الفصل الثاني

شلنج

١٧٧٥–١٨٥٤

(١) حياته ومصنفاته

في السادسة عشرة قصد إلى جامعة توبنجن فدرس فيها اللاهوت، ثم عكف على الفلسفة فقرأ كنط وفختي وسبينوزا، وانتقل إلى جامعة ليبزج فدرس فيها العلوم الطبيعية، على هذه الدراسات ستدور مرحلتان من مراحل ثلاث تمثل تطور فكره، بدأ المرحلة الأولى مبكرًا جدًّا إذ نشر في سنتي ١٧٩٤–١٧٩٥ مقالات شرح فيها نظرية فختي في المعرفة، ولكنه ما لبث أن تبين أن هذه النظرية لا تحتمل الطبيعة إلا بمثابة حد أو وسيلة مع أن للطبيعة وجودًا أقوى، فنشر «خواطر لأجل إقامة فلسفة طبيعية» (١٧٩٧) وهو مع ذلك يتصور فلسفته الطبيعية بمثابة ملحق لنظرية المعرفة عند فختي.

ثم عين أستاذًا بجامعة إيينا بفضل جوتي وشيلر وفختي (١٧٩٨) ومكث بها أربع سنين نشر خلالها الكتب الآتية: «في النفس العالمية» (١٧٩٨) و«رسم أول لمذهب في فلسفة الطبيعة» و«مدخل» إلى الكتاب المذكور أو «في فكرة العلم الطبيعي النظري» (١٧٩٩) و«مذهب التصورية الذاتية» (١٨٠٠) و«برونو أو في المبدأ الإلهي والطبيعي للأشياء» (١٨٠٢)، في هذه المرحلة الثانية فصل آراءه في الفلسفة الطبيعية متأثرًا بسينوزا والأفلاطونية الجديدة وعصر النهضة، وعارض فتحي وناقشه مناقشة حادة.

وتستغرق المرحلة الثالثة خمسين سنة تنقَّل أثناءها بين جامعات ڤورزبورج (١٨٠٣–١٨٠٦) وأرلنجن (١٨٢٠) وميونيخ (١٨٢٧) وبرلين (١٨٤١) وهو يحاضر ولا يكتب إلا قليلًا في الفلسفة الدينية بعد أن كان طبيعيًّا تصوريًّا، ونشر في ذلك كتاب «الفلسفة والدين» (١٨٠٤) و«بحوث فلسفية في ماهية الحرية الإنسانية» (١٨٠٩) وبعد وفاته نشر له «فلسفة الميثولوجيا» و«فلسفة الوحي» فله إذن فلسفتان: إحداهما طبيعية، والثالثة دينية.

(٢) الفلسفة الطبيعية

قال فختي بأنا خالص أو لا شعوري صنع اللا أنا، فيعترض شلنج بقوله: ليس اللا شعوري أنا أو ذاتًا، ولا لا أنا أو موضوعًا، إذ ليست توجد الذات بدون موضوع بعينها ويظهرها لذاتها، وليس يوجد الموضوع بدون ذات تتصوره، وعلى ذلك لا يمكن القول بأنه مطلق، ولا بلا أنا مطلق، من حيث إن كلًّا منهما شرط الآخر، فيلزم إمَّا أن ننكر المطلق، وهذا غير مستطاع، أو أن نضعه مثالًا صرفًا وراء الأنا واللا أنا، وراء كل تقابل، فنقول إنه ملتقى الأضداد جميعًا، وإنه منبع كل وجود؛ ومن ثمة لا ينبغي القول من المذهب التصوري إن الأنا يحدث اللا أنا، إذ ليس التفكير إحداث موجود، ولكنه إحداث صورة الموجود، ولا القول مع المذهب الحسي إن اللا أنا يحدث الأنا، فما التجربة إلا بداية العلم ثم نطبق عليها القوانين العقلية فتنطبق؛ مما يدل على أن للطرفين منبعًا مشتركًا، وفي الواقع إن الأنا واللا أنا، أو الفكر والوجود، أو الروح والطبيعة، صادران كلاهما عن مبدأ أعلى ليس هو أحدهما ولا الآخر، ولكنه يصير الواحد والآخر.

نستطيع تعيين الطبيعة بإتباع المنهج الثلاثي الذي استخدمه فختي بعد كنط وهو عبارة عن وضع قضية، ثم وضع نقيضها، ثم تركيبهما، إذ أن هذا منهج التفكير، فالطبيعة هي أولًا مادة وثقل أي جذب ودفع، وهي ثانيًا صورة أي نور ومغناطيس وكهربا وتركيب كيميائي، وهي ثالثًا مادة معضونة أي مركب المادة والصورة يبدو فيها النظام من الغايات والوسائل، على أن هذه الدرجات الثلاث لا توجد منفصلة، وإنما شأنها شأن الأفعال الفكرية الأولية الثلاثة، إن الطبيعية جميعًا معضونة: المادة روح ناعس، والروح مادة تنتظم، الجماد نبات بالقوة، والحيوان نبات أعلى، والدماغ الإنساني هاتمة التعضون، جميع الظواهر الطبيعية مظاهر متفاوتة لقوة واحدة هي النفس العالمية، ويرجع التفاوت إلى اختلاف النسب الكمية بين المادة والروح.

أما قوى الروح فتبدو في المعرفة والعمل والفن، المعرفة حسية وعقلية، بالحس يبدأ روح الطبيعة يدرك غيره، فهو بالحس يحطم الحواجز التي تحصر المادة في ذاتها، وبالعقل ينظم المعرفة الحسية، وبتمييز العقل بين نفسه وبين مفعوله يصير إرادة ويصير الأنا النظري أنا عمليًّا، العقل يخلق معانيه ومبادئه دون أن يشعر، والإرادة تشعر بأنها علة ما تحدث، وهذا الشعور هو الشعور بالحرية، فالحياة الروحية تنبعث من تفاعل العقل والإرادة، العقل يثبت اللا أنا، والإرادة تتحرر منه، وفي هذا التفاعل أو تعارض الروح والطبيعة، تقوم حياة النوع الإنساني أو التاريخ، وللتاريخ ثلاثة عصور: الأول يتميز بغلبة العنصر القدري وهذه هي القضية، أو المادة والعقل، أو العقل بغير إرادة، والعصر الثاني افتتحته روما ولم يزل، وهو عبارة عن رد فعل من جانب العصر الإرادي ضد القدر، والعصر الثالث وهو المستقبل سيكون مزاجًا من هذين العنصرين، وهكذا سيتحقق المطلق شيئًا فشيئًا، أي يتحقق المثال فيصير وجودًا، دون أن يتحقق كله نهائيًّا من حيث إن الزمان غير متناهٍ، على أن باستطاعة الإنسان أن يرتفع إليه بالحدس الفني، فإن الشعور بالجمال في الطبيعة والفن أرفع صور الحياة الروحية، و«الفن هو الطريقة الوحيدة التي تشهد بما تعجز الفلسفة عن التعبير عنه، أي باللا شعور في العمل وفي الصنعة، وبأن اللا شعور والشعور شيء واحد يظهره على اتحاد ما يبدو منفصلاً في الفكر وفي الطبيعة»؛ أي إن الفن هو الطريقة الوحيدة لتصوره وحدة الفكر والطبيعة، وحدة العارف والمعروف، وأن عنده تمحى متناقضات الوجود، وبنوع خاص التناقض بين النظر والعمل. فهذه الفلسفة الطبيعية التي تنتهي إلى تصوف فني هي في الواقع بعث لمذهب المادة الحية الذي بدأت به الفلسفة اليونانية والذي اصطنعه غير واحد من الأطباء والكيميائيين في عصر النهضة الحديثة دون أي تقدم فلسفي أو علمي، وكل ما هنالك تكديس للمعارف وبراعة في عرضها والربط بينها.

(٣) الفلسفة الدينية

تصدى شلنج لتصحيح فختي، فقام تلميذ له يصححه هو ويفلح في تحويله عن الجادة، نشر هذا التلميذ كتيبًا بعنوان «الفلسفة في انتقالها إلى اللا فلسفة» قال فيه إن الفلسفة عاجزة عن تفسير خروج الكثرة المتنوعة من الواحد المطلق، وإن الاعتقاد بإله خالق يحل هذا الإشكال، فالفلسفة تؤدي إلى الدين، وهو أعلى منها، فعني شلنج بهذه المسألة واعترف (في كتابه «الفلسفة والدين») باستحالة استنباط الكثرة والتضاد من الوحدة المطلقة، وآمن بإله شخصي أي بإله هو إرادة أولًا وقبل كل شيء، إرادة محض سابقة على كل تعقل وكل إرادة شعورية، إرادة نازعة إلى الوجود الشخصي والشعور. ولا تنمو الشخصية إلا بمصارعة قوى معارضة فيجب التسليم بتعارض أصيل في الذات الإلهية، وهو تعارض ينتهي إلى الانسجام بتطور الحياة الإلهية، دون أن يعني هذا التطور تعاقبًا في الزمان، إذ ليس في الله بداية ونهاية، بل هناك حركة دائرية سرمدية، وهذا النزوع الإلهي إلى الوجود، أو هذه «الأنانية الإلهية» علة الأشياء جميعًا، ويسهب شلنج في تفصيل هذه الفكرة العامة، ويعود إليها في كتابه «ماهية الحرية الإنسانية» وهو أكبر كتاب دوَّنه في فلسفة الدين، وما هذه الفكرة العامة إلا صورة مأخوذة من الإنسان؛ فإن الإنسان في البداية جملة من القوى والنزاعات المتعارضة، فيختار بينها فتعيين شخصيتهـ وشلنج صادر فيها رأسًا عن المتصوفين المريبين، من إيكارت إلى جاكوب بوهمي، وقد عكف على قراءتهم، ولا تختلف فلسفته الدينية عن فلسفته الطبيعية إلا في تصور المطلق؛ فقد كان رآه مثالًا صرفًا وحاول أن يستخرج الأشياء منه بجدل عقلي، ثم عاد فرآه إرادة تخرج الأشياء منها بالنزوع.

وقد دعي هذا الانتقال من الجدل إلى الإرادة، انتقالًا من الفلسفة السلبية إلى الفلسفة الإيجابية، ووجد في هذه ميزة كبرى على تلك، هي أن الجدل لا يوصل إلا إلى الممكنات والقوانين الكلية، بينما الوجود العيني يقتضي قدرة وإرادة، ولكن لب فكره لم يتغير، هذا اللب هو الأحادية أو وحدة الوجود مركبة على ضرب من الجدل هو أقرب إلى القصص الأسطوري منه إلى الاستدلال الفلسفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤