الفصل التاسع

المفتش يتلقَّى صدمةً أخرى

تجاوز الوقت، وفق ساعة مكارثي، السابعةَ بقليل عندما غادر المشرحة، يتبعه ريجان، والذي كانت لا تزال قدماه تَرتعِشان قليلًا. وبعيدًا باتجاه الشرق، بدأ الضوء يُبدِّد ظُلمة التعتيم، ولأول مرة كان المفتش مُمتنًّا لمجيء الصباح. وإلا فإن ذلك كان سيَعني رحلة تلمُّس طريقٍ أخرى إلى دين ستريت؛ وهي رحلة سيئة للغاية في تلك الشوارع الضيقة، حتى مع وجود مصباح يَدوي.

واصلا طريقهما في صمت، وشعر مكارثي بأنه ليس لدَيه مزاج للحديث بعد الاكتشاف المفاجئ الكبير الأخير، وعلى ما يبدو، فإن السيد ريجان كان يشعر بنفس الشيء وإن كان بدرجةٍ أقل، ما لم يكن صمته ناتجًا عن احترام القاعِدة الذهبية التي ترى بأن عليك التحدُّث فقط عندما يتحدَّث أحد إليك. وبحلول الوقت الذي وصلا فيه إلى ريجنت ستريت، كان شروق الشمس قد اكتمل.

قال المُفتِّش فجأة: «سوف نستمرُّ حتى جلاسهاوس ستريت، يا داني، ونختصر الطريق إلى منزلي بهذه الطريقة.» وتابع: «سوف نتناول وجبة إفطار سريعة، لأنني يجب أن أكون في سوهو سكوير قبل الساعة الثامنة.»

في جلاسهاوس ستريت، التفَّ الاثنان، واختصرا الطريق عبر برور ستريت وسارا في اتجاه الشمال. كانت الشوارع خالية نسبيًّا في منطقة سوهو، مثل جارتها الأكثر ثراءً، منطقة مايفير، التي لم يكن سُكانها مُعتادِين على النهوض المبكر. كانت هناك عربة حليب غريبة أو اثنتان، يدفعهما رجال بدوا نصف مُستيقظِين مثل المنطقة التي يخدمونها، وكان الأولاد الذين يوزعون الجرائد يهرولون هنا وهناك، وكانوا يتوقَّفون فقط لدفع جرائد الصباح تحت الأبواب، أو عبر صناديق البريد. فجأة، حذَّرَته تلك الحاسة السادسة الغريبة، التي يبدو أنها غريزة لدى كلٍّ من المجرمين والرجال الذين يُطاردونهم على حدٍّ سواء، من أنه كان تحت المراقبة. من نقطة أو أخرى كان يُراقبه شخص غير مرئي! أم يا تُرى كان يُراقِب ريجان؟ كان هذا، أيضًا، ممكنًا في ظل هذه الظروف. وعلى الرغم من حرصه على نحو خاصٍّ على عدم إظهار أي علامة على أنه أدرك الحقيقة، فإنه سعى ببصرِه في كل مكان في الشارع الضيق لالتقاط الشخص الذي كان مُهتمًّا بمراقبة واحدٍ منهما، ولكنه لم يستطع على الإطلاق. لقد كان متأكدًا تمامًا من أنهما مُراقبان، لكن من يُراقبهما لهو بالتأكيد شخص بارع.

في زاوية ليكسيكون ستريت، والتي عندها التفَّ ليختصر الطريق نحو دين ستريت، ألقى نظرة أخرى تبدو عادية، ولكنها في الواقع كانت نظرةً متفحِّصة للغاية حوله، لكنه كان لا يزال غير قادر على رؤية أحد. ومع ذلك، استمرَّ الشعور لدَيه أقوى من أيِّ وقتٍ مضى بأنهما تحت المراقبة.

عندما دخلا دين ستريت نفسه، وأثناء عبورهما الطريق نحو مسكنِه، دون أدنى تحذير، ظهرت سيارة من العدم، هذا هو كل ما يُمكِن أن يقوله، واندفعت بسرعة غير قانونية تمامًا، مُتجهة نحوهما مباشرة. ولولا أنَّ مكارثي دفع ريجان بسرعة كالبرق، فوقع هذا الشخص المهزوز بالفعل على الرصيف، واندفع هو اندفاعًا مفاجئًا بنفس القدر إلى الجانب، لكانت السيارة قد صدمتهما بلا شكٍّ، وبوضع حجم السيارة في الاعتبار والسرعة التي كانت تسير بها، لأصبحت النتائج فادحة للغاية. وهكذا، فإن واقي الطين الخاص بالسيارة من الجانب القريب قد ألقاه بضربة خاطفة بقوة بحيث أرسلَه في رحلة غطس غير أنيقة تمامًا، وغير مُهذَّبة بالتأكيد، فوق ريجان. وقبل أن يتمكَّن من الوقوف على قدمَيه مرةً أخرى، سارت بسرعة أعلى، وانطلقت عبر كارلايل ستريت نحو سوهو سكوير واختفَت. وقد لاحظ، أن لوحة الأرقام الخلفية الخاصة بها كانت مُغطَّاة بالطين بكثافة بحيث لا يُمكن قراءتها مُطلقًا. وهذا، نظرًا لعدم هطول الأمطار في الثماني والأربعين ساعة الماضية، دلَّ على قصتها الخاصة.

كان يُساعد ريجان في الوقوف على قدمَيه عندما لاحظ، لأول مرة، أن ما حدث قد رآه ثلاثة من عمال البلدية الذين يَعملون في غسل المزاريب من صنبور أعلى قليلًا في الشارع. لقد كان معروفًا لدَيهم، مثلما كان معروفًا لدى معظم سكان هذا الحي الذي يجمع سكانًا من مختلف الجنسيات.

صاح مُشغل الخرطوم: «يا إلهي، أيها المُفتِّش، هؤلاء الأنذال كانوا مُتعمِّدين إصابتك! لقد جاءوا إليك مباشرة من مسافة خمسين ياردة تقريبًا من الخلف.»

قال المُفتِّش، بابتسامته المُعدِيَة: «يبدو بالتأكيد كما لو كانوا مُستائين منِّي لسببٍ أو آخر.» وتابع مُقترحًا: «هذا على الرغم من أنه ربما كان انزلاقًا غير مقصود تمامًا.»

قال مُشغِّل الخرطوم، بثقةٍ شديدة: «لم يكن هناك انزلاق في الأمر.» وتابع: «لقد توجَّهوا نحوكما مباشرة، كما أخبرتك. ربما كان ذلك بمنزلة انزلاق إذا كنَّا قد وصلنا بخرطوم المياه إلى هناك، لكن الطريق هناك جاف بشدة.»

سأل مكارثي: «لم يتصادَف أنك قد لمحتَ الرقم الموجود على اللوحة الأمامية، على ما أعتقد؟»

هز مُشغل الخرطوم رأسه. ثم أجاب: «لقد كانت مُغطَّاة بالطين بالكامل.» وأضاف: «إذا كنتُ فقط مركزًا بالقدر الكافي، لرششتُها بالماء، على الرغم من أن هذا لم يكن ليُجدي نظرًا للسرعة التي كانوا يسيرون بها.»

سأل مكارثي: «لم يتصادَف أن لمحتَ السائق وميَّزتَ أنه شخص تعرفه، على ما أظن؟»

هز الآخر رأسه نافيًا.

وقال: «كلا، أيها المُفتِّش.» وتابع: «لقول الحقيقة لقد حدث الأمر على نحوٍ مفاجئ للغاية، ولم أستطع أن ألحظ شيئًا.»

قال أحد زملائه: «كان هناك ثلاثة رجال في السيارة.» وأضاف: «أحدهم هو ذلك المُحتال القذر، ماسكاني. كان يُقرفص في زاوية محاولًا إخفاء نفسه، لكني لمحته.»

سأل مكارثي بهدوء: «هل أنت مُتأكد تمامًا من ذلك؟»

«متأكد أيها المُفتش. وأقسم على ذلك.»

قال مكارثي بهدوء: «حسنًا، حسنًا.» وتابع: «إن صديقنا الموقر فلوريلو ماسكاني لم يَعُد يحبُّنا، يا داني. لقد فعلنا شيئًا أزعجَه، على ما يبدو.»

غمغم النشال: «إنه لم يُعرني أي انتباهٍ من قبل.» وتابع: «فأنا لا أُمثل أي أهمية بالنسبة له.»

قال مكارثي بتجهُّم: «ربما يُعيرني أنا بعض الاهتمام.» وصحَّح لنفسه: «أو على وجه الدقة، سأُعير بعضًا له، في أسرع وقت.» وأضاف: «وبطريقةٍ ما، لا أظن أن فلوريلو سيُحبُّ ذلك.» ومرَّر ذراعه من خلال ذراع ريجان المُهتز بنحو كبير. وقال: «هيا، يا دانيال، لن نَسمح لهذه الحادثة الصغيرة أن تُفقدنا شهيَّتنا، ويجب أن أكون في سوهو سكوير قبل الثامنة.»

ولكن يبدو أنه لا تزال هناك دقيقة أو دقيقتان أُخرَيان ستَضيعان من الوقت القصير للغاية المتاح للمفتِّش. إذ كان على مقربةٍ من باب منزله عندما توقفت سيارة إسعاف تابعة للشرطة بجانبه على نحوٍ مفاجئ، والتي كانت تسير بسرعة شديدة عبر دين ستريت باتجاه شافتسبري ستريت. وقد كان يَجلس في مُقدمتها، بجانب السائق، السيرجنت الذي فتَّش معه المنزل في سوهو سكوير، قبل ساعات قليلة.

حيَّاه وهو في حالةٍ من الانفعال الشديد ثم قال: «هل تعرف آخر الأخبار، أيها المفتِّش؟»

سأل مكارثي: «آخر الأخبار؟» وأضاف: «أخبار ماذا؟»

«لقد عُثر على العجوز جو أنسيلمي ميتًا ومتيبسًا في فناء منزله الخلفي، قبل أقل من ثلاثة أرباع الساعة. رأى بعض الجيران الجثة مُلقاة هناك من نوافذهم العلوية وأبلغونا. ويقول الطبيب الذي فحصه إنه قُتِل في وقتٍ ما بين مُنتصَف الليل والساعة الواحدة صباح اليوم على حدِّ علمه. ونحن نعلم أنه لا بدَّ أن هذا قد حدث بعد الحادية عشرة والنصف؛ لأنه شُوهِد وهو يذهب إلى فناء منزله في ذلك الوقت.»

كرَّر مكارثي في ذهول شديد: «جو أنسيلمي» وتابع: «إذن … إذن ليس من المُمكِن أن يكون هو الذي دفع عربة القهوة تلك خارج سوهو سكوير في الليلة الماضية، في الوقت الذي سُمِعت فيه تلك الصرخة.»

قال السيرجنت على الفور: «هذا أمر مؤكَّد»، ثم تابع غاضبًا: «إذا كان الحمقى اللُّعناء قد أبلغوني فقط أنه فعل ذلك، لعلِمتُ أن هناك خطأ ما؛ لأن تصريح أنسيلمي بوقوف عربة القهوة في المكان الذي تقف فيه قد أُلغِيَ قبل خمسة أيام، بسبب التعتيم. ولم يقف هناك هذا الأسبوع.»

قال مكارثي بتمعُّن: «إذن، هكذا خرجت الجثة من سوهو سكوير الليلة الماضية.»

قال السيرجنت: «لا بد أن هذا ما حدث؛ لم تكن هناك طريقة أخرى يُمكن تدبُّرها.» وتابع، مع نظرة خبيثة في عينيه: «والآن، كلُّ ما عليك فعله الآن، أيها المفتش، هو العثور على الجثة.»

قال له مكارثي: «لقد عثرتُ عليها.» وتابع: «لقد عدتُ للتو من المشرحة. أوه، وبالمناسبة، أيها السيرجنت، من أجل توجيهك الأخير، سأُخبرك فقط أن تلك الصرخة جاءت من رجل، وليس امرأة.» تابع بسرعة، قبل أن يتمكَّن السيرجنت من القيام بأكثر من فتح فمه في دهشة: «أخبِرني كيف قُتل جو المسكين؟»

أجاب السيرجنت بإيجاز: «لقد طُعن.» وزمجر قائلًا: «وفعلوا ذلك كما لو كانوا يُحبُّون فعل الأمر، أولئك الخنازير القتَلة.» وأضاف: «لقد قتلوه بطريقةٍ بشعة. إذا أردتُ أن أرى رجلًا — أو ربما رجالًا — يتدلَّى من حبل المشنقة، فهو من قتل جو أنسيلمي. لقد كان رجلًا محترمًا.»

قال مكارثي بهدوء: «لقد كان كذلك بالفعل.» وتابع: «وستَحصُل على أُمنيتك أيها السيرجنت. اعتمِد عليَّ، ستَحصُل عليها في أسرع وقت. لقد دفع لي جو العجوز ثمن العديد من المشروبات والأطعمة عندما كنتُ طفلًا صغيرًا في هذه الشوارع؛ وأعتقد أن شنْقَ قاتليه قد أصبح مهمَّتي.»

وبعد أن أنهى مكارثي وجبة الإفطار التي تناولها على عجل — وهي الوجبة التي قضَت أخبار السيرجنت على كل شهيته خلالها — التفت إلى السيد ريجان الجائع للغاية، الذي انقضَّ عليها مثل رجل لا يتوقَّع أن يرى الطعام مرة أخرى.

وقال: «الآن، يا داني، كما أخبرتك من قبل، إنَّ الوقت ثمين بالنسبة لي هذا الصباح، لذا ابدأ الحديث. أخبِرني بما حدث من اللحظة التي تركتك فيها في أكسفورد ستريت حتى فقدتَ وعيَك في بارك لين. قُل لي كل شيء، بكل التفاصيل التي يُمكنك تذكُّرها.»

•••

عندما ترك المفتش مكارثي «داني ذا ديب»، شرَع ذلك الرجل في تنفيذ المهمَّة المُوكلة إليه بإخلاصٍ من كل قلبه وروحه. في البداية، كان بلا شك مُستسلمًا للمُلاحَقة الجنائية عندما هبط عليه المفتِّش مكارثي مثل صاعقةٍ من السماء، وكان يُدرك جيدًا أن المفتِّش يَعرف تمامًا ما هو مُقدِم عليه، مثلما يعرف، هو نفسه. وبقدر ما سمح له عقله المحدود السيئ، كان مُمتنًّا لأنه تركه.

لو كان «داني ذا ديب» قد سُمِّي «داني ذا رات» (أي، «داني الجرذ») لما أصبحَتْ تسميةً خاطئة، لأنه لم يكن هناك جرذ عجوز في المجاري التي يعيش فيها أكثر دهاءً من هذا العضو المُحدَّد من طائفة الصعاليك. إذ إن ما لم تستطع عيناه أن تُخبره به، كان يُمكن أن تُخبره به أذناه، والشخص البارع بالفعل هو من يستطيع أن يخدع أيًّا من هذَين العضوين لدَيه.

ومن ثم تحركت طريدته بطول أكسفورد ستريت، وأخذ «داني ذا ديب» يتتبَّعه، وكان الرجل يمشي، بالحُكم من صوت خطوته، بنفس التأني، وهو يشعر بأمانٍ مُضاعَف في الظلام المطبق للتعتيم. كان داني على درايةٍ كاملة بأكسفورد ستريت مثلما كان على دراية بأي شارع رئيسي آخر في العاصمة؛ فهذه الشوارع بالنسبة له في الضوء أو أسوأ حالات الضباب الكثيف الممكنة، كانت معروفة تمامًا مثل السُّلَّم المؤدِّي إلى غرفته الخلفية الموجودة بالطابق الثالث. وعند زاوية شارع مارليبون لين، المؤدية إلى ويجمور ستريت، توقف الرجل وبدا وكأنه ينتظر إلى أن يقترب منه شرطي دلَّت خطوته الصلبة على اقترابه على نحوٍ لا لبس فيه. ووقَفا للحظة أو اثنتَين يتشاوران؛ حيث من الواضح أن الرجل كان يستفسِر عن شيء.

للحظة أو اثنتَين جال بخاطر النشَّال فكرة غير سارَّة مفادها أن الرجل قد اكتشف أن هناك من يتتبَّعه وقدم شكوى للشُّرطي حول ذلك؛ فقد قال المُفتش إنه رجل مراوغ، ويجب توخِّي الحرص معه. ولم يَرُق هذا التشاور للسيد ريجان بعض الشيء؛ حتى كونه مُكلَّفًا بمهمة من قِبَل المفتش المُحقق مكارثي لم يُبعِد عنه شعوره اللحظي بعدم الارتياح.

ولكن بعد لحظةٍ أو اثنتين أنبأته أذناه الحسَّاستان أن الرجلَين قد افترقا؛ حيث واصل الشرطي خطوته المعتادة في مسار دوريته، بينما سرَّع الآخر من خطوته بعض الشيء في اتجاه كشك هاتف يعلم داني أنه موجود على بُعد مسافة قصيرة عبر مارليبون لين. ودخل الرجل إلى كشك الهاتف وبمُساعَدة ضوء مصباحٍ يدويٍّ يحمله، طلب رقمًا ما وظلَّ هناك لثلاث دقائق كاملة.

وبعد مغادرة الكشك، عاد إلى أكسفورد ستريت وبخطوةٍ أكثر بطئًا من ذي قبل، عبَر الطريق واتجه نحو قوس ماربل آرتش. وعلى الفور تتبَّعَه مُراقبُه، دون أن يُحدِث أدنى صوت مثل قط يتتبع خلسةً عصفورًا. وتوقَّف الرجل على نحوٍ مفاجئ عند زاوية بارك لين. وبعد لحظةٍ أو اثنتَين، أشعل سيجارة؛ فمنح ضوء عود ثقابه الفرصة لداني كي يتأكَّد أنه في طريقه الصحيح؛ ثم توجَّه ببطء نحو زاوية الحديقة في الشارع وهناك وقف منتظرًا، وكان وهج سيجارته مفيدًا وبمنزلة عمود إنارة لمراقبه.

مرَّت خمس دقائق دون أن تتحرَّك طريدته، وهي فترة توقُّف مرَّت بصعوبة على «داني ذا ديب»، لأنه عند زاوية شارع إدجوير رود، لمحت عيناه التي تُشبُه عينَي القطِّ تمامًا سرابًا خافتًا لضوء أنبأَهُ عن أن عربة القهوة التي عادة ما تقف هناك ما زالت تُقدِّم خدماتها. وقد ضاعَف مجرَّد التفكير فيها ضربات الجوع التي، مثل الفأر، راحَت تَنهَش فيه على نحوٍ مُخيف. وقد زاد ارتباكه لدرجة أنه، مع عدم رؤية أي حركةٍ من جهة طريدته، قرَّر أن يُجازف. ولم يكن يخشى أن تصدمه سيارة في هذا الوقت من الصباح، وفي ظلِّ هذه الظروف، ومع استمرار مُراقبته للطرف المُشتعل من السيجارة، اتجه مُسرعًا نحو عربة القهوة، وأنفق شلنَين من الشلنات التي معه على شراء ساندوتشات، وأوشَكَ على طلب كوبٍ سريع من القهوة عندما اختفى الضوء.

فأمسك كيس الساندوتشات وباقي النقود وأسرع عبر الشارع إلى النُّقطة التي رأى عندها الضوء آخر مرة؛ ولم تكن هناك أي إستراتيجية في تحرُّكاته، فكلُّ ما أراده هو أن يَلتقِط أثر الرجل مرةً أخرى. وبينما كان يُسرع حول الزاوية ويأكل طعامه بنهَم، وجد الرجل محلَّ اهتمام المُفتِّش مكارثي. لقد كان يقف في ظلِّ إحدى أشجار الحديقة، وفي اللحظة التي وجدَه فيها داني، أشعل سيجارة أخرى.

لم يلحَظ على الإطلاق الشخص الذي كان يُسرِع خلفه. ومع بعض الارتباك، تابع داني السير وعبر الشارع حتى وصَل إلى زاوية شارع نورث رو، ومن عند تلك النُّقطة أبقى عينَيه ثابتتَين على وهَج السيجارة، وتمنَّى لو أن الرجل قد قرَّر التحرُّك في اتجاهٍ أو آخر.

وبعد بُرهة بدأ يتحرَّك الضوء عبر بارك لين، في اتجاه شارع بيكاديلي؛ وبدا على المُدخِّن أنه يسير بنفس الهدوء، والطريقة المُتأنِّية التي اتبعها سابقًا. بينه وبين نفسه، شعر داني بالامتنان لطرف السيجارة المُتوهِّج هذا؛ فقد كان له بمنزلة المنارة للبحار. وبعد أن تركه يَسبقه بمسافة قصيرة، عبر، هو أيضًا، الشارع، وبنفسِ الطريقة الصامتة واصَل تتبُّعه.

كان المُتتبِّع والمتبوع عند منتصَف بارك لين تقريبًا عندما جاءت بسرعة من خلفه سيارة كبيرة ذات أنوار مُطفأة تمامًا، ثمَّ توقفت مع صرخةٍ من فراملها المُعتصرة. وقبل أن يدرك ما كان يحدث، قفز منها ثلاثة رجال وأسرعوا نحوه. أنبأته سرعة هجومهم عن أنهم ينتوون شرًّا وبدون تردُّد وجه لَكمة سريعة لأول من اقترب منه. تفادى الرجل الضَّربة بسهولة، وفي اللحظة التالية هبطت قبضة فولاذية خلف عنق داني، جعلته يدور، وهو شِبه مُترنح، نحو السور. وبعد ذلك، تلقَّى ضربةً على رأسه من شيء، ظن أنه قضيبٌ حديدي، فتراقَصَت ملايين الأضواء أمام عينيه، ثم بدا له أنه أخذ يَنزلِق لأسفل عبر أنبوب طويل للغاية مصنوع مما بدا أنه مخمَل أسود باتجاه العدم.

هذا هو كل ما أدركَه إلى أن وجد شرطيًّا يَقتاده إلى قسم شرطة في مكانٍ أو آخر، وسمِعَه يقول لمُفتِّشه إنه قد وجَده يتجوَّل في هامبستيد هيث. وبينما هو شِبه مُترنِّح أدرك أن الشرطي قد وجد بجواره جثَّة شخصٍ مقتول، وبدا له أن لداني علاقة على ما يبدو بالجريمة. وبقدر استطاعته، حاول داني أن يَشرح أنه كان يُؤدِّي مهمَّةً من أجل المفتش المُحقق مكارثي في سكوتلاند يارد، وأنه إذا اتَّصل أحد على رقم الهاتف الذي أعطاه لهم سيَجد أن كلَّ شيء على ما يُرام فيما يخصُّه. وبعد ذلك، لا بدَّ أنه قد دخل في إغماءة أو شيء من هذا القبيل؛ لأنه لا يتذكَّر أي شيءٍ آخر إلى أن حاولوا إفاقته كي يُعيدوه إلى ويست إند.

كانت هذه هي القصة التي كان يتوجَّب على «داني ذا ديب» أن يَقصَّها على المفتش، وكانت كل كلمةٍ فيها هي الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة، لدرجة لا يَحتاج معها الضابط المُخضرَم لمن يؤكد له ذلك. فالدليل في هذا الصدَد كان جالسًا أمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤