الفصل الثاني

المفتش المُحقِّق مكارثي يتحدَّث عن الناس والأشياء

قال المفتش في تحية تحمل رائحة الاتهام: «اثنان وعشرون دقيقة بالتمام والكمال.»

صاح السير ويليام، بينما كان يخلع معطفه وقبَّعته ويناولهما إلى النادلة الصغيرة الأخرى: «ماذا؟!» وتابع: «أظن أنك تعني، اثنين وعشرين دقيقة من التأخير. يا عزيزي ماك، أنت محظوظ لأني لم أتأخَّر لمدة أربعين دقيقة. مع كل الاحترام الواجب للمسئولين عن الاحتياطات ضد الغارات الجوية، فإنَّ إجراءات التعتيم هذه مُتعِبة للغاية.»

نهضَت السنيورا من على طاولة الحساب التي تجلس عليها وذهبت لتقديم التحية اللائقة لزبونها المُميز الثاني.

فقال مُعتذرًا: «أتمنَّى ألا أكون قد أفسدت الأمور يا سنيورا، لكن المجيء من … من مقر عملنا المُطلِّ على منطقة إمبانكمنت إلى هنا كان مهمَّةً شبه مستحيلة.»

قالت السنيورا وهي تبتسِم في طيبة وتتحدث بلغةٍ إنجليزية ركيكة: «كل شيء سيُصبح جاهزًا على الفور، يا سادة.» وتابعت: «في هذه الأيام أنا دائمًا أتحسَّب للتأخير بسبب التعتيم. إذ لم يعُد بإمكان الناس أن تأتي في مواعيدها المضبوطة.»

صاح المفوَّض المساعد: «حقًّا، إن هذه حقيقة.» وتابع: «إنهم سيكونون محظوظين للغاية إن استطاعوا الوصول إلى هنا من الأساس إذا كانوا يعملون في وظيفة مثل وظيفتنا. على أي حال أنا مستعد لتناول الطعام، عندما تُصبحين مُستعدَّة لتقديمه، يا سنيورا؛ أنا مُستعدٌّ بشدة.»

قال المفتش، مُتحدثًا إلى السقف أكثر من أي شخصٍ مُحدد موجود: «لقد كنت كذلك طوال العشرين دقيقة الماضية.» وتابع: «وأنا أحصل على الكثير من التعاطُف من أجل ذلك. إن الأمر هكذا دائمًا. إن المسكين هو الذي …»

ابتسم المُفوَّض المساعد.

وقال: «الذي يساعد المسكين، أو ربما الذي «يتحمَّل الجزء الأكبر من الأمر» هذه المرة. إنه واحد منهما.»

ردَّ مكارثي بثبات: «بل كلاهما.» وأضاف: «هل لاحظت ذلك الرجل الذي خرج بينما كنت تدخل المقهى، يا بيل؟»

أومأ هاينس برأسه. وقال: «لم أستطِع منع نفسي من النظر إليه. إنه رجل ذو مَظهر غريب، نوعًا ما. وعيناه غريبتان – لقد ظننتُ للحظة أنه أعمى. من هو ذلك الرجل؟ هل هو أحد زبائن سوهو التابعين لك؟»

هز مكارثي رأسه نافيًا.

«حسبما أظن أنا لم أره من قبل في حياتي. لكن شكله بالتأكيد على أي حال مُختلف قليلًا عما اعتدناه. لقد كنتُ أتساءل فقط إن كنت قد صادفته من قبل. إن ويست إند تمتلئ ببعض الناس الغريبة في هذه الأيام.»

تنهَّد السير ويليام. ثم قال بحماس: «أتَّفق معك تمامًا.» وتابع: «لقد قضيتُ لتوِّي ساعتَين صعبتَين مع واحدٍ منهم في غرفتي. وهو رجل ضئيل الحجم أحضره إليَّ رجال الفرع الخاص كي أستجوبه.»

سأل مكارثي باهتمام: «هل هو أحد الجواسيس الصغار الحجم المرحين؟»

«أجل؛ وهو واحد من المُخضْرَمين في هذا المجال. ولن تَسمع أبدًا مثل ذلك الهراء المُقنع الذي صاغه ونمَّقه، وأعدَّه من أجل الاستهلاك الإنجليزي. فوفقًا لأقواله هو رجل نمساوي يَنتمي للحزب الديموقراطي الاشتراكي وقد فرَّ من معسكر اعتقال إلى هذا البلد، وقال إنه ليس من شأن أحد معرفة ما تعرَّض له من تعذيبٍ جسدي. وكان الشيء الوحيد المعارض لتلك الرواية هو، بخلاف بعض الندبات القديمة، أنه لا يحمل أي علامة على وجهه، لكن قبل أن نُحدِّد موقفنا، خلع قميصه وعرض علينا ظهره. كان ظهره يحمل الكثير من العلامات التي تُؤيد أقواله، لكن، لسوء حظه، لم أكن بحاجة لأن أكون طبيبًا كي أعلم أنها علامات مرت عليها الكثير من السنين. على أي حال، تركته يسترسل ويسترسل في الكلام.»

سأل مكارثي: «مددتَ له الحبل ليشنق به نفسه؟»

قال هاينس: «لم نكن بحاجةٍ إلى ذلك.» وتابع: «إن كل ما احتجنا له، هو ذاكرتي، علاوة على نظام المَلفات المُميز لدينا. فهو لم يكن نمساويًّا على الإطلاق. لقد تصادف أن ذاكرتي كانت أقوى من ذاكرته؛ فقد تذكَّرت أنني استجوبتُه وأصدرت حكمًا حاسمًا بشأنه في الحرب العالمية الأولى. وكان أصغر سنًّا آنذاك، بالطبع، وادَّعى أنه لاجئ بلجيكي من أنتويرب في ذلك الوقت. ولم تُنقِذه ادِّعاءاته آنذاك، ولم تُسعفه ثانية هذه المرة. وهو في هذه اللحظة يقف على محطة كانون ستريت، في طريقه إلى أحد معسكرات الاحتجاز.» وضحك ضحكة خافِتة عندما تذكَّر شيئًا من الواضح أنه أسعده.

سأله مكارثي: «ما الأمر الذي أضحكك؟»

قال السير ويليام ضاحكًا: «ليتك سمعتَه وهو يصبُّ علينا ترنيمة الكراهية الخاصة به عندما أدرك عدم وجود فائدة وأنه سيُسجَن.» وأضاف: «عجبًا يا رجل، إنْ تحقَّق كل ما توعَّدنا به فلن يتبقى شيء من إنجلترا خلال أسبوعين. سنُقصَف ونُمحى جميعًا تمامًا من على الخريطة، ولن ينقذنا التعتيم ولا الاحتياطات ضد الغارات الجوية ولا الدفاعات المضادَّة للطائرات. وستُغرِق الغوَّاصات الألمانية قواتنا البحرية، وكذلك سفن الأسطول التجاري، في قاع البحر خلال ستة أسابيع، وسيأخُذون البضائع إلى الموانئ الألمانية كغنائم لهم، بالطبع. وسيَأسرُون المدنيين على نحوٍ جماعي وينقلونهم كالعبيد إلى بولندا، كي يُعيدوا بناء تلك الدولة المُحطمة وهم يُجلدون بالسوط، و… ويعلم الله ماذا أيضًا. كان الأمر أشبه بأحد عروض السيرك.»

قال مكارثي: «لقد حصلتَ أنت على كل المُتعة بينما أجوب أنا الشوارع مع مصباحي اليدوي الصغير.» وأضاف: «مع ذلك، يا بيل، هناك الكثير من هؤلاء الرجال، والنساء — لا تنس النساء — الذين لا يُطلِقُون مثل هذا اللغو والهراء، رغم أنهم يُكِنون الكثير من الكراهية في صدورهم، ويُمكنهم فعل الكثير من الكوارث إذا أتيحت لهم الفرصة.»

قال هاينس بجدية: «هذا مما لا شك فيه.» وتابع: «وأسوأ ما في الأمر، يا ماك، أن أخطر العناصر فيهم من نوعية مُختلفة تمامًا ومُعَدُّون جيدًا لأداء مهامهم. فهم لا يتلصَّصون في الأنحاء، حتى يسترقوا السمع للحوارات التي تجري في المقاهي، أو الحانات التي يرتادُها الجنود. لكنهم أناس يَختلطُون بالأشخاص ذوي المناصب العُليا، الأشخاص الذين لديهم معلومات مُتفرِّدة حصلوا عليها من قلب الحكومة البريطانية في وايتهول وإدارة الخِدمة المدنية، بوجهٍ عام. وهم أناس لا تجرؤ على القبض عليهم بدون أن يُسارع بعض الأشخاص المُهمين بإعلان أنه يُعَد فضيحة، إن لم يكن جريمة، أن تجري مراقبة هؤلاء الناس المُميَّزين، ناهيك عن استجوابهم.»

قال مكارثي مع ابتسامة رِضا: «وهنا تَكمُن روعة «عملائي» الخاصين في سوهو.» وأضاف: «فإذا اعتقدت أن أيًّا منهم يتقاضى مبالغ طائلة مقابل هذا النوع من العمل، فيُمكنك القبض عليه وإدخال الرعب في نفسه دون أن يُسارع أحد للشكوى في البرلمان، أو أي مكان آخر، كي يقول من أجله كلمة طيبة. وهو أمر، نظرًا لأن نصف مجموعتي سيبيعون أمهاتهم مقابل شلن، جيد.»

وبينما كان يتحدَّث انفتح الباب ودخل أحد مواطني سوهو الذين لا تُخطئهم العين.

لقد كان شابًّا طويلًا، ورشيقًا، لكن قويَّ البنية، يتراوح عمره بين السادسة والعشرين والثلاثين، ذا بشرة زيتونية داكنة، وعينين سوداوين برموشٍ طويلة، وشَعرٍ أسود فاحم أملس والذي يُشير بوضوح إلى أنه مُواطِن من سوهو ذو أصول إيطالية — على الأرجح وُلد في لندن لأبوين إيطاليين. وقد ارتدى ملابس أنيقة، على الرغم من وجود، بوجه عام، لمسة مبتذَلة في هيئتها، ساعد فيها القبعة السوداء المصنوعة من اللباد التي كان يَجذبُها لأسفل فوق عينيه على نحو يُوحي باستخدامها كقناع إذا دعَتِ الضرورة.

كانت هناك لمحة واضحة من الوحشية على العينَين السوداوين اللتين نظرتا على الفور نحو المُفتش، وضِيق حول فمه بدا وكأنه يُفصِح عن أن صاحبه، على الرغم من مظهره الثري، هو شخص ليس من الحكمة الدخول في صدامٍ معه. كان يَرتدي في أحد أصابع يدِه اليُمنى خاتمًا ذا ماسةٍ ضخمة برَّاقة للغاية، كما كان يَحمل دبوس رابطة عنقه ماسةً برَّاقة مُشابهة. على الأرجح إن الوافد الجديد ربما يُعَدُّ نموذجًا لرجل عصابات ويست إند في هذه الأيام، والذي اقتصر الجزء الأكبر من أنشطته النهارية على سباقات الخيل والأنشطة المُشابهة، بينما اقتصرت لياليه على أنشطة العربدة حول وداخل المقاهي وقاعات الرقص في سوهو.

وقد تابعه مكارثي بنظرةٍ سريعة من طرف عينَيه، ثم واصل تناول العشاء المتميز جدًّا الذي قدمته السنيورا.

ولكن، من الغريب بالقدْر الكافي أن هذا الشاب المفعم بالحيوية، على الرغم من أن نظرته الأولى كانت نحو الطاولة التي منذ وقتٍ ليس ببعيد أخلاها الرجل ذو العينين ذواتا اللون الأزرق الثلجي، توقف وبنحوٍ مُثير للانتباه، خلع قبعته ومعطفه، ثم علَّقهما بعناية على المشجب الذي لا يبعد إلا بقدم أو نحو ذلك عن مرفق المفتش مكارثي. وأثناء قيامه بذلك، سقطَت كرة صغيرة من الورق، والتي كانت صغيرة جدًّا لدرجة أنها ربما تكون ورقة سجائر مطوية، من يده على طاولة المُفتِّش، على بُعد بوصة واحدة من طبق ذلك الضابط. ودون أن يُلقيَ نظرة تجاهها، تحرك الشاب نحو الطاولة التي نظر نحوها في البداية بعينَيه؛ وبمجرد أن وصل إليها، كانت الكرة الصغيرة قد اختفت.

سأل المفوض المساعد بصوتٍ خفيض: «مَن هذا الفتى ذو المظهر الصلب؟»

أجاب مكارثي بنفس الصوت الخفيض: ««عميل» خاص.» وتابع: «وهو ليس صلبًا جدًّا كما يبدو عليه، يا بيل، إذا وصل الأمر حقًّا إلى مواجهة مباشرة — ما لم تكن بالطبع عصابته معه، فعندئذٍ بالتأكيد تصعب السيطرة عليه. ولكنه، مثل معظمهم، عند مواجهته بمُفرَده يُصبح مُسالِمًا للغاية.» وتابع المفتش قائلًا: «إنه عمل معقَّد، في الواقع، ما يُمكن أن تسميه مهمة بغيضة تمامًا. أنا لا أُحب استخدام مثل هؤلاء الأشخاص، ولا أفعل ذلك إلا بقدر ضئيل للغاية، ولكن هناك أوقاتًا يُصبح فيها من الضروري للغاية لأيِّ رجل في لعبتنا أن يحصل على معلوماتٍ عما يَهمس به الناس في أماكن ليس من السهل الوصول إليها. هذا على الرغم من أنه ليس هناك الكثير من الأماكن التي لا أستطيع دخولها ومعرفة ما أُريده على نحوٍ ودِّي.»

قال هاينس: «فهمت.» وتابع: «إنه واحدٌ من تلك «العصافير» التي غالبًا ما تذكر أنها تَنقُل الأشياء لك. فمن هو؟»

قال مكارثي: «إن اسمه ماسكاني — فلوريلو ماسكاني.»

تجهَّم وجه هاينس وهو يقول: «إنَّ هذا الاسم مألوف بالنسبة لي؛ إذ سمعته في مكانٍ ما.»

«إذا كان لديك أي انطباع بأنه له أي صلة بماسكاني — بيترو، أعتقد أن هذا هو اسمه الأول، لكنني لستُ متأكدًا — أخرجه من عقلك في الحال. ليس له صِلة به؛ فهو بعيد عنه تمامًا. أنا أشير، بالطبع إلى الشخص الذي قدَّم لنا «مدام باترفلاي»، وعروض الأوبرا الجميلة الأخرى. لا شيء من سمات الفَراشة ستجدُها في فلوريلو ماسكاني. إنه شقي خطر بعض الشيء. بطريقته الخاصة، هو شخص قَذِر مثل كلب مُتَّسخ قد تُصادفه خلال نزهة نهارية، ولكن هناك أوقات يُصبح فيها مُفيدًا بالنسبة لي، وهذا واحد منها.»

تساءل هاينس: «إنها لعبة خطرة بالنسبة له، أليس كذلك؟»

أجاب مكارثي بهدوء: «ليست الأكثر سلامةً في العالم، أقرُّ بذلك.» وتابع: «ولكن إذا كان الرجل قد وُلِد مُحتالًا وواشيًا مزدوجًا، فسيبيع معلوماتٍ قيِّمة لأي شخص، عاجلًا أم آجلًا، سواء كنتُ أنا هذا الشخص أم شخصًا آخر. ولكن يومًا ما، يا بيل، سوف يكشفون أمره ويجزُّون رقبته بكل تأكيد. حسنًا، في أسوأ الأحوال، سيُخلِّصنا هذا من آفةٍ لعينة، وفي أحسن الأحوال، سيُوفر على البلاد نفقات محاكمته وشنقه. وهو أمر يُناسِبني على نحوٍ رائع.»

«إنه لأمر غريب، يا ماك، أن الجريمة، وخاصة جرائم العنف، قد تراجعت فعليًّا لأدنى مستوياتها منذ اندلاع الحرب. فقط عدد قليل من رجال العصابات يَتشاجرون بعنفٍ خلال أوقات التعتيم، لكن لا شيء خطير. في هذه الظلمة الجهنَّمية، كنتَ ستظنُّ أنهم سينخرطون في الجريمة إلى أقصى درجة، لا سيما في هذا الجزء من المدينة.»

تلألأت عينا مكارثي. وقال على نحوٍ غريب: «إن معظم الشباب الأصغر سنًّا يتشاوَرُون حول أفضل طريقة للتجمُّع معًا وقتل السيرجنت ميجور.» وتابع: «أما البقية فيفكرون في حُججهم أمام المحاكم، عندما يظهرون كمُعارضين واعِين للعُنف من أي نوع أو صنف. إنه عالم غريب الأطوار، يا بيل، وهناك بعض القوم الغريبين للغاية الذين يعيشون فيه.»

«وهذا الجزء منه بالذات له نصيبه الجيِّد منهم.»

قال المفتِّش بابتسامة عريضة: «كواحد من سكان هذا الحي تحديدًا، حيث وُلِدتُ فيه وترعرعتُ في أنحائه، فإنني أعترض على هذه الملاحظة.» وأضاف: «إنه ليس أسوأ، ولا أفضل، من أي جزء آخر من لندن حيث يُوجَد سكان من أصول مُختلفة. هناك العديد من الأشخاص المحترمين تمامًا الذين يعيشون في سوهو كما هو الحال في ستريتام.» ثم عدل من حديثه قائلًا: «على الرغم من أنني مُلزَم بالاعتراف بأنهم لا يأخُذون الحياة على محمَل الجد هناك كما يفعلون هنا. وإذا كانوا ميَّالين جدًّا بعض الشيء إلى التعبير عن ذلك باستخدام السكين، بدلًا من الموسيقى، أو الزهور، فلا يجب أن تنسى أن هذا أمرٌ وراثي، وخاصية عرقية مُتأصِّلة بقوة. لا يُمكن إلقاء اللوم عليهم تمامًا في ذلك.» ثم اختتم كلامه بغِلظة قائلًا: «على أي حال، هذا يَجعل الشرطة المسئولة عن هذه المنطقة مُنتبهةً دائمًا، وهذا شيء جيد. انتظر دقيقة واحدة فقط حتى أقرأ رسالتي.»

ومن خلال تحريك أصابعه ببراعة والذي أظهر كيف كان مُعتادًا على تلقِّي رسائل من هذا النوع، ودون حتى إلقاء نظرة خاطفة على الأمر بينما كان يفعله، فتح مكارثي قطعة الورق الصغيرة التي أسقطها ماسكاني على المنضدة. وعندما فتحها ألقى نظرةً واحدة عليها، ليقرأ ويحفظ اسمًا وعنوانًا مُعيَّنَين. وبعد ذلك مزَّق القصاصة الورقية إلى قطع صغيرة لدرجة أنه حتى أكثر الناس اجتهادًا ما كانوا ليتمكنوا من تجميعها مرةً أخرى.

ثم قال لصديقه على نحو شبه حزين: «أجل، سيُصبِح هذا السبب في قتل صديقنا العزيز المنحرف فلوريلو يومًا ما. لا شيء مؤكَّد في العالم أكثر من ذلك!»

نهض المُفتش، وعلى ما يبدو، عبث بجَيب معطفِه الذي أخرج منه في النهاية علبة السجائر الخاصة به. وعندما جلس مرةً أخرى، وجَدَت ورقتان نقديتان طريقهما، كما لو كانت بخفة اليد، إلى جيب مِعطَف السيد فلوريلو ماسكاني.

كان الوقت عند منتصف الليل تقريبًا عندما شقَّ السير ويليام هاينس ومكارثي طريقهما إلى الخارج عبر الليل الحالك السواد مرة أخرى؛ وأطلق الأخير صفيرًا كي يَستدعيَ سيارة أجرة، ولكن دون جدوى.

فقال له شرطي كان في المكان: «لن تجد سيارة أجرة هنا، يا سيدي، للأسف.» وتابع: «يتطلب الأمر منهم كل ما يملكونه من مهاراتٍ لنقل الزبائن عبر الشوارع الرئيسية.»

قال المفوض المساعد، بابتسامةٍ ساخرة لم يستطع أحد رؤيتها: «إذن ليس أمامي سوى تلمُّس طريقي إلى بلومزبري.»

وأضاف: «هذا أسوأ ما في الخروج لتناول العشاء معك، يا ماك، كيفية العودة إلى المنزل بعد ذلك، في هذه الليالي.»

قال مكارثي بهدوء: «حمدًا لله أنَّ وضعي مُختلِف.» وتابع: «أنا لا أحب التفاخر ولا أعيش في قصرٍ في أحد ميادين بلومزبري. أنا أعيش بالقُرب من مصدر رزقي و«عملائي». وإذا وصلت الأمور إلى الأسوأ، يُمكنني دائمًا العودة إلى منزلي وسريري زحفًا على يديَّ وركبتيَّ.»

وتابع: «وبالحديث عن السرير، عندما أدخُل إليه في هذه الليلة، لن أخرج منه مرةً أخرى من أجل أي شخص. يُمكن للجواسيس أن يستمروا في التجسُّس ويمكن للقتلة أن يستمروا في القتل، ولكن في هذه الليلة سيَحصُل باتريك ألويشوس مكارثي على نصيبه العادل من النوم، كما لو كان لن يفعل ذلك مرة أخرى.»

قال السير وليام ضاحكًا: «هل يجب أن يُؤخَذ هذا على أنه يَعني أنك سترفض أداء أي مهمة خاصة بالعمل في حالة استدعائك؟»

«اعتبِرْ أنه رفض مُسبَق. طاب مساؤك، ولا تُعرِّض نفسك للتيه بين هنا وبيدفورد سكوير. فلن تستطيع سكوتلاند يارد تعويض تلك الخسارة أبدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤