الفصل التاسع

قلب القارة والجزيرة العالمية: السير هالفورد ج. ماكندر١

المحور الجغرافي للتاريخ
في خلال فترةٍ تزيد قليلًا على عشر سنوات، بعد أن برهن القائد البحري ماهان، بطريقةٍ مقنعة ونهائية على عدم إمكان قهر القوة البحرية عبر التاريخ. غير أن إمكان استخدام مذاهبه في المستقبل، قد نسف بدرجة خطيرةٍ، إن لم يكن قد فند صحته، وذلك بعاملين جديدين؛ الأول من المملكة المادية وهو أولى التجارب الناجحة للأخوين رايت Wright في سنة ١٩٠٣م بطائرة قوية، وأما العامل الثاني ففي مملكة الأفكار: ورقة علمية كتبها في سنة ١٩٠٤م العالم الجغرافي الإنجليزي هالفورد ماكندر، الذي اشتهر بعد ذلك باللقب «أبو السياسة الجغرافية».

لم يعرف العالم على الفور في أية حالة من هاتَيْن تقع الأهمية المثيرة لهذَيْن الحادثَيْن، ومع ذلك فإن وجه الكرة الأرضية يجب أن يتغيَّر بهما تغيرًا مستديمًا.

لم يعد من غير المحتمل تفكُّك النظريات الثورية … في ٢٥ يناير سنة ١٩٠٤م قرأ ماكندر ورقته المشهورة «المحور الجغرافي للتاريخ»، في اجتماع الجمعية الجغرافية الملكية بلندن، وتقع تلك الورقة في ٢٤ صفحة مطبوعة، أي إنها لا تزيد على نشرة عادية، غير أن تحليلها الرائع للعلاقة المتبادلة بين الجغرافيا والسياسة في الماضي والحاضر خلال العالم كله، كان أفكارًا جديدة غزت تفكير القادة السياسيين الحربيين وعلماء الاقتصاد والجغرافيا والمؤرخين في كل مكان.

في نهاية الحرب العالمية الأولى، عدَّل ماكندر نظريته بتفصيل مطوَّل جدًّا عن «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية».

ورغم أنه لم يقم بتعديل أساسي على قضيته الأصلية، فهذا الكتاب وموضوعه السابق هما حجر الزاوية في العلم الحديث للسياسة الجغرافية، وهو إدماج الجغرافيا والعلوم السياسية معًا.

كان ماكندر في الرابعة والثلاثين عندما ألَّف محاضرته الشهيرة، كان أبوه طبيبًا ريفيًّا أرسله إلى كلية إبسوم Epsom في سنة ١٨٧٤م، ومنها إلى أكسفورد حيث كان سجَّل دراسته حافلًا بالألمعية، عُيِّن بعدها محاضرًا متجولًا لجامعة أكسفورد في علم الجغرافيا لمدة سنتَيْن، ثم عُيِّن معيدًا للجغرافيا في أكسفورد حيث جذب إليه مئات الطلاب بطرق تعليمه الحركية، وكان لإلحاحه على الجمعية الجغرافية الملكية أكبر الأثر في تمويل هذه الجمعية لأول مدرسة بريطانية في علم الجغرافيا بأكسفورد سنة ١٨٩٩م، وجعلت ماكندر مديرها. كما وجد متسعًا من الوقت في تلك السنوات ليحظى بشهرةٍ في تسلُّق الجبال، فقام بأول مغامرة صعودٍ إلى جبل كنيا Kenya بشرق أفريقيا، ومع استمراره في منصبه بأكسفورد، عمل معيدًا للجغرافيا الاقتصادية في جامعة لندن، ذلك المنصب الذي أدَّى إلى تعيينه مديرًا لمدرسة الاقتصاد بلندن في سنة ١٩٠٣م، وإذ أولع دائمًا بعلوم الاقتصاد، انتخب لعدة مراتٍ في البرلمان من سنة ١٩١٠–١٩٢٢م. ومع ذلك، كانت حياته العملية كلها، أولًا وقبل كل شيء، في الدوائر الأكاديمية، فكرَّس نفسه لتقدُّم الدراسة العلمية للجغرافيا، وخصوصًا الجغرافيا من حيث «وجهة النظر الإنسانية».
قدَّم ماكندر في كتابه «المحور الجغرافي للتاريخ»، الذي قدر له مثل رد الفعل الواسع ذاك. قدم أولًا نظريته عن الفضاء المقفل، وهي فكرة اشتهرت بعد ذلك بأربعين سنة بواسطة وندل ويلكي Wendell Willkie في مقال «عالم واحد»، اعتقد ماكندر أن «الحقبة الكولومبية» وهي حقبة أربعة قرون من الاكتشاف والتوسع الجغرافيين، قد انتهَتْ عند بداية القرن العشرين؛ فكتب يقول: «تمت حدود خريطة العالم في أربعمائة سنة، بدقة تقريبية.»

تتبع ماكندر نفس الفكرة في «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية»، فقال:

«وصلنا أخيرًا إلى القطب الشمالي فوجدناه في وسط بحر عميق، وإلى القطب الجنوبي فوجدناه فوق هضبة عالية. وبهذَيْن الاكتشافَيْن الأخيرَيْن، ختم كتاب الرواد، لم تلقَ هذه المغامرة جزاءها بالعثور على سهلٍ واسعٍ من الأرض الخصبة أو سلسلة جبال هامة، أو نهر من الطراز الأول. وزيادة على ذلك، ما كادت خريطة العالم ترسم قبل تمام ثبوت الملكيات السياسية لجميع أجزاء اليابسة … سار مبعوث الإرساليات والغازي والمزارع ومستغل الناجم، وحديثًا المهندس، سار هؤلاء جميعًا يتبعون من كثب خُطى الرحالة، حتى إن الدنيا في أقصى حدودها قلَّما اكتشفت قبل أن تقرر ملكيتها الحقيقية الكاملة. فقلَّما توجد منطقة في أوروبا أو في أمريكا الشمالية أو في أمريكا الجنوبية، أو في أفريقيا أو أستراليا، لم تثبت ملكيتها إلا نتيجة لحرب بين القوى المتحضِّرة أو نصف المتحضرة.»

في تسعينيات القرن الثامن عشر، عبَّر مؤرخٌ أمريكي بارع اسمه فردريك جاكسون ترنر Frederick Jackson Turner عن فكرةٍ مشابهة، ولو أن ذلك كان بطريقةٍ محدودةٍ عن الفضاء المقفل، بأن كتب عن الجبهة الماضية وأهميتها في التاريخ الأمريكي. والآن، يقرِّر ماكندر أن تلك الجبهة قد اختفت خلال العالم.

وصف ماكندر الآثار المحتملة لتمهيد ترنر، بقوله:

من الآن فصاعدًا، سيكون علينا ثانية، في العصر بعد الكولومبي، أن نتناول النظام السياسي المقفل، وسيكون أحد المجالات العالمية. فكل انفجارٍ في القوى الاجتماعية، بدلًا من أن يذوب في دائرة الفضاء غير المعروف المحيطة به، وفي الفوضى البربرية، فإنه سيرتدُّ بحدةٍ من الجانب البعيد للكرة الأرضية، وستتحطم نتيجة لذلك، تلك العناصر الضعيفة في الكيانَيْن السياسي والاقتصادي للعالم … نحسُّ الآن بكل صدمة وبكل كارثة أو فائض، كما يحس بها من يعيشون في الجزء المقابل لنا من الكرة الأرضية. وقد ترتد إلينا ممَّن يعيشون قبالنا … وهكذا يرتد صدى كل فعلٍ إنساني، ويرجع صداه ثانية … حول العالم.

وفي النظام المقفل الخاص بعصرنا، وخفة الحركة غير المحدودة المصاحبة له برًّا وجوًّا، نرى القوة البحرية السائدة، قد انقضى عصرها ومضى، تبعًا لرأي ماكندر. ولو كان هذا حقيقيًّا، إذن فقد جاء عصر قوة أرضية. فأين كان المركز الطبيعي للحقبة الجديدة؟ كان بالطبع في كتلة الأرض العظمى من العالم، أي في تلك المساحة الشاسعة التي أطلق عليها ماكندر اسم «المنطقة المحورية لسياسات العالم»، ومن بين خمس خرائط لتوضيح قضيته استحقَّت الأخيرة أن تسمَّى «المراكز الطبيعية للقوى»، وتصور «المنطقة المحورية». صوَّر ماكندر المحور الجغرافي في شمال وداخل المنطقة الأوروبا آسيوية، والممتدة من المنطقة القطبية الشمالية إلى الصحارى الوسطى، وغربًا إلى البرزخ العريض بين بحر البلطيق والبحر الأسود.

وتبعًا للتحليل التاريخي الذي يخصُّ به معظم مقاله، فإن أوروبا وبقية العالم ظلَّت لعدة قرونٍ تحت ضغطٍ مستمر من منطقة المحور.

«نالت أوروبا حضارتها تحت ضغط البربرية الخارجية إذن، فأنا أطلب منكم أن تنظروا لحظةً إلى أوروبا وإلى التاريخ الأوروبي على أنهما تابعان لآسيا وللتاريخ الآسيوي؛ لأن الحضارة الأوروبية، بمعنى حقيقي جدًّا، كانت نتيجة نزاع دنيوي ضد الغزو الآسيوي. وأهم تناقضٍ واضح في الخريطة السياسية لأوروبا الحديثة هو الذي تمثله مساحة روسيا التي تشغل نصف مساحة القارة، ومجموعة من الأراضي الصغيرة تسكنها القوى العربية.»

وبتتبُّع التقلُّص والامتداد في التاريخ الأوروبي أكمل ماكندر حديثه بقوله:

«لمدة ألف سنة، برزَتْ مجموعة من الشعوب راكبي الخيول من آسيا خلال الشقة العريضة الواقعة بين جبال أورال Oral وبحر قزوين Caspian sea، ساروا بخيولهم خلال المسافات المكشوفة لجنوب روسيا، واستقروا في المجر Hungary في قلب شبه الجزيرة الأوروبية نفسه، وكونوا بالمعارضة التي قابلتهم بطبيعة الحال، كوَّنوا تاريخ كلٍّ من الشعوب العظمى المجاورة — الروس والألمان والفرنسيين والإيطاليين والأغارقة البيزنطيين.»
ومن وجهة نظر التأثير الدائر، تركت غزوات المغول في القرنَيْن الرابع عشر والخامس عشر، أعمق الأثر، فاكتسحَتْ كثيرًا من أوروبا الوسطى وروسيا وفارس والهند والصين. جاءت تلك الغزوات مما أسماه ماكندر «منطقة المحور» و«كل الحدود المتفق عليها للعالم القديم، أحسَّت في الحال أو بعد وقتٍ بالقوة الهائلة لتلك السلطة المتحركة التي نشأَت في سهول الاستيس Steppe

أسقط ماكندر أشعة تاريخه على أزمنتنا، فرأى منطقة المحور تزيد من ثقلها في شئون العالم متمشية مع نموها في القوة الاقتصادية والحربية. ومن وجهة النظر التاريخية، رأى بالأدلة «إلحاحًا معينًا للعلاقة الجغرافية»؛ لأنه …

«أليست منطقة المحور لسياسة العالم هي تلك المساحة الواسعة أوران–آسيا، التي لا تستطيع السفن أن تصل إليها، ولكنها كانت في قديم الزمان مفتوحة أمام البدو راكبي الخيول، وعلى وشك أن تغطيها اليوم شبكة من السكك الحديدية؟ كانت، ولا تزال هنا ظروف تحرك القوة العسكرية والاقتصادية من نوع يصل إلى مدى بعيد، ولكنه نوع محدود. فروسيا تحل محل الإمبراطورية المغولية، وضغطها على فنلندة وعلى اسكنديناوة وعلى بولندة وعلى تركيا وفارس والهند والصين، يحل محل غارات رجال الاستيس الممتدة إلى الخارج. إنها تحتل المركز الاستراتيجي المتوسط في العالم كله، ذلك المركز الذي تحتله ألمانيا في أوروبا. يمكنها أن تضرب في جميع الجوانب، وتضرب من جميع الجوانب أيضًا ما عدا الشمال.»

يحدد ماكندر هلالين خارج منطقة المحور يضم الهلال الكبير الداخلي ألمانيا والنمسا والهند والصين بينما يضم الهلال الخارجي بريطانيا وجنوب أفريقيا وأستراليا والولايات المتحدة وكنده واليابان، والحقيقة أن قوة منطقة المحور لم تكن معادلة لدول الحافة الخارجية للهلالين، وهنا أبدى ماكندر خوفه العظيم بقوله: «قد يحدث هذا إلا إذا تحالفت ألمانيا مع روسيا، وفي هذه الحالة، يُصبح بوسع دولة المحور أن تمتدَّ فوق البلاد الساحلية للأورال–آسيا فتستعمل موارد قارية هائلة لبناء أسطول، وعندئذٍ تكون إمبراطورية العالم ظاهرة.»

اختتم ماكندر خطابه الشهير بالتأكيد بأنه تكلَّم بصفته عالمًا جغرافيًّا، وأشار إلى أن «التوازن الحقيقي للقوة السياسية في أي وقتٍ معين هو بالطبع حاصل ضرب الظروف الجغرافية، اقتصاديًّا واستراتيجيًّا في العدد النسبي للرجولة الكاملة والمعدات وتنظيم الشعوب المتنافسة.» وفي تقديره أن «الكميات الجغرافية في هذا الحساب أكثر قابلية للقياس وأكثر ثباتًا تقريبًا، من الكميات البشرية.» لن تتغير الأهمية الجغرافية لموقع المحور إذا سكنه شعبٌ آخر غير الشعب الروسي.

فمثلًا إذا نظَّم اليابانيون الصينيين لهزيمة الإمبراطورية الروسية واحتلال أراضيها، فإنهما تكونان الخطر الأصفر على حرية العالم لمجرد أنهما تضمان جبهة على المحيط إلى موارد القارة العظمى، وهذه ميزة حرم منها الروس ساكنو منطقة المحور.

أحس ماكندر، وهو يكتب عند نهاية الحرب العالمية الأولى «أن الحرب دعمت آراءه السابقة بدلًا من أن تهز كيانها.» ففي «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية» استمر في مناقشة «منطقة المحور» التي أشار إليها عندئذٍ على أنها «قلب القارة» الواقعة في وسط «الجزيرة العالمية».

لم تكن أوروبا وآسيا وأفريقيا، كما رآها ماكندر ثلاث قارات، بل قارة واحدة هي «الجزيرة العالمية»، وبما أن البحر كان فيما مضى مسيطرًا على تفكير الإنسان، فإنه لم يعتبر تلك الرقعة الشاسعة جزيرة؛ لأنه كان من المستحيل الإبحار حولها. فأشار ماكندر إلى أنه «يطفو فوق بحر القطب الشمالي طبقة من الثلج عرضها ألفان من الأميال، إحدى حافاتها على الأرض الضحلة في شمال آسيا. إذن، فليست القارة جزيرةً من حيث غرض الإبحار.» وباستثناء هذه الحقيقة، ومساحتها الشاسعة، فإنها لا تختلف عن الجزر الأخرى، وتطغى الجزيرة العالمية على بقية الأرض في كلٍّ من المسافة وعدد السكان. فمن ناحية الأرض، لهذه الجزيرة الثلثان، بينما الثلث الباقي للأمريكتين الشمالية والجنوبية وأستراليا والمناطق الصغرى الأخرى. وزيادة على ذلك فإن سبعة أثمان سكان العالم يقيمون في هذه الجزيرة، بينما يقيم الثمن فقط في بقية الأراضي الأخرى. إذن، فقد لاحظ ماكندر أن الدنيا القديمة هي «الوحدة الجغرافية العظمى في كرتنا الأرضية.»

وبعد أن أوضح ماكندر «نسب وعلاقات» الجزيرة العالمية، استطرد يقول:

«وُضعت، كما هي، على كاهل الأرض بالنسبة إلى القطب الشمالي، وإذا قسنا المسافة من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، بطول منتصف آسيا نجد أولًا ١٠٠٠ ميل من البحر المغطَّى بالثلج حتى الشاطئ الشمالي لسيبريا، ثم ٥٠٠٠ ميل من الأرض إلى الجزء الجنوبي من الهند، ثم ٧٠٠٠ ميل من البحر إلى الأرض المغطاة بالثلج عند القطب الجنوبي. أما إذا قسنا بطول منتصف خليج البغال أو البحر العربي فإن آسيا تبلغ ٣٥٠٠ ميل فقط، ومن باريس إلى فلاديفوستك Vladivostok ٦٠٠٠ ميل، ومن باريس إلى رأس الرجاء الصالح مسافة مساوية للسابقة.»

قال ماكندر: ليست الأمريكتان وأستراليا صغيرة نسبيًّا من حيث المساحة فحسب؛ بل وإن القوة البشرية والموارد الطبيعية التي فيها أقل بكثير مما في «القارة العظمى» أو «الجزيرة العالمية». ويسأل ماكندر: «ماذا لو أن القارة العظمى أو الجزيرة العالمية كلها، أو الجزء الأكبر منها، صارَت في وقتٍ ما، في المستقبل، قاعدة متحدة من القوة البحرية؟ ألَا تتفوق على القواعد الجزيرية الأخرى من حيث السفن والرجال المديرة لها؟» هذا، ورغم أن ألمانيا هُزمت فلا يزال هناك احتمالٌ أن جزءًا كبيرًا من القارة العظمى سيتحد في يومٍ ما تحت إمرة حكومة واحدة، وتبنى عليها قوة بحرية عظمى لا يمكن قهرها. وحذَّر ماكندر يقول: «لو كسبت ألمانيا الحرب لكونت قوتها البحرية على أساس أوسع من أية قوة في التاريخ، والحقيقة أنها ستكون على أوسع قاعدة ممكنة.»

لقلب قارة ماكندر أساسًا نفس حدود محوره السابقة؛ فقلب القارة هو المنطقة الوسطى في أوروبا وآسيا النائية، والبعيدة عن متناول سيطرة القوة البحرية. «وتشمل بحر البلطيق ووسط نهر الدانوب الصالح للملاحة، وجزءه من ناحية المصب، والبحر الأسود وآسيا الصغرى وأرمينيا وفارس والتبت ومنغوليا. إذن، يضم قلب القارة في داخله بروسيا براندنبرج Brandenburg Prussia والنمسا والمجر، وكذلك روسيا — إنها مثلثة الشكل ذات قوة بشرية عظيمة، كان يفتقر إليها راكبو الخيول التاريخيون» … ذكر ماكندر بحر البلطيق والبحر الأسود في هذه المنطقة؛ لأنه ثبت إبان الحرب العالمية الأولى استحالة الوصول إليها أو السيطرة عليهما من الخارج بأية قوة بحرية.
أكمل ماكندر قوله بتعريفٍ آخر لقلب القارة بأنه: «ظرف طبيعي هام واحد تربطه كله معًا، بيانيًّا، عند حافة جبال فارس المطلَّة على أرض العراق Mesopotamia الشديدة الحرارة، تحت الثلج في زمن الشتاء … وفي منتصف الشتاء كما نرى من القمر درع واسعة بيضاء وتظهر قلب القارة في أضخم معانيه … اقتنع ماكندر بأن هذه المساحة هي مفتاح الجزيرة العالمية. وتمتد إجمالًا من جبال هيمالايا إلى المحيط المتجمد الشمالي، ومن نهر الفولجا Volga إلى نهر يانجتسي Yangtze وتمتد مسافة ٢٥٠٠ ميل شمالًا وجنوبًا ومسافة ٢٥٠٠ ميل أخرى شرقًا وغربًا. ولما كانت بمأمن من القوة البحرية بسبب موقعها داخل القارة، ويمكن لقلب القارة هذا إذا نما نموًّا صحيحًا ونظم عسكريًّا، أن يصير مركز ومحور قوة عالمية ذات تأثير عظيم.»

اختصر ماكندر حججه إلى صيغة شائعة على الألسن، نصها:

«من يحكم شرق أوروبا يسيطر على قلب القارة،

ومن يحكم قلب القارة يسيطر على الجزيرة العالمية،

ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على الدنيا.»

ولكي يحال بين أية أمة واحدة، وخصوصًا روسيا أو ألمانيا، وبين التفوق في قلب القارة، إثر الحرب العالمية الأولى، نصح ماكندر بتكوين حاجز من الدول يمتص التصادم من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. والدول المستقلة كما يراها ماكندر هي إستونيا Esthonia ولتوانيا Lithuania وبوهيميا العظمى Great Bohemia والمجر والصرب العظمى Graet Serbia ورومانيا العظمى وبلغاريا واليونان — وهذه قائمة تختلف اختلافًا طفيفًا عمَّا قرره مؤتمر السلام في باريس. وعلى ضوء التاريخ الحديث، أخطأ ماكندر خطأً فاحشًا، فلم تحقق منطقة امتصاص الصدام الغرض المطلوب منها؛ إذ اخترقت ألمانيا هذا الحاجز أولًا، ثم روسيا.

وإبَّان الحرب العالمية الثانية في سنة ١٩٤٣م، قبل موت ماكندر بأربع سنين، اختبر نظرية قلب القارة للمرة الثالثة في مقال عنوانه: «العالم المستدير وكسب السلام.» فوجد فكرته «أكثر صحة ونفعًا اليوم مما كانت عليه منذ عشرين أو أربعين سنة مضت.» واستطرد يتنبَّأ بأنه: «إذا هزم الاتحاد السوفيتي ألمانيا في الحرب، فلا بد أن يكون أعظم دولة في الدنيا، وزيادة على هذا، سيكون القوة ذات المركز الاستراتيجي الأقوى في ناحية الدفاع. فقلب القارة أعظم حصن طبيعيٍّ على ظهر البسيطة، ولأول مرةٍ في التاريخ تسيطر عليه حامية كافية، كمًّا ونوعًا.»

لم تتشبث دولة ما بنظريات ماكندر مثلما فعلت ألمانيا النازية. وتبعًا لتفسير كارل هوشوفر Karl Haushofer، كاتب الموضوعات الجغرافية الكثير التصانيف، فإن فكرة ماكندر الأساسية عن قلب القارة الموجود في جزيرة عالمية، سادت الفكر السياسي الألماني لمدة عشرين سنة ١٩٢٥–١٩٤٥م.
اشتهر هوشوفر في وقت مبكر يرجع إلى سنة ١٩٠٨م عندما أوفد إلى اليابان كملاحظ حربي لموظفي القائد الألماني، فركز اهتمامه على استيعاب شئون الشرق الأقصى، صار معروفًا كخبير وعن طريق موهبة استثنائية لحفظ اللغات، تعلم التكلُّم بست لغات أجنبية منها الصينية واليابانية والكورية والروسية، كما أنه توسَّع في رحلاته ليلم عن كثبٍ بالشرقَيْن الأوسط والأقصى. رقى هوشوفر في الرتب العسكرية إبان الحرب العالمية الأولى، وتقاعد برتبة ماجور جنرال Major General وبعد استسلام ألمانيا، وللمدة الباقية من حياته العملية، شغل بالكتابة في الجغرافيا السياسية وتعليمها، والتاريخ الحربي في جامعة ميونيخ Munich. فسطَّر قلمه عدة كتب وكتيبات ومقالات للتفسير في المثل العليا النازية بكلمتَيْ سرٍّ هما: السياسة الجغرافية، وتتناول تحركات التغيرات السياسية في العالم أو فضاء السكنى Lebenstraum، ويقصد بها حاجة الشعب إلى أراضٍ للسكنى للتوسُّع والنمو.
لا نعرف متى عثر هوشوفر على مؤلف ماكندر لأول مرة، وربما كان هذا في أوائل عشرينيات القرن العشرين، وعلى الفور أدرك هوشوفر أنه عثر على أستاذه، فصرَّح من تلقاء نفسه بأنه مدين له. فمثلًا كتب في سنة ١٩٣٧م يصف ورقة ماكندر لسنة ١٩٠٤م بأنها «أعظم الآراء الجغرافية في العالم كله» ثم أضاف «أنه لم يرَ في حياته شيئًا أعظم من تلك الصفحات القليلة لروائع السياسة الجغرافية.» وبعد ذلك بسنتين ناقش موضوع تحالف ألماني روسي، مشيرًا إلى أن ماكندر اتخذ وجهة النظر البريطانية عن الخوف من القوة التي ستكون لتلك الدولتَيْن إن اتحدتا. وكثيرًا ما اسْتَشهد هوشوفر بحكمة أوفيد Ovid: «من الواجب أن نتعلَّم لغة العدو» … أعاد طبع خريطة ماكندر لقلب القارة أربع مرات على الأقل في مجلة Zeitschrift für Geopolitik واعترف بلا تردد، بأن أفكاره مبنيةٌ على الأساس الذي قدَّمه ماكندر.
كان صديقهما رودلف هيس Rudolf Hess حلقة اتصال بين هوشوفر وهتلر. فبينما كان هتلر في السجن بعد قضية خمارة بوتش Beer Hall Putsch الفاشلة لسنة ١٩٢٣م، زاره هوشوفر عدة مرات … أوضح هتلر في عدة فقرات من كتابه «كفاحي Mein Kampf»، أنه استقى من هوشوفر بعض مذاهب السياسة الجغرافية. ولما انتصر النازيون بعد ذلك بعشر سنين كان هوشوفر في مركز قياديٍّ يخوله التأثير على سياسة ألمانيا. وإذ عُيِّن رئيسًا لمعهد السياسة الجغرافية النازي، جنَّد عددًا ضخمًا من الموظفين ليذرعوا الأرض للحصول على معلوماتٍ عن الطبيعة والظروف المعيشية والأثر التهذيبي للشعوب، وغير ذلك من المعلومات الجغرافية ذات الأهمية الحربية القوية.

وإذ أعجب هوشوفر بأفكار ماكندر، تسلَّطت عليه فكرة أن ألمانيا لا بد أن تُسَيطر على قلب القارة. فانتشرت رسومه عبر القارة من نهر الراين إلى نهر يانجتسي، وتركزت على خطته لحدوث تحالف عملاق بين ألمانيا واليابان والصين وروسيا والهند ضد الإمبراطورية البريطانية … وقد وافقت هيئة الموظفين الألمانية العامة على تعاليمه وأيدتها. وبدأ توقيع الميثاق النازي السوفيتي في سنة ١٩٣٩م محققًا لحلم هوشوفر، غير أن سياسته كلها ذهبت أدراج الرياح عندما اقترف هتلر أعظم خطأ عجل بنهاية الحرب العالمية الثانية، عندما أمر قواده بأن يهاجموا الاتحاد السوفيتي، وبعدما انتهت الحرب بفترةٍ وجيزة، انتحر هوشوفر وزوجته في بيتهما البافاري.

وكما هو طبيعي، اتهم النقَّاد هوشوفر بأنه هو الذي وضع أساس المذهب الحربي النازي، بيد أن ماكندر دحض هذا الاتهام في الخطبة التي ألقاها عام ١٩٤٤م؛ إذ قال:

«علمت بسريان شائعات تقول إنني أوحيت إلى هوشوفر الذي أوحى إلى هيس، فاقترح هذا بدوره على هتلر، عندما كان يملي كتابه «كفاحي»، ببعض أفكار السياسة الجغرافية، يقال إنني مصدرها. إنها ثلاث حلقات في سلسلة، ولكني لا أعرف شيئًا عن الحلقتَيْن الثانية والثالثة. ومع ذلك، فإنني أعرف من دليل قلمه، أن كل ما اقتبسه هوشوفر منِّي أخذه من خطاب المحور الجغرافي للتاريخ الذي ألقيته أمام الجمعية الجغرافية الملكية منذ أربعين سنة خلت، قبل وجود أي مسألةٍ عن حزب نازي بزمن طويل.»

لم يكن انتشار مذاهب السياسة الجغرافية بالطبع قاصرًا على ألمانيا وحدها. فقلَّما كان الروس أقل نشاطًا من الألمان فهناك مكتب جغرافي مزدهر، هو معهد موسكو للاقتصاد والسياسة العالمية، الذي اهتم منذ وقت طويل بالنزاع بين الولايات المتحدة والجزيرة العالمية التي يأمل الاتحاد السوفيتي في السيطرة عليها. ومن الممتع في هذا الخصوص أن نذكر رأي ماكندر في روسيا عام ١٩١٩م عندما كانت الحكومة الشيوعية في حداثة عهدها. كان مقتنعًا بأن الفهد لا يغير مناطقه أبدًا. «يتعارض نوع الحكومة البريطانية والأمريكية والمثل العليا لعصبة الأمم، مع السياسة التي صيغت في قالب الطغيان لشرق أوروبا وقلب القارة سواء أكانت على نظام الأسرات dynastic أو بولشفية Bolshvik. قد تكون حالة الطغيان البولشفي رد فعل أقصى للطغيان الأسري، ولكن من الحقيقي أن السهول الروسية والبروسية والمجرية، مع تناسق حالاتها الاجتماعية المتسعة على نطاقٍ عريضٍ ملائمة لسير العسكرية ودعاية النقابية Syndicalism».
نوقِشَت صحة نظريات ماكندر الجغرافية نقاشًا طويلًا وأحصيت جميع النقاط التي يحيط بها أي شك. ومن العيوب الواضحة إخفاق ماكندر في أن يحسب حساب الإمكانيات الهائلة التي للقوة الجوية، ولكنه اعترف فيما كتبه بعد ذلك، بأن غزو الجو قد فرض على العالم نوعًا من الوحدة. إلا أنه أصرَّ على أن هذا التقدم قد أيد «قلب القارة»، نضال الجزيرة العالمية، ولم يضعفها — ويصر النقاد على أن القوة الجوية قد غدت سلاحًا رهيبًا إلى درجة جعلت نظرية قلب القارة تفقد أهميتها الاستراتيجية؛ فالخطوط الجوية تعبر الآن المحيطات والقارات من جميع الجهات، وكما علَّق هريك Herrick:

الهواء عالمي مشاع للجميع. إنه طريق واسع فرد يقطع حسب الإرادة فوق الأرض أو البحر على حدٍّ سواء، لا يصد القوة الجوية إلا قوة جوية، وهي لا تعرف قلب القارة البعيدة عنها تمام البعد … والقانون الاستراتيجي الآن قد يكون: «من يركب الطائرات يسيطر على القواعد، ومن يسيطر على القواعد يسيطر على الجو، ومن يسيطر على الجو يسيطر على العالم.»

يدعم وجهة النظر هذه فحص كرة أرضية حيث يرى المرء ما يجاور قلب القارة وأمريكا الشمالية مرئية من أمريكا الشمالية، وبمصطلحات وسائل المواصلات الحديثة. ويقول وايجرت Weigert: ما عادت استحالة الوصول ولا بعد الشقة يحجب عنَّا قلب القارة، لم تعد تقع خلف سور موقع منيع لا يمكن النفاذ إليه؛ إذ قهرت الطائرات الحديثة البعيدة المدى مناطق القطب الشمالي في الخمسين سنة بعد أن ألقى ماكندر تحذيراته المشئومة. وزيادة على ذلك، فإن نفس حجم قلب القارة عقبة كئود لقوة الدفاع، فذلك الطول العظيم لأراضي روسيا السوفيتية وسواحل البحار، مثلًا، تزيد من إمكان إصابة الطائرات المعادية، وتخلق مشكلة دفاع بالغة التعقيد. وبحسب ألفاظ ماكندر «بينما يمكن أن تَضرب من جميع الجهات، يمكن أيضًا ضربها من جميع الجهات.»

هناك نقطة هامة، وأخرى عميَ عنها ماكندر؛ إذ فشل في إدراك المركز القوي الذي تحتله الأمريكتان، وفي أثناء كتابته «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية»، شاهد منذ فترةٍ وجيزة في الحرب العالمية الأولى استعراضًا لقوة أمريكا وعنفها، ويبدو أنه كان مشغولًا بفكرة قلب القارة والجزيرة العالمية في نظرته إلى الأرض، وعلى ذلك لم ير الدنيا الجديدة إلا منطقة ساحلية و«مجرد تابع للقارة القديمة.»

ورغم مساوئ ماكندر التنبؤية فهناك أدلة قوية تؤيد آراءه … أقام الاتحاد السوفيتي حكمًا جديدًا على قلب القارة، وعن طريق التقدُّم الزراعي والصناعي واستغلال المعادن والسكك الحديدية وإنشاءات المجال الجوي، جعلت المنطقة من أقوى المناطق في العالم اقتصاديًّا وحربيًّا. ومن ناحية أخرى، فعلى الرغم من أنها بدأت عددًا من الخطط الخمسية في العشرين سنة الماضية، فلم تبلغ تلك المنطقة المقدرة الإنتاجية التي للولايات المتحدة، هذا وبرغم أن الاتحاد السوفيتي يحكم قلب القارة فإنه لا يزال بعيدًا عن هدفه من السيطرة على الجزيرة العالمية، فما بالك بالعالم.

كشف النقد ضعف بعض تفاصيل آراء ماكندر، ولكنه لا يفند الأسس الأصلية. ربما أن «الرأي الأول يمدنا بفكرة عالمية عن الدنيا وشئونها.» وتنص عبارة جون ك. واينانت John C. Winant على أننا سنتذكره لمدة طويلة. وقال ماكندر: «لا توجد منطقة جغرافية كاملة أصغر من سطح الأرض ولا أكبر منه.» كان آليًّا في الحصول على تصديق واسع للنظرية التي عبر عنها في وقت مبكر يرجع إلى سنة ١٨٨٩م وتقول: «إن باب الجغرافيا السياسية هو الباب المتوج للجغرافيا.» كان جل اهتمامه أن يحث مواطنيه وشعوب الديمقراطيات الأخرى على الإيمان بأن الحقائق الجغرافية ذات أهميةٍ أساسية في نمو الشعوب والدول. كان يؤمن ويعلم أن الدنيا لن تعيش في سلام للديمقراطية إلا إذا فهمت الحقائق الجغرافية فهمًا تامًّا. لقد وضعت أسس الجغرافيا الحديثة على آراء ماكندر عن العالم ومناطقه.
١  Sir Halford J. Mackinder.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤