الفصل الثاني عشر

مقابلة بالصدفة

لمدة ساعة كاملة الآن، كان مكارثي يتجوَّل في ضواحي سوهو في سيارة الأجرة الخاصة بويذرز، ولكن دون أن يجد أيَّ أثرٍ للرجل الذي يُريده. لقد أخذ يبحث عنه داخل وخارج محلات النبيذ والمطاعم الإيطالية الصغيرة التي يُفضلها الإيطاليون الأشرار الذين منهم فلو. وكان ماسكاني هو قائدهم بلا منازع، وقد أخَذ مكارثي يتجوَّل بهدوء من مكانٍ لآخر، لكنه لم يستطع معرفة أي شيء عنه من سكان سوهو ذوي الأصول الإيطالية. لم يكن مكارثي يعرف ما إذا كان ماسكاني قد اعتبر أنه من الحكمة الخروج من المدينة، أو الاختباء بأي نحوٍ بعد محاولة الدهس التي قام بها في ذلك الصباح لكنه شك في الأمر، حيث لم يكن لدى رجل العصابات سبب للاعتقاد بأنه قد رُصد من قبل أيٍّ من الضحيَّتَين المقصودتَين. ومن خلال معرفته الجيدة بالمفتش مكارثي، فهو كان سيصبح متأكدًا تمامًا في ذهنه من أن الشرطة كانت ستُرسل من يقبض عليه في غضون نصف ساعة من وقوع الحادث، وبما أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل، فلن يرى أي سبب للهروب، أو حتى التغيُّب مؤقتًا عن أماكنه المعتادة.

قال ويذرز مقترحًا: «ما رأيك لو تركتك في الشارع قليلًا وذهبت لتلمُّس الأخبار في حانة فازولي السيئة السمعة تلك، أيها الرئيس؟» وتابع: «إنَّ هذا المكان رغم حقارته يُسمَّى تشيركولو فينيتسيا. إنه المكان الرئيسي الذي يَقضي فيه أفراد عصابة ماسكاني وقتهم، على الرغم من أنه يكون مظلمًا للغاية، ولا يقتربون هم منه إلا قُبيل حلول الليل.»

أومأ مكارثي برأسه موافقًا. وقال: «فكرة جيدة، يا ويذرز.» وتابع: «أنا لم أنسَ ذلك الجُحر، لكنَّني أعلم جيدًا أني، شخصيًّا، لن أستطيع أن أحصل على أيِّ معلومات منه. لكن قد يكون الأمر مُختلفًا معك. اذهب لترى ما يُمكنك اكتشافه.»

عاد مرة أخرى في غضون خمس دقائق. وقال: «هناك سباق خيول في بلدة تشلتنهام اليوم أيها الرئيس، وهو وعصابته سيشهدونه. على أي حال، لقد ذهبت العصابة، وفازولي يظن أنه سيتبعهم على الأرجح.»

وافق مكارثي على ذلك قائلًا: «بكل تأكيد، يا ويذرز.» وتابع: «ما كان عليهم استقلال القطار المتَّجه إلى هناك قبل العاشرة صباحًا. وهذا يترك متَّسعًا من الوقت لماسكاني ليستقله بعد … بعد أن رأيته في وقتٍ مبكر من هذا الصباح.» وأضاف: «وفي هذه الحالة، يبدو أنه سيُمكنني الذهاب إلى مأدبة الغداء في مطعم فيري. وأثناء وجودي فيه، من الأفضل إيقاف سيارتك في مارلبورا ستريت والحصول على شيءٍ لتأكله أنت أيضًا. لا تقترب كثيرًا من محكمة الشرطة، وإلا فقد يَحتجزونك بالداخل.»

قال السيد ويذرز، وهو يَبتسِم بشدة: «لا تقلق، أيها الرئيس، لقد ذهبت هناك مرتَين وكان هذا على أي تقدير كثيرًا للغاية.» وأضاف: «وفيما يتعلَّق بالغداء، فإن غدائي يكون جاهزًا دائمًا في أي ساعة خلال أوقات الفتح. وبمجرد ملء كوبين جيدَين من مضخة الجعة، يُصبح كل شيءٍ جاهزًا للتقديم.»

حذَّره مكارثي قائلًا: «لا تُبالغ في الأمر يا ويذرز.» وتابع: «إن طرق مرتكبي المُخالفات المرورية ليست هينة هذه الأيام.»

صاح السيد ويذرز: «أنا أعلم أيها الرئيس.» وأضاف: «إنها كذلك! الاضطهاد العادل، أنا أدعوه.»

ومن ثم وصل مكارثي إلى ريجنت ستريت وتوجَّه إلى ذلك المطعم الشهير، والمفضل لدى الأثرياء والمتأنقين، ووجد هاينس يجلس بالفعل على طاولةٍ ينتظره. ورأى عددًا كبيرًا من الأوروبيِّين المرموقين، يتناولون وجبة الإفطار المتأخِّر التي اعتادوا عليها. فهو المطعم المفضَّل لذلك.

وجلست، بينهم، بمُفردها على طاولة بالقرب من إحدى النوافذ، واحدة من أجمل النساء التي تذكَّر مكارثي أنه رآها منذ فترة. لقد كانت تَرتدي ملابس بسيطة، لكنها باهظة الثمن، وكانت في المُجمل مشهدًا مُمتعًا لأي عين. وعندما جلس في مقعده، التفتت، ولاحظت على ما يبدو هاينس لأول مرة، فانحنت له. فأجابها على الفور بانحناءة تحمل عميق الاحترام. للحظة، اعتقد مكارثي أن هاينس سوف يتَّجِه إلى النافذة ويتحدث معها، لكنه أعطى انتباهه للنادل الذي تقدم بقائمة الطعام.

وبعد الانتهاء من طلب الغداء، سأل: «من هي تلك السيدة؟»

قال هاينس هامسًا: «البارونة لينا إيبرهارت.» وأضاف: «إنها صديقة قديمة جدًّا لي — أعني بهذا أنني قد التقيتُ بها عشرات المرات في مناسبات اجتماعية مختلفة.»

سأل مكارثي بلا مبالاة: «هل هي ألمانية؟» فقد بدَت له كذلك، بكل تأكيد.

«يا إلهي، كلَّا، إنها نمساوية. وهي تكره المعسكر النازي بشدَّة. إنها من فيينا؛ فهي واحدة من النبلاء النمساويين القدامى الحقيقيين. إنها تعيش هنا منذ سنوات؛ سنتين أو ثلاثٍ على الأقل. وتمتلك منزلًا قديمًا فخمًا في جروفينر سكوير.»

قال مكارثي: «حقًّا؟ يا للعجَب!» وتابع: «إذن فهي أكثر حظًّا بكثير من مُعظَم النبلاء النمساويين القدامى. فهم ليس لديهم أي منازل في أي مكان في الوقت الحالي، أو أموال، أيضًا.»

قال هاينس: «لقد كانت محظوظة بما يكفي لإخراج كل أموالها قبل وقتٍ طويل من تفكير هتلر في الاتحاد بين ألمانيا والنمسا.» وتابع: «ولم تكن أموالها قليلة، أؤكِّد لك ذلك. إن البارونة امرأة ثرية حقًّا.»

قال مكارثي، وهو يمدُّ يده لتناوُل الطعام: «كم أتمنَّى لو كنت ثريًّا أنا أيضًا!» ثم تابع بهدوء: «لقد لاحظتُ أن السيدة ما زالت تتطلع إليك بطرفٍ خفي، يا بيل. يبدو الأمر كما لو كانت تَعتقِد أنه يجب عليك الذهاب والتحدُّث معها.»

قال المفوض المساعد: «وهذا ربما ما ينبغي عليَّ فعله.» وأضاف: «لقد كنتُ ضيفها مرات عديدة. اسمح لي للحظة.»

ومن ثم اتجه إلى الطاولة، وتحدَّث إلى السيدة لمدة ثلاث أو أربع دقائق، والتي بدَت بطريقة ما وكأنَّ عينَيها الجميلتَين مثبتتان على مكارثي، بينما تتحدَّث مع رفيقه بحماس. كان هذا لدرجة أنه جعل ذلك الرجل الوسيم للغاية يشعر بالخجل بعض الشيء. وبعد بُرهة عاد هاينس.

وقال: «يا ماك، لقد طلبت منِّي أن أحضرك كي تتعرَّف عليك. لقد سمعت البارونة عنك وقرأت في الصحافة عن بعض مآثِرك، وهي مهتمَّة للغاية بمقابلتك.»

شهق مكارثي قائلًا: «مقابلتي!» وتابع: «عجبًا، يا بيل، أنا خَجُول للغاية عند التحدث إلى أي شخص، فماذا عن سيدة مجتمَع يجب أن أراعي قواعد اللياقة أمامها. كما أني جائع للغاية أيضًا.»

فقال مشجعًا: «بعد أن تَنتهيَ من الغداء، بالطبع. إن البارونة ليست في عجلة من أمرها؛ إنها في واقع الأمر تستنفد الوقت حتى تلتقي بصديق. هيا يا رجل.» وأضاف: «لا يمكنك التهرب من الأمر وتحتاج فقط إلى البقاء بضع دقائق. فقط كن لطيفًا لمدة دقيقة أو دقيقتَين، إنها حقًّا امرأة فاتنة للغاية.»

وبعد انتهاء الوجبة وتسديد الفاتورة، نهض هاينس وانتقل إلى طاولة السيدة. وتبعه مكارثي على مضض، وبينما كان يتمنَّى في داخله أن تكون هي في الطرف الآخر من العالم في ذلك الوقت، لم يَسمح لأي علامة تدلُّ على مشاعره الحقيقية أن تظهر على وجهه. وخلال لحظة أو اثنتين كان يتحدَّث معها بمرح كما لو أنه كان يعرفها طوال حياته.

قالت مع ضحكة موسيقية ناعمة بشدة وجدها مكارثي رائعة للغاية: «لن تُخمِّنا أبدًا ما كنت أفعله هذا الصباح.» وتابعت: «ربما ليس من الحكمة أن أقول لكما يا رجُلَي الشرطة؛ لأنني أفهم أنه وفقًا لقوانينكما الحمقاء، والمضحكة جدًّا، فهذا غير قانوني تمامًا. لذلك أنا مجرمة.»

تمتم مكارثي بشجاعة: «مجرمة جميلة للغاية!» وتابع: «ما هي الجريمة، أيتها البارونة؟»

أجابت: «لقد عرفتُ طالعي.» وأضافت: «مرة كل شهر، إن لم يكن أكثر من ذلك، أذهب إلى قارئة الطالع المفضَّلة لديَّ كي تقرأه لي باستخدام كريستالة الطالع، وهذا، كما أفهم، يعدُّ جريمة في هذا البلد. أليس كذلك؟»

ضحك هاينس وقال: «هذا دجل خالص»، لكنها هزت رأسها نافية ذلك بشدة. فاعتقد مكارثي أن البارونة إيبرهارت يُمكن أن تتحدَّى بنحو لا يتزعزع إذا اختارت ذلك.

فقالت: «ليست هذه المرأة.» وتابعت: «لقد عرفتها في فيينا قبل أن تأتي إلى هنا. إن مدام رونر، كما تسمِّي نفسها في لندن، ليست دجالة؛ إنها ليست كذلك على الإطلاق.»

عند ذكر هذا الاسم، شعر المفتش أن جسده أصبح مُتصلبًا، ولكن لم يسمح لرجفة عضلة أن تُغيِّر الابتسامة على وجهه. وبدا له، على الرغم من أنه كان سيعترف بحرية أنه قد يكون هذا مجرَّد خيال محض من جانبه، أن البارونة كانت تُراقبه خفية وهي تنطق بالاسم؛ على أي حال كانت قد استدارت بالكامل في اتجاهه. لقد صدمته كمصادفة غير عادية أن هذا الاسم، الذي لم يصادفه من قبل، شخصيًّا، مع كل معرفته بلندن وويست إند، قد جاء بطلاقة شديدة من شفتَي هذه السيدة في هذه اللحظة بالذات.

لم يبدُ على هاينس، وهو يَبتسِم للسيدة على نحو شبه أحمق، أنه قد لاحظ أي شيء؛ لم يكن الاسم قد انحفَرَ في ذاكرته مثلما حدث مع مكارثي. وانطلق في ذهن المفتِّش جرس إنذار غريزي بينما كان يَستمِع، بألا يذكر حقيقة أن الاسم يعني له أي أهمية، وأن يستمر في الابتسام المُتكلَّف مثل أحمق مُبتسِم، ويرى على أي نحوٍ سيتطور هذا الموقف الغريب.

لكن هناك أمرًا واحدًا قفز على الفور إلى ذاكرته. في المنزل الواقع في سوهو سكوير كان قد فحص سجل الهاتف ليجد مشتركًا واحدًا بذلك الاسم فيه؛ الرجل المُتخفي في هيئة امرأة والذي قتل على نحوٍ وحشي جدًّا في الليلة الماضية. فقرَّر أن ينصب فخًّا صغيرًا.

«إنه لأمر مُحير بالنسبة لي كيف يستمرُّ هؤلاء الناس في ممارسة نشاطهم، أيتها البارونة، عند الأخذ في الاعتبار كل الشراك التي تَنصبُها لهم شرطة العاصمة، وسكوتلاند يارد. أظن أنه يتوجَّب عليكِ أن تحجزي معهم موعدًا مسبقًا عبر الهاتف، ويتوجَّب عليهم أن يُدخلوكِ إلى المكان الموجودين فيه ويُخرجوكِ منه ثانية بسرعة وعلى نحو خفي قدْر الإمكان.»

«أوه، أجل، أنا دائمًا ما أحادثها مُسبقًا عبر الهاتف، بالطبع؛ يجب على المرء إخطارها مسبقًا برغبته في مقابلتها. إنَّ لديها مجموعة كبيرة من الزبائن منا نحن المؤمنين بمن يُمكنهم معرفة الغيب رغم آرائكم الرسمية الحمقاء.»

قال هاينس وهو يبتسِم: «في رأيي أنه يتوجَّب علينا تشديد الصلات مع مسئولي الاتصالات التابعين لنا في هذا الخصوص.» وتابع: «لا يُمكن السماح لأصدقائنا بوضع أنفسهم في موضعٍ يجري فيه القبض عليهم بينما يُكشف لهم عن مستقبلهم. هل كان طالعكِ جيدًا، حسبما أتمنَّى؟»

ابتسمت البارونة. ثم أجابت: «أوه، تمامًا.» وعدلت قائلة: «على الأقل، جيد على حسب ما أتوقع أن يكون على نحوٍ منطقي في هذه الأوقات المُفزعة. أجل، تنبؤات هذا الصباح كانت مبـ — كيف تُقال الكلمة؟ — مبشرة.»

«هذه كذبة»، هاتان كانتا الكلمتَين اللتين ضربتا بقوة عقل مكارثي، على الرغم من أن الابتسامة لم تُفارق شفتَيه حتى اللحظة. إذ نظرًا لأنه كان يعرف على نحوٍ مؤكد أن هناك مدام رونر واحدة مسجلة في سجل الهاتف، فمن المُستحيل تمامًا لهذه المرأة أن تكون قد اتصلت بها عبر الهاتف هذا الصباح، أو ناهيك أن تكون قد زارتها. كان هناك معنى مُحدَّد وراء ذكر أمر تلك المرأة المزيفة، ولم يكن غير واضح بالمرة بالنسبة له. إن هاينس، بحسب ما يعرف وقد كان هذا شيئًا شبه مؤكَّد، لم يذكر جريمة القتل التي وقعت في سوهو سكوير؛ أحد الأسباب أنه لم يكن لديه الوقت الكافي ليفعل ذلك، كما أنه فيما يتعلَّق بمثل هذه الأمور ليس هناك رجل في العالم أكثر حفاظًا على أسرار قضايا القسم من هذا المفوض المساعد الذي يَرأسه. هذا أمر مؤكد للغاية بوجه خاص في هذه الحالة نظرًا لأنَّ القضية ذات صِلة بمسألة وايتهول.

وقد بدأت تُسيطِر على عقلِه فكرة أن، هذه المرأة، البارونة النمساوية، أو أيًّا مَن تكون، تعرف «شيئًا» عن تلك الجريمة. لا بدَّ أنها بطريقة أو بأخرى قد علمت أنه هو من يتولى التحقيق فيها، وإلا فإن ذكر الاسم ليس له أهمية على الإطلاق. فإما أنها قد فعلَت ذلك كتلميحٍ مُتعمَّد لاكتشاف معلومة ما، وتلك المعلومة هي ما إذا كان قد توصَّل بعد إلى الهوية الحقيقية ﻟ «المرأة» التي قُتلت، وإما أن الأمر لا معنى له. والاحتمال هو أنها كانت تتوقَّع منه أن يَنتهِز الفرصة بنهمٍ عند ذكر الاسم ويشرع في إمطارها بوابل من الأسئلة، والتي من خلالها ستَستخلِص المعلومات التي لا تجرؤ على السؤال عنها بطريقة مباشرة. إنها نقطة كان يجب أن يتأكَّد منها للغاية قبل المتابعة أكثر في الحديث.

كان على وشك أن يَستأذن ويُغادر المكان بحُجة أن لديه أعمالًا يجب أن تنجز، عندما رأى، عبر الستائر السلكية التي تحافظ على خصوصية المطعم، والمثبتة على كل النوافذ المطلة على الشارع، شيئًا استوقفه بشدة. إذ كان يَعبر ريجنت ستريت وباتجاه هذا المطعم، وبزاوية تُشير إلى أنه قادم من اتجاه أكسفورد ستريت، الرجل الذي كان يبحث عنه – فلوريلو ماسكاني. وبعد أن وصل إلى الرصيف، نظر نحو ساعة يده، ثم تحرَّك مباشرة باتجاه ركن النافذة التي توجد خلفها الطاولة التي تشغلها البارونة. واقترب من النافذة بأكبر قدر مُمكن، وعندما فعل ذلك، رآه مكارثي وسمعه يطرق طرقة مميزة على لوح الزجاج.

لم تكن تلك الطرقة مميزة فحسب، بل أيضًا «شديدة التميُّز» على نحو غريب؛ نقرة مزدوجة سريعة، ثم نقرتان مُنفردتان. بالنسبة إلى المفتش، فإن مراقبة ماسكاني وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يراه، لا هو ولا أيُّ شخص آخر على تلك الطاولة من وراء الستار السِّلكي، كانت أمرًا غريبًا للغاية مثل كل شيء آخر له صلة بهذه القضية الاستثنائية.

لقد كان متأكدًا من أنها إشارة من نوع أو آخر، ولكنه لم يكن يعرف لمَن هي موجهة. من المؤكد أنها ليست له، ولا لهاينس، الذي لا يُمكن رؤيته، وبدا أمرًا سخيفًا أن يفترض توجيهها للأرستقراطية النِّمساوية الثرية، البارونة إيبرهارت. وعند حدوثها، كانت عينه عليها في نفس اللحظة التي طرَق فيها ماسكاني على الزجاج؛ وفي واقع الأمر كانت هي الأقرب للرجل ذي الأصول الإيطالية في تلك اللحظة؛ وبالفعل، لم يكن يفصل بينهما سوى لوح الزجاج السَّميك. وبالكامل ودون قصد، كانت عَينا مكارثي تَنظُران نحوها بقدر ما كانتا تنظران نحو ماسكاني. ولكن لم تتحرك عضلة واحدة من وجهها الجميل عند سماعها للصوت. وفي الواقع بدا أنها لم تَنتبِه لوقوعها على الإطلاق. لقد كان ذلك أمرًا غريبًا للغاية، فهو متأكِّد تمامًا من أنها لم تكن مجرد نقرات عادية للأصابع على النافذة أثناء المرور. لقد جعل الموقف برمَّته مكارثي يُخمن ويُفكِّر.

كما شاهَد مكارثي شيئًا آخر عبر الستائر السِّلكية، وهو ظهور السيد ويليام ويذرز، بدون سيارته، عند زاوية الشارع أمامه تقريبًا. حيث رأى سائق سيارة الأجرة الضخم وهو يُشعِل سيجارة، ويَنظُر حوله على نحو يُوحي بأنه يُمضي الوقت إلى حين ظهور زبونه، وعندئذ ثبتَت فجأةً عينا ويذرز على شيء موجود على نفس جانب مطعم فيري من الشارع، رغم أنه كان، بالطبع، بعيدًا عن نطاق رؤية مكارثي. ولم يكن لديه شكٌّ حول ما، أو بالأحرى من، استرعى انتباه «بيج بيل» رجل العصابات، ماسكاني. وحيث إن ويذرز ظلَّ في مكانه فقد دل ذلك مكارثي على أن ماسكاني كان يتسكَّع في مكان قريب للغاية من المطعم.

سأل مع ابتسامة ودودة كشفَت عن أسنانه البيضاء: «هل غالبًا ما تأتين إلى هذا المكان، أيتها البارونة؟»

أجابت: «بانتظام.» وتابعَت: «أنا دائمًا أتناول وجبة الصباح هنا. لا يُوجد مكان آخر في لندن يُمكنُني أن أحصل فيه على الفطائر الملفوفة والقهوة النِّمساوية المغطَّاة بالكريمة مثل هنا. من الساعة الواحدة، أو الواحدة والربع، حتى الثانية والنصف، يَعلم أصدقائي دائمًا أين يَجدونني.»

سأل مكارثي: «وهل دائمًا ما تَجلِسين في نفس البقعة، على هذه الطاولة المبهجة بجوار النافذة؟»

أومأت بالإيجاب. وقالت: «بدون أي تغيير.» وأضافت: «إنَّ لويجي — وأشارت نحو نادل كبير في السن — يَحجزها لي دائمًا؛ فأنا واحدة من زبائنه الدائمين. أنا دائمًا أجلس على هذه الطاولة لأنَّني أحب مشاهدة الناس وهم يمرُّون أمام المطعم. فأنا أُسلِّي نفسي بالتساؤل عن هُوياتهم وسلوكهم، وكيف يَكسبون أرزاقهم، وكل ذلك.»

تمتم مكارثي، وعقله مُنشغل: «إنها رياضة رائعة.» وعدل قائلًا: «هذا إن لم يكن عليكِ فعل هذا النوع من الأمور لكسب الرزق.» وتابع مع تنهيدة: «وهو ما يُذكرني بأن عليَّ الذهاب لكسب رِزقي، والجلوس هنا في هذه الصحبة المُبهِجة لن يفيَ بالغرض. يجب أن يكون هناك من يفكُّ ألغاز الجرائم المُتزايدة.»

وبعد أن انحنى وقبَّل يد السيدة، اتجه نحو المدخل، وعندئذٍ التفت كما لو كانت فكرةً مفاجئة قد طرأت على ذهنه. فقال: «هل يُمكن أن أتحدَّث معك يا سير ويليام؟»

نهض هاينس على الفور واتجه نحوه. فاقتادَه مكارثي بعيدًا أكثر حتى لا يصل صوتهما إلى السيدة الجالسة على الطاولة.

وسأله بسرعة: «أخبرني يا بيل، هل تصادَفَ أن سألتْك السيدة، قبل أن تطلب التعرُّف عليَّ، عن القضية التي أُحقِّق فيها؟»

نظر إليه هاينس بسرعة. وقال مع نبرة تردُّد في صوته: «حسنًا، كلَّا يا ماك.» وتابع: «لم تسأل. ليس على وجه التحديد.»

سأل مكارثي: «وماذا تعني بالضبط بعبارة «ليس على وجه التحديد»؟»

أجاب المفوض المُساعِد: «أعني أنها، بقَدرِ ما أتذكَّر، لم تسألني أي سؤال محدَّد عن ذلك.» وتابع: «أعتقد أنني مَن ذكرتُ لها حقيقة أنك تتولى التحقيق في جريمة قتلٍ مُثيرة للغاية حدثت في سوهو سكوير في الليلة الماضية.»

قال مكارثي بحدَّة: «لقد فهمت.» وأضاف: «وهل كانت مهتمَّة؟»

«أوه، للغاية، وقالت إنها ستُتابع القضية باهتمامٍ كبير في الجرائد.»

كان ما دار في عقل مكارثي هو الآتي: «لقد استدرجتْك لتَعرف ما تُريده منك دون أن تعي ذلك، أيها الأحمق الملعون.» أما ما قاله بالفعل: «إنه لأمر لطيفٌ أن تُقدِّر يا بيل. ولم يتصادَف أنك ذكرتَ أيَّ شيء عن …»

قال السير ويليام، بهمسٍ تقريبًا: «قضية وايتهول!» وأضاف: «يا إلهي، كلا! ليس هناك إنسان على وجه الأرض يُمكنه الحصول على كلمة منِّي بهذا الصدد!»

قال مكارثي: «هذا أمر جيد»؛ ومن ثم غادر.

وعند مروره أمام تلك النافذة الواقعة في أقصى الزاوية والتي تُوجَد أمامها الطاولة المُعتادة للبارونة إيبرهارت حيث تجلس يوميًّا من الساعة الواحدة أو الواحدة والربع حتى الثانية والنصف، حاول مكارثي أن يرى إذا كانت عيناه الدقيقة الملاحظة يُمكن أن ترى من خلال الستائر السِّلكية، لكنها لم تفعل؛ حيث كان كلٌّ من السيدة وهاينس غير مرئيين مُطلقًا كما لو كانا يجلسان خلف حائط من الطوب.

وتمتم مُحدِّثًا نفسه، بينما تتردَّد في عقله تلك الطَّرقة المحدَّدة للغاية على الزجاج: «لكن بإمكانها هي رؤية كل الناس الذين يمرُّون على نحوٍ جيد.» ثم قال في حيرة: «تركيبة غريبة»، وهو يبحث بعينَيه عن ويذرز، ليجدَه عبر الجانب الآخر من الطريق؛ وتابع: «إنها أغرب من أن تكون محتمَلة.»

لحقَ المفتِّش بويذرز وهو على وَشكِ الدخول إلى جلاسهاوس ستريت.

وقال بإيجاز، بينما يَلتقي بالمفتش: «ماسكاني.» ثم أضاف: «لقد تتبعتُه قليلًا. وسمعته يقول لشخصٍ ما إنه سيَذهب إلى حانة فازولي عند التاسعة تقريبًا هذه الليلة.»

أومأ مكارثي. وقال: «على أيِّ حال، يا ويليام، سنُؤجِّل مُراقبته في الوقت الحالي. وأنا أيضًا سأذهب إلى حانة فازولي. وفي غضون ذلك، لديَّ قدْر كبير من التفكير العميق الذي عليَّ القيام به، وأمر أو اثنان لأستعدَّ قبل أن أُداهم ذلك الجُحر القذِر على نحوٍ لا يُوصف، تشيركولو فينيتسيا، هذه الليلة. أظنُّ أنني سأعود إلى المنزل سيرًا، وأقدح زناد فكري المُثمر في طريق عودتي.»

فسأله السيد ويذرز: «هل هناك شيء آخر أستطيع القيام به أيها الرئيس؟» وأضاف: «حدِّدْه لي، يا سيدي، واعتبر أنه قد أُنجِز، كما تَعلم.»

فكَّرَ مكارثي للحظة. ثم سأل فجأة: «أخبِرني ما إذا كان ماسكاني لا يَزال يُواعد تلك الفتاة الجميلة للغاية، تيسا دومينيكو، هذا إذا كنتَ تُتابع علاقات الحب في سوهو، يا ويذرز.»

قال «بيج بيل» باقتضاب: «أنا غير مُتابع، أؤكِّد لك أيها الرئيس.» وأضاف: «لكن بخصوص هذا الثنائي؛ فقد شاهدتُهما بالجوار كثيرًا، حيث يَذهبان إلى المطاعم وتجمُّعات الفلاش دانس. وقد سمعت، من بعض المُطلِعين على الأمر، أن السبب في أنها لا تزال تُواعدُه هو عدم جرأة أي شخص آخر على الاقتراب منها. فمن يُضبَط وهو يَرقص معها يعرِّض نفسه للمشاكل، ومن يُحاول مُواعدتها يعرض نفسه للموت، من قبل ماسكاني.»

قال مكارثي، مع هزة من رأسه: «هذا هو السبب، أليس كذلك؟» وتابع: «إنه عالم غريب، يا ويذرز، ومُحزن أيضًا. نحن نَكبر في السن بداخله دون أن يتَّعظ أيٌّ منَّا. ربما لن تُصدِّق ذلك، لكنني أعرف تيسا دومينيكو، ملكة سوهو، مثلما يُطلِقون عليها، منذ أن كانت طفلةً صغيرة تسير بخُطًى مُتعثِّرة وهي ذاهبة إلى المدرسة وعلى وجهها بقايا المربى أو ربما عسل القصب المكرر. وأذكر عندما حصلت على أول وظيفة لها؛ حيث عملت كنادِلة في مَقهى سكاربيتي بأكسفورد ستريت، وحينها أصبحت فتاة ناضِجة بارعة الجمال. وعندئذ، فازت بالجائزة الأولى في مسابقة الجمال تلك، وبعد ذلك … إياك أن تفوز بجائزة في مسابقة جمال يا ويذرز؛ إنه يُصبح بمنزلة السقوط بالنسبة لك.»

ابتسم السيد ويذرز ابتسامة عريضة. ثم ضحك ضحكةً خافتة قائلًا: «إن كل الجوائز التي أفوز بها خلال مسيرتي، أيها الرئيس، لن تَشتريَ لي أي ملكية.»

«لا يُمكنك أبدًا الجزم بذلك يا ويذرز. أنا أتذكَّر تيسا الصغيرة عندما كان من المُمكن أن تقول نفس الشيء، وانظرْ إليها الآن. لقد كنت بصحبة سيدة جميلة للغاية، لكنني أقرُّ بأنها لا تُقارن بالطفلة التي اعتادَت أن تمسك بيدي وتقودني نحو عربة العجوز جو أنسيلمي لشراء الآيس كريم لها. وكان ذلك قبل أن يَمتلك عربة القهوة.»

تجهَّم وجهه عند تذكُّره العجوز المسالم الذي قُتل على نحو بشِع في الليلة الماضية؛ وزمَّ شفتَيه بشدة، مما أنبأ عن توعُّده بمصيرٍ سيئ لمُرتكبي تلك الجريمة البشعة عندما، في نهاية الأمر، يُلقي القبض عليهم.

قال ويذرز وهو يهزُّ رأسه الضخم: «لقد كانت جريمة بشِعة يا سيدي.»

ردَّد مكارثي: «بشعة!» وأضاف: «لا تتحدَّث عنها يا ويذرز. إن مجرَّد التفكير فيها يجعلني أرغب في الفتك بشخصٍ ما. لقد كنت تسأل لتوِّك عما إذا كانت هناك أي مهمَّة لتفعلها. هناك واحدة. في مطعَم فيري هناك سيدة ستظل بالداخل حتى الساعة الثانية والنصف، على أي حال، هذه هي عادتها المنتظمة. ومن المُحتمَل أن تُغادِره بصحبة السير ويليام هاينس. عليك أن تركن سيارتك بالقُرب من الزاوية وتترقَّب خروجها. إنها تعيش في جروفينر سكوير، وأنا أريد أن أعرف في أي منزل بالتحديد. وفي حالة أنها لم تخرج بصحبة السِّير ويليام، إليك وصفها.»

وعلى نحوٍ سريع منح سائق سيارة الأجرة وصفًا شفويًّا للبارونة الجميلة لينا إيبرهارت مع تفاصيل دقيقة يُمكن من خلالها لرسَّام أن يَرسم لها بورتريهًا مُتميزًا إلى حدٍّ كبير.

«هيا اذهب، يا ويذرز، وفي حالة أنها عادَت إلى منزلها بعد التجوُّل في عدة أماكن أعلِمني بالأشخاص الذين تواصَلَتْ معهم؛ بقَدر الإمكان، بالطبع. واتصل بي على الهاتف في دين ستريت لتُبلِغني بالمعلومات التي توصَّلتَ إليها، وبحلول ذلك الوقت يُمكنني تحديد كيف يُمكنني الاستفادة منك هذه الليلة. هيا اذهب، يا ويذرز، هيا اذهب!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤