلاف وحدات تكييف الهواء. لقد كان التقييم المشترك ضروريًّا.»

«أنت تقول إن هذه الخطبة كانت رائعة؛ لأنك قارنتها بخطبها الأخرى، ولكنها لا تزال دون المستوى إذا قارنتها بآخرين.»

«هكذا يكون الحال غالبًا حين تقوم بتوسيع الإطار، حيث تتوصل إلى قرارات أكثر عقلانية.»

«حين ترى القضايا بشكل منفرد، من المحتمل أن يوجهك رد فعل انفعالي من النظام ١.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤