الفصل الثالث عشر

نظام العالم: السير إسحاق نيوتن١

النظريات الرياضية Principia Mathematica
كان كتاب «النظريات الرياضية للفلسفة الطبيعية Philosophiae Naturalis Principia Mathematica» للسير إسحاق نيوتن أشهر جميع الكتب ذات التأثير العميق على أمور البشر كما أنه ما من كتابٍ من تلك قرأه أشخاصٌ أقل ممن قرءوا ذلك الكتاب؛ فقد كتبه مؤلفه في تؤدةٍ باللغة اللاتينية الفنية البالغة الغموض والموضحة بالكثير من الأشكال الهندسية المعقدة. وبذا اقتصرت قراءته على علماء الفلك والرياضيات والطبيعة الواسعي الاطلاع.

وقال واحد من أشهر كتاب حياة نيوتن: إنه عندما نشر كتاب مبادئ الرياضيات في الربع الأخير من القرن السابع عشر، لم يكن هناك على قيد الحياة من استطاع فهمه، أكثر من ثلاثة أو أربعة رجال. وزاد كاتبٌ آخر هذا العدد إلى عشرة أو اثني عشر. وقد اعترف نيوتن نفسه بأنه «كتاب صعب»، ولكنه لم يبد أية أعذار لكونه صمَّمه على ذلك النحو ولم يجعل به أية تسهيلاتٍ للأميين رياضيًّا.

ورغم هذا، يقرر مشاهير رجال العلوم أن نيوتن من أعظم الشخصيات الفكرية في العصر كله؛ فوصف لابلاس Laplace العالم الفلكي الفرنسي الألمعي، كتاب النظريات الرياضية بأنه «المتفوق على جميع ما أنتجته العبقرية البشرية.» وأكد لاجرانج Lagrange عالم الرياضيات الذائع الصيت، أن نيوتن أعظم نابغة عاش على وجه الأرض. وصف بوليزمان Boltzmann رائد العلوم الطبيعية والرياضية الحديثة، ذلك الكتاب بأنه أول وأعظم كتاب أُلف في العلوم الطبيعية الرياضية في العالم كله. وأبدى العالم الفلكي الأمريكي الشهير كامبل W. W. Campbell ملاحظته قائلًا: «الجلي لي أن السير إسحاق نيوتن الجدير بحق بأن يكون أعظم رجلٍ في العلوم الطبيعية الرياضية في جميع عصور التاريخ، يتمتَّع بمكانةٍ فريدة بأنه الرائد العظيم في العلوم الطبيعية الفلكية.» وكذلك كتبت تعليقات روَّاد علوم الطبيعة في القرنَيْن ونصف القرن الماضية، بمثل ذلك الثناء والإجلال والتمييز. ويجب على العلمانيين أن يتقبلوا حكم هؤلاء على هذه الحقائق المبنية على النتائج.

وُلد نيوتن بعد وفاة كوبرنيكوس بمدة قرن بالضبط، وفي نفس السنة التي مات فيها جاليليو، كوَّن هذان العملاقان في عالم الفلك ومعهما يوحنا كبلر، الأسس التي بنى نيوتن نظرياته عليها.

كان نيوتن ساحرًا رياضيًّا في عصر علماء الرياضيات الموهوبين. وكما أشار مارفين Marvin: «كان القرن السابع عشر عصر ازدهار الرياضيات، كما كان القرن الثامن عشر عصر ازدهار الكيمياء، والقرن التاسع عشر عصر ازدهار علوم الأحياء، ورأت الأربعون سنة الأخيرة من القرن السابع عشر خطوات تقدُّمية أكثر من أية فترة في التاريخ كله.» فقد جمع نيوتن في نفسه أعظم العلوم الطبيعية — الرياضيات والكيمياء والطبيعة والفلك — إذ كان بوسع العالم، في القرن السابع عشر، قبل عصر التخصُّص، أن يستوعب كافة المجالات.
وإذ وُلد نيوتن في يوم عيد الميلاد لسنة ١٦٤٢م رأى في أوليات سني حياته سقوط حكومة الكومنولث لرئيسها أوليفر كرومويل Oliver Cromwell، والحريق العظيم الذي دمَّر لندن عن آخرها، والطاعون المستشري الذي قضى على ثلث سكان تلك المدينة. وبعد ١٨ سنة قضاها نيوتن في قرية وولثورب Woolsthorpe الصغيرة، أُرسل إلى جامعة كامبريدج حيث ساعده الحظ بأن وضعه تحت إرشاد مدرس عبقريٍّ كفء هو إسحاق بارو Isaac Barrow أستاذ الرياضيات الذي أُطلِق عليه اسم «الأب العقلي» لنيوتن. لمس بارو النبوغ في نيوتن الشاب، فشجع ذلك النبوغ النامي وحفزه. وبينما كان نيوتن ما زال طالبًا في الكلية اكتشف نظرية ذات الحدين.
أقفلت جامعة كامبريدج أبوابها سنة ١٦٦٥م بسبب الطاعون، فعاد نيوتن إلى الريف. ظل معظم السنتين التاليتين معزولًا عن العالم، فكرَّس نفسه للتجارب العلمية والتفكير، فكانت النتائج مدهشة؛ فقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره قام بثلاثة اكتشافات أعلَتْ قدره ووضعته في مصاف العقول العلمية الفذة لجميع العصور. فأولًا اخترع حساب التفاضل الذي أطلق عليه نيوتن اسم Fluxions لأنه يدخل في جميع مسائل الزيادة وحركة الأجسام والتموجات، وضروري لحل المسائل الطبيعية، ويتناول كل نوعٍ من الحركة. «يبدو أنه يفتح الأبواب الجانبية لمخزن الكنوز الرياضية، ويضع عالم الرياضيات تحت أقدام نيوتن وأتباعه.»

أما الاكتشاف العظيم الثاني لنيوتن فهو قانون تركيب الضوء، الذي بموجبه أخذ يحلِّل الألوان والنور الأبيض، فبرهن على أن ضوء الشمس الأبيض يتألَّف من جميع ألوان قوس قزح. إذن، فاللون خاصية للضوء، وظهور الضوء الأبيض — كما أوضح بالتجربة بواسطة منشور — ينتج عن اختلاط ألوان الطيف. وبالمعارف التي اكتسبها نيوتن من هذا الاكتشاف، استطاع أن يصنع أول تلسكوب عاكس ذي نتائج باهرة.

أما الفكرة الثالثة فجديرة بالملاحظة العظمى، وهي قانون الجاذبية العام الذي يُقال إنه أثار خيال العلماء أكثر مما أثاره أي اكتشاف نظريٍّ آخر في العصور الحديثة. فتبعًا لقصة موثوق بها، جاءت هذه الفكرة لنيوتن عندما لاحظ سقوط تفاحة، فساقته إلى صياغة هذا القانون. لم يكن هناك جديد على فكرة جذب الأرض للأجسام القريبة من سطحها، ولكن ما أسهم به نيوتن في الذخيرة العلمية هو تخيله العظيم الذي جعل قانون الجاذبية هذا عالميًّا في استخداماته: للأجرام السماوية قوة جذب لا تقل عن قوة جذب الأرض. وبعد ذلك قدَّم البرهان الرياضي لنظريته.

الغريب أن نيوتن لم ينشر شيئًا عن هذه الاكتشافات الثلاثة البالغة الأهمية؛ التفاضل والألوان والجاذبية، وإذا كان ذا طبيعة مولعة بكتمان أسراره والاحتفاظ بمعلوماته في طيات صدره، فإنه كان يمقت ملاحظات الجمهور ومجادلاتهم. وعلى ذلك كان يميل إلى حجز نتائج تجاربه، وكل ما نشره فيما بعد كان تحت ضغط أصدقائه، ثم ندم بعد ذلك على خضوعه لهم واستجابته لتوسلاتهم؛ فقد نجم عن ذلك النشر أن قام زملاؤه العلماء بنقد مؤلفاته والمجادلة فيها، وهذا ما كان يشمئز منه نيوتن بسبب طبيعته الحساسة.

بعد الاعتزال الإجباري والفراغ بسبب سنوات انتشار الطاعون، عاد نيوتن إلى كامبريدج، ونال درجة أستاذ وعُيِّن زميلًا في كلية ترنيتي Trinity. وبعد ذلك بفترة قصيرةٍ تقاعد أستاذه السابق بارو، فصار نيوتن وهو في السابعة والعشرين من عمره أستاذًا للرياضيات، وهذا مركز احتفظ به نيوتن لمدة السبع والعشرين سنة التالية. لم يُسمع عن نيوتن في العشر أو العشرين سنة الأولى سوى القليل. والمعروف أنه استمر في أبحاثه عن الضوء، ونشر صحيفة عن اكتشافه عن الطبيعة المركبة للضوء الأبيض. وبعد هذا مباشرة، وقع في المجادلات؛ فأولًا كانت نظرياته عن الضوء تعارض النظريات السائدة وقتذاك، وثانيًا لأنه ضمن صحيفته حقيقة عن فلسفته للعلوم الطبيعية؛ فأكَّد في هذه الصحيفة وجهة نظره بأن الوظيفة الرئيسية للعلوم الطبيعية هي القيام بالتجارب المصممة بعناية، وتسجيل الملاحظات على هذه التجارب ثم صياغة القوانين الرياضية المبنية على النتائج. وكما قال نيوتن: «الطريقة المثلى لمعرفة خواص الأشياء، هي استنتاجها من التجارب.» ورغم اتفاق هذه النظرية تمامًا مع الأبحاث العلمية الحديثة، فلم تكن مقبولة تمامًا بحال ما في عصر نيوتن؛ إذ كانوا يفضلون المعتقدات المبنية على الخيال والعقل ومظهر الأشياء، وهي الموروثة عادة عن قدامى الفلاسفة، يفضلونها على البراهين وليدة التجارب.
غضب نيوتن لهجوم مشاهير العلماء على صحيفته، ولا سيما هويجنز Huygens وهوك Hooke، فقرر أن يتحاشى مثل هذا الغيظ مستقبلًا بألَّا ينشر شيئًا بعد ذلك، قائلًا: «لقد اضطهدت من جراء تلك المناقشات التي نجمت عن نشر نظريتي عن الضوء، حتى إنني لمت حكمتي في إعلان مثل هذه النعمة العظيمة كما لو كنت أجري وراء ظل.» كما عبَّر عن عدم التذوق الحاد للعلوم نفسها مؤكدًا أنه فقد «ولعه» السابق بها. وبعد مدة توسُّل إليه وتملُّق وأُلحَّ عليه في كتابة مؤلفه العظيم «النظريات الرياضية». والحقيقة هي أنه يبدو أن خلق هذا الكتاب جاء وليد الصدفة.
في سنة ١٦٨٤م قام بيكار Picard بحسابات دقيقة لمعرفة طول محيط الكرة الأرضية بالضبط لأول مرة. فاستخدم نيوتن المعلومات التي توصَّل إليها ذلك الفلكي الفرنسي مع نظرية الجاذبية؛ للبرهنة على أن القوة التي تُسيِّر القمر حول الأرض، والكواكب حول الشمس، هي قوة الجاذبية. تتناسب هذه القوة تناسبًا طرديًّا مع كتلة الأجسام المتجاورة، وتناسبًا عكسيًّا مع مربع المسافة بينها؛ ومن هذا ذهب نيوتن بعد ذلك ليبرهن على أن هذا هو ما يجعل أفلاك الكواكب إهليلجية الشكل. فقوة شد هذه الجاذبية هي التي تحافظ على دوران القمر والكواكب في أفلاكها موازنة القوة الطاردة المركزية لحركاتها.
وللمرة الثانية أخفق نيوتن في البرهنة على اكتشافه لظاهرة أعظم أسرار الطبيعة. وتصادف أن شُغل علماء آخرون في البحث عن حل لنفس هذه القضية. اقترح كثير من علماء الفلك أن الكواكب ترتبط بالشمس بقوة الجاذبية، كان من بين هؤلاء روبرت هوك أعظم نقاد نيوتن المتعصبين المعاندين، بيد أنه لم يستطع أي واحد من هؤلاء أن يقدم برهانًا رياضيًّا. في تلك الأثناء كان نيوتن قد حظي بشهرةٍ بالغة كعالم في الرياضيات، وزاره في كامبريدج العالم الفلكي إدمند هالي Edmund Halley يطلب مساعدته. وعندما بسط هالي قضيته، علم أن نيوتن حلها قبل ذلك بسنتين. وزيادة على هذا، وضع نيوتن القوانين الأساسية لحركة الأجسام المتحركة تحت قوة الجاذبية. وبطبيعة الحال، لم يكن نيوتن يعتزم نشر اكتشافاته.

أدرك هالي من فوره أهمية اكتشافات نيوتن، فاستخدم كل ما لديه من قوة الحث لإقناع نيوتن بوجوب نشر اكتشافه والإفادة منه. تأثَّر نيوتن بحماس هالي، وبشغفه هو نفسه الذي أشعل من جديد، فبدأ يكتب أروع مؤلفاته «النظريات الرياضية» الذي وصفه لانجر بأنه «خزان حقيقي لفلسفة الرياضيات، وأعظم المؤلفات الطريفة التي أنتجها العقل البشري.»

والظاهرة البارزة في كتاب «النظريات الرياضية» التي لا تقل أهمية عن غيرها، هي أنه استغرق في تأليفه ثمانية عشر شهرًا، شغل نيوتن إبَّانها لدرجة أنه كثيرًا ما كان ينسى طعامه ولا ينال غير قدر يسير من النوم، لا يستطيع إخراج مثل هذا العمل الذهني الضخم في مدةٍ وجيزة كهذه إلا التركيز المستمر والبالغ الشدة، والحق أن ذلك العمل أنهك نيوتن ذهنيًّا وبدنيًّا.

وزيادة على ذلك، لم ينعم نيوتن براحة البال إبَّان تأليفه لذلك الكتاب، وإنما أزعجته أيما إزعاج تلك المجادلات الدائمة ولا سيما من جانب هوك الذي ألحَّ في أن يكون له شرف اكتشاف نظرية التربيع العكسي للجاذبية في حركة الكواكب. وكان نيوتن عندئذٍ قد أتم ثلثي كتابه، فأغضبه ذلك الادعاء غير العادل لدرجة أنه هدد بحذف الجزء الثالث الأعظم أهمية. وهنا تدخل هالي مستخدمًا نفوذه وظل يلحُّ على نيوتن في أن يكمل كتابه حسبما خطط له أولًا.

لعب إدمند هالي دورًا في تاريخ كتاب النظريات الرياضية يستحق عنه أسمى تقدير، ليس فقط لأنه المسئول عن حث نيوتن على القيام بذلك العمل؛ بل ولأنه حصل على موافقة الجمعية الملكية على نشره ولم يذكر كل ما فعله في الإشراف النهائي لإخراج ذلك الكتاب من المطبعة. وأخيرًا عندما نكثت الجمعية الملكية وعدها بتمويل نشر ذلك الكتاب، قام هالي نفسه بسداد جميع النفقات من جيبه الخاص رغم كونه متوسط الحال ويعول أسرة.

بعد أن تخطَّى ذلك الكتاب جميع العقبات، خرج من المطبعة في سنة ١٦٨٧م في حجم صغير بيع بعشرة شلنات أو اثني عشر شلنًا للنسخة الواحدة. وظهر في الصفحة المخصصة لعنوان الكتاب واسم مؤلفه، ظهر اسم صموئيل ببيز Samuel Pepys رئيس الجمعية الملكية على أنه صاحب الترخيص لطبع ذلك الكتاب رغم أنه من المشكوك فيه، كما ذكر أحد النقاد: «ما إذا كان يفهم جملة واحدة منه.»

من الصعب عمل أي ملخصٍ لذلك الكتاب بلغةٍ غير فتية، إن لم يكن مستحيلًا، ولكن يمكن عمل بعض التوضيحات. يتناول المؤلف في جملته حركة الأجسام من الناحية الرياضية، وخصوصًا من حيث الديناميكا والجاذبية العامة للمجموعة الشمسية. فيبدأ بشرح حسابات التفاضل الذي اخترعه نيوتن واستخدمه في جميع العمليات الحسابية بذلك الكتاب. وبعد ذلك تعريف معنى الفضاء والزمن وبيان قوانين الحركة كما صاغها نيوتن مع الأشكال الموضحة لاستعمالها. فتقول النظرية الأساسية إن كل ذرة من المادة تجذبها كل ذرة أخرى من المادة بقوةٍ تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع مربع المسافة بينها وبين كل ذرة. كذلك بيَّن القانون الذي تخضع له الأجسام المتصادفة بعضها مع بعض. وقد شرح وعبَّر عن كل شيءٍ بصور هندسية كلاسيكية.

يتناول الجزء الأول من كتاب النظريات الرياضية حركة الأجسام في الفضاء الطلق، بينما يتناول الجزء الثاني الحركة في «وسط مقاوم» كالماء. وقد وضع نيوتن في اعتباره مسائل حركة السوائل وطرق حلها، وناقش طرقًا لتقدير سرعة الصوت وحركة الأمواج بالشرح الرياضي. وهنا وضع أساس علم الطبيعيات الرياضية الحديث والأيدروستاتيكا والأيدروديناميكا.

قوض نيوتن في الجزء الثاني ذلك النظام الكوني الذي وضعه ديكارت Descartes، والذي كان شائعًا وقتذاك تقويضًا تامًّا. فتبعًا لنظرية ديكارت: تتحرك الأجسام السماوية بناءً على حركة دوامية؛ فالفضاء كله، تبعًا لتلك النظرية مليءٌ بمادةٍ مائعةٍ خفيفةٍ تُحدث دواماتٍ في نقط معينة. فمثلًا تتألَّف المجموعة الشمسية من أربع عشرة دوامة أكبرها تضم الشمس. أما الكواكب فتدور كما تدور قطع الأوراق في دوامة الأعاصير الحلزونية. فسَّر ديكارت ظاهرة الجاذبية بهذه الدوامات، فلمَّا جاء نيوتن أخذ يُبرهن بالتجارب والعمليات الرياضية، وبذا أثبت أن «نظرية الدوامات تتعارض تمامًا مع الحقائق الفلكية؛ ولذا فهي بعيدةٌ كل البعد عن تفسير حركة الأجرام السماوية وتقلبها رأسًا على عقب.»

أما في الجزء الثالث، وعنوانه «نظام الكون» فقد بذل نيوتن قصارى ما في ذهنه؛ إذ تناول النتائج الفلكية لقانون الجاذبية، فكتب يقول عن نفسه:

«وضعت في الجزءين السابقين نظريات الفلسفة (العلوم)، تلك النظريات الرياضية وليست الفلسفية … هذه النظريات هي قوانين وشروط حركات معينة أو قدرات أو قوات … شرحتها هنا وهناك … تبعًا لأمور ذات طبيعة عامة … مثل كثافة الأجسام ومقاومتها والفضاء الخالي من جميع الأجسام، وحركة الضوء والصوت. يتبقَّى من نفس تلك النظريات أن أشرح هيكل نظام الكون.»

شرح نيوتن السبب في عدم جعله مُؤلفَه شعبيًّا، فقال:

«الحقيقة أنني ألَّفت الجزء الثالث عن هذا الموضوع بطريقةٍ شعبية كي يقرأه الكثيرون، ولكن حدث بعد ذلك أنني لما رأيت أن أولئك الذين لم يدرسوا تلك النظريات دراسةً كافية لا يمكنهم إدراك قوة النتائج في سهولة، كما أنهم لن يتخلوا عن العقائد والتعصبات التي تعودوها منذ عدة سنوات؛ لذا تحاشيًا للمنازعات التي قد تنجم بسبب ذلك، قررت اختصار مادة هذا الكتاب في صورة مقترحات (بالطريقة الرياضية) لا يقرؤها غير الذين استوعبوا النظريات التي تضمنها الجزءان السابقان استيعابًا جيدًا، كما أنني لا أشير على أحدٍ بدراسة كل نظريةٍ في الجزءين السابقَيْن لأنها تستغرق وقتًا طويلًا حتى من ذوي الدراسات الرياضية الطيبة.»

لهذا السبب، وُصف أسلوب كتاب «النظريات الرياضية» بأنه «بالغ الصعوبة ومكتوب بطريقة متناهية التعقيد لا يلجأ إليها إلا كاهنٌ سامٍ.»

استهلَّ نيوتن كلامه في هذا الجزء بذكر حقيقة أساسية تختلف عن النظريات الماضية تمامًا، وهي أنه ليس هناك فرق بين الظواهر الأرضية والظواهر السماوية، مؤكدًا أن الآثار المتشابهة في الطبيعة تنتج عن أسباب متشابهة. فمثلًا التنفس في الإنسان وفي الحيوان، وسقوط الأحجار في أوروبا وفي أمريكا، وضوء نار المطبخ وضوء الشمس، وانعكاس الضوء على الأرض وعلى الكواكب. وهكذا دحض الاعتقاد القديم القائل بأن العوالم الأخرى كاملة والأرض وحدها هي غير الكاملة، ولكن نيوتن أثبت أن الجميع يخضع لنفس القوانين المعقولة، كما قال ماك موراي Mac Murray: «يسبب النظام والعمل الرتيب حيث سادت الفوضى والغموض في العهد الماضي.»

هذا، وإن مجرد عمل قائمة بالموضوعات التي تناولها الجزء الثالث لمدهش حقًّا؛ فقد أثبت، بما لا يترك مجالًا للشك، حركات الكواكب وحركات توابعها حولها وأوضح طرق قياس كتل الشمس والكواكب، وناقش وفسَّر مواضيع كثافة الأرض واستقبال الاعتدالين الربيعي والخريفي ونظرية المد والجزر وأفلاك المذنبات وحركة القمر وكل الأمور المتعلقة بهذه المواضيع.

أثبت نيوتن، بواسطة نظريته عن «الاضطرابات»، أن الأرض والشمس تجذبان القمر، وهكذا يضطرب ذلك القمر بجذب الشمس رغم أن جذب الأرض له أقوى من جذب الشمس. وكذلك الكواكب عرضة للاضطرابات، وليست الشمس هي المركز الثابت للكون، على عكس المعتقدات السابقة، بل تجذبها الكواكب كما تجذب هي الكواكب فتتحرك بنفس الطريقة. وفي القرون اللاحقة أدَّت نظرية الاضطرابات إلى اكتشاف كوكبي نبتون وبلوتو.

أوجد نيوتن مقادير كتل الكواكب وكتلة الشمس بمقارنتها بكتلة الأرض، قدر كثافة الأرض بما يتراوح بين خمس وست مرات كثافة الماء (الكثافة التي يستعملها علماء الطبيعة اليوم هي ٥٫٥). وعلى هذا الأساس حسب نيوتن كتل الشمس والكواكب وتوابعها. وهذا عمل وصفه آدم سميث Adam Smith بأنه «فوق مدى العقل والعمل البشريين.»

تأتي بعد ذلك الحقيقة القائلة بأن الأرض ليست كرةً منتظمة التكور؛ بل مسطحة عند القطبين بسبب الدوران، فشرحها نيوتن وحسب مقدار التسطح. استنتج نيوتن بناءً على تسطح الأرض عند القطبين وانبعاجها عند خط الاستواء، أن الجاذبية لا بد أن تكون عند القطبَيْن أقل منها عند خط الاستواء — وهذه الظاهرة تفسِّر «الاستقبال» في الاعتدالين والحركة المخروطية لمحور الأرض على غرار الخذروف. وبدراسة شكل الكوكب أمكن تقدير طول الليل والنهار على ذلك الكوكب.

استخدم نيوتن قانون الجاذبية الكونية في بحثه عن أسباب المد والجزر. فعندما يكون القمر بدرًا يقع على مياه الأرض أقصى جذب، فينتج المد. كذلك تؤثر الشمس على المد والجزر. فعندما تكون الشمس والقمر على خط واحد، يبلغ المد ذروته.

كذلك هناك موضوع يحظى باهتمام الجميع ألقى نيوتن عليه النور، ألا وهو موضوع المذنبات. كانت نظريته أن المذنبات إذ تسير تحت جاذبية الشمس، تتخذ مسارات إهليلجية ذوات مدى بالغ البعد يحتاج قطعه العديد من السنين؛ لذا فإن المذنبات التي اعتبرتها الخرافات نذير شؤمٍ، تبوأت مكانها الصحيح كظواهر سماوية جميلة وعديمة الأذى، وقد استطاع إدمند هالي باستخدام نظريات نيوتن عن المذنبات، أن يتعرَّف على المذنب الشهير المعروف باسم «مذنب هالي». ويتنبأ عن موعد ظهوره بالضبط كل ٧٥ سنة، وما إن يشاهد المذنب حتى يمكن تحديد مساره مستقبلًا بالضبط.

ومن الاكتشافات العظيمة المدهشة التي قام بها نيوتن، طريقة تقدير بعد نجم ثابت، مبنية على كمية الضوء التي يمكن الحصول عليها بانعكاس أشعة الشمس من كوكب.

لم يبد كتاب «النظريات الرياضية» أية محاولة لشرح السبب وإنما شرح فقط الكيفية الكونية. وبعد ذلك رد نيوتن على التهم بأن طريقته كانت طريقة ميكانيكية بحتة، دون ذكر أية أسباب ولا نسبة إلى الخالق الأعظم، فأضاف اعترافه وإيمانه بالخالق في الطبعة الثانية لمؤلَّفه، فكتب يقول:

«لا يمكن إدراكُ هذا النظام البديع للشمس والكواكب والمذنبات إلا بتوجيه وسيادة كائن بالغ الذكاء والقوة … فكما أنه ليست لدى الأعمى أية فكرة عن الألوان، كذلك ليس لدينا أية فكرةٍ عن الكيفية التي يرى بها الله الكلي الحكمة، جميع الأشياء ويفهمها.»

كان نيوتن يعتقد أن وظيفة العلوم هي بناء المعلومات وتنميتها، وكلما كثر كمال معارفنا كثر اقترابنا من فهم السبب رغم أن الإنسان قد لا يكتشف قط قوانين الطبيعة العلمية الصحيحة.

لما كان كتاب «النظريات الرياضية» عملًا وليد الذكاء المفرط فإن المعجبين بنيوتن المتحمِّسين له، يؤكدون أنه لم يكتب في الفراغ. فكما ذكر كوهين Cohen:
«بُنيت نظريات نيوتن العظيمة على أعمال سابقيه، لقد أنتج الماضي السابق مباشرة، الهندسة التحليلية من ابتكار ديكارت وفورما Format، والجبر من ابتكار أوجترد Oughtred وهاريوت Harriot، وواليس Wallis وقانون الحركة لكبلر، وقانون الأجسام الهابطة لجاليليو. وكذلك أنتج قانون تكوين السرعات لجاليليو — وهو قانون يقول إنه يمكن تحليل حركةٍ ما إلى مركبات كل منها مستقلة عن الأخرى (فمثلًا تتألَّف حركة القذيفة من سرعة أمامية منتظمة وسرعة إلى أسفل ذات عجلة، مثل حركة جسم مطلق هابط) وهذا قليلٌ من كثيرٍ من المكونات الحاضرة التي تنتظر نظريات نيوتن العظمى، ولكن يبقى أمام عبقرية نيوتن أن تضيف إليها اللمسة الأخيرة العظمى، ليُبرهن أخيرًا ولآخر مرة كيف يسير نظام الكون تبعًا لقانون رياضي.»
كان من الجلي، كما ذكر جان Jeans أن العالم بحاجةٍ إلى رجلٍ بوسعه أن يُضيف النظريات ويستنتجها ويطليها، فوجد ذلك الرجل بامتياز رائعٍ في شخصية نيوتن.

اعترف نيوتن نفسه بأن «نظامه للعالم» علم ميكانيكا الكون مبنيٌّ على أعمالٍ بدأها كوبرنيكوس وأخذها عنه تيكو براهي وكبلر وجاليليو. وقال نيوتن: «إذا كنت قد رأيت أبعد مما رأى غيري من الرجال، فإنما ذلك لوقوفي على أكتاف العمالقة.»

والواقع أن السبب المحتمل للمعارضات والمناقشات التي ملأت حياة نيوتن، هو الاختمار الذهني السائد في عصره. كان الجو زاخرًا بالنظريات الجديدة التي فحصها عدد كبير من العلماء الأكفاء، ولا يدهشنا أن يكتشف رجلان نفس الاكتشاف في وقت واحد تقريبًا، وكلٌّ منهما مستقلٌّ عن الآخر. يبدو أن هذا حدث بالضبط في اكتشافي نيوتن الرئيسيين اللذين اكتشفهما لبينز وهوك. فاخترع لبنيز حساب التفاضل، وعدل هوك في نظرية الجاذبية الكونية بعد أن ابتكرهما نيوتن بوقتٍ ما. ولكنهما أعلناهما للعالم قبل نيوتن الذي أهمل في نشر مؤلفه.

استقبل معاصرو نيوتن كتابه «النظريات الرياضية»، في إنجلترا واسكتلندا بترحاب أكثر من استقبال الناس له في القارة الأوروبية، ولكنه استقبل ببطء في كل مكان، وكما تنبأ نيوتن، احتاج فهمه إلى مقدرة رياضية عظيمة، ومع ذلك فإن طريقة عرضه الخارقة جعلت الناس، حتى من كانت لديهم فكرة بسيطة عن مؤلفه، يُقبلون عليه. وشيئًا فشيئًا قَبِل العلماء في كل مكانٍ نظريات نيوتن، وفي القرن الثامن عشر سلموا بها في عالم العلوم.

يبدو أن نيوتن فقد كل متعة فعَّالة في الأبحاث العلمية بعد أن كتب «النظريات الرياضية»، رغم أنه عاش مدة أربعين عامًا بعد نشره، تسلَّم خلالها عدة تكريمات مشرفة؛ فَعُيِّن مديرًا لدار السكة، ومنحته الملكة آن Anne لقب فارس، وانتخب رئيسًا للجمعية الملكية منذ عام ١٧٠٣م حتى وفاته في سنة ١٧٢٧م، ورأى نشر الطبعتين الثانية والثالثة من كتابه. وعلى العموم قُدر أسمى تقدير ونال أعظم إجلال.

عدلت الاكتشافات العلمية في القرن العشرين في نظريات نيوتن أو أظهرت عدم ملاءمة بعضها، وخصوصًا فيما يتعلق بعلم الفلك. فمثلًا أكدت نظرية أينشتين في النسبية أن الفضاء والزمن ليسا مطلقين كما علم نيوتن. وعلى العموم، فكما ذكر بعض الثقات الحجة في العلوم والتكنولوجيا؛ أن تركيب ناطحة السحاب، وأمن جسر سكة حديدية، وحركة السيارة، وتحليق الطائرة، وملاحة السفينة عبر المحيط، وقياس الزمن وما إلى ذلك من الأدلة في حضارتنا المعاصرة، لا تزال تتوقف أساسًا على قوانين نيوتن. وكما كتب السير جيمس جانز: «ليست نظريات نيوتن مناسبة فقط فيما يختص بالتهذيبات البالغة السمو للعلوم الحديثة، بل وإن الفلكي عندما يريد إعداد تقويمه الملاحي أو مناقشة حركات الكواكب، يستعمل نظريات نيوتن وحدها تقريبًا. والمهندس الذي يريد تشييد جسر أو بناء سفينة أو تصميم سيارة، يعمل تمامًا ما كان يعمله في حالة ما إذا كانت نظريات نيوتن لم يبرهن على عدم مناسبتها. ونفس الشيء صحيح مع المهندس الكهربي سواء أكان يصلح تليفونًا أو يصمم محطة لتوليد الكهرباء. لا تزال العلوم المستعملة في حياتنا اليومية مبنيةً على قوانين نيوتن. ومن المستحيل تقدير ما تدين به هذه العلوم لعقل نيوتن الصافي والثاقب، الذي وضعها على الطريق الصحيح، وإن نظرياته لَراسخةٌ ومقنعة لدرجة أنه ما من أحد فهمها واستطاع أن يشكَّ في صحتها.»

لا بد للثناء والتقريظ اللذين نالهما نيوتن على لسان أينشتين أن يمحو أي قدح من الفلاسفة منافسيه «إذ كانت الطبيعة أمامه كتابًا مفتوحًا استطاع قراءة حروفه دون عناءٍ، لقد ضم في شخص واحد: العالم القائم بالتجارب، وصائغ النظريات والميكانيكي والمتفنن في التعبير.»

قدر نيوتن حياته وهو في آخر أيامه تقديرًا يتسم بالتواضع، فقال: «لست أدري ماذا أبدو أمام العالم، ولكني أبدو أمام نفسي كغلامٍ على شاطئ البحر، يتسلَّى من آنٍ إلى آخر بالعثور على حصاةٍ أكثر ملاسة أو صدفة أجمل من العادية بينما يقع محيط الحقيقة الخضم كله أمامي دون أن يكتشف.»

١  Sir Isaac Newton.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤