الفصل الخامس

دروس من جنوب شرق آسيا

في يوليو ٢٠١١ تحدَّى عشرات الآلاف من الماليزيين الأمطار الغزيرة، وتجمعوا في عاصمة البلاد كوالالمبور؛ من أجل المناداة بإجراء انتخابات أكثر حرية ونزاهة. سارعت الصحافة المحلية والغربية بوصف الحدث على أنه باكورة النسخة الماليزية من الربيع العربي، والحق أنه كانت هناك أوجه شبه لافتة للنظر. بادئ ذي بدء، ضاق المتظاهرون ذرعًا بهيمنة «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة» الحاكمة طيلة عقود، وباقتصاد المحسوبية الذي نما حولها. جاء المتظاهرون — على حد ما ذُكر — من مختلف المهن ومن كل المجموعات العرقية في هذه الدولة ذات التنوع الديني التي يبلغ عدد سكانها ٢٨ مليون نسمة (نحو ٦٠ بالمائة منهم مسلمون). علاوةً على ذلك، طالب المتظاهرون بالمزيد من الحرية وبتوزيع أكثر عدالة للأرباح الناتجة من اقتصاد البلاد المزدهر. ومجددًا — مثلما حدث في الشرق الأوسط — كان رد فعل الدولة على المظاهرات وحشيًّا قدر ما كان غير متكافئ معها. فبعد الإطلاق الكثيف لقنابل الغاز المسيل للدموع على الحشود، حاصرت كتائب من قوات مكافحة الشغب المدرعة المتظاهرين العزَّل. اقتيد ما لا يقل عن ١٦٠٠ متظاهر إلى السجون. بعدها توقفت المظاهرات مثلما توقَّف المطر.

من بين ضحايا القمع الذي مارسته الشرطة أنور إبراهيم الذي عادةً ما يوصف بأنه «زعيم المعارضة» في ماليزيا. عندما التُقطت له صورة على أحد الأسرَّة بالمستشفى وجسده متصل بمحلول وريدي وأنبوب أكسجين، كان لا يزال يرتدي القميص الأصفر لحركة ائتلاف «بيرسيه» (بمعنى «نظيف») التي تنادي بالديمقراطية، والتي نُظمت المظاهرات تحت لوائها. كشف أنور لاحقًا أنه أصيب بكدمات في الرأس والقدمين، وأعلن أيضًا على موقع «تويتر» أنه اضطر لإجراء أشعة مقطعية بالكمبيوتر. وأخيرًا أخبر مؤيديه: «أنا بخير. أشعر بدوار قليل فحسب.»

لم تكن تلك أول فرصة تتاح فيها لأنور عرض الإصابات التي ألحقتها به حكومته أمام العالم؛ فالصور الفوتوغرافية للكدمات التي أصيب بها أثناء احتجازه لدى الشرطة عام ١٩٩٩ — بعد القبض عليه بأمر من «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة» الحاكمة — تصدرت هي الأخرى الصفحات الأولى للصحف. والواقع أنه ظل يرتدي دعامة الرقبة فترة طويلة من بداية الألفية. أكسبته محنته شعبية لدى رجال الشرطة الدوليين الخبثاء، أمثال بول وولفويتس، الذي رأى فيه صوت الديمقراطية الماليزية، وهي شهادة لم يسفر مُصابُه الأخير إلا عن تعزيزها. لكن ما الذي فعله أنور ليثير مثل تلك الكراهية من جانب قوات النظام العام الماليزية التي لا يوجد في الدولة إلا قوى قليلة تماثلها نفوذًا؟

الإجابة المختصرة هي أن محاولة استقطاب أنور كانت أكبر خطأ ارتكبه رئيس الوزراء الماليزي المستبد الذي شغل منصبه طويلًا الدكتور مهاتير محمد، الذي كان طبيبًا ريفيًّا متواضعًا إلى أن دفعه القدر إلى أرفع المناصب. كان مهاتير قوميًّا ملايويًّا متحمسًا، لكنه — قبل كل شيء — كان عصريًّا وشديد الحفاظ على النظام العام. وبحكم المذهب العملي الذي يتبناه طبيب البلدة، لم يكن مهاتير يتساهل مع الهراء. ولأنه ملايوي مسلم، كان يؤمن بضرورة أن يتضافر المسلمون الملايويون، ويتخلصوا مما حل عليهم من تراخ بعد الاستعمار، ويتغلبوا على الميزات التي جنتها الأقلية الصينية الفطنة المثابرة المتفوقة في أزمان الاستعمار، ويضعوا البلاد على طريق الحداثة. ومن هنا فقد بدأ تمييزًا إيجابيًّا شاملًا للملايو، وتبنى الإسلام كوجه واحد فقط — وإن كان وجهًا مهمًّا — من أوجه الهوية الملايوية العرقية. وهكذا ضمن أغلبية الأصوات في انتخابات حرة ونزيهة نسبيًّا.

أجمعت الآراء على أن برنامج مهاتير نجح نجاحًا مذهلًا. فسرعان ما أصبحت ماليزيا، في عهده الذي استمر عقودًا، واحدةً من اقتصاديات «النمور» البارزة في جنوب شرق آسيا. حتى نجمة الغرب اللامعة مارجريت ثاتشر أُعجبت به كثيرًا بسبب دعمه القوي للاقتصاد والتعليم، مقرونًا بقمع الحريات السياسية. ولن يفيد التهكم على الصفة الأخيرة شيئًا. يوجد في ماليزيا — كما في تونس — شبكة طرق ممتازة، ونظام تعليم وصحة متطوران، ومطارات من أفضل المطارات في العالم. وعند الحديث عن برجي «بتروناس التوءم»، فماليزيا بها أيضًا أكثر المباني ارتفاعًا في العالم. الشعب كله يركز في شئونه غير متضرر على العموم من المنظومة الأمنية للدولة. وعقب الأزمة الاقتصادية الآسيوية عام ١٩٩٧، تحدى مهاتير صندوق النقد الدولي، ومع أن كل التوقعات كانت تشير إلى العكس، فإنه بهذا الفعل أعاد البلاد على الطريق الصحيح أسرع من جاراتها اللائي وقعن ضحايا الركود.

وعلى الرغم من كل هذا التمييز الإيجابي — الذي عنى بالضرورة ذهاب معظم وظائف القطاع العام إلى من أصرَّ مهاتير على تسميتهم «العِرق» الملايوي — فقد ظل الصينيون هم أكثر المستفيدين من فرص العمل التي أتاحتها سياساته. علاوة على ذلك كانت العمالة منخفضة التكلفة التي اعتمدت عليها اقتصاديات النمور لا تزال ممثلة في الملايويين، أو — على نحو متزايد — العمال المهاجرين من إندونيسيا وغيرها. في الوقت نفسه، أدت سياسات مهاتير إلى ظهور نخبة ملايوية ثرية تتحكم الآن في نحو ٥٥ إلى ٦٠ بالمائة من الاقتصاد.1 بعبارة أخرى مهما حاول مهاتير جاهدًا، فلن تختفي معاناة الشعب الملايوي. فالواقع أنهم — مثل ملايو سنغافورة في الجوار — رفضوا النهوض من دون الاعتماد على مساعدة غيرهم. ومن ثم فإن أقلية كبيرة شاهدت بناء مراكز التسوق التجارية الكبرى في كل مكان حولها، لكنها لم تكن تتحمل تكاليف التسوق فيها، وأصبحت لا تطيق انتظار حلول أخرى. ويومًا بعد يوم كانوا ينساقون نحو الإسلام السياسي من خلال التأثير المستتر للوهَّابيين والإخوان المسلمين.

•••

في الثمانينيات من القرن العشرين، كان المندوب البارز عن جماعة الإخوان المسلمين في ماليزيا هو أنور إبراهيم زعيم المعارضة الذي كثيرًا ما تعرض للضرب. إنه مؤسس وزعيم «حركة الشباب الإسلامي الماليزي»، وأحد مؤسسي «المعهد الدولي للفكر الإسلامي» (أحد جبهات الإخوان المسلمين).2 إذا كانت سنغافورة النظير الأقرب لتونس من دول جنوب شرق آسيا — من حيث اقتران الحكم الاستبدادي بنمو اقتصادي مذهل وبمجتمع منفتح متحرر تاريخيًّا تقبَّل التنوع بوصفه مفتاح قوته — فإنه في نواح محددة يمكن اعتبار أنور النسخة الماليزية من الزعيم الإسلامي التونسي راشد الغنوشي. ومثلما كان الحال مع بن علي في تونس، يُحسب لمهاتير على الأقل تعرُّفه على العدو في وقت مبكر جدًّا، وإن كان عنصر النبوءة ذاتية التحقق قائمًا هو الآخر. على أي حال، من الواضح أن مهاتير تمنى القضاء على الإسلاميين مثلما تمنى النظام التونسي الحاكم، لكنه حاول استيعابهم بدلًا من الزج بهم في السجون والمنفى. فما إن أصبح مهاتير رئيس الوزراء عام ١٩٨١ حتى بدأ يخطب ود أنور، وإزاء بعض الذعر بين أتباعه، اقتنع أنور أخيرًا بالانضمام إلى «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة» — حزب مهاتير الحاكم — العام التالي.

مهاتير رجل ضئيل الجسم عادي متجهم خفيف الحركة، لكن أنور يشبه زعيم الدهماء في عينيه المتقدتين وحركاته اللافتة. مع ذلك فأنور هو توءم الشر لمهاتير في العديد من النواحي. مهاتير رجل قومي، وأنور مغالٍ في عصبيته القومية. عندما كان أنور طالبًا جامعيًّا مسخ معالم اللغة الإنجليزية، وأحد إنجازاته الباعثة على الفخر أثناء توليه منصب وزير التعليم كان إعادة تسمية اللغة المحلية من «بهاسا ماليزيا» إلى «بهاسا ملايو». وبينما كان مهاتير مسلمًا محافظًا، فإن أنور — من منطلق ثقته الكاملة في استقامته — كان ولا يزال يجاهر بكونه إسلاميًّا، من النوع المتواضع سيئ السمعة.

على مدار فترة طويلة، ظل مهاتير وأنور يراوغ أحدهما الآخر مع توجيه أصوات المسلمين المتشددين والطبقة العاملة الملايوية إلى «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة». لكن هذا الأمر تطلَّب بلا شك تقديم التنازلات من جانب مهاتير. عام ١٩٩٣، وفي حينه عيَّن مهاتير أنور نائبًا له في رئاسة الوزارة، ورشحه علنًا لخلافته. وفي العام التالي أُعلن الإسلام السنِّي الدين الرسمي في ماليزيا، وعنه تحيد كافة أشكال الإسلام الأخرى. مع ذلك أخفقت السلطة في مساومة أنور، وظل متشددًا مثلما كان عام ١٩٦٨. على النقيض، لم تسفر تلك التنازلات عن شيء سوى أنها قوَّت شوكته. وفوق كل هذا يمكن القول إن أنور لم يكن يعرف عن الإقرار بالفضل شيئًا. فعلى سبيل المثال، مرَّر بعض قوانين الحوكمة التي تتعارض مباشرة مع سياسات رفع القيود عن الأنشطة التجارية التي انتهجها مهاتير. أدرك مهاتير أنه لن يروِّض أنور، وأخيرًا نفد صبره. عام ١٩٩٨، أقاله مهاتير بسبب دعاوى تتعلق بالفساد واللواط الذي يجرِّمه قانون البلاد.

تلا ذلك وقائع الضرب في مراكز الشرطة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي أسفرت عن استعراض أنور دعامة رقبته — مثل جروح المسيح — على مدار سنوات تالية. عُقدت محاكمة صورية جُرَّت فيها إلى المحكمة، في مشهد هزلي، حشيَّة فراش ملطخة بالسائل المنوي كدليل على شذوذ أنور المزعوم. ويبرهن تدبير الأمر بهذا القدر من التخبط على أن داهية مثل مهاتير لا بد أنه شعر بخيبة أمل كبرى. لكن حتى في أحلك الأوقات، كان لدى مهاتير من التمييز والحصافة ما جعله يهاجم خصمه الإسلامي أينما يوجعه؛ في قضية تتعلق بالمحرمات. غير أن الأوان كان قد فات. وكالمتوقع أُدين أنور وحُكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا بتهم الفساد واللواط أمام محكمة ابتدائية (لا تزال القضية جارية على المستوى الرسمي)، مع أنه ما من عاقل صدَّق التهم، وقليلون هم من كانوا مهتمين بأي حال. مع ذلك كانت النتيجة ميلاد أحد أبطال الديمقراطية الإسلامية. لا بد من الاعتراف بأن مهاتير حاول قدر استطاعته أن يستعيد مكانة الإسلاميين المميزة؛ بأن أعلن نفسه «أصوليًّا»، وأخذ يدلي بالكثير من التصريحات المناهضة للصهيونية التي عادةً ما تميل نحو معاداة الساميَّة، وفجأة زعم أن ماليزيا بالفعل دولة إسلامية، وأيضًا (وهو الأكثر عنصرية على الإطلاق) اتهام العرق الأنجلوساكسوني في ذروة حرب العراق بأنهم وُلدوا دعاة حرب.3 لكن مع اقتراب مهاتير من بلوغ الثمانين عامًا، فقد نفوذه. وعام ٢٠٠٣، استقال أخيرًا من رئاسة «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة» في مشهد من دموع التماسيح والتوسلات لإعادة النظر في القرار، وهو ما جعل منه أضحوكة العالم على موقع «يوتيوب».

كانت المعارضة الإسلامية المتشددة أكبر المستفيدين من كل هذا العبث؛ فقد استغل «الحزب الإسلامي الماليزي» — وهو أكثر الجماعات السياسية الإسلامية تطرفًا — الفوضى السياسية، وأحرز تقدمًا ثابتًا عن طريق التمسك بما يعتز به ويؤمن به، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية. وهو الآن يحكم أربع ولايات في شمال ماليزيا: كيلانتان، وبينانج، وسيلانجور، وقدح. وعلى الصعيد الفيدرالي، حاول «الحزب الإسلامي الماليزي» تحسين صورته المتشددة بهدف جذب مزيد من الأصوات الملايوية بعيدًا عن «المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة»، لكنه طبق السياسات الإسلامية المعتادة في الولايات التي كان يتمتع فيها بالنفوذ. فولاية كيلانتان — التي حكمها الحزب مدة أطول — فصلت الرجال عن النساء في طوابير الدفع في المتاجر، في مشهد غريب لم يُسمع بمثله حتى في المملكة العربية السعودية. ونفس الولاية طرحت «عملة إسلامية» من عهد ما قبل الحداثة في صورة عملات معدنية ذهبية ثقيلة لعمليات الشراء الأكبر. على النساء ارتداء الحجاب في العمل، وهو عادة ما يكون شأنًا عديم الأهمية إلى أن يصبح الإسلاميون في وضع يمكِّنهم من فرضه. مُنعت النوادي الليلية، وهو ما جعل كثيرين من الملايو يفرون لقضاء العطلة في بيوت الدعارة ونوادي الغناء عبر الحدود في جنوب تايلاند. علاوةً على ذلك فإن الولايات الأربعة قد آلت على نفسها اتخاذ إجراء صارم ضد ذلك التهديد المخيف للحضارة، وهو «يوم الحب».

قصارى القول إن «الحزب الإسلامي الماليزي» نظير دقيق للأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط التي تقدم نفسها على أنها ديمقراطية، وبالفعل تتبنى العملية الديمقراطية ما دامت تناسبها، وهي تتحرك طوال الوقت بخطى ثابتة لا تقاوَم نحو أجندتها السياسية الحقيقية، وهي أسلمة قاعدة المجتمع بتطبيق نسخة الأقلية المتشددة من المجتمع على الأغلبية من أي نقطة يرونها مؤثرة. ففي كل أنحاء البلاد، أثار الإسلاميون موجة من الهيستيريا الإسلامية في تلك الدولة التي كانت من قبل ليبرالية فأصبحت النساء يُضربن بالعصا على الملأ بسبب تناول الكحول، وطلاب المدارس «المخنثون» الذين يُعتقد أنهم يبدون أمارات الشذوذ الجنسي يُرسَلون إلى معسكرات مغايرة الجنس لنزع تلك الصفة منهم، وشرطة دينية على المنوال السعودي تجوب الشوارع وتقبض على أي ثنائي خرج للتنزه دون أن تكون بينهما صلة، وفي السنوات القليلة الماضية — وهذه ليست مزحة — انشغلت البلاد كلها بمسألة هل يمكن للمسيحيين استخدام كلمة الله للإِشارة إلى الرب.4 في تلك الأثناء أصبح قائد الكتلة المعارضة الإسلامية الذي لا خلاف عليه الآن هو بطل الديمقراطية أنور إبراهيم. وليس غريبًا أن ثلاثة هتافات كانت تصدر عن الحشود أثناء المظاهرات التي غلبت عليها الأمطار والمطالبة بتحقيق الديمقراطية في يوليو ٢٠١١ في كوالالمبور: «ريفورماسي» (بمعنى الإصلاح) و«يحيا الشعب» و«الله أكبر».5
تقدم ماليزيا إذن مثالًا لما يحدث عندما تسترضي النخبة الليبرالية الإسلاميين المعتدلين المزعومين. فهؤلاء الإسلاميون يوفرون غطاءً لحلفائهم الأكثر تشددًا من أجل تحويل المجتمع، بحيث ينتهي به الحال إلى نسخة طبق الأصل من السعودية (دولة استبدادية لا يجرؤ الإسلاميون في أي مكان آخر ومن أي صنف كان أن ينتقدوا انتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان). والتشابه لافت للنظر أكثر — كما أشرت من قبل — مع تونس. مع ذلك فإن النموذج الذي تقدمه إندونيسيا — أكثر الدول المسلمة في العالم سكانًا — وجنوب تايلاند بأغلبيتها المسلمة هو أيضًا نذير شؤم لما يحدث لتلك المجتمعات المسلمة المعروفة تاريخيًّا بالانفتاح والتنوع والديمقراطية، ما إن يبدأ تأثير الوهابية السعودية في اكتساب هامش من الحرية. علينا أن نتذكر (ونحن نتحول إلى إندونيسيا وجنوب تايلاند) أن المملكة العربية السعودية — بالإضافة إلى إغداق الأموال على مصر بعد الثورة واختطاف العملية السياسية في كل من البحرين واليمن وسوريا — تسعى أيضًا إلى ضم الأردن والمغرب لمجلس التعاون الخليجي، مما يؤدي إلى ظهور السيناريو المروع بوجود مملكة وهَّابية كبرى من حدود إسرائيل إلى المحيط الأطلنطي. وما يثير القلق بالقدر نفسه أيضًا أن السعودية تحاول إقناع إندونيسيا وماليزيا بالانضمام إلى تحالف ضد عدوها (وعدو واشنطن) اللدود إيران.6 وفي هذا الصدد، فإن رجال الدين الوهابيين في الرياض يضعون الأساس لذلك منذ وقت طويل.

•••

على مسافة بضعة كيلومترات في أحد الطرق النائية في قلب الجنوب التايلاندي المضطرب يوجد مقر جامعة جالا الإسلامية، التي يُنفَق عليها ملايين الدولارات. ومع وجود أكثر من اثني عشر مدرسًا عربيًّا من مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وتمويل دائم على ما يبدو — من السعودية في المقام الأول — تعطيك الجامعة — بأسطحها العاكسة وجوِّها الباعث على الهدوء على نحو غريب — انطباعًا بأنك قد انتقلت فجأة إلى أحد مراكز التعليم العالي في الرياض. يرتدي آلاف الطلاب الذين يذهبون إلى الجامعة ملابس عربية، ويدرَّس لهم تفسير متشدد للشريعة الإسلامية باللغة العربية. يقدم موظف الاستقبال نفسه — بلغة عربية فصحى متقنة — على أنه خريج جامعة الأزهر في القاهرة. أما رئيس الجامعة الدكتور إسماعيل لطفي، فكان — كما أخبرني متباهيًا — خريج مؤسسة وهابية متشددة تسمى «جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية» في الرياض. وفي القائمة التي وضعتها السعودية لأكثر الإرهابيين الإسلاميين طلبًا عام ٢٠٠٣، كان أكثر من نصف القائمة خريجي تلك المؤسسة الجليلة.

للدكتور لطفي — وهو شيخ كبير السن دمث الخلق على درجة عالية من الرسمية أخبرني أنه يرفض العنف — آلاف من الأتباع يشغلون مناصب إسلامية مهمة في كل مكان في الجنوب. لكن المدراس الإسلامية غير المسجلة في الأغلب في الجنوب التايلاندي — التي تقدم تعليمًا دينيًّا، ومنهجًا ثابتًا، وتدريبًا باللغة العربية واللهجة الجاوية المحلية — معروفة لدى الحكومة التايلاندية بأنها بيئة لتنشئة الانفصاليين المتطرفين. وبعض المسلمين الذين كانوا يسعون إلى الانفصال والذين قُتلوا في ٢٨ أبريل عام ٢٠٠٤ — عندما أطلق جنود الجيش النار على أكثر من مائة مسلم على دراجاتهم البخارية، استنادًا إلى معلومة تفيد تدبير سلسلة غارات على مواقع الجيش في الجنوب — درَّسوا في تلك المدارس الإسلامية المحلية أو كانوا طلبة بها.

انتشرت المدارس الإسلامية في كل مكان في جنوب شرق آسيا منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين. وفي كل مكان في هذه المنطقة، يرتدي الرجال والنساء ملابسهم على الطراز السعودي؛ فالرجال يرتدون الأثواب البيضاء القصيرة والعقال وغطاء الرأس المنسدل، وترتدي النساء سترات فضفاضة سوداء تغطيهن تمامًا، بل كثيرًا ما يرتدين قفازات سوداء. لكن على مدار التاريخ كان الفكر الوهابي المتشدد وثوب البادية — اللذان يؤخذان دليلًا ظاهريًّا على النقاء الديني — أمورًا بغيضة من منظور العادات المتسامحة والتنوع العرقي والثقافي في جنوب شرق آسيا؛ حيث كان الإسلام إضافة متأخرة نسبيًّا لمجموعة المعتقدات المحلية، وكان ديانة توفيقية بين عقائد مختلفة عادةً. كان «الشيوخ» المسلمون المحليون يُعبدون — أو ربما من الأفضل أن نقول يوقَّرون — إلى جانب أرواح الغابة. كان البوذيون والمسلمون والكونفوشيوسيون في المدن والقرى يميلون إلى الانضمام إلى احتفالات الأعياد الخاصة بعضهم ببعض، خصوصًا وأن عدم فعل ذلك في مجتمع يتألف من بضع مئات سيكون من الجلافة. ومن يعرف ثقافة الصوفية الشعبية من تقديس الأولياء والروابط الحميمة قديمًا بين مسلمي البلاد ومسيحييها سيلاحظ أوجه الشبه.

طور الإندونيسيون والملايو ومسلمو الجنوب التايلاندي لباسهم الخاص؛ فالنساء الأكثر تدينًا يرتدين وشاح رأس ملونًا يغطي شعرهن ويُعقد أسفل الذقن، ويرتدي الرجال قلنسوات وعمامات «مذيَّلة» جذابة من القماش الأبيض أو الملون. لم تكن جميع النساء المسلمات يرتدين أوشحة الرأس على الإطلاق سواء في المدن أو القرى، وقلما كانت تُرتدى بالقرب من المنزل أو في الحي الريفي المجاور مباشرة (حتى في المجتمعات المعروف عنها التدين). وفي المناطق التي تتداخل فيها المنظومات العقائدية، لم يكن غريبًا أن تجد الناس يصلون في المسجد، ولكنهم أيضًا يتشاورون مع الأطباء بشأن مشكلات معينة، أو يقدمون القرابين لأرواح الأشجار تحسبًا لأي ظرف.

الإسلام التوفيقي إذن يعني تكييف الدين مع ظروف الواقع، والعادات المحلية، وسبل الحياة الراسخة. الواقع أن الإسلام كله توفيقي من هذا المنظور. فالشكل الذي يُعتقد أنه كان موجودًا في عهد النبي محمد، والأشكال الموجودة في قلب شبه الجزيرة العربية اليوم ليست سوى تكييف لعادات وأعراف «وثنية»؛ أي جاهلية وقبلية. ففي مكة قبل الإسلام، اعتاد الناس على الطواف عرايا حول الكعبة على أنهم يحجون، وكانت الكعبة نفسها مركز الدين وضمت عشرات الأصنام (التي حطمها النبي). والأزياء التي يروق للمتطرفين اليوم وصفها بأنها «الزي الإسلامي» هي في الواقع أزياء بدوية. وحتى الفصل بين الجنسين — الذي من دونه يعتقد الإسلاميون أن العالم كله سيهلك عما قريب — له جذوره في العرف الاجتماعي لقطاع طرق الصحراء الذين كانوا يعتبرون النساء متاعًا، واعتادوا اختطافهن مع الغنائم المنقولة الأخرى في الفترة القصيرة المتاحة لهم أثناء إحدى الغارات. لهذا كان من الحكمة إبقاء النساء بعيدًا عن الأنظار. ارتداء النقاب أيضًا — الذي لم يتحدث عنه القرآن صراحة — له أصوله في الثقافة القبلية التي تبالغ في التأكيد على شرف الرجل وكرامته، ومن ثم فإنه من الأسهل إلقاء اللوم على النساء أنهن مصدر للفتنة لا يُقاوَم بدلًا من اعتراف الرجال بإخفاقهم في مقاومته. ولأسباب كهذه لا يصف الأكاديميون على نحو بالغ الدقة انتشار الإسلام الأصولي في العالم الإسلامي باسم «الأسلمة» وإنما باسم «التعريب». فالمصطلح الثاني لا يعكس ما يحدث فحسب، بل يفيد في تحديد مصدر الأزمة؛ شبه الجزيرة العربية.

في جنوب شرق آسيا، بدأ نشر الوهابية في الستينيات من القرن العشرين، عندما كان فكر الإخوان المسلمين هو الاتجاه الفكري السائد بين الطلاب المسلمين، مثلما كانت الماركسية والماوية الاتجاهات الفكرية السائدة بين الطلاب في الغرب. في الوقت نفسه بدأت السعودية تكفل عددًا كبيرًا من الأنشطة التعليمية بين رجال الدين في جنوب شرق آسيا، بل بين المعتدلين منهم. والنتيجة أن المدرسة الحنبلية في الفقه الإسلامي — الأكثر حرْفية وتشددًا والمنتشرة في السعودية — قد ثبتت أقدامها هناك. وفي الثمانينيات والتسعينيات انتقل السعوديون — والكويتيون بدرجة أقل — إلى إغراق سوق الكتاب المحلي بالكتيبات الوهابية زهيدة الثمن — ذات طابع مناهض للسامية ومناهض للشيعية ومناهض للمسيحية ومناهض لكل شيء — كما هو الحال مع الأدب الطائفي الذي يخلو بوجه عام — مع الأسف — من أي رسالة إنسانية موضوعية.7

هناك عاملان ساعدا الإسلاميين في جهدهم للترويج للتطرف، الأول هو اشتهار إندونيسيا وتايلاند بأنهما دولتان «مصدِّرتان للعمالة». بعبارة أخرى كان هناك تدفق دائم من العمال الذين يعملون في وظائف متدنية، والذين يذهبون إلى الخليج العربي ويتعرضون للأصولية الوهابية، التي عادةً ما يقنعهم دعاة الدين المرهبون الصاخبون بأنها الإسلام الحق، ثم يعودون إلى بلادهم وينشرون ما سمعوه. وكما رأينا، هكذا نجحت الوهابية في الأساس في ترسيخ أقدامها في مصر في السبعينيات. لكن على عكس المصريين، فإن مسلمي جنوب شرق آسيا لا يتحدثون اللغة العربية في الغالب، بمعنى أنه حتى الكثيرون الذين حفظوا القرآن كاملًا بلغته الأصلية لا تكون لديهم سوى فكرة ضبابية عن المعنى الفعلي لأي جزء فيه. ومن ثم فإنهم يعتمدون على التعليقات التي يوفرها دعاة الدين، الذين بدورهم قد لا يكونون علماء لغة بارعين ويعتمدون على التفسيرات المجانية التي ينشرها السعوديون — في محافلهم الدولية مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية — بسخاء بين الجهلاء.

مشكلة أخرى ذات صلة هي أنه لا أحد فعليًّا — حتى في الدول الناطقة باللغة العربية — يفهم اللغة المعقدة للقرآن (فقراءته تشبه الطلب من شخص لم يقرأ أدبًا إنجليزيًّا معاصرًا قط أن يقرأ فجأة شعر تشوسر)، ومن ثم فحتى المثقفون الناطقون بالعربية في جنوب شرق آسيا يحتاجون المساعدة من هؤلاء الفقهاء المزعومين. على سبيل المثال، ما معنى الأمر الموجَّه للنساء في سورة «النور» بأن يغطين «جيوبهن» أمام أعين الناس «إلا ما ظهر منها»؟ تبدو كلمة «جيوبهن» خطأً. يشير بعض الدارسين إلى أنها تعني «الزينة»، ويشير آخرون أنها تعني «الصدور». فأيُّ قدْر منها — أيًّا كان معناها — يمكن القول إنه يظهر عادةً؟ لا أحد يعرف، لكن من المنطقي لدى أغلب الأفراد العاديين أن رجل الدين المحلي يعرف أفضل منهم؛ لأن مهمته الوحيدة هي التخفيف من شكواهم الدائمة بشأن تفاصيل دينهم الدقيقة حتى يتسنى لهم مواصلة حياتهم التي لا شك أنها أكثر إمتاعًا.

معركة القلوب والعقول هي معركة بين العادات المحلية الراسخة على جانب، وأشخاص لديهم من العزم والمال ما يجعلهم يتدخلون فيها على الجانب الآخر. وهذا يعني دائمًا المتعصبين أو — إذا أمكن تحديد الفارق — الوهابيين. تلك هي القصة في كل مكان في العالم الإسلامي. يذهب الطلبة إلى الشرق الأوسط في منح دراسية سخية ويدرسون المذهب السلفي أو الوهابي، وهناك يتعلمون أن الثرثرة بأعلى صوت عن الشهداء والجهاد المشوب بالعنف هي طريقة فعالة للغاية في إثارة الحماس الديني. وفي البلد الأم، تظهر الجامعات الدينية المتشددة — كتلك التي زرتها في تايلاند — وتنشر هوسها بالطقوس والأعراف والزي وغيرها من الأمور التي تبدو غير ذات أهمية. وفوق كل هذا، ينشرون عقيدة الطُّهر الوسواسية القهرية الخاصة بهم، وتمسكهم المطلق بالدين الأصلي الحق المجرد من كل «البدع»، مثل اللياقة والإنسانية والذوق العام. وبدورهم يعود الطلاب إلى مدنهم أو قراهم مرتدين الملابس البدوية الغريبة وغيرها مما يدلل على تعليمهم الراقي، ويروعون أقرانهم ويرهبونهم لتقبل تلك الحقائق المطلقة التي استحوذت عليهم الآن، وفي تلك الأثناء يجتثون «الفساد» الذي تراكم على مر القرون.

•••

عندما زرت الأقاليم التايلاندية الواقعة في أقصى الجنوب عام ٢٠٠٤ لأكتب سلسلة من المقالات عن واحد من أكثر حركات التمرد المسلمة عنفًا التي شهدها العالم، فإن ما يزيد عن ١٦٠ مسلمًا تايلانديًّا كانوا ملتحقين بمؤسسات إسلامية في السعودية و١٥٠٠ كانوا يدرسون في مصر.8 قال رئيس الوزراء التايلاندي آنذاك ثاماراك إيسارانجورا نا أيوثايا إن حكومته تعتقد في وجود مواقع تدريب عسكرية في السعودية وباكستان ومصر، حيث يتدرب الانفصاليون المسلمون التايلانديون على تنفيذ هجمات إرهابية لدى عودتهم إلى بلادهم. لكن الحكومة وقتها كانت قد بدأت لتوها الاعتراف أنها تواجه تهديدًا إسلاميًّا مركبًا. كانت هناك دلائل على أن الجماعة الإسلامية الإرهابية — فرع «القاعدة» الإقليمي — تُجري عملية تجنيد من أجل إنشاء دولة إسلامية تجمع دول جنوب شرق آسيا من جنوب تايلاند وعبر ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا إلى شرق الفلبين. قضى عدد كبير من الزعماء المحليين من «الجماعة الإسلامية» و«القاعدة» و«حركة آتشيه الحرة» فترة في جنوب تايلاند بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وفقًا للتقديرات المستقلة وصل أعضاء الجماعة الإسلامية في جنوب تايلاند في ذلك الوقت إلى ١٠٠٠٠ عضو، وذكر الجيش التايلاندي أنه يتعقب على الأقل ٥٠٠٠ انفصالي مسلح. كان قائد العمليات التابع لتنظيم القاعدة في جنوب شرق آسيا رضوان عصام الدين المعروف بالحنبلي؛ معتادًا على زيارة الجنوب التايلاندي قبل أن يُقبض عليه شمال بانكوك. ووفقًا لإريك تو تشو من معهد سنغافورة للشئون الدولية، التقى أعضاء الجماعة الإسلامية مرتين في جنوب تايلاند للتخطيط لتفجيرات بالي عام ٢٠٠٢، وربما هجمات أخرى في إندونيسيا. أخبرني أن المسلمين في جنوب تايلاند ربما يكونون قد انضموا سرًّا إلى شبكة الجماعة الإسلامية، ويقال إنهم على صلة وثيقة بالجماعتين المتمردتين المسلمتين في جنوب الفلبين؛ «جبهة تحرير مورو الإسلامية»، وجماعة «أبو سيَّاف» الأشد خطرًا. «هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية» التابعة للسعودية هي أكبر مانح للمنظمات الإسلامية في جنوب تايلاند. فلا يوجد مشروع تعليمي أو ديني لم تتدخل فيه «هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية»، وهي جزء من رابطة العالم الإسلامي ذات التمويل الوهابي. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، جمَّدت وزارة المالية الأمريكية أموال «هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية» في أمريكا بسبب صلاتها بتنظيم «القاعدة».

اتضح لي بعد أسابيع من التجول في الأقاليم التايلاندية الجنوبية أن الوضع هناك أسوأ كثيرًا مما تود بانكوك الاعتراف به. فالأقلية البوذية التايلاندية في الجنوب كانوا يشعرون يومًا بعد يوم بأنهم محاصَرون، ويوزعون منشورات (تسلمتُ أحدها) تتناول التطرف الإسلامي تفصيلًا. في رأيهم أن ذلك يفرض تهديدًا غير مسبوق لدينهم ولدولتهم على السواء. أخبرني أحد كبار المسئولين الحكوميين التايلانديين في محافظة باتاني ذات الأغلبية المسلمة — الذي بدا فزعًا من الأحداث الأخيرة — أنه كان مدركًا للبوادر الأولى لما أطلق عليه «التطهير العرقي» في محافظة ناراثيوات، وهي واحدة من ثلاث محافظات ذات أغلبية مسلمة، مضيفًا أن بعض الأسر البوذية التايلاندية قد أُمرت بالرحيل تحت تهديد بالعنف. تعرضت ثلاثة معابد بوذية للهجوم في الشهر الذي زرت فيه البلاد. ومنذ ذلك الحين أحالت الصحف إلى صفحاتها الداخلية القصص اليومية — أو الأسبوعية — عن الذبح في الجنوب، التي دائمًا ما تتضمن ضرب العنق الوحشي لعمال جمع المطاط أثناء قيادة دراجاتهم إلى العمل فجرًا حين يكثر تدفق عصارة الأشجار، وهي مهنة متدنية زهيدة الأجر، يؤديها هؤلاء الضحايا عادة من أجل توفير سبل العيش لهم ولأسرهم. أحيانًا تكون تلك الأهداف البريئة السهلة بوذيين تايلانديين، وأحيانًا أخرى يكونون من مسلمي الملايو، وتلك هي بسالة جهاديي الجنوب التايلاندي الذين يثورون على طاغيتهم باسم الله.

عدد كبير من مسلمي تايلاند المتطرفين قاتلوا مع حركة «طالبان» ضد الاحتلال السوفييتي في الثمانينيات من القرن العشرين، وعندما عادوا عملوا مدرسين في المدارس الإسلامية المحلية. غير أن زيادة العنف كان صعبًا على الحكومة التايلاندية فهمه والتحكم فيه، لأنها حدثت بعد أن فككت بانكوك تمامًا جهازها الاستخباراتي في المنطقة، وخففت من وجودها العسكري، ظنًّا منها أنها سحقت الحركة الانفصالية في أواخر التسعينيات، وبالعودة إلى تلك الفترة، يبدو هؤلاء الانفصاليون القدامى مجموعة ودودة بكل تأكيد، وقد حاولوا لاحقًا تسوية الخلاف في المواجهة، لكن بحلول ذلك الوقت كانوا قد فقدوا كل مصداقيتهم بين المتطرفين الصغار. اعترف لي لواء تايلاندي متقاعد أنه لا الجيش ولا الشرطة كانا على علم بما يحدث في الجنوب. ففي غياب المعلومات الاستخباراتية المهمة، لجأ رئيس الوزراء التايلاندي وقتها ثاكسين شيناوارتا — الذي يسعى دائمًا إلى الحل السريع الخاطف — إلى وصف الجهاديين الدائم بأنهم «معاتيه» و«فتيان طالحون». وحقيقة الأمر أن استجابة الحكومة التايلاندية في عهد ثاكسين زادت الأوضاع سوءًا. ففي عهد رئيس الوزراء الملياردير الفاسد المزعوم، وقعت مذبحتان للمسلمين عام ٢٠٠٤. ورأيي أنه بالرغم من عدم مسئولية ثاكسين عن هاتين المذبحتين، فإنهما قد وقعتا في عهده. في الواقعة الأولى المذكورة سلفًا تعقب الجنود مجموعة من الانفصاليين المسلمين، الذين لجئوا إلى مسجد «كرو سي» الشهير تاريخيًّا، وأطلقوا الرصاص بكثافة على ٣٢ منهم، اكتُشف لاحقًا أنهم لم يكونوا يملكون سوى سكاكين وبندقية واحدة.9 وفي الثانية، أطلق القبض على ستة انفصاليين مشتبه بهم شرارة مظاهرة لمئات السكان في مدنية تاك باي. وعندما ألقى بعضهم الحجارة وحاولوا اقتحام مركز الشرطة، تدخل الجيش بإطلاق قنابل الغاز والرصاص. نُزعت عن المتظاهرين ثيابهم وقيدت أيديهم وراء ظهورهم قبل أن يُضربوا ويُركلوا ويُكدسوا بعضهم فوق بعض في شاحنات لنقلهم إلى معسكر للجيش في باتاني، وهو ما استغرق سبع ساعات لسبب ما. لقي نحو خمسة وثمانين مصرعهم جراء الاختناق أو ضربات الشمس أو الضرب.10 وما من دليل على أن ثاكسين كان على علم بالمذبحتين أو كان متورطًا فيهما بأي حال.

كان «استعراض قوة» عاد بنتائج عكسية على نحو مثير للدهشة مثلما قد يتنبأ أي شخص. لكن احتمال ملاحقة ثاكسين قضائيًّا عن جرائمه المالية يتضاءل يومًا بعد يوم بعدما أصبحت شقيقته أول رئيسة وزراء دمية في تايلاند التي رفعت شعار «ثاكسين يفكِّر، وبيو تاي (الاسم الحالي لحزبه الذي تغير اسمه كثيرًا) ينفِّذ»، ويقيم شقيقها الملياردير في منفى في دبي أو مونتنيجرو أو باريس إلى أن ينال العفو ويعيد الأموال التي نهبها من الشعب التايلاندي. ربما يكون للمسلمين في جنوب تايلاند عذر في الاعتقاد بأن العدالة لا مكان لها إلا في الدار الآخرة.

•••

لطالما اشتكى المسلمون التايلانديون من التمييز في الوظائف والتعليم، فضلًا عن الإهمال الاقتصادي للجنوب، وهو ما استغلته الحركات الانفصالية المختلفة منذ أن انضمت تايلاند عام ١٩٠٢ إلى الأقاليم التي يومًا ما كانت جزءًا من مملكة باتاني المسلمة. إذا كان عدد هائل من المدرسين على سبيل المثال مستهدفين في حملات التطهير العرقي، فهذا يرجع جزئيًّا إلى أن الحكومة المركزية الخرقاء — بدافع فرض هيمنتها الثقافية — كانت حريصة على أن يكون المدرسون بوذيين تايلانديين. تأججت مشاعر الغضب بين المواطنين، وهو ما استغله الإسلاميون بربطها بالصراع الإسلامي الأكبر. كانت هناك «أيدٍ خفية» مزعومة في أحداث العنف من جانب الجيش والشرطة؛ كلٌّ ينافس الآخر (وينافسون الانفصاليين المحليين الذين يرتكبون الأعمال الإجرامية أيضًا في كثير من الأحيان) من أجل السيطرة على عصابات تهريب الأسلحة والمخدرات، وهو موقف يذكرنا في بعض النواحي بالأراضي الفلسطينية المحتلة. تكونت فرق من «الحراس الجوالين» — الذين كانوا في الأصل سفاحين معاونين للجيش — من أجل حراسة القرى. وظهرت تقارير دائمة عن اعتقالات باطلة وتعذيب؛ لأن الجيش كان يرد بالوسيلة الوحيدة التي يعرفها الجنود، وهي الحذاء العسكري والبندقية. «اختفى» محامي حقوق الإنسان سوماتشاي نيلابايجيت — الذي دافع عن عدد من المسلمين البارزين — في بانكوك بعد ليلة من قبض الشرطة عليه، ولم يُسمع عنه منذ ذلك الحين.11

كذلك كان تأثير الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على الأمة الإسلامية في صورة غزو البلاد ذات الأغلبية المسلمة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر؛ هائلًا. أظهرت استطلاعات الرأي أن غزو العراق، والصور المتداولة عن معتقل جوانتانامو، وتشديد اللوائح على التأشيرات الأمريكية للزائرين المسلمين؛ أساءت كثيرًا لسمعة الولايات المتحدة بين المسلمين في تايلاند وفي كل أنحاء جنوب شرق آسيا، وهو ما أدى إلى انتشار التطرف. في الجنوب التايلاندي وبين مسلمي جنوب شرق آسيا بوجه عام، انتشر إطلاق اللحى بين الأسر المسلمة في البداية كنوع من التعبير السياسي عن التكاتف مع المجتمع الإسلامي المحاصَر لا لإظهار الحماس الديني، لكنه حتمًا كان يصب في مصلحة الإسلاميين.

لكن مسلمي تايلاند لا يؤيدون جميعهم تلك التطورات. فقد ذكر فايروج فيفيتباكدي — عضو برلمان مسلم عن باتاني لكن ليس ملايويًّا — أن المسلمين مخطئون في اعتقادهم أن الإسلام خاص بتبني الأعراف العربية فقط. قال لي: «إنهم يؤخَذون إلى الشرق الأوسط، ويتعرضون لغسيل دماغ.» كان محقًّا ومخطئًا. ربما الأكثر دقة أن نقول إن الشرق الأوسط يأتي إليهم ويستغل مظالمهم ومشاكلهم التعليمية ومشاعرهم القومية الملتهبة. الجدير بالملاحظة أن الإسلام السياسي لم يلق صدى كبيرًا في الأقاليم المجاورة في جنوب تايلاند، حيث المسلمون ليسوا أغلبية بل لا يزالون يشكلون أقلية كبيرة. ففي كرابي على سبيل المثال حيث المسئولون المحليون تايلانديو العرق، وأصحاب المؤسسات التجارية صينيو العرق، وصائدو الأسماك والحرفيون مسلمون، تواصل المجتمعات حياتها في ظل وجود خلاف طفيف نسبيًّا. تشكل النساء المحجبات تمامًا أقلية ضئيلة، ويوجد اختلاط حر بين الذكور والإناث، ويُدعى الأجانب للمشاركة في الأعياد في مستوطنات المسلمين، وعلى الأقل يمكن للأطفال المشاركة في احتفالات الجماعات الأخرى الأكثر بهجة، مثل عيد الماء في بداية العام التايلاندي، حتى إذا لم يكن آباؤهم يحتفلون بأي منها. في الوقت نفسه، تظل النساء المحجبات تمامًا في بانكوك نادرات؛ حيث يعيش المسلمون في قرى صغيرة وسط الزحف العشوائي للمدن أفضل قليلًا (وقليلًا فحسب) من أحياء الفقراء، وإذا كان أحد الرجال يرتدي الزي البدوي، فمن المرجح أنه غربي بائس اغتسل على الشاطئ هناك ورأى النور فجأة، لا تايلاندي يرتاد مدرسة إسلامية.

المثير للانتباه بعبارة أخرى أن هؤلاء الأشخاص ليسوا أفضل حالًا من إخوانهم في الدين في الجنوب. البوذيون بوجه عام يزدرون المسلمين ويظنون بهم شتى صور الانحراف، وهم في الأغلب أشد فقرًا بكثير من جيرانهم غير المسلمين. المسلمون في بانكوك لا ينتمون لعرق الملايو، وإنما هم تايلانديو العرق لم يصبهم الهوس الإسلامي. وهذا يدل على أن الإسلام السياسي يحتاج هوية مميزة أو بيئة متماثلة ليعلق بها؛ فإذا كان الجميع في القرية — وفي القرية المجاورة — مسلمين يشاركون الأوجاع نفسها بوجه عام، وإذا شكَّل المسلمون على الأقل نوعًا من الأغلبية المحلية — حتى وإن كانوا أقلية ضمن الإطار الأكبر — يمكن للإسلام السياسي حينها أن يجد لنفسه موطئ قدم. فطبيعة الإسلام السياسي المبسطة للغاية تعني أنه يترعرع على روايات الضحايا والأعداء القابلين للتمييز تمامًا. فعندما لا يوجد تهديد خارجي مباشر ساذج يمكن حشد المشاعر ضده، وعندما يكون التعايش السلمي واضحًا في حياة الأفراد اليومية، يجد الإسلام السياسي عملية الاستقطاب أصعب.

ومن المؤسف أنه في الشرق الأوسط — ومع ذكريات الصراعات الطائفية والقبلية الطويلة — تكون روايات الإسلاميين المفضلة جاهزة (على سبيل المثال تحريض نخبة علمانية فاسدة على الفقراء الكادحين المتدينين، أو الأغلبية المسلمة المهتدية على المسيحيين المنحرفين) وتترك الشعوب بلا دفاعات قوية يواجهون بها الوسائل التي من خلالها يستطيع المتطرفون استغلال الموقف.

•••

في إندونيسيا، كان الإسلاميون يواجهون عقبة لا تذلَّل على ما يبدو. عقب الاستقلال عام ١٩٤٥، وضع الرئيس المستقبلي سوكارنو فلسفة رسمية للدولة سماها «بانشاسيلا»، تضم ببراعة الآراء الشوفينية والقومية، والمشاعر الدينية، والتعطش الحديث للعدالة الاجتماعية، والمساواة، والديمقراطية. الاسم مأخوذ من اللغة السنسكريتية، ويضم المقطعين (بانشا) بمعنى خمسة، و(سيلا) بمعنى مبادئ أو قواعد أو أسس، ومن ثم يلمِّح إلى الماضي البوذي الهندوسي السحيق للجزر الإندونيسية، وهذه المبادئ هي:
  • (١)

    الإيمان بالإله الواحد الأحد.

  • (٢)

    إنسانية عادلة متحضرة.

  • (٣)

    وحدة إندونيسيا.

  • (٤)

    الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية في توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين.

  • (٥)

    العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسي.

عند صياغة المبدأ الأول، حرص الآباء المؤسسون لإندونيسيا العلمانية على التوسط بين ممثلي الأغلبية المسلمة الذين أرادوا استخدام لفظة «الله»، وممثلي الديانات الأخرى، واستخدموا بدلًا من ذلك لفظة Tuhan الأكثر حيادية بمعنى «إله» في اللغة الإندونيسية. ومجددًا أفاد هذا الأمر في ترسيخ الفلسفة في ماض إندونيسي على وجه التحديد — وإن كان أسطوريًّا — بدلًا من ربطها ربطًا وثيقًا بالإسلام.12 ومع أن اللفظة تبدو وكأنها تستبعد الديانات المؤمنة بتعدد الآلهة، فإنها مثَّلت حلًّا وسطًا مقبولًا لأكثرية الناس، لأنهم رأوا في المبادئ الأخرى نمطًا إندونيسيًّا من العيش معًا، حتى إنهم شعروا أن بمقدورهم التصالح مع دينهم. والحق أنه من منظور ضمان الحقوق السياسية، فالبند الرابع هو المبدأ الأكثر إثارة للجدل، لأن سوكارنو تسرَّع عندما قرر أن الديمقراطية تحتاج قدرًا كبيرًا من التوجيه من حكمته الداخلية، ولأن آخر انتخابات حرة حتى الإطاحة بخليفته وخصمه سوهارتو أُجريت عام ١٩٥٥.13
على مدار أطول فترة — على الرغم من ذلك — فإن هذا التأكيد على الهوية الإندونيسية أبقى البلاد في حالة مقاومة نسبية لتأثير الإسلام الأصولي، خصوصًا وأن نظام سوكارنو كان معاديًا للدين في هدوء، لأنه رآه على نحو صحيح تهديدًا لأهدافه المتعلقة بالتحديث.14 لكن عندما أطاح سوهارتو بسوكارنو عام ١٩٦٧، وبدأ وضع سياسة «النظام الجديد» الخاصة به — ديكتاتورية مركزية عسكرية ذات دعم كبير من الولايات المتحدة المهووسة بإنهاء تهديد الشيوعية في آسيا — فإنه تمادى كثيرًا. أصر سوهارتو على «توطين» البانشاسيلا، زاعمًا أن المبادئ الخمسة متأصلة تمامًا في العادات الإندونيسية، التي يعني بها عادات جزيرة جاوة مسقط رأسه. وهو ما أعطى انطباعًا باستعداء المناطق الأخرى في البلاد، حيث الضغائن العرقية التي سعى سوكارنو للقضاء عليها لم تغب عن المشهد قط. وبدوره دفع ذلك سوهارتو إلى أن يُحْكِم قبضته على البلاد أكثر؛ فقمع المعارضة الديمقراطية، ونتيجة ذلك أن المساجد أصبحت أكثر أهمية باعتبارها أماكن يستطيع فيها الناس التعبير عن آرائهم السياسية، وبينما انطوى المسلمون خلف أسوار مساجدهم وبيوتهم، فعل أصحاب ديانات أخرى الأمر نفسه، مما أسفر عن تعميق الانقسامات.15
عندما أطيح بسوهارتو أخيرًا بعد أن استمر في الحكم ٣٢ عامًا، كان النظام — كالحال مع أي ديكتاتور حكم فترة طويلة — غارقًا في الفساد، ومفهوم الحكومة العلمانية والوحدة الإندونيسية مرفوض التصديق، حتى إنه أصبح صعبًا تخيل مبدأ موحِّد غير الإسلام يمكنه توحيد البلاد. وبالإضافة إلى ذلك وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر والغزو الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق، وهو ما أدى إلى تطرف المسلمين في العالم. منذ عام ٢٠٠٣، أصدرت عشرات الحكومات المحلية في إندونيسيا قوانين محلية إسلامية تتعلق بقانون الأسرة في المقام الأول، لكنها أيضًا تمنع تجول النساء دون أن يصحبهن أحد.16

إلى جانب موروث إندونيسيا من التسامح، يبدو أن لديها موروثًا مكافئًا ومضادًا من الجماح ومن عنف الغوغاء، حيث ليس من النادر أن تخرج قرية كاملة في حملة ثأر من القرية المجاورة من أجل قطعة من الكعك — مسلحة بالعصي والأحجار — وتنتظر أول بائس يظهر أمامها كي ينال جرعة من الثأر القبلي. ومع كل هذا فإن سكان هذه الجزر إندونيسيون متفاخرون، بل هم — مثلما أشار نموذج سوهارتو — جاويون وبابويون وآتشيهيون أشد فخرًا. وكثيرًا ما يكنون عداوة شديدة للصينيين الذين يؤدون دور كبش الفداء مثلما كان اليهود في أوروبا في الماضي، وكلما ابتعدوا عن جاكارتا وكل ما تمثله، زادت احتمالية تحريضهم ضد الأقليات العرقية بين أظهرهم.

الهوية الإندونيسية — باختصار — شيء بالغ القوة وبالغ الهشاشة في الوقت نفسه، والتسامح والسلام المتوارثان والظاهران على السطح يمكن أن ينقلبا فجأة في موجات العنف المنفردة الشعواء هذه. ليس واضحًا إلى أي مدى زادت هذه الأحداث — فعندما تتحدث التقارير الصحفية عن زيادة شيء ما، فإنها كثيرًا ما تعني أن الصحافي قد انتبه إليها أخيرًا — لكن الواضح أنها على مدار السنوات الأولى من الألفية كانت تتخذ طابعًا طائفيًّا يزداد يومًا بعد يوم. استغل دعاة الكراهية الأصوليون تلك النزعة نحو عنف الغوغاء وزادوها سوءًا، فكانت الجماعات الإسلامية مثل «حزب التحرير» — وعلى نحو أشد قبحًا — السفاحين الوهابيين «عسكر الجهاد»17 أيضًا في طليعة الغارات والمذابح والهجمات الإرهابية. اتخذت المظاهرات العامة أيضًا طابعًا إسلاميًّا متزايدًا، وأحد أسباب ذلك أنها كانت الطريقة الوحيدة لصياغة المظالم المعتادة لأي جمهور انتخابي وأيضًا دعواته إلى الإصلاح؛ إذا كان المواطنون المحبَطون قد تظاهروا سابقًا للمطالبة بأجور أو إسكان أفضل، فإنهم يطالبون الآن برجم الزناة.
وقعت العديد من أحداث العنف الإسلامي، ولا تلوح لها في الأفق نهاية؛ أحد أحياء جاكارتا الآن يشهد أسوأ الأحداث على الإطلاق، بسبب النزاعات الدائمة بين الأصوليين المسيحيين والإسلاميين.18 لكن بضعة تطورات تستحق إمعان النظر فيها لتوضيح السبل غير الظاهرة، التي يسمم بها الإسلام السياسي النسيج المجتمعي عند الجذور ومنها يمتد إلى الفروع، وأيضًا لتوضيح كيف أن مجتمعًا منغمسًا في أمور أخرى كثيرة إلى جانب الإسلام قد يكون بدرجة ما مرنًا بما يكفي لإبعاد العدوى، وإن كان ذلك يتشابه في بعض النواحي مع التعود على الحياة بالرغم من الإصابة بمرض السكَّر.

•••

لطالما تباهى إقليم «آتشيه» في شمال سومطرة بهويته الإسلامية التي تميزه عن بقية إندونيسيا. وفي تفاخر أطلق الإقليم على نفسه اسم «المدخل إلى مكة»؛ لأنه أول مكان دخله الإسلام في إندونيسيا في العصور الوسطى بفضل موقعه الجغرافي كجسر نحو المحيط الهندي. حدثت ثورة إسلامية في أزمنة الاستعمار، وبعد استقلال إندونيسيا ظلت علاقات الإقليم مع الحكومة المركزية مضطربة، على أقل تقدير. عام ١٩٥٩، نال «آتشيه» مكانة إقليم متميز، لكنه ظل يشعر بتدني المعاملة حين بدأت الشركات الأجنبية استغلال موارده المعدنية، وبدأ سوهارتو حملة لتحويله إلى منطقة صناعية. انتشرت انتهاكات حقوق الإنسان على يد قوات الحكومة المركزية على نطاق واسع، وعاود التمرد الذي استمر طويلًا — والذي بدأته «حركة آتشيه الحرة» في السبعينيات من القرن العشرين — الظهور بعنف متجدد في التسعينيات. ولذلك فإنه طوال فترة بعد الإطاحة بسوهارتو كان الوضع حرجًا بشأن ما إذا كان ينبغي لإقليم «آتشيه» الانفصال عن إندونيسيا كلية أم لا. لكن لما كان الإسلام وثيق الارتباط بهوية «آتشيه» الإقليمية، فكرت جاكرتا في أن تسترضيه؛ ففي مقابل البقاء جزءًا من إندونيسيا، يمكن للإقليم إجراء استفتاء شعبي حول تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما وافق عليه سكان الإقليم بنسب كاسحة عام ٢٠٠٠. غير أن ذلك لم يضع حدًّا للتمرد، وزلزال تسونامي المدمر الذي ضرب البلاد عام ٢٠٠٤ — وأسفر عن مقتل نحو ٢٥٠٠٠٠ — هو ما أثار فكرة السلام، واليوم يحكم الإقليم مقاتلون من «حركة آتشيه الحرة».

لم يُحدث تطبيق الشريعة الإسلامية ثورة عاجلة في أسلوب حياة المواطنين.19 فكما يبين تاريخ سكان «آتشيه»، فإنهم قبل كل شيء متباهون بهويتهم، وهم مسلمون محافظون لأن الدين يمثل الكثير مما يتميز به الإقليم. لم تكن العاصمة «باندا آتشيه» لتصبح أبدًا مرتعًا للرذيلة، فالأهالي متدينون بوجه عام، وقدر كبير من الثقافة يتمحور حول الأسرة والبيت. ولأن نظام العدالة الإندونيسي كان فاسدًا إلى حد بدا معه وكأنه غير موجود بالأساس، ربما كان هناك أمل في أن الشريعة الإسلامية تقدم فرصة أكبر لعدالة متساوية للجميع (وهي مسألة تبدو الدول الشرق أوسطية «المتحررة» حديثًا معرضة لها بشدة). في الوقت نفسه، كان أهل «آتشيه» واثقين تمامًا من هويتهم، حتى إنهم اعتبروا أنفسهم أكثر تحضرًا من العرب، ولذا كان هوسهم بما يتعلق بأمور مثل إخضاع النساء أقل بكثير من معلميهم المزعومين في شبه الجزيرة العربية.
بالرغم من ذلك فالإسلام السياسي طريق ذو اتجاه واحد. فبعد قليل كانت الشرطة الدينية بزيها الرسمي الأخضر الغريب تسلط أضواءها الكشافة في عيون أي ثنائي يجلس أحدهما بالقرب من الآخر على الشاطئ، وتتصارع مع الجماهير في الحفلات الموسيقية ومباريات الكرة من أجل الفصل بين الفتيان والفتيات.20 ربما كان هؤلاء الحراس الرسميون للأخلاق مهرجين، لكنهم كانوا مهرجين قليلي النفوذ، وكما أشرت في موضع آخر فإن الوضيع الذي يملك قليلًا من النفوذ هو حيوان خطر. ازدادت الدعوات لمعاقبة هذا التعدي أو ذاك بأقصى عقوبة تقرها تلك القوانين البربرية. وقد كان هناك فارق ملحوظ بين الأيام التي سبقت تطبيق الشريعة الإسلامية — حيث كان باستطاعة الأفراد الذين يرغبون في تناول الخمر على الشاطئ أن يفعلوا ذلك — والأيام التي تلت تطبيق الشريعة حين لم يعد ذلك باستطاعتهم. وبالطبع ليس مغالاة أن نقول إن تناول الخمر على الشاطئ ليس أساس الوجود البشري، تمامًا كما لا يمكننا القول إن ارتداء الحجاب هو أسوأ كارثة قد تحل على المرأة. والواقع — كما هو الحال في السعودية — أن تناول الخمر لا يزال ممكنًا لمن يعرفون كيف يحصلون عليها. الأصولية تعزز فقط الرياء العام لا الأخلاق العامة. والمشكلة أنه توجد أقلية كبيرة في «آتشيه» — طبقة متوسطة صغيرة، وطلبة، وغير مسلمين — تمثل الشريعة الإسلامية لهم إزعاجًا كافيًا لدفعهم إلى مغادرة الإقليم. ونتيجة ذلك هجرة العقول التي يترتب عليها تقوية الأصولية؛ لأنه لم يعد يوجد من النابهين ما يكفي لمقاومة طغيانها المتنامي.
وبسبب ارتباط الإسلام الوثيق بتفرُّد «آتشيه»، فقد أصبح النسخة المعروفة من الصواب السياسي في الإقليم بعد تطبيق الشريعة الإسلامية؛ فلا يوجد منتدى عام يمكن الاعتراض الآمن على مبادئ الإسلام. لن يكون إقليم «آتشيه» أبدًا في موضع يجرده من الشريعة الإسلامية من دون السيناريو غير المحتمل بشن العلمانيين ثورة عنيفة. أو بعبارة أخرى: اتخذ «آتشيه» قرارًا ديمقراطيًّا معصومًا من الخطأ بتجريد نفسه من كل الفرص المستقبلية لإحداث تحول ديمقراطي. ماذا إذن لو أن الأغلبية المتدينة لا يسوءها وجود مستأسد يخبرها أن تتصرف على النحو الذي كانت ستتصرف به على أي حال، مع القليل من التخفي والتواري لتجنب الوقوع تحت طائلة قانون البلاد؟ بل السؤال ينبغي أن يكون: هل يوفر النظام مساحة كافية لهؤلاء الذين يودون أن يحيوا حياة مختلفة — وإن كانوا أقلية صغيرة تضم نحو ٤٠٠٠٠ من غير المسلمين21 وعددًا قليلًا من المميزين على المستوى التعليمي — والذين يعتبرون — كما يعتبر أي مواطن يعيش في سان فرانسيسكو — أنه لا يليق بهم التخفي والتواري أثناء السعي وراء بعض أهوائهم غير المؤذية؟ والإجابة هي أنه لا يفعل ذلك بالطبع.
تطور مثير آخر هو الطريقة التي اجتاح بها الإسلام السياسي النظام السياسي، وهو تحذير آخر للشرق الأوسط. ربما يكون أكثر النماذج اللافتة للنظر معاملة الأقلية التي تُدعى الطائفة الأحمدية، وهو ما يتشابه مع الاضطهاد المتجدد لليهود والمسيحيين والصوفيين في مصر وتونس. «الأحمدية» جماعة مسالمة غريبة إلى حد ما تستمد اسمها من المدَّعي الهندي صاحب الحضور ميرزا غلام أحمد، الذي ادعى في نهاية القرن التاسع عشر أن الوحي ينزل عليه من السماء، وهو ما جعل الجماعة أشبه بالنسخة المسلمة من المورمون. يبدو أن الطائفة — التي حققت نجاحًا مذهلًا من لاهور إلى تيمبكتو والتي يصل عدد أعضائها إلى عشرات الملايين — لم تسبب أذى كبيرًا، ومعتقداتها تبدو وكأنها محاولة طيبة منافية للعقل لتوفيق الإسلام، ليس مع المسيحية فحسب، وإنما مع أمور مختلفة من فلسفات أخرى متعددة أيضًا. ومن هذا المزيج، يبرز معتقدان؛ الأول: هو الوضع المائع قليلًا لميرزا غلام أحمد؛ المسيح المنتظَر، والمهدي، وماذا أيضًا؟ «نبيٌّ لتوحيد البشر في الأيام الأخيرة».22 كيف يتوافق ذلك مع المذهب الإسلامي الذي يقول إن محمدًا هو نبي الله وأنه خاتم الأنبياء؟ تقول الطائفة الأحمدية إن محمدًا يجسد «الكمال» على قدر ما يتعلق بكونه نبيًّا للإسلام، لكن أليس هذا ثناءً غير مباشر إلى حد ما؟ ألا يقال إن ميراز غلام أحمد «أكثر» من نبي؟ الأسوأ من وجهة نظر الإسلاميين أن الأحمدية تؤمن بأن الجهاد مرادف للاجتهاد، وأنه يعني الجد في الوصول إلى الكمال الذاتي؛ ضرب من بذل أقصى ما لديك بدلًا من الذبح الوحشي لكل من يختلف في الرأي معك. والأسوأ على الإطلاق أن الأحمدية يستقطبون معتنقين جددًا في المناطق التي يشعر فيها الإسلاميون أن التحول عن الدين ينبغي أن يكون لدينهم فقط. من اليسير أن نرى كيف أنه لم يكن هناك بد من اختصاص الجماعة — على الرغم من مزيج قناعاتها البريء — باستهجان خاص من المتشددين.
في عام ٢٠٠٥ سرت همهمات بأن «الأحمدية» في طريقها إلى أن تصبح «أكثر عدوانية»، لذلك أوصت بعض الهيئات الحكومية بحظر الجماعة بموجب قوانين التجديف الإندونيسية العتيقة.23 وأوكلت إلى هيئة تسمى «مجلس العلماء الإندونيسي» مهمة النظر في مصير هذه الجماعة، ليؤدي ذلك بعد سنوات ثلاث إلى أن تشترك «وزارة الشئون الإسلامية» مع «وزارة الداخلية» في إصدار قرار يحظر العبادة العامة على «الأحمدية».
وجاء نص المادة الأولى من القرار يقول: «يُحَذَّر العوام ويطالبون بألا يعلنوا أو يقترحوا أو يحاولوا كسب تأييد لتفسير ديانة تُعتنق في إندونيسيا، أو ممارسة أنشطة دينية تشبه الأنشطة الدينية لتلك الديانة وتختلف عن التعاليم الأساسية لهذه الديانة.» كان اقتراح سن قوانين لما يشكل التعاليم الأساسية لإحدى الديانات ولما يشكل انحرافًا عنها من السوء بمكان، ويبين في وضوح أن القرار لم يكن سوى قطعة لحم قُذف بها إلى الكلاب الإسلاميين؛ الذين يمكن وصفهم أيضًا، لبعض الأسباب، بأنهم أسوأ المنحرفين عن دين تتضمن تعاليمه الأساسية أنه لا إكراه في الدين. أكثر ما يثير القلق كانت المادة الرابعة التي «حذرت وطالبت» العوام كلهم «بحماية الحياة الدينية المتناغمة وصيانتها، وكذلك الحياة الاجتماعية الهادئة المنتظمة بعدم ممارسة أنشطة أو أفعال غير قانونية ضد أتباع وأعضاء وقيادات» الأحمدية،24 وكأن هذه المادة قد وُضعت للفت انتباه العوام إلى وجود أتباع هذه الجماعة. ربما كان من الأفضل للوزارتين أن ترفعا لافتات تقول: «لتنعقد المذابح!» وكالمتوقع، وبدلًا من تسوية الأمر، زاد عنف الغوغاء ضد أتباع الجماعة وزادت حالات القتل فيهم على إثر ذلك القرار. مع ذلك، وعلى نحو ما، كان أكثر تأثيرات ذلك القرار لفتًا للانتباه هو توضيح مدى الرجعية التي صار إليها في غفلة من الناس «مجلس العلماء الإندونيسي»25 — وهو هيئة أنشأها سوهارتو لانتخاب المؤسسة الدينية ومراقبتها — ومدى الاستعداد المهين للحكومة المركزية إذ ذاك لإرضاء الإسلاميين، بأي سبيل لازمة، صالحة كانت أو طالحة، وللتضحية بمبادئ التسامح والفطرة السوية على مذبح طغيانهم المتجذر.

•••

وهناك أيضًا الملحمة البطولية للقائد الإرهابي أبي بكر باعشير، الذي كان العقل الروحي المدبر لتفجيرات بالي عام ٢٠٠٢ (التي قتل فيها أكثر من مائتي شخص) ولتفجير فندق «ماريوت» في جاكارتا العام التالي (الذي قُتل فيه أربعون شخصًا). رسميًّا، هذا الرجل هو قائد «مجلس مجاهدي إندونيسيا» ويدير مدرسة للمتطرفين في جاوة، شاءت الصدفة المحضة أن تكون الجامعة الأم لعدد كبير من الإرهابيين. غير أن «وكالة المخابرات المركزية» تعتقد أنه يترأس أيضًا الفرع الإندونيسي للجماعة الإسلامية. يزعم باعشير أن الجماعة الإسلامية لا وجود لها، الأمر الذي قد يكون صحيحًا مثلما أن القاعدة لا وجود لها إلا في الخيال، وأنها باتت تشير إلى أي جماعة إرهابية سنية متعصبة. في الوقت نفسه، مع ذلك، حيَّا باعشير على الملأ حملة أسامة بن لادن الإرهابية واصفًا إياها بأنها «نضال إعلاء الإسلام الحق.»26 ولمَّا كان باعشير كذابًا، ومفتقرًا إلى سلامة العقل افتقارًا واضحًا — إذ زعم أن المتفجرات المستخدمة في تفجيرات بالي إنما صممت من أجل إحداث تشويهات، غير أن الأمريكيين استبدلوا بها «قنبلة نووية دقيقة» لوصم الجهاديين27 — فهو نفسه ليس شخصًا لافتًا للانتباه الشديد. فقد أنفق عقدين من الزمان في المنفى، مثله مثل راشد الغنوشي التونسي. ومثل الغنوشي، لم يرجع إلا بعد سقوط النظام العلماني الذي اضطهده، وهو لا يقر بذلك، مثل الغنوشي أيضًا. لكنه على العكس من الغنوشي، يدعم الإرهاب علانية، مقرًّا أنه ما من «حياة أنبل من أن يموت المرء شهيدًا في الجهاد»،28 على الرغم من أنه، كما جرت عادة مثل هؤلاء، قد ترك في تواضع هذا الشرف للآخرين على مدار اثنين وسبعين سنة آخذة في الزيادة. فلو كان هو الممثل الأمثل لتعريب الإسلام الإندونيسي، فسبب ذلك في جزء منه هو أنه، مثل بن لادن، يقتفي أثر أجداده في اليمن.
اللافت للانتباه هو أن الحكومة الإندونيسية تعاملت مع باعشير برفق وهوادة طوال العقد الأول من الألفية. فعندما أعربت أمريكا لمن أصبحت رئيسة للبلاد في وقت لاحق، ميجواتي سوكارنوبوتري — ابنة مؤسس الأمة سوكارنو ومناهضة الإسلام الراديكالي — عن أنها ترغب في أن «يُسلَّم إليها باعشير تسليمًا استثنائيًّا» بموجب سياسة إدارة بوش الغريبة القائلة باختطاف الإرهابيين المشتبه فيهم وتعذيبهم في دول العالم الثالث، قيل إن ميجواتي قالت: «لا يمكنني أن أسلِّم شخصًا مثله. سيكتشف الناس ذلك.»29 حوكم باعشير بتهمة التورط في تفجيرات ماريوت وبالي، وبرِّئ من التهمة الأولى، وحكم عليه بثلاثين شهرًا باعثة على السخرية داخل السجن بتهمة «المعرفة السابقة» بهجوم بالي، لكن حتى هذه التهمة سقطت عنه في الاستئناف وأطلق سراحه دونما عقوبة. كانت هناك شائعات بأن شخوصًا أقوياء في الجيش والسياسة تحميه؛ إذ ربطته علاقات بحمزة حاز نائب الرئيس السابق، الذي يبدو أن عنايته بالإسلام المتطرف كان سببها أنها ستسمح له بأن يمتلك زوجات عدة.30 ولا يثير العجب أن باعشير بدأ يظن أنه ذو منعة. فإن كان شيء كئيب وممل مثل امتهان الإسلامية يمكن اعتباره مأساويًّا، فربما كان ممكنًا أن نقول إن الكبْر هو ما أدى لسقوط باعشير. فلو قرر أن يوقف خسائره بعد إطلاق سراحه من السجن، لكان بمقدوره أن ينهي حياته كرجل دولة سابق موقَّر يدعو للكراهية ويسمم عقول الشباب في سلام. لكن كلا، كان للشيخ المسن بعدُ طموحات انتحارية على الرغم من تزايد ذهاب عقله، فاحتضن فكرة إقامة معسكر لتدريب الإرهابيين في «آتشيه». وكان لذلك مدلول شافٍ في الظاهر، حيث كان هذا الإقليم قد صوت تصويتًا كاسحًا للشريعة الإسلامية، وكان الإسلام الأصولي عميقة جذوره في النسيج الاجتماعي. فأي مكان أفضل من ذلك لتجنيد الجهاديين وتدريبهم؟ لكن كما قلتُ، كان الآتشيون شديدي الافتخار بأنفسهم، ولم تكن بهم حاجة إلى مختل جاوي يثير المتاعب بينهم بأفكاره الغريبة حتى يتحولوا إلى التطرف.
علاوة على ذلك، بدا أخيرًا أن الأحوال في إندونيسيا شارعة في التغير. ففي الانتخابات الأخيرة في عام ٢٠٠٩، أُجبرت الأحزاب الإسلامية للمرة الأولى في عشر سنوات على التراجع، وأحد أسباب ذلك أن أفرادًا كثرًا كانوا قد ضاقت صدورهم بالعنف والقتل الدائمين، وبدعوات العنف والقتل، وبالغطرسة والإرهاب، وبالثورة الإسلامية الدائمة.31 ومن ذروة تأييد نسبتها ٣٨ بالمائة للأحزاب الإسلامية العشرة كلها، تقلص التأييد إلى أقل من ٣٠ بالمائة. ولا يزال ذلك رقمًا عجيبًا، لكنه ربما يكون دليلًا على أنه عندما يُطلب إلى الإسلاميين المشاركة في الحكومة، فإنهم يخضعون للقواعد التي يخضع لها السياسيون الآخرون، وعندما يعجزون عن تقديم الإجابة المنشودة، يولي الناخبون ظهورهم إليهم. وهذا، بلا ريب، هو سبب تردد الإسلاميين في مصر وتونس في السعي وراء السلطة السياسية الحقيقية. فعلى نحو ظاهر الأهمية، يبدو في ذلك الوقت أن الزمرة السياسية المتعصبة المتمثلة في «حزب العدالة المزدهرة» قد وصلت إلى الكتلة الحرجة وعلقتْ عند تأييد نسبته نحو ٨ بالمائة.
وسط ذلك المناخ من الثقة المتنامية بحذر، تعززها التقارير الصحفية في الصحف العالمية والمحلية الأكثر انتشارًا — التي يمكن، لو يوجد ما يكفي منها، أن يؤدي ذلك إلى اختلاقهم الحقيقة التي يسعون إلى وصفها — أدركت المؤسسة السياسية أخيرًا أن بمقدورها «قتل» باعشير. فلم تكن ستكرر خطأ الظهور بمظهر المضطهِد لواعظ مبجل بسبب آرائه الدينية أو خطأ قمع صوت معارض باتهامات بالخيانة. هذه المرة، كانوا ينوون اتباع القواعد اتباعًا صارمًا واتهامه صراحة بخرق قوانين الإرهاب والقوانين الجنائية، وتمثلت أخطر التهم في جمع تبرعات لمعسكر تدريبي شبه عسكري.32 وهذه المرة ثبتت عليه التهمة، وفي يونيو ٢٠١١ حكم على باعشير بخمسة عشر عامًا في السجن.

•••

أحد الأحداث الجانبية الطريفة التي تخللت تلك التطورات شديدة الخطورة كان «قضية المصافحة»، التي تسببت لفترة وجيزة في توجيه مزيد من الاهتمام العالمي إلى وزير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إندونيسيا. تيفاتول سيمبرينج هو قائد «حزب العدالة المزدهرة»، وتقلده هذا المنصب يوضح — عند النظر إلى التأييد الضعيف الذي يتمتع به حزبه — أن خطر الإسلاميين في إندونيسيا لم يزُل قط. ولا يستطيع تيفاتول، بصفته الرسمية، أن يهنئ نفسه على مبادرته لتنقية الإنترنت من «المحتوى السلبي» فحسب، بل أيضًا على تبني إسهامات في عدد من الموضوعات الواقعة خارج دائرة اختصاصه، مثل المطالبات بتطبيق الشريعة الإسلامية والفصل التام في الملأ بين الرجال والنساء الأجانب دائمًا. مع ذلك، أصر أنه ليس وهابيًّا،33 وهو اعتراف عام يتضمن أملًا في أن تأثير الوعاظ السعوديين داخل إندونيسيا ربما يكون آخذًا في الأفول. يظهر في المشهد أوباما — في مهمته عام ٢٠١١ المتمثلة في تنوير العالم الإسلامي — وزوجته المشرقة ميشيل. ومن ينبغي له أن يعتصر ذراع السيدة الأولى، ليس بيد واحدة بل بكلتا اليدين، ضاحكًا ملء فيه؟ إنه تيفاتول سيمبيرينج ذو المعتقدات الأصولية. وعندما سُئل تيفاتول عن ذلك، ادعى في البداية أنه «أُجبر» على ملامسة سيدة يعرف الجميع أنها ليست بأخته أو بزوجته. لكن الوزير لم يحسب حسابًا لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وعندما ظهر على الفور فيديو للمصافحة على الإنترنت، اضطر إلى التراجع على نحو مخزٍ عن كلامه.
الصواب والخطأ عند الإسلاميين: «كلاهما المشكلة»، كذا قال البرلماني العلماني بوديمان سوجاتمكو متحسرًا وأضاف: «لا تسألوني ما الأفضل أو الأسوأ.»34 نحتاج إلى نظرة واحدة إلى قدوة تيفاتول — المملكة العربية السعودية — لكي تتكون لدينا على نحو أفضل صورة خاطفة للمستقبل الذي يمكن أن يكون في انتظار إندونيسيا. في المملكة العربية السعودية، يسيطر على رجال الدين هلع واضح لأدنى إشارة إلى ما يميلون إلى أن يطلقوا عليه «إهمال الحجاب»، وتجازف المرأة بخرق القانون لمجرد خروجها من المنزل دون اصطحاب محرم، وممارسة الجنس خارج إطار الزواج يعاقب عليها القانون، نظريًّا، بقطع الرأس والرجم. غير أن ٧٠ بالمائة من الزيجات بالدولة يقال الآن إنها من نوعية «زواج المتعة»، التي يمكن أن تستمر لمدة بضع ساعات، وغالبًا ما تكون غطاءً لا يكاد يُخفي حقيقة البغاء. والبغاء الصريح — مع حظره رسميًّا ومعاقبة مرتكبيه أشد العقاب — ينتشر في طبقات المجتمع السعودي كله، بل تداهم الشرطة الدينية بيوت الدعارة في مدينتي مكة والمدينة المقدستين مداهمة منتظمة. ولعل ذلك كله يمكن التغاضي عنه إذا كانت النتيجة هي تمكن الأفراد من ممارسة أعمالهم الخاصة دون مضايقة، شريطة ألا يجاهرون بمخالفاتهم. هذا هو النحو الذي سارت عليه الأمور تاريخيًّا، لكن ليس بعد الآن. اشتهرت جاكارتا طوال فترة في بداية الألفية بأنها عاصمة المتعة بجنوب شرق آسيا. اختار أوباما هذا البلد ليلقي خطابه الأخير للعالم الإسلامي تحديدًا، من أجل ذكرياته السعيدة عن تسامحها التقليدي الذي عاينه طفلًا في جاكارتا. لكن مشهد الرجال والنساء وهم يرتدون على نحو مهلهل الزيَّ القبلي البدوي بات شائعًا الآن، وسواء أتراجع الإسلاميون أم لم يتراجعوا كقوة سياسية، فقد كتب لهم النصر الفعلي في أماكن عديدة كقوة اجتماعية. وعاقبة ذلك على المسلم العادي هي صيرورة الأمور إلى درجة التعقيد نفسها الموجودة في شوارع الرياض. فالأكاذيب التي بات المسلمون العاديون بحاجة إلى قولها علانية تزداد، وثمة حاجة دائمة إلى التنكيل العشوائي بمخالفين بائسين قد يعاقَبون اليوم على ما بدا حتى الأمس فقط محل قبول واسع.

•••

«نريد حريتنا حتى يتسنى لنا تكوين أحزاب سياسية في مجتمع مدني تعددي.» كذا قال عضو طالب من جماعة الإخوان المسلمين بمصر وأحد المشهود لهم بالاعتدال، لإذاعة «بي بي سي» البريطانية في مارس ٢٠١١. ومن الجدير بالملاحظة أنه بعد ذلك استشهد بماليزيا كمثال للبلد المسلم الذي يود أن يرى مصر تسير على خطاه، وأردف: «لا يمكن أن تحكم علينا حتى تمنحنا الفرصة، نحن الإسلاميين نحتاج إلى فرصة.»35 إن الدرس الذي يتعلمه الشرق الأوسط من ماليزيا، والذي يتعلمه ذلك الإسلامي لو أنه كلف نفسه دقيقة واحدة لرؤية الحقيقة، واضح وضوح الشمس: لا يمكنك ضم الإسلاميين إلى جانبك، حتى مع ما قد يبدو على جنود الصف لديهم من محبة للديمقراطية. امنحهم قيراطًا في أرض الملعب، وسيستولون على الملعب كله، ويغيرون قواعد اللعبة؛ ليتأكدوا من أنهم فقط من سيظفر على الدوام. والأكثر أهمية من ذلك كله هو أنه لا يمكنك التغلب على الإسلاميين في الألعاب الرامية لأهداف بعيدة. فعند الحديث عن الصبر التام، ستكون لهم الغلبة على الدوام. التعريف الحقيقي للاعتدال هو معرفة الوقت الملائم للتوقف، وما يشترك فيه الإسلاميون في العموم هو أنهم لا يلينون لثانية. لقد بات انتقاد الإسلام — أو على الأحرى ما يعرِّفه الإسلاميون على أنه الإسلام — مرادفًا للمناداة بإلغاء سن التمييز (الذي يُسمَح معه بممارسة العلاقة الجنسية) في جلسة كاملة لمجلس الشيوخ الأمريكي. ما إن يتولى الإسلاميون الزمام حتى يصير لزامًا التعبير عن جميع الخلافات وفقًا لفهم الإسلاميين. ويتبخر — على الأقل في العلن — مثل ذلك التأييد الذي حظيت به الحركات العلمانية فيما مضى. في أغسطس ٢٠١١، قالت الناشطة الماليزية نورحياتي قبراوي — مخرجة أحد الأفلام الوثائقية عن القوانين الجديدة الأكثر تشددًا التي تحكم زي المرأة في بلدها — إن بعض النساء اللائي حاورتهن رفضن أن يظهرن وجوههن في الفيلم. ولم يفعلن ذلك لأسباب دينية، بل لأنهن خفن الانتقام. قالت نور أيضًا إن ماليزيا بلد يعيش في خوف من الإسلاميين الراديكاليين. «إذا لم تتبع التيار السائد، فستُعدَم دون محاكمة.» كذا قالت قبراوي، مضيفة أن الأشخاص الذين يعتنقون أفكارًا بديلة أو أكثر تقدمية «لا يجرءون على الجهر بها.»36

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤