الفصل الثالث

حكَّام لا يُعتمد عليهم

قال عالِم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز مرةً: «كلنا نبدأ حياتنا بقدرةٍ غريزية تؤهلنا لعيش ألفِ نوع من الحيَوات، وينتهي بنا المطافُ بعيشِ نوعٍ واحد فقط.»1 وقد دفعَني سببٌ ما إلى التفكير مليًّا في ذلك عندما كنتُ أُعِدُّ خطابًا لحفل عيدِ ميلادي الخمسين. لقد تذكرتُ هذه المقولة لأنني، وإن كنتُ لم أستطع تخيُّل الأنواع الألف الأخرى التي كان بوُسعي أن أعيشها، كنت أفكر في نسخةٍ أخرى من نفسي. كان اسم هذه النُّسخة بول. وكما رأيتم في مقدمة الكتاب، كان ظهوره الأول في حياتي في عمر العاشرة، حين كنت في عامي الأول في إحدى المدارس الابتدائية البريطانية. كنا آنذاك قد انتقلنا للتو من بيروت إلى بيرلي في جنوب لندن، وخلال هذا العام الأول، قرَّر المعلمون أن يُنادوني باسمي المسيحي الأوسط مدةً من الوقت. لكنَّ بول سرعان ما اختفى بعد ذلك.

وسأقفز هنا سريعًا عبر الزمن إلى عام ١٩٨٩، عندما كنتُ أحاول دخول مجال النشر، بعد تخرُّجي في الجامعة، وعاود بول الظهورَ بطريقةٍ بَغيضة. كنتُ قد أرسلت إلى أكثرَ من مائة ناشر، تجاهَلوني جميعًا أو رفَضوني، ما عدا دارًا واحدةً أجْرَت معي مقابلةً شخصية لوظيفةٍ لكني لم أحصل عليها. وعندما تحدثتُ إلى والدي بخصوص ذلك، قال إنَّ المشكلة تكمن في اسمي الأول، وإنني ينبغي أن استخدم بدلًا منه اسمي الأوسط، بول. صُعِقتُ من هذا الاقتراح، لكني كنتُ يائسًا جدًّا آنَذاك بعد ثمانية أشهر بائسةٍ من التقدُّم بطلبات الحصول على وظائفَ في مجال النشر، بينما كنتُ أعمل في قسم تجارة المعاطف والسترات والحُلَّات في شركة «دوروثي بيركنز». لذا ابتلعتُ كبريائي، ونفَّذتُ الاقتراح. وهكذا أبلى بول بلاءً أحسنَ بكثير ممَّا أبلاه زياد. فقد تقدَّم بسبعة طلبات، وحصل على أربع مقابلات شخصية.

ما زلتُ أتذكر بكل وضوحٍ حين كنتُ قاعدًا في غرفة المقابلات الشخصية منتظرًا دوري بعدما أنهيتُ اختبارًا بسيطًا قبل المقابلة عن إحدى موسوعات الأطفال. فقد جاءني الشخصُ المسئول عن إجراء المقابلة، وقال: «نحن جاهزون لإجراء المقابلة معك الآن يا بول.» استغرقتُ بعض الوقت لأُدرك أنه كان يُخاطبني أنا، ثم وقفتُ مرتبكًا مُحمرَّ الوجه.

على أي حال، عُرِضَت الوظيفة على بول. وفي الوقت نفسِه، تلقيتُ عرضًا من شركة «سيدج» التي ما زلت أعمل فيها حتى اليوم. وفي الواقع، كنتُ قد تقدمتُ قبل ذلك بطلبٍ إليهم باسم زياد؛ لأنها كانت دارَ النشر الوحيدة التي منحَتني فرصةَ إجراء المقابلة الشخصية في دفعة الطلبات الأولى التي كانت مكوَّنة من نحوِ مائة طلب. لذا أعَدتُ تقديم الطلب في المرة الثانية باسمي الأول، مُفترضًا أنَّ بياناتي ستكون محفوظةً في سجلاتهم.

وفي ظل وجود عرضَين أمامي، واجهتُ لحظةً قد تبدو غيرَ مُهمة لكنها غيَّرتْ مسار حياتي، وهذا ما أدركتُه الآن حين تأمَّلتُ الماضي. نحن نُدرك أنَّ الحياة بها الكثير من التقلبات والمنعطفات التي قد تُشكل حياةَ إنسانٍ ما، لكنَّ هذا كان قرارًا ملموسًا أتذكر أنه دفعني في مسارٍ مُعيَّن. فقد واصل بول المُضيَّ قدمًا ليعمل في شركة «كينجفيشر»، فيما ذهبتُ أنا للعمل في شركة «سيدج»، بصفتي زياد.

fig4
شكل ٣-١: النسب المِئوية لردود المشاركين في استطلاع عبر الإنترنت

عندما أسترجع أحداثَ الماضي، لا أعرف لماذا صُعقتُ هكذا من اقتراح أبي. ففي الوقت الذي ربما تدَّعي فيه شركاتُ مجال النشر أنَّه مجالٌ تقدُّمي جدًّا، كنتُ قد رأيتُ ما يكفي من خلال منظور والدي، واستقيتُ من شهادتي الجامعية في مجال علم النفس رُؤًى كافية، لأُدرك أنَّ أحكام البشر مليئةٌ بتحيُّز غير واعٍ. لذا تلجأ منظمات كثيرة حاليًّا، في إطار جهودها الرامية إلى مكافحة التحيُّز والأحكام المُسبقة، إلى إخفاء أسماء المتقدِّمين للوظائف، للمساعدة في ضمان ألَّا يستطيعَ أصحابُ العمل إصدارَ أحكامٍ مُجحِفة بِناءً على بعض الإشارات، كأن يكون اسم المتقدم غيرَ غربي مثلًا.

غير أنَّ قراءة المؤلفات المتعلقة بالتحيز اللاواعي تُصيب المرءَ بإحباطٍ شديد، عندما تتأمل ما يَرِدُ فيها عن مدى تعرضنا للتأثُّر بقوالبَ نمطية وانطباعاتٍ أولى غير موثوقة. ومهما نُقنع أنفسنا بأننا منصفون، تشير الأدلة إلى أننا نحمل تحيزاتٍ غيرَ واعية تؤثر في تصورات كلٍّ منا عن الآخرين. ولأننا نحمل هذه التحيزات بلا وعي منَّا، لا نملك قدرة كبيرة على فعل شيء بشأنها.2
نرى في الشكل ٣-١ الوارد أدناه نتائجَ ملايين الإجابات على اختبار الترابط الضمني الذي أجْرَته جامعة هارفارد.
وبينما يدور جدلٌ كبير حول ما إذا كانت هذه النتائج تتنبَّأ بالسلوك العنصري على مستوى الأفراد بالفعل، فإنها في المُجمل تُظهِر صورةً مُقلقة جدًّا. فالتصورات التي نُكوِّنها بِناءً على لون البشرة، يُمكن أن نُكونها بِناءً على النوع أيضًا. فوفقًا لهولاء الباحثين، نحن نفترضُ أنَّ أغلب مَن يعمل في التمريض نساء، وأن أغلب من يعمل في الهندسة رجال، وأشياء كثيرة بالإضافة إلى ذلك. وهذه النزعة منتشرةٌ على نطاقٍ واسع جدًّا. فالجميع تقريبًا مُتحيزون، بمَن فيهم أفراد الفئات التي تتعرَّض لتقييماتٍ سلبية. وهنا تجدُر الإشارة إلى أنَّ عددًا متزايدًا من الأبحاث توصَّل إلى مفهومٍ مزعج للغاية يُعرَف بمفهوم «تهديد القوالب النمطية»، وهو مفهوم يوضح كيف أنَّ ضحايا التحيزات أنفسهم يتبنَّون القوالبَ النمطية السلبية التي يوضعون فيها إلى أن تُصبح مترسخةً في قرارة أنفسهم. فقد أجرى أساتذة علم النفس ستيفن سبنسر وكلود ستيل وديان كوين تجرِبةً رياضية أعطَوا فيها بعض الرجال والنساء اختبارًا في الرياضيات، وأخبروا نصف النساء المشاركات بأنَّ الاختبار أظهر فروقًا بين الجنسين.3 فجاء أداء النساء اللواتي قيل لهن ذلك أسوأَ بكثير من أداء الرجال، في حين جاء أداء النساء اللواتي لم يُخبَرن بتلك المعلومة جيدًا قدر أداء الرجال. أي إنَّ مجرد إخبار النساء بأنَّ اختبارًا في الرياضيات لا يُظهِر فروقًا بين الجنسين قد أسفر عن تحسين أدائهن في الاختبار. وقد وُجدَت أمثلة مشابهة أخرى على مفهوم تهديد القوالب النمطية أنَّ مجرد مُطالبة الممتحِنين بذكر نوعهم الجنسي أو عِرقهم في بداية اختبارٍ ما تجعل أداءهم أسوأ، متوافقًا على الأرجح مع القوالب النمطية المتصوَّرة عنهم، التي تُبرَز بهذه النوعية من الأسئلة.4 ووفقًا لما ذكره آيرس بونيت، الأستاذ بجامعة هارفارد، تشهد الولايات المتحدة إنفاق ثمانية مليارات دولار سنويًّا على برامج التنوع، مع عدم وجود أدلة كافية على أنها تُحقق المرجوَّ منها.5

كيف نحكم – براعم التذوق الأخلاقي

«جولي ومارك أختٌ وأخ. وهما مسافران معًا في فرنسا في إجازة صيفية من الكلية. كانا يمكثان وحدَهما في كوخٍ قريب من الشاطئ ليلةً ما. وقرَّرا أن يُجربا ممارسة علاقة جنسية معًا؛ إذ رأيا أنَّ هذا سيكون شائقًا ومُمتعًا. على الأقل ستكون هذه تجرِبةً جديدة بالنسبة لكليهما. كانت جولي تتناول حبوب منع الحمل بالفعل، لكنَّ مارك يستخدِم واقيًا ذكريًّا أيضًا، على سبيل الأمان ليس أكثر. استمتعا كليهما بهذه الممارسة، لكنهما قرَّرا ألَّا يُكرراها مجددًا. واتفقا على أن تبقى هذه الليلةُ سرًّا خاصًّا بينهما؛ ما جعلهما يشعران بأنهما أقربُ إلى بعضهما البعض أكثرَ من ذي قبل.

ما رأيك في ذلك؟ هل كان هذا التصرف مقبولًا؟» (هايت، ٢٠٠١، صفحة ٨١٤).

إذا رأيتَه مقبولًا، فسنعود إلى السبب الذي يوضِّح لماذا قد يكون كذلك. أمَّا إذا رأيتَه غير مقبول، كما يراه الكثيرون، فاسأل نفسك لماذا تراه هكذا. هل يُوجَد تفسيرٌ منطقي لاعتراضك أم أنك جَفلتَ لأنك تراه فعلًا مُنافيًا للأخلاق فحسب؟ يُبين هذا المثالُ الفجوة بين الأسباب التي نظنُّ أننا نبني حُكمنا عليها والمُحرِّك الفعلي لهذا الحكم. ففي النهاية، استطاع جوناثان هايت وزملاؤه بدهاءٍ شديد أن يدحَضوا، في وصفهم للموقف، الاعتراضاتِ البديهيةَ المتوقَّعة المتعلقة بالمخاوف الصحية المرتبطة بإنجاب أيِّ طفلٍ من علاقة كهذه، أو الضرر النفسي على الأخت والأخ نفسَيهما، وما إلى ذلك. وفي الواقع، عندما طُلِب مِمَّن حكَموا على «جولي» و«مارك» بأنهما فعلا شيئًا خاطئًا أن يُعللوا إجابتهم بالأسباب، سرعان ما انتابَتهم الحيرة، لكنهم لم يستطيعوا التخلِّيَ عن قناعتهم الحَدْسية الأولية بأنَّ هذا ليس مقبولًا. وهذا ما يُسمِّيه هايت «الذهول الأخلاقي»، ومضى يوضح أننا، عندما يتعلق الأمر بالأحكام الأخلاقية، نُبادر بردٍّ بديهي (مُعبِّر عن الاشمئزاز في هذه الحالة) ثم نُلبِسُه ثوبَ المنطق والعقل بعدئذٍ.

وفي هذا الصدد، أظهر خبيرُ علم النفس دانيال كانمان (استنادًا إلى مَسيرةٍ مِهنية من العمل مع زميله الراحل آموس تفرسكي) أنَّ لدينا نظامَين فكريَّين يُوجِّهان أحكامنا وقراراتنا.6 النظام الأول سريع وحَدْسيٌّ ويوجهنا دون وعي منَّا (مثلما يحدث عندما نجمع ٢ + ٢ أو نقود السيارة ونحن نحاور شخصًا ما)، والنظام الثاني بطيءٌ وملحوظ وصعب (مثلما يحدث عندما تضرب ٢٤٧ × ١١٦، أو تقود السيارة إلى الوراء لتوقفها في مكانٍ ضيق). كانت فكرته أنَّ جزءًا كبيرًا من تفكيرنا يَستخدِم النظامَ الأول، المليء بما يصفه كانمان بالتحيُّزات والاستدلالات والمُغالطات التي تجعلنا عرضةً بشدةٍ لما يُسمِّيه الأوهامَ الإدراكية. وهذه الأذواق تُشكل أحكامنا الإدراكية بطرقٍ لا تُعَد ولا تُحصى.7 ويعني «الانحياز للمتوفِّر» أنَّ احتمالية توقُّعنا لوقوع حدثٍ ما ستكون أكبرَ إذا استطعنا بسهولةٍ أن نستحضر في أذهاننا مثالًا له (مثل خبرٍ عن سرقةٍ بالإكراه) مقارنةً باحتمالية توقُّعنا حدوثَه باستخدام المتوسطات الإحصائية. فيما يعني «تأثير الارتساء» أننا نُبالغ بشدةٍ في الاعتماد على معلومة مُعينة عند اتخاذ قرارات أو وضع تقديرات. وقد استطاعت ابنتي إيلي إثبات ذلك مع أصدقائها في المدرسة بأن طلبَت منهم تخمين عمر المهاتما غاندي عند موته. فعندما طُلب منهم التخمين مباشرة، تراوحَت إجاباتهم حول الرقم ٨٠. ولكن عندما طُلب منهم التخمينُ بعد توجيههم للاعتماد على معلومةٍ معينة بذكر عددٍ أكبر مما ذكروه (بسؤالهم «هل كان عمره أقلَّ من ١١٤ عامًا حين مات؟») انتهى بهم المطاف بتخميناتٍ تتراوح حول الرقم ١٠١ (كان عمره آنذاك ٧٢). وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أصحاب المطاعم الحاذقين، الذين يعرفون هذا التأثيرَ بالغريزة، يضعون نبيذًا باهظَ الثمن في القائمة ليجعلوك أكثرَ استعدادًا لإنفاق مبلغٍ أكبرَ ممَّا كنتَ ستُنفقه لو لم يفعلوا ذلك.

تُلحِق مغالطة معدَّل الأساس ومغالطة معدل التزامُن ضررًا بالغًا بتقديرنا للاحتمالات النسبية. فعندما عُرض على الناس وصفٌ ﻟ «ليندا»، وقيل لهم إنها طالبةُ فلسفة منخرطةٌ في أنشطة سياسية، ثم طُلب منهم تخمينُ احتمالية أن تُصبح في وقتٍ لاحق من حياتها «موظفةَ صِرافة بنكية» أم «موظفةَ صرافة بنكية وناشطة في الحركة النسوية»، رجَّحوا الاحتمال الثاني. غير أنَّ الاحتمال الثانيَ مجردُ جزءٍ فرعي من الاحتمال الأول، ولا يُمكن أن يكون أرجح. وهكذا تطول قائمةُ هذه التحيزات والاستدلالات. ولكن في الوقت نفسِه، ووفقًا لكانمان، يستطيع النظام الفكري الثاني — الذي يتَّسم بقدرٍ أكبرَ من التروِّي والجهد والمنطق والوعي — تصحيحَ الأخطاء التي ارتُكِبَت في النظام الأول.

كان كانمان وتفرسكي يُجريان أبحاثهما ودراساتهما في مجال الإدراك والتفكير المنطقي. ولكن تُوجَد مكافئات لنظام التفكير الأول تمتدُّ من عالم الحكم واتخاذ القرارات، الذي نوقِش للتو، إلى مجال الأحكام الأخلاقية والاجتماعية. فنحن نميل، على سبيل المثال، إلى تبنِّي نظرةٍ وردية غير مبرَّرة لسلوكنا الماضي (والسلوك المتوقَّع)، بينما يكون لدينا تحفزٌ واضح لنسيان أفعالنا غير الأخلاقية. بل ونستخدِم أفعالنا الأخلاقية السابقة رُخصةً لأفعالنا غير الأخلاقية اللاحقة (كما لو كانت تعتمد على رصيدٍ ائتماني أخلاقي)؛ فنحن نحكم على الفعل بأنه حسَن أو سيِّئ أخلاقيًّا بِناءً على كيفية تأطيره، وغالبًا ما سنستخدم معلوماتٍ غيرَ ذات صلة للحكم على السلوك السيئ. فنُحبِّذ بلا وعيٍ منَّا المصالح الأنانية على الغيريَّة، دون أن نُدرك ذلك.8 وسأعود لاحقًا إلى ما إذا كان يُوجَد نظامٌ مكافئ لنظام التفكير الثاني يُمكننا من تصحيح هذه التحيُّزات الأخلاقية.

كم مرةً نستجيب للأحداث والأخبار اليومية في حياتنا ونحكم عليها دون ركيزة عقلانية؟ نحن لا نُحب أن يُحكَم على الآخرين أحكامٌ غير عادلة، لكننا نُطبق مجموعةً استثنائية من المعايير في تحديدِ ما هو عادل. ويبدو أننا لا نستطيع رؤية مدى تأثير تقديراتنا الحدسية وتخميناتنا. وسيستكشف هذا الفصل بعضَ هذه المعايير الغريبة، ويُلقي الضوءَ على الجانب الغامض والاستثنائي من الأحكام الاجتماعية.

ورَدَت قصة «جولي» و«مارك» في المؤلَّفات المتعلقة بالأحكام الأخلاقية مثالًا على الكيفية التي تدفعنا بها انفعالاتنا ومشاعرنا نحو إصدار حكمٍ مُعيَّن قبل أن يتوصل تفكيرُنا المنطقي إلى مبرراته اللاحقة لهذا الحكم بوقتٍ طويل. والشعور المقصود هنا هو الاشمئزاز، ويبدو جليًّا، وَفق مجموعة واسعة من الأبحاث، أنَّ الاشمئزاز اللحظي المفاجئ يُمكن أن يؤثر بقوةٍ في تشكيل تقييماتنا الأخلاقية. وقد وجد علماء النفس أنَّ هذا يمكن توضيحه بمثالٍ حرفيٍّ جدًّا. فإذا طلبتَ من مجموعة أشخاص أن يغسلوا أياديَهم بالصابون قبل الإجابة على استبيانٍ يستطلع الآراء عن قضايا متعلقة بالطهارة الأخلاقية، مثل إدمان المواد الإباحية وتعاطي المخدرات، فإن انتقاداتهم تكون أشدَّ من انتقادات أولئك الذين لم يغسلوا أيديَهم.9

كانت المرة الأولى التي صادف فيها هايت مثلَ هذا النوع من الظواهر أثناء عمله مع زميلةٍ من البرازيل تُدعى سيلفيا كولر. فقد طرَحا معًا سلسلةً من الأسئلة الاستفزازية على أشخاصٍ في كلٍّ من البرازيل والولايات المتحدة. وكان من أبرز الأسئلة الكاشفة: كيف سيكون ردُّ فعلك إذا أكلَت أسرةٌ ما جثةَ كلبها الأليف، الذي دهسَته سيارةٌ دون قصد في صباح ذلك اليوم؟ وجد هايت اختلافاتٍ بين السكان في درجةِ استعدادهم للحكم على هذه القصة من الناحية الأخلاقية. فقد رأى طلاب إحدى المدارس الخاصة من فيلادلفيا هذا السيناريو مقززًا، لكنهم لم يحكموا عليه بأنه غير أخلاقي؛ لأنه لم يُسبب ضررًا لأحد. وعلى النقيض من ذلك، حكمَت طبقاتٌ اجتماعية مختلفة في الولايات المتحدة وبعض الأشخاص في البرازيل على ذلك السيناريو بأنه غيرُ أخلاقي؛ استنادًا إلى مفاهيم الولاء والروابط الأسرية (إذ اعتبَروا الحيوان الأليف أحدَ أفراد الأسرة) والسلطة والاحترام والطهارة.

وهكذا نُطلِق أحكامنا من خلال تقييماتٍ مِعيارية. فالحدس الأخلاقي بمنزلة إدراكٍ واعٍ، وعيًا مفاجئًا أو طفيفًا جدًّا، لسِمات شخصٍ آخَر أو أفعاله (كأن نُعجَب به أو نُبغضه، أو نجده مقرفًا أو لطيفًا، جيدًا أو سيئًا)؛ قشعريرة مفاجئة مُحمَّلة بحُكمٍ يكاد يكون غير محسوس تسري خلالنا، وغالبًا ما يستحيل أن يخضع لفحص وتدقيق عقولنا المفكرة.10
وبينما تؤدي المشاعرُ والانفعالات دورًا واضحًا في التقييم الاجتماعي، نميل إلى تصويرها بأنها تُلقي بظِلالها على أحكامنا والخيارات التي نتَّخذها وَفق هذه الأحكام. فالجرائم التي تُرتَكبُ بدافعٍ عاطفي مُفاجئ دون تعمُّد تعتبر أقلَّ وطأة من تلك التي تُرتَكب على نحوٍ أكثر تعمدًا. وهنا يصف فيليب روث الغيرة، في وصفٍ ثاقب بارع إلى حدٍّ مؤلم، بأنها فيلم إباحي يُعذب من يُشاهده»،11 ومن خلال هذا الوصف، يُمكننا أن نرى كيف يمكن أن يؤدِّي الانزعاجُ العميق الذي يمكن أن تُحدِثه هذه التجرِبة إلى تقليص مسئولية المرء عن جُرمه.
غير أنَّ علم النفس الأخلاقي يؤكد أنَّ هذه ليست الصورةَ الصحيحة بالضبط. فبينما يُمكن أن تُلقي المشاعر الانفعالية بظلالها على الأحكام بالفعل، تشير الملاحظة الأعمق إلى أنها «تُشكل» تلك الأحكام نفسها. ويمكن رؤية هذه النزعة في سياقاتٍ اجتماعية وقانونية مختلفة. فبدءًا من زواج المثليِّين وصولًا إلى استنساخ البشر، يتَّضح جَليًّا12 أنَّ الاشمئزاز يؤدي دورًا في تحديد أحكام بعض الناس بخصوص الصواب والخطأ. ففي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، شارك الممثل إيان ماكيلن مع كثيرين آخرين في حملات لمناهضة فرض المادة ٢٨،13 التي كانت تحظر على السلطات المحلية «الترويجَ» للمثلية الجنسية أو «العلاقات الأسرية المزعومة.» وعَزا شدة رُهاب المثلية التي كانت دافعًا إلى هذا التغيير إلى وجود اشمئزاز بين المعلقين المحافظين من تصوير المثليين وهم يمارسون الجنس.
وقد صاغ ليون كاس، الذي تولَّى منصب مستشار الرئيس الأمريكي للأخلاقيات البيولوجية في عهد جورج بوش الابن، مصطلحَ «حكمة الاشمئزاز» ليؤكد أنَّ نزعةً ما إلى وجود «عاملِ تقزُّز» لدينا تُعَد مصدرًا للحكمة العميقة في توجيه حَدسنا بخصوص الصواب والخطأ:
يثور الاشمئزاز، هنا كما في أي مكان آخر، ضد تجاوزات التعمُّد البشري، مُحذِّرًا إيانا من تخطي حدودٍ عميقة إلى حدٍّ لا يوصَف. وفي الواقع، ففي هذا العصر الذي يُعتبر فيه كلُّ شيء مباحًا ما دام يُفعَل بحُرية، ولم تعد فيه طبيعتنا البشريةُ الموهوبة تنال الاحترام، وصارت فيه أجسادُنا مجردَ أدواتٍ لرغباتنا العقلانية المستقلة، قد يكون الاشمئزازُ الصوتَ الوحيد المتبقِّيَ الذي يتحدث دفاعًا عن لُبِّ إنسانيتنا المركزي. «ضحلةٌ هي الأرواح التي نسيَت كيف تقشعرُّ».14

لذا فلا عَجَب في أنَّ خبراء علم النفس التطوري قد خمَّنوا أن لدينا نزعةً إلى الشعور بالاشمئزاز، وأنَّ هذه النزعة كانت وسيلةً موثوقة لمنعِنا من تناول الأطعمة الضارة ونشر الأمراض، وأنَّها تمدَّدَت لتتحوَّل إلى «عاملِ تقزز» وصل إلى مرحلةٍ مُبالَغ فيها من التطور، وامتد بدوره إلى المسائل الأخلاقية. إنها لَفكرة مزعجة أنَّ المعايير الجمالية التي ساعدَت في تطوير الشعور بالاشمئزاز قد صارت جزءًا من الكيفية التي نُصدِر بها الأحكام الأخلاقية، ولكن كما يقول هايت، «يُوجَد طريقٌ ذو اتجاهين بين أجسادنا وعقولنا العفيفة» (٦١).

وثَمة ادِّعاء شائق مفاده أنَّ مصدر أحكامنا نفسَه غالبًا ما يعتمد على سِمات غير عقلانية ولا واعية كامنةٍ في السيكولوجية الإنسانية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ بحث هايت المبكر (بما تضمَّنه من قصص العلاقة الجنسية بين أخٍ وأخته وأكلِ جثة الكلب) قد ساعده على إنشاء نموذج15 لتوضيح كيف أنَّ أحكامنا على الآخرين تتكوَّن إلى حدٍّ كبير من خلال عملياتٍ تجري في لاوعينا، ثم تُلبَس بثوب المنطق والأدلة بعد إصدار الحكم بالفعل. فنحن نُصدر مثل هذه الأحكام عندما نُواجه سيلًا من القصص المتدفِّقة عبر مُرشِّحاتنا المختلفة في حين أننا بالكاد نُدرك الحقيقة. فقد نسخر من عناوين الصحف الشعبية عندما تصف شخصًا ما قاده حظُّه العثر إلى الوقوع بين براثنها بأنه «وحش» أو «داعر» أو «كنز وطني» أو «بطل» بأنها مُبالِغةٌ في التبسيط. ولكننا نكون أشبهَ تمامًا بتلك الصحف الشعبية عندما نجفل عند مواجهة تصرفٍ منافٍ للأخلاق.
غير أنَّ ليون كاس و«حكمة الاشمئزاز» التي طرحَها لاقيا تعنيفًا مبررًا على هذه الآراء من الكثيرين16 الذين يريدون تشجيع إجراء بحثٍ أكثرَ عِلميةً يخلو من مثلِ هذه النوعية من ردود الفعل الانعكاسية «البدائية». وتمثلتْ ذروة هذا الموقف الانتقادي في الحكمة المضادَّة التي عبَّر عنها ريتشارد دوكينز في رسالته إلى ابنته، مُحذرًا إياها من تكوين رأيٍ قائم على «مشاعر داخلية». وبالطبع من المهم جدًّا أن نستخدم المنطق والأدلة والحجج بقدرِ ما نستطيع عند تقييم الأمور. كل ما في الأمر أننا، وإن كنا مرتبطين نظريًّا بمُثُل العقلانية والموضوعية، نفعل ذلك بسهولةٍ أقلَّ بكثير مما نريد الاعترافَ به. وبينما يستطيع نظام كانمان الفكري الثاني، أي النهج الأكثر عقلانيةً وتروِّيًا، أن يُصحح الأخطاء المُرتكَبة في التفكير المنطقي، لا يبدو أننا نملك قدرة مماثلة على التصحيح في العالم الاجتماعي والأخلاقي، حيث تكون المخاطر الناجمة عن الخطأ أشدَّ.

وسأستكشفُ هذا الاختلافَ بين السيكولوجية البشرية ومحكمة التفكير العقلاني السليم في هذا الفصل؛ نظرًا إلى وجوب محاولة فَهم ذلك بدلًا من إنكاره إذا أردنا معرفة الأساس الذي نبني عليه أحكامَنا على الآخرين.

يأخذ جوناثان هايت هذه الرُّؤى الثاقبة إلى مستوًى أعمقَ بكثير باستكشافِ مدى عُمق اعتماد غرائزنا الأخلاقية على عملياتٍ لا واعية خاصةٍ جدًّا، واختلاف هذا الاعتماد من شخصٍ إلى آخر. فيبدو أنَّ منظومة القِيَم التي تُشكِّل السِّمات الأساسيةَ للأحكام الاجتماعية يضرب بجذوره في مجموعةٍ من الأبعاد الأخلاقية التي تختلف باختلاف الأشخاص. ويستخدم هايت استعارةً يُشبِّه فيها هذه الميول الأخلاقية ببراعم التذوق الموجودة على اللسان. فكيفما تُمكننا ألسنتُنا من تذوق خمسِ نكهات (مالح وحامض ومُر وحُلو ولاذع)، فإنَّ عقولنا العفيفة (على حدِّ وصفه) كذلك لدَيها مُستقبِلاتٌ للمذاق، أو بالأحرى أسسٌ أخلاقية. وهذه الأسس هي:
  • (١)
    المراعاة مقابل الأذى: يتعلق هذا الأساس بالدافع إلى الطيبة والرفق وتجنب إيلام الآخرين. ويقودنا إلى الإيمان بأنَّ إيذاء الناس تصرفٌ خاطئ، وأن مراعاتهم فعلٌ أخلاقي حسَن. ويدفعنا هذا الأساس إلى الحكم على شخصٍ ما بأنه قاسٍ أو غليظ القلب من ناحية، أو طيبٌ ومُراعٍ للآخرين وحَنونٌ من ناحية أخرى.
  • (٢)
    الإنصاف مقابل الغش: يتعلق هذا الأساس بالعدل والإنصاف والحقوق والاستقلالية وكراهية الغش. فالناس لهم حقوقٌ تحتاج إلى دعم، والعدل يتطلب مقابلةَ المخالفات والانتهاكات باستجابةٍ تتناسبُ معها. وهذا قد يؤدي إلى الحُكم على شخصٍ ما بأنه غير أمين وجشع، أو بأنه منصفٌ ورشيد.
  • (٣)
    الولاء مقابل الخيانة: يُقدم هذا الأساسُ التضحيةَ من أجل الجماعة كفضيلة. فهو يُعلي من قيمة الولاء والإخلاص، ويُحذر من التهديدات القادمة من خارج الجماعة، ويعاقب على الخيانة. وقد يؤدي هذا إلى إصدار حكمٍ على الشخص بأنه أناني، أو بأنه مُضحٍّ بنفسه وإيثاري.
  • (٤)
    السُّلطة مقابل تقويضها: يدعو هذا الأساس إلى احترام التقاليد والمؤسسات والسلطة، معترِفًا بقيمة وجود نظام اجتماعي. فيعاقب أولئك الذين يُقوِّضون التسلسلَ الهرَمي الاجتماعي ويحتفي بمن يُظهرون الاحترامَ ومراعاةَ آداب وتقاليد المجتمع.
  • (٥)
    القداسة مقابل الانحطاط: هذا هو الأساس المتعلق بالطرح الواردِ أعلاه عن الكيفية التي يُمكن أن يؤدِّيَ بها الاشمئزازُ إلى إصدار تقييم أخلاقي. فهو يُقدِّس الصحة والنظافة والطهارة (وبالتبعية العفة والورع) ويميل إلى المعاقبة على خطايا التلويث والتدنيس والسمات المتعلقة بهما كالشهوة والجشع.17 وبذلك قد يؤدي هذا الأساسُ إلى الحُكم على شخصٍ ما بأنه مثير للاشمئزاز، أو بأنه طاهر البدن والروح.
وهكذا يتضح أنَّ «جولي» و«مارك» ينتهكان هذا الأساسَ الخامس، ومن ثَم يُولِّدان حُكمًا أخلاقيًّا سلبيًّا في أعين أولئك الذين يُعلون من قيمة هذا الأساس بشدة. كذلك فالأشخاص الذين يخلعون أحذيتهم قبل دخول منازلهم أو منازل الآخرين أو الأماكن المقدسة يتبعون الأساس نفسَه.18

ويذهب أولئك الذين يعتمدون على الأسس الأخلاقية كلِّها إلى أنَّ العلاقات يجب أن تُحكَم بأكثرَ من مجرد الأساسَين الأوَّلين وحدهما؛ وذلك لإنشاء عالَمٍ اجتماعي أوضحَ حدودًا وأفضلَ تنظيمًا، وإلَّا سينتهي بنا المطافُ إلى حيِّزٍ عام يتَّسم بالفوضى وانعدام المسئولية. وهذه المجموعة الأخيرة تُمثِّل الغالبيةَ العُظمى من البشر. وفي حين أنَّ معظم الناس في معظم الأزمنة والأمكنة يعتمدون على الأسس الخمسة كلِّها، تُوجَد مجموعة استثنائية تدَّعي أنها لا تُركِّز إلا على الأساسَين الأوَّلَين، «المراعاة/الأذى» و«الإنصاف/الغش»، مثلي ومثل الكثيرين منكم أيها القراء بلا شك. نحن من ندَّعي أننا نرفض إصدار حكمٍ سلبي على «جولي» و«مارك».

وتُمثِّل هذه المجموعة مجموعةً فرعية قُتِلَت بحثًا وتحليلًا وصارت تُعرَف في أوساط علم النفس بمجموعة «ويرد» (WEIRD).19 وهذه الكلمة هي الاختصار الإنجليزي المُعبِّر عن الأقلية التي تعيش في الدول الديمقراطية الغربية الغنية الصناعية المثقَّفة. يدَّعي أفراد هذه الأقلية أنهم لا يُمانعون أن تأكل الأسرةُ جثة كلبِها الأليف، أو أن يمارس الأخُ الجنس مع أخته ما دام أنَّ ذلك لا يضرُّ أحدًا؛ لأنهم يدَّعون أنهم يعتمدون على الأساسَين الأولين، وذلك على غير المعتاد من معظم الناس الذين يعتمدون على الأسس الخمسة كلِّها. فبينما يهتمُّ البشرُ جميعًا بأساسَي «المراعاة مقابل الأذى» و«الإنصاف مقابل الغش»، لا يهتم أحدٌ بأسس السلطة والولاء والطهارة بالقدْر نفسِه عَبر الأزمنة والثقافات المختلفة، سوى الغالبيةِ التي لا تعيش في الدول الديمقراطية الغربية الغنية الصناعية المثقفة. ويبدو كذلك أنَّ أنصار مذهب المُحافظة الاجتماعية، حتى أولئك الذين يعيشون في الدول الغربية الغنية منهم، لديهم براعمُ التذوق الأخلاقي الخمسة تعمل بقوة.20
fig5
شكل ٣-٢: الاتفاق مع الأحكام الأخلاقية مقابل الهوية السياسية (من بحث هايت، ٢٠١٢).

وقد اختُبِر نحوُ نصف مليون شخص بسيناريوهات تُبرِز هذه التفضيلات المتمايزة، ونجحَت النتائج إلى حدٍّ كبير في شرح «الحروب الثقافية» في الولايات المتحدة بين الأطياف السياسية «الليبرالية» و«المحافظة»؛ إذ تميل حالةُ الانقسام السياسي عادةً إلى اكتساب مُسمَّيات. يُصوِّر أحد هذه السيناريوهات امرأةً تبحث عن قطعة قماش لتنظيف منزلها، وتجد عَلَمًا أمريكيًّا، فتُمزقه لتصنعَ منه خِرَقًا لتنظيف مِرحاضها. عندما يُطلب منك الحكم على ما إذا كانت هذه السيناريوهات غيرَ أخلاقية، تُوجَد سلسلة متصلة من الردود تربط بين زيادة النزعة الليبرالية لديك واحتمالية إجابتك ﺑ «لا»، وتربط بين زيادة النزعة المُحافِظة لديك واحتمالية الإجابة ﺑ «نعم». الشاهد هنا أنَّ هذه السيناريوهات تتعارض مع أسس القداسة أو الولاء أو السلطة التي تكون أبرزَ لدى المحافظين وأقلَّ بروزًا لدى الليبراليين.

ثمة الكثيرُ من الآراء ردًّا على المقارنة المُقنِعة التي طرحَها هايت بين وجهةِ نظر أقلية «ويرد» التي تستخدِم اثنين فقط من براعم التذوق الأخلاقي، في مقابل معظم الأشخاص الآخرين الذين يستخدمونها جميعًا. فيرى البعضُ أنَّ المنظور القائل باستخدام بُرعمَين فقط هو الأفضل وأنَّ التقدُّم في العالم يأتي من الاستغناء عن الأسُس المتعلقة بالمجتمع والقداسة. ويقولون إنَّ التقدم الاجتماعيَّ جعلَنا أقلَّ إصدارًا للأحكام السلبية، وأنَّ ذلك يرجع إلى هذا التحول. وفي الوقت نفسِه، يرى آخرون، مثل هايت نفسِه، أننا نحتاج إلى «التوازن» بين الليبراليين التقدُّمِيِّين والتقليديين المحافظين لإبقاء المجتمع على المسار الصحيح. فالحروب الثقافية التي تنشأ من مِثل هذا التفاوت في المعتقدات الأخلاقية الراسخة تؤدي إلى اتهاماتٍ واتهاماتٍ مضادَّة؛ إذ تنهال انتقاداتٌ حادة على الليبراليين بأنهم يدمرون النسيج الاجتماعي بتصرفاتهم غير المسئولة، وعلى المحافظين بأنهم يقمعون الحرية بتزمُّتهم.

غير أنَّ أفرادَ أقليةِ «ويرد» التقدُّميِّين الليبراليين الذين يزعمون أنهم لا يتأثرون إلَّا بالمبدأَين الأوَّلين، المتعلقَين بالأذى والإنصاف، يمكن أن يكونوا أقلَّ «استنارةً» مما يظنون. فتنشيط الأسس الأخلاقية الأخرى أيضًا لديهم يتم بسهولة ولا يتطلب الكثير. فقد نُركِّز بشدة على قدراتنا العقلانية عند الإجابة على استبيانٍ ما، ولكن عندما نقترب من الأشياء التي نهتم بها في الواقع، نبدو كأي شخص آخر بالضبط، وسنعتمد على أسس السلطة والولاء والطهارة بطرق مختلفة.

ويبدو أن نبرة التوبيخ الذي انهال على الناشط البيئي والصحفي جورج مونبيوت، بعدما قرَّر التحول إلى تأييد استخدام الطاقة النووية، من زملائه الناشطين البيئيين المستنيرين؛ تُركز على خيانة الولاء والقداسة بقدرِ تركيزها على أي أساسٍ أخلاقيٍّ آخر. فقد علَّق الناشط البيئي جوناثان بوريت على مدى «انبهاره (أي مونبيوت) الآن ﺑ «وعود المفاعلات السريعة المتكاملة ومفاعلات فلوريد الثوريوم السائل …» ألا تبدو مذهلةً تمامًا حقًّا! جرِّب أن تقول ذلك بأعلى صوتِك لترى ما إذا كنت ستشعر أنت أيضًا برعشةٍ بسيطة من إثارةٍ شِبه جنسية!»21 فيما قال الصحفي جون بيلجر: «الطاهي مونبيوت شخصية مُحزنة بشكلٍ مُثير للاستغراب. فكل تلك السنوات من الحملات النبيلة الشعواء الرامية إلى حماية البيئة قد انهارت الآن بسبب تحوله المفاجئ والتام إلى تأييد الدمار السام الذي تُحدِثُه الطاقة النووية، وحاجته الواضحة إلى نَيل تقدير المؤسسة الحاكمة، ذلك التقدير الذي، وللمفارقة، كان يحظى به بالفعل.»22
توجد جماعاتٌ في كل الثقافات تشترط الولاءَ وتُعاقب على الخيانة. ومن ثَمَّ، فتفضيل وجهة نظرِ أقليةِ «ويرد» هو بمثابة افتراضٍ أنَّ الآخرين مُغشَّون بغيمةٍ ضبابية من التفكير المنحاز إلى المصلحة الذاتية في حين أننا (أيًّا كانت هُويتنا) نحن مَن يرى الصورة بوضوح. لذا دعونا لا نَقنَعْ بهذا الرأي الذي يُشعرنا بالرضا عن أنفسنا؛ كيلا نقع في فخِّ تبرئة الذات. فهذا النقص في الوعي الذاتي مُستشرٍ في السيكولوجية البشرية، ويعني أن الطريقة التي نحكم بها على أنفسنا غالبًا ما تكون شائهةً شأنها شأن الطرق التي يحكم بها بعضُنا على بعضٍ. وهنا تجدر الإشارة إلى المعلق اليميني جيمس ديلينجبول، الذي يُعيد إبراز وهم العقلانية الزائف نفسِه، ولكن هذه المرة من وجهة نظرٍ يمينية، وذلك في مَعرِض تعليقه الذي أبداه بسرورٍ على الجدل المحتدِم المثار حول مونبيوت:
الفلسفة التجريبية، هذا هو مربط الفرس. فالأشياء إما صحيحةٌ أو غير صحيحة. وإذا كانت غيرَ صحيحة، فمن الواضح أن من الخطأ الاستمرارَ في الإيمان بها من أجل الصوابية الأيديولوجية. هذا ما يفعله اليساريون طَوال الوقت، وكما رأيتَ في هذه الحالة، يا جورج — وإن كنتَ مع الأسف لم ترَه بعد فيما يتعلق بقضية، إحم، «تغير المناخ» — فهذا خبيث ومُفسِد ومُستنكَر أخلاقيًّا.23

إنَّ الصورة المنبثقة من أبحاث علم النفس أنه إذا كان علينا فعلُ أي شيء، فيجب أن نتوخَّى الحذرَ من تبنِّي تصوراتٍ عن الذات توحي بأنَّ أحكامنا محايدة أو منصفة. فثمة طابعٌ بشري في تشكُّل أحكامنا من خلال المشاعر والانفعالات وعمليات تبرير الذات التي تجري في اللاوعي. وبالتبعية توجد لدينا عمليات أخرى تُشكِّلنا بالقدر نفسِه من العمق. والحقيقة التي لا تقل أهميةً عن عملياتنا الداخلية هي أنَّ هُوياتنا تتشكل اجتماعيًّا بطريقةٍ معينة بحيث لا يمكننا إلا أن نرى العالم من منظور الانتماء إلى الجماعة والسياقات الاجتماعية.

الحُكم ضمن سياق

أوضحت الاضطرابات السياسية الأخيرة بما لا يدع مجالًا للشك أننا صِرنا نعيش في عالم «زوال الاهتمام بالحقائق» و«تبنِّي حقائق بديلة» حيث أصبحنا نجد الدليل الذي يُناسب مواقفنا، بدلًا من البحث عن الحقيقة الفعلية. غير أنَّ هذا النوع من «الاستدلال المدفوع» راسخٌ لدينا بالفعل منذ أمدٍ بعيد. فإذا عرَضت على الناس صورًا لحشد من المحتجين يتظاهرون خارجَ مبنًى، فسيُكوِّنون آراءَ مختلفة بِناءً على ما يعرفونه عن سبب المظاهرة. فإذا قيل لهم إنَّهم يشاهدون صورًا لمحتجين يتظاهرون دفاعًا عن حقوق المثليين خارج مكتب تجنيدٍ عسكري أو صور لمعارضين يتظاهرون لمناهضة الإجهاض خارج إحدى عيادات الإجهاض، فإنَّ وجهة نظرهم، وكلامهم عمَّا يحدث بالفعل، غالبًا ما سوف تتشكل بالولاءات السياسية.

كثيرًا ما لا ندرك هذه القُوى الاجتماعية، مُفضِّلين أن نظن أنفسنا أشدَّ حصانةً ضد العوامل الخارجية مما نحن عليه في الواقع. ويُعَد «خطأ العزو الأساسي» (كما هو معروف) مصطلحًا يصف به خبراءُ علم النفس الكيفيةَ التي نتجاهل بها السياقَ عند تقييم الأسباب التي تدفع الناس إلى أفعالهم. فإذا تصدَّق رجلٌ بالمال على شخصٍ محتاج، فهو يفعل ذلك «لأنه» كريم؛ وإذا سرق شخصٌ ما شيئًا، فذلك لأنه غير أمين. ويتطلب الأمرُ إجراءَ بحث لإظهار أنَّ هذه السلوكيات تحدث في سياقٍ يؤثر بقوة فيما إذا كنتَ تسرق أو تتصدَّق. فعلى سبيل المثال، عند إجراء تجربةٍ على بعض الطلاب في معهدٍ لتعليم اللاهوت في برينستون، اتضح أنَّ أبرز عوامل التنبُّؤ بما إذا كانوا سيساعدون شخصًا غريبًا مصابًا يعوق طريقهم اعتمد اعتمادًا أساسيًّا على ما إذا كانوا في عجلةٍ من أمرهم أم لا. فقد كُلِّف الطلاب المعنيُّون بعبور الحرم الجامعي لإعداد خطبةٍ عن قصة السامري الصالح. وصادف كلٌّ منهم في طريقه رجلًا مُستلقيًا على الأرض عند أحد المداخل وهو يتأوَّه ويسعل. وتبين أنَّ احتماليةَ مساعدتهم للرجل اعتمدَت اعتمادًا أساسيًّا على ما إذا كانوا قد أُخطِروا بأنهم مُتأخرون أم أنَّ لديهم متَّسَعًا من الوقت. لدرجة أنَّ بعضًا ممَّن كانوا في عجالة مرُّوا فوق جسد الرجل المستلقي حرفيًّا ليصلوا إلى المبنى التالي!24
نحن نميل عادةً إلى اعتبار الصفات متأصِّلةً في طباع الآخرين، بدلًا من أن نرى قوةَ تأثير السياق، ونُصعَق عندما نراهم بعدئذٍ يأتون بتصرفات «منافية لطباعهم». فنحن نميل إلى المبالغة في تقدير حجم تأثير الاختيارات الإرادية في النتائج الحادثة في حياة الناس، والمبالغة في الاستهانة بمقدار تأثير الصُّدَف والحظ فيها، وهذا يمكن أن يؤدِّيَ إلى ظاهرة «العوالم العادلة»، التي تقترح أنَّ الناس في العموم ينالون ما يستحقُّون. فالناس مثلًا يميلون إلى الاعتقاد (بعقلية «الحلم الأمريكي») بأنَّ حجم الحراك الاجتماعي في المجتمعات التي يعيشون فيها أكبرُ ممَّا هو عليه بالفعل، وأنَّ حجم انعدام المساواة أقلُّ مما هو عليه بالفعل.25 وسوف أعود إلى «الحظ الأخلاقي» لاحقًا في هذا الفصل.

ونادرًا جدًّا ما نُصدر على الآخرين أحكامًا مجرَّدة، ربما باستثناء الأحكام التي نُصدرها عند مَلء الاستبيانات. فاستعدادنا لحُكم بعضِنا على بعضٍ يتشكَّل بشكلٍ خاص من خلال العلاقات التي تجمع بيننا والجماعات التي ننتمي إليها. وقد قضى عالم النفس سولومون آش حياته المهنية في توضيح مدى سهولة تأثُّرِنا بحضور الآخرين في إصدار الأحكام. حتى أبسط الأحكام الإدراكية على طول خطٍّ ما، على سبيل المثال، يمكن أن يُحرَّف عند سماع آخرين يقولون أشياء تتعارض مع ما هو واضح. لننظر مثلًا إلى الصورة الواردة أدناه (الشكل ٣-٣).

fig6
شكل ٣-٣: الأحكام الإدراكية – اختبار طول الخط

أي خط على اليمين يساوي الخط على اليسار طولًا؟ الإجابة الواضحة والبديهية هي الخط (ﺟ)، أليس كذلك؟ ولكن إذا سمعتَ سبعة أشخاص آخَرين يقول كلٌّ منهم إنَّ الإجابة هي (ب)، فإلى أيِّ مدًى ستتمسَّك برأيك بسهولةٍ عندما يَحينُ دورك لتُجيب؟ تبين أنَّ ٧٥ في المائة من الطلاب الذين سُئلوا من شأنهم الانسياقُ إلى التوافق مع المجموعة (التي تعمَّدَت تزييف الإجابة باتفاقٍ مُسبق مع المُعلم الذي يُجري الاختبار)، واختيار الإجابة الخاطئة مرةً واحدة على الأقل.

ويزخر تاريخُ علم النفس الاجتماعي بأمثلةٍ عن مدى القوة التي تعتمد بها أحكامُنا على العلاقات أو الانتماء إلى جماعة معينة أو السياق الاجتماعي. وكان الدافع وراء الكثير من هذه الأبحاث والدراسات احتياجًا إلى فَهم كيف أمكن حدوث محرقة الهولوكوست في مجتمعٍ عصري. ويكفي فقط سماعُ اسم العالِمَين ستانلي ميلجرام وفيليب زيمباردو لنستحضرَ في الأذهان صورًا لمُشاركين مُطيعين في تجرِبة ميلجرام وهُم يَصعقون أشخاصًا آخرين بالكهرباء بِناءً على تعليماتٍ من رجل يرتدي معطفًا أبيض، أو لطلابٍ يؤدون دَور السجَّانين والسجناء بقوةٍ غاشمة مُبالغ فيها في دراسة سجن ستانفورد. وهكذا تُظهر المفاهيم السيكولوجية، مثل تأثير المتفرج والدليل الاجتماعي،26 مدى مَيلنا إلى التصرف وفق المعايير التي يفرضها وجود الآخرين ضمنيًّا.

أظهر علمُ النفس مرارًا مدى عُمق تغلغل الهويات الاجتماعية في كلِّ واحدٍ منا. ويُعَد هذا تصحيحًا مُهمًّا لتصورِنا الوهمي عن ذَواتنا كأفرادٍ مُنفصلين، ويمنحنا فهمًا أفضلَ لطبائعنا الاجتماعية مِن ذلك الذي يُمكن لبديهياتنا اليومية أن تمنحَنا إياه في المعتاد. ولذا لا نستطيع أن نفهم أنفسنا حقًّا، فضلًا عن أن نتوقَّع من الآخرين أن يفهمونا. ويبدو أنَّ حتى أضعف إحساس بالانتماء إلى مجموعةٍ مُعينة سيُؤثر تأثيرًا شديدًا، بطريقةٍ أو بأخرى، على استعدادنا لإصدار الأحكام والأفعال. فقد أظهرَت تجاربُ نموذج المجموعة الأدنى التي أتمَّها هنري تاجفيل في سبعينيَّات القرن الماضي مجموعاتٍ من الأولاد سرعان ما ينحازون إلى مجموعتهم (بعد تقسيمهم عشوائيًّا إلى مجموعتَين) على حساب المجموعة الأخرى من الأولاد وفق أدنى حدٍّ من المعايير. فقد قُسِّم الأولاد إلى مجموعتَين أُنشِئتا اعتباطيًّا وسُمِّيتا باسمَيْ رسَّامَين لم يسمعوا بهما من قبلُ، وهما بول كلي وفاسيلي كاندينسكي. عند تقسيم الأموال أو النقاط بين المجموعتين، اختاروا الحصولَ على نقاطٍ أقل لمجموعتهم المنتمين إليها إذا كان ذلك يعني حرمانَ المجموعة الأخرى من نقاط أكثر. كان من المفترض أن يكون هذا الشرط الأدنى هو الشرطَ الضابطَ الذي يمكن مقارنةُ الحدود الأقوى على أساسه، ولكن اتضح أنَّ فئةً بهذا القدر من البساطة والتفاهة كانت كافيةً لخلق انحياز إلى أفراد المجموعة. غير أنَّ هذا لا يعني بوجهٍ عام أنَّ التماهيَ مع مجموعةٍ ما والارتباط بها يؤدي بالضرورة إلى تمييز عنصري ضدَّ المجموعات الأخرى كما هو الحال في الشروط الدُّنيا المذكورةِ أعلاه. أي إنَّ التمييز بين المجموعات لا يستلزم بالضرورة شيطنةَ الآخرين. فإذا كنت ترى نفسك جزءًا من مجموعة وتريد أن تجعل مجموعتك مميزة، فمن الأفضل أن تُحقق ذلك بأفعالٍ نافعة للآخرين، كما يحدث عندما يُقرر أفراد جماعاتٍ مُعينة مساعدةَ أولئك «الأقل حظًّا منهم». المقصد ببساطة أنَّ هُوياتنا الاجتماعية والجماعات التي ننتمي إليها لها تأثيرٌ عميق فيما يتعلق بكيفية حُكمنا على الآخرين، سواءٌ بالإيجاب أم بالسلب.

وهكذا فإنَّ ميلنا إلى الارتباط بمن نشعر بأننا نتماهى معهم قد جعل الأشخاص الساعين إلى إقناع الآخرين بفكرةٍ مُعينة من الأطياف كافةً يعتمدون على مخاطبة هذه النزعة لديهم. فالفنادق التي تريد من نزلائها التفكيرَ في البيئة (وأرباح الفندق) قبل أن يتخلَّصوا من المناشف لتُغسَل وجَدَت أنَّ أقوى رسالةٍ فعَّالة يُمكن استخدامها هي تلك التي توضِّح أنَّ أناسًا آخرين (أناسًا «مثلك» بالأخص؛ أي كانوا يمكثون في الغرفة نفسِها من قبلُ على سبيل المثال) يُعيدون استخدام مناشفهم أيضًا. فيما وجدت وحدةُ الرُّؤى السلوكية، التي تعمل مع حكومة المملكة المتحدة على كيفية زيادة دفع الضرائب أنَّ «وكزة تنبيهية» بسيطة يُمكن أن تُحدث فارقًا كبيرًا. فقد اكتشفَت أنَّ تغيير جملة «تسعة من أصل كل عشَرة أشخاص في المملكة المتحدة يدفعون ضرائبهم في الموعد المحدَّد» إلى «الغالبية العُظمى من الناس في [المنطقة المحلية التي يعيش فيها دافع الضرائب] يدفعون ضرائبهم في الموعد المحدد» قد رفع نسبة الأشخاص الذين يُسددون ضرائب الدخل المفروضة عليهم قبل انتهاء الموعد المحدد.

من السهل أن يتبادر إلى الذهن هنا أنَّ كل هذا يعني أننا مُنساقون بغفلةٍ إلى التفكير الجمعي واتباع القطيع. لكنَّ هذا ليس صحيحًا؛ فنحن لسنا غافلين، بل بالعكس؛ لأننا نُقيِّم المجموعات التي تُمثلنا قبل أن نسمح لمعاييرها بأن تحكم سلوكنا. نحن لا نُنوَّم مغناطيسيًّا أو نفقد عقلانيَّتَنا بالانتماء إلى المجموعات (كما يظهر غالبًا في أوصاف الصحافة الشعبية المصورة والافتراضات البديهية الشائعة عن الغوغاء المنساقين دون تفكير). نحن حيوانات ذات نزعةٍ اجتماعية فائقة نميل إلى التصرُّف كيفما نتصرَّف؛ لأنَّ معايير المجموعة شيءٌ وافَقْنا على الالتزام به طواعية. وفي هذا الصدد، دَرَس خبير علم النفس الاجتماعي مارك ليفين وبعض زملائه الحالاتِ التي يكون فيها مُشجِّعو كرة القدم البريطانيُّون على استعداد لمساعدة مُشجعٍ مصابٍ من الفريق المنافس.27 ووجَدوا أنَّ المشاركين عندما يُفكرون في إطار كونهم مشجعين لمانشستر يونايتد، لا يميلون إلى مساعدة أحدٍ من مُشجعي ليفربول، أمَّا إذا وُضعوا ضِمن فئة مشجعي كرة القدم بوجهٍ عام، فإنهم سيتوقفون ويساعدون هذا المشجع. ولكن إذا لم يُعرَّف الشخص المستلقي على الأرض بأنه أحد مُشجعي كرة القدم، قلَّت احتمالات معاودتهم مساعدة هذا المشجع مجددًا. عندما نفكر في الجانب العنيف الوحشي من كرة القدم، من السهل أن نتخيل العنف «المُغيَّب» الذي ينحدر البشرُ فيه إلى آليِّين بلا عقل ينضمُّون إلى القطيع. لكنَّ المشاركين في هذه الدراسة ليسوا مُغيَّبين إطلاقًا، بل على قدرٍ كبير من الوعي، على حسب الجماعة التي يَعتبرون أنفسهم مُنتمين إليها.

من المهم أن نفهم هذا؛ لأنه يعارض فكرةَ أننا ننساقُ بلا وعيٍ إلى الأحكام الأخلاقية أو أننا نتعرض لعملية غسيل دماغ من جانب جذَّابين مُقنِعين. فما يحدث بالفعل في أغلب الأحيان أننا نختار المجموعات التي تُشكِّل هُوياتنا الاجتماعية، ومن ثَم نُطلق أحكامنا بوعيٍ تام في إطار المعايير التي تتبع هذا الاختيار. فالمعايير التي تحكم إيماننا بالمؤسسات تُسهِم بقدرٍ هائل في تشكيل الكيفية التي نتصرف بها وما نعتبره غيرَ أخلاقي. فلا جدوى من الوقوف منتظرًا بصبر في طابور بينما الآخرون كلهم يتدافعون إلى مُقدمته.

المقصد الأساسي هنا أنَّ الهُويات الاجتماعية يمكن أن تتغير، وفي أثناء تغيرها، يتغير معها المنطقُ الذي نُحدِّد به مَن يُعتبر «واحدًا منَّا». فوعيي بذاتي كأبٍ أو ناشر أو لندني أو كاتب أو شخصٍ ذي تراثٍ عربي وأسرةٍ عربية؛ يُحدث تأثيرًا عميقًا جدًّا في تشكيل حيز اتخاذ القرار بخصوص ما هو مناسبٌ ومعقول بالنسبة إليَّ من أفكار وأفعال. فولاءاتي، وتقديري لذاتي، وأحكامي المسبقة، واستعدادي للانقياد أو التأثُّر، وحس الإنصاف والتضامن والترابط لديَّ، وتحيزاتي إلى «مَن هُم على شاكلتي»، وأحكامي، كلها أشياء تتشكل، إلى حدٍّ ما، بتأثير الذات الجمعية التي تبدو بارزةً لي في ذلك الوقت. لكن هذا لا يعني إنكارَ هُويتي الفردية؛ بل المقصود أن ندرك كيف يتمُّ التعبير تعبيرًا غير قابل للاختزال من خلال عدسةٍ اجتماعية، وأن هُويتي الاجتماعية تُغير الطريقة المنطقية بالنسبة إليَّ للتعامُل مع العالم. كذلك يُنشئ في نفسي ذلك التصوُّرَ المُشتت بأننا بلا ذاتٍ متأصلة متفردة يُمكن أن يحكم عليها أيُّ شخص، سواءٌ بصورة صحيحة أو غير ذلك.

إنَّ المجموعات التي نُنشِئها من خلال الفئات الاجتماعية تؤثر في أنواع العلاقات التي نُشكلها، وتُعزز أهمية المعايير، وتؤثر على كيفية تقييمنا لمضمون أفعالنا الأخلاقي. وهذا بدَوره يؤثر في الأحكام الأخلاقية المتعلقة بالمُباح والمحظور. فعلى سبيل المثال، طُلب من طلابِ إحدى الكليات، في دراسةٍ ما، حلُّ بعض مسائل الرياضيات في وجود آخرين من حولهم، ولكن كان بإمكانهم أن يغشُّوا بتزييف نتيجتهم، والحصول على مكافأةٍ بالغش. كان بعض المشاركين موجودين في حضرة شخصٍ مُتفِق سلفًا مع أصحاب الدراسة، وقد غشَّ هذا الشخصُ بفجاجةٍ صارخة؛ إذ أنهى حلَّ المسائل بسرعةٍ مُستحيلة وترك الغرفة آخِذًا معه أكبر قدرٍ من المال. وقد شكَّل هذا التصرفُ سلوكيات الآخرين بطريقةٍ مختلفة. فقد ازداد غشُّ الآخرين في الغرفة عندما كان ذلك الغشاش المجاهر بغشه عضوًا في مجموعتهم (أي طالبًا من الجامعة نفسِها التي كان المشاركون مُلتحقين بها) وانخفض عندما كان من مجموعةٍ أخرى غيرهم (أي طالبًا في جامعةٍ منافسة).28

غير أننا نميل إلى تقسيمٍ صارم للعالم إلى خيرٍ وشر، وننسب إلى الشر تفسيرَ الأفعال الشنعاء. ويعتمد تشكيلُ تصوراتنا عن الخير والشر بقوة على الجماعات التي نعتبر أنفسنا جزءًا منها أو التي تمثلنا، ويمكن أن نُقلل من أولئك المنتمين إلى جماعاتٍ أخرى، وننسب إليهم صفات أدنى أو أسوأ بكل سرور وبلا تردُّد. وفي أسوأ الحالات، يُحكَم على الآخرين بأنهم عديمو القيمة أو غير عقلانيِّين أو أشرار. لكن خُرافة الشر الخالص تتجاهل حقيقة أنَّ تلك الأفعال يرتكبها أناسٌ لديهم أسباب لارتكابها، والأدهى أنَّ تلك الأسباب غالبًا ما تبدو ساميةً نبيلة (مهما كانت خادعةً للذات). فالناس لا يميلون إلى اعتبار أنفسِهم أشرارًا.

عندما حلَّل عالم النفس روي باومايستر أسبابَ ارتكاب أعمال العنف، خلص إلى أن الجشع والسادية لا يقفان إلا وراء نسبةٍ صغيرة من هذه الأعمال. والأدهى أنَّ الأسباب الأكثر شيوعًا وراء الأفعال العنيفة التي ارتُكِبَت سابقًا، وفقًا له، كانت علو تقدير الذات والمثالية الأخلاقية. ولذا فأي شخص يشاهد رجلًا ذا مظهرٍ مُتجهم متوعِّد بأذًى ما، على غِرار الممثل جو بيشي وهو يؤدي دور رجل عصابات المافيا الذي يستخدم السلاح بتهوُّر ودون تردد في العديد من الأفلام المختلفة، ويجفل عند مشاهدته، سيكون أحمقَ إذا ظنَّ أنه يعاني تدنِّي احترام الذات. فالشخص العنيف الذي يؤذي من هم أضعفُ منه ليس جبانًا على الدوام، حتى وإن كان يقظًا لمراقبة التهديدات التي تُهدد غروره. وهكذا خَلص باومايستر، في استنتاجٍ غير متوقَّع، إلى أنَّ بعض برامج الإصلاح التي تعمل على تعزيز تقدير المرء لذاته قد تأتي بنتيجةٍ عكسية؛ لأنَّ هذا قد يُشجع نوعًا من تقدير الذات النرجسي يُمكن أن يؤدِّي إلى ردِّ فعل عنيف عند تعرُّض المرء للاستهزاء أو التحدي أو الإهانة. أي إنَّ ميثاق الشرف والالتزام الأيديولوجي مسئولان عن أفعال عنيفة أكثر بكثير من أي عامل آخر.29
بالمثل، فإنَّ الطهارة الأيديولوجية أو فلسفة المثالية يمكن أن يُشكِّلا خطورةً بافتراضهما أنَّ الغاية تبرر الوسيلة؛ ما يُعد رخصةً تُجيز التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء وما إلى ذلك من أجل القضية؛ وتتفاقم هذه الخطورةُ بشدة عند وجود سلطة الدولة وراء هذه المثالية.30

يُقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. ويُمكن إضافة أنهم كذلك يكتبونه بأسلوبٍ خاص محايد ورنَّان، نبرة لم يكن ضحاياهم ليستخدموها لو كانوا هم مَن كتبوه. ويصف ستيفن بينكر هذه «الفجوة في التأويل الأخلاقي للفعل» بأنها تفاوتٌ بين منظور الجاني للعالم ومنظور الضحية. فالضحية لدَيه ذاكرةٌ طويلة المدى، في حين يبقى ذهن الشخص الجاني عالقًا بقوة في أحداث الحاضر؛ الضحية يؤدي دورَ الفيلسوف الأخلاقي، معتبرًا الصراعَ المعنيَّ صراعًا بين الخير والشر، في حين يظهر الجاني بثوب العالِم ببحثه عن أسبابٍ وظروفٍ تُبرر أفعاله المؤذية وتُخفِّف من وطأتها.

تُعزى أهمية ذلك إلى أننا عندما ننظر إلى أفعالنا من منظورٍ فردي عقلاني بحت، نُغفِلُ حقيقةَ أنَّ المنظور الاجتماعي لا يُتيح السياق الذي نأتي فيه بهذه الأفعال فحسب. بل يُسهِم بعُمق في تأسيس هُويتنا. ولكن إذا لجأنا إلى منظور جمعي للأمور، ولم نرَ إلَّا الأفعال غيرَ العقلانية، أي رأينا الآخَرين مُشاغبين «مختلِّين» أو متطرفين «مخبولين» أو أشخاصًا «أشرارًا» مُلتزمين بأيديولوجيات مختلفةٍ عن أيديولوجياتنا، نُتهَم بالحكم على الآخرين دون تركِ أي فرصةٍ لتفهُّم موقفهم. لذا فحين نفهم هُوياتنا الاجتماعية الحقيقية فهمًا أفضل، لن يقتصر نفعُ ذلك على إتاحة الأدوات اللازمة لتحسين فهمنا لأولئك الذين عادةً ما قد ننبذهم مُعتبرين إياهم غيرَ عقلانيِّين، بل سيُساعدنا أيضًا في فهم ذواتنا ذات النزعة الاجتماعية الفائقة فهمًا أفضل.

المقصد من هذا البحث النفسي أننا بحاجةٍ إلى أن نتوخى الحذر من تبنِّي تصورات عن ذواتنا بأننا مُحايدون أو مُستقلون أو منصفون. فالأمر لا يقتصر على أنَّ بعضنا يحكم على بعضٍ بطُرُقٍ غير واعية وتُقيِّم الأفعال من منظور أخلاقي ومؤطَّرة بهوياتنا الاجتماعية، بل كذلك نواجه صعوبةً في فصل النية عن الظروف المجردة عند الحكم على الأفعال.

الحظ الأخلاقي

«لطالما اشتكى الناسُ على مرِّ العصور من أنَّ العالم يَحكُم بناءً على الفعل نفسه، وليس النية، ولطالما كان ذلك أكبر مُثبط للفضيلة.»

(آدم سميث)

في نوفمبر عام ١٩٨٤، إبان أشدِّ النزاعات الصناعية في التاريخ البريطاني الحديث، كان ديفيد ويلكي، وهو سائقُ سيارة أجرة ويلزي، يُقِل ديفيد ويليامز، أحدَ عمَّال المناجم الذين لم يُشاركوا في الإضراب، إلى منجم فحم ميرثر فيل. ولم يكد ينعطف نحو طريق «إيه ٤٦٥» شمال بلدة ريمني حتى ألقى اثنان من عمال المناجم المضربين، وهما دين هانكوك وراسل شانكلاند، بكتلةٍ خرسانية وزنها ستة وأربعون رِطلًا من أعلى جسرٍ مُخصَّص للسيارات على الطريق. فارتطمت الكتلة بسيارة ويلكي، لتقتله فورًا وتُلحق إصابات طفيفة بويليامز، العامل غير المشارك في الإضراب.

هل يُعَد بذلك أنَّ هانكوك وشانكلاند قتَلا ويلكي؟ قررت المحكمة أنهما قتلاه. فقد حوكما وأُدينا في مايو ١٩٨٦ بارتكاب جريمة قتل، وحُكم عليهما بالسجن مدى الحياة، مع أنهما ادَّعيا أنهما أرادا تخويفَ ويليامز ليس أكثر. وأثار هذا الحكمُ احتجاجًا عنيفًا جدًّا لدرجة أنَّ ٧٠٠ عامل تركوا العملَ في منجم ميرثر فيل احتجاجًا عليه، مع أنَّ الإضراب كان قد انتهى بحلول ذلك الوقت. فقد رأوا أنَّ موت ويلكي لم يكن مُتعمَّدًا إطلاقًا، وغضبوا بشدةٍ من حُكمٍ قاسٍ كهذا.

يعتمد تحديدُ ما إذا كانا قد ارتكبا جريمةَ قتل أم جريمةً أخفَّ وطأة، إلى حدٍّ ما، على ماهية نيَّتهما آنذاك. فحُكم الإدانة بجريمة القتل يعتمد على حالة الجاني الذهنية، سواءٌ في القانون أو حيثيات الحس المنطقي. فهل كانا يُضمِران في ذهنَيهما نية القتل العمد اللازمة لإصدار حكم كهذا؟ لا يتضمن القانون الإنجليزي وصفًا بسيطًا لفئة النية. صحيحٌ أنَّ جريمة القتل التي يبدو جليًّا أنها نُفِّذت مع سبق الإصرار والترصد، ويُمكن فيها إثباتُ أنَّ القاتل كان يُضمر «نية مباشرة» لإحداث نتيجةٍ كهذه؛ تكون كافيةً لإدانة مُرتكِبها بأنه قاتل. ولكن تُوجَد نياتٌ أضعف وأقلُّ وضوحًا يُمكن كذلك أن تؤدِّيَ إلى الحُكم نفسِه. وهذه الفئة كانت فضفاضةً بما يكفي لإدانة هانكوك وشانكلاند. فقد كان كافيًا لاعتبار أنَّ تلك الجريمة ترتقي إلى جريمة قتل إظهارُ أنَّ المدَّعى عليهما كانا يُضمران «نية غير مباشرة»، بمعنى أنهما كان لديهما بصيرة كافية لمعرفة أنَّ أفعالهما من المرجح جدًّا أن تؤدِّيَ إلى الموت (حتى لو لم يرغبا في حدوث هذه النتيجة). وحتى لو كانت النتيجة غيرَ مُستحقةٍ من منظورٍ ما، فإنَّ احتمالية وقوع وفاة بسبب تصرفهما كانت معروفة جدًّا لهما إلى حدٍّ جعلهما يستحقان الإدانة.

ولكن تخيَّلوا أنَّ الكتلة الخرسانية كانت قد سقطت على الطريق (كما كان العاملان ينويان على حدِّ قولهما وهما يُدافعان عن أنفسهما)، ولم تُسفر عن شيء سوى تعطيلِ الحركة المرورية. عندئذٍ، كانا سينالان حُكمًا أخفَّ بكثير، بالرغم من وجود النية نفسِها بالضبط لديهما. فلو لم يؤدِّ تصرفُهما إلى وفاة شخص ما، كان من الممكن أن يُحاكَما بتهمة الشروع فقط، مهما كانت النية قاتلة.

عند فصل النتيجة عن القصد، نواجهُ حقيقةً مُحيرة بعضَ الشيء تُعرَف ﺑ «الحظ الأخلاقي». قد يبدو أنَّ هذا المصطلح يجمع بين نقيضَين، لكنَّ الفيلسوف برنارد ويليامز الذي صاغه أدرك أننا يحكم بعضُنا على أخلاق بعضٍ استنادًا إلى أشياءَ تقع خارج نطاق سيطرتنا ليس إلَّا. ولذا فالشخص الذي يَشرع في القتل، والذي قد يُخفق في القتل بالصدفة البحتة (وليكُن لأنَّ الضحية الذي أراد قتله تعثَّر وسَقَط في اللحظة نفسِها التي انطلقَت فيها الرصاصةُ نحوه) ينال حُكمًا أخفَّ مع أنه يُضمر النية نفسَها ويفعل التصرفَ نفسه. والعكس صحيح؛ إذ يبدو معقولًا أن تختلف مُعاملة الآخرين لي عندما أفعل شيئًا متهورًا، كإلقاء قالب طوبٍ من فوق سورٍ مثلًا، باختلاف النتيجة. فإذا سقط بسلامٍ على العُشب على الجانب الآخر من الجدار دون إحداث ضرر، فقد أتوقع عندئذٍ أن أُلام على تهوُّري، لكني لن أتوقع أن أعاقَب. أمَّا إذا أصاب القالبُ طفلًا وقتله، فعندئذٍ سأَمثُل أمام المحكمة لمواجهة حسابٍ أعسرَ بكثير.

وقد ناقش المخرج السينمائي لويس بونويل هذه الفكرة سريعًا دون تعمُّق أو جدِّية في فيلمه «حياة أرشيبالدو دي لا كروز الإجرامية» (ذا كريمينال لايف أوف أرشيبالدو دي لا كروز)، الذي يحكي عن شخصٍ يعتزم أن يكون سفاحًا، لكنَّ الذين يَشرع في قتلهم يموتون في الوقت نفسِه بسبب حوادثَ تقع بالصدفة، بالرغم من فشل محاولاته لقتلِهم. وفي المحكمة، يجدُ القاضي أنَّ أرشيبالدو بريء من كل هذه الجرائم، بالرغم من اعترافه بقصده وشعوره العميق بالذنب. فهو لم يتسبَّب في وفاة الأشخاص الذين كان ينوي قتلهم؛ ولذا لم يكن يُوجَد شيءٌ يُعاقَب عليه.

وهكذا يتَّضِح أنَّ الحُكم بناءً على النتيجة وليس القصد يتعارض بعضَ الشيء مع مفاهيمنا البديهية عن استحقاق اللوم؛ ولذا غَضِب عمالُ منجم ميرثر فيل في ضوء هذه العدالة القاسية. وبالفعل أُحيلت القضية لاحقًا إلى محكمة الاستئناف، وخُفِّف الحكم إلى قتلٍ خطأ.31

من الواضح أنَّ كُلًّا من النتائج والنوايا مهمٌّ، لكن أهميةَ هذه تختلف عن أهميةِ تلك. وإذا انتقلنا من سياق القانون إلى عالم مفاهيمنا البديهية الراسخة لدينا، فيمكننا أن نرى بداية ظهور سِمات غريبة في قدرتنا على الحكم. وهنا يُسجل نهجُنا في الحُكم القائم على نظام التفكير الثاني ظهورًا من نوع آخر. فيبدو أنَّ نهج النظام الأول الأكثر اتسامًا بالتلقائية واللاوعي يدفعنا إلى التركيز على النتائج أكثرَ من النوايا. فعندما يطَأ شخصٌ ما قدَمَك، تُبدي ردَّ فعل سلبيًّا تلقائيًّا دون وعي، بغضِّ النظر عما إذا كان يقصد إيذاءك أم لا. أمَّا النوع الثاني من الحكم، القائم على النظام الثاني، فيتَّسم بقدرٍ أكبر من التروِّي والتفكير، ويركز على إحساسك بماهية الفعل المقصود، وبذلك يُمكن أن يُعدِّل ردَّ الفعل الأول الأكثر تلقائية.

وفي هذا الصدد، اكتشف جان بياجيه اختصاصيُّ علم النفس التطوري أنَّ الأطفال الصغار لا يُدركون مفهوم النوايا حتى سنِّ الخامسة تقريبًا. وتُظهِر تجاربُ كثيرة أنَّ الأطفال يفتقرون، حسبما يبدو، إلى ما يُعرف ﺑ «نظرية العقل» في تلك السنِّ المبكرة. أي إنهم يجدون صعوبةً في تصوُّر أن عقول الآخرين ترى الأشياء من منظورٍ غير منظورهم. ولا يكون لديهم حتى ذلك الحين سوى ردِّ الفعل التلقائي القائم على نظام التفكير الأول، والمائل إلى معاقبة الآخرين على نتائج تصرفاتهم وليس نواياهم. وهذا يعني أنهم يُصدرون أحكامًا قاسية على الأذى غير المقصود بقدرِ قسوة أحكامهم على الأذى المقصود. فقط في وقتٍ لاحق يتطورُ لديهم النظام الثاني القائم على الدراية الذي يُمكِّنهم من تفسير ما قد يدور في عقول الآخرين ونواياهم المُحتملة؛ ومن ثَم يُتاح لهم خيارُ وضع النتائج المؤذية في سياق.

لكنَّ ذلك الدافع التلقائيَّ الآني إلى مُعاقبة الآخرين لا يتلاشى بالكامل أبدًا، رغم مهارتنا في تبرير الأفعال. فهو مُترسخٌ داخلنا بقوة. وثمة افتراضٌ تخميني أنَّ هناك فائدةً تطورية، أو ضرورةً على الأقل، لتربية الأطفال بمعاقبتهم بغضِّ النظر عمَّا إذا كانت أخطاؤهم غيرَ مقصودة أم مُتعمَّدة. فإذا سكَبَت الطفلة الحليب، اصفعها، وبذلك ستُلقنها درسًا، سواءٌ ما إذا كانت قد فعلتْ ذلك بالخطأ أم لا، خصوصًا إذا كان الأب يفتقر إلى اللغة المناسبة لتوضيح أنَّ سكب الحليب فعلٌ خاطئ. فيبدو أننا نتعلم على أفضل وجه حين نُعاقَب على نتائج أفعالنا.32

عندما نتعلم إدراك أنَّ تفكير الآخرين مختلفٌ عن تفكيرنا، يمكن أن نبدأ في رؤية الأمور من وجهة نظرهم، وعندما نصبح بالِغين، نتعلم الموازنة بين الاستجابة الأولى القائمة على الشعور الغريزي وبين تقييم النوايا بقدرٍ أكبر من التروِّي والتفكير. لكن الحظ الأخلاقي وذلك الشعور الغريزي الأصلي يظلَّان قائمَين. فحتى عندما يرتكب شخصٌ ما فعلًا بشعًا بالخطأ، سنتوقَّع منه أن يُعاقب نفسَه بالشعور بالذنب بدلًا من أن يسامح نفسه دون مبالاة على أساس أنَّ الضرر ببساطة لم يكن مقصودًا. فحتى إذا كان لا يُمكن، بالمعنى الحرفي للكلمة، أن يُلام على تسبُّبه دون قصدٍ في وقوع ضررٍ ما، فإنه يعاني ما وصفه ويليامز بأنه «ندم الفاعل»؛ لأنه لا يستطيع إنكار أنه كان السبب رغم كل شيء.

أمَّا مَن لا يقدرون على ذلك، فهُم سيكوباتيون. والغريب أنَّ السيكوباتيين أكثرُ تسامحًا بكثير مع الأخطاء التي تحدث دون قصد. فنظرًا إلى أن تفكيرهم غيرُ مُشتَّت بردِّ فعل قائم على نظام التفكير الأول والشعور الغريزي، يُقيِّمون المخاطر باتباع النظام الثاني الأهدأ والأكثر تروِّيًا. فيبدو أنهم يتفهَّمون عنصر النية بوضوح، ويُعطونه أهميةً كبيرة دون أن يشعروا بالألم التعاطفي الناجم عن النتائج المؤذية، الذي قد يؤدي بنا إلى الرغبة في معاقبة الآخرين على الأذى الذي يُحدثونه دون قصد.

ومن المرجَّح أن يكون السيكوباتيون، من ناحية فلسفيةٍ ما، أفضلَ مهارة ومعرفةً بالواقع والقواعد؛ بمعنى أنهم قضاة أكثر عقلانية من بقيتنا لأنهم أكثرُ تسامحًا مع الأخطاء غير المقصودة (مهما كانت مؤذية). فهم لا يكترثون بالأذى والضرر الناجمَين عن خطأ فادح ما دام واضحًا أنَّ المخطئ لم يكن يقصد إحداثَ هذا الضرر. أما بقيتنا فيغمرهم الألم الناجم عن نتيجة الخطأ، لدرجة أننا لا نستطيع أن نمنع ذلك من التأثير على إحساسنا بماهية العقاب الصحيح، حتى وإن كان عقابًا غير عادل.

وبينما يميل النظام الأول إلى التركيز على النتائج ويُركِّز النظام الثاني على النوايا والمقاصد، يبدو أننا يُمكن أن نأخذ نتيجةً ما ونستخدمها لتحريف تصوراتنا عن النية. وهنا يتخذ انعدام موثوقية أحكامنا شكلًا معينًا نسمح فيه لحُكمنا على مدى أخلاقية النتيجة بالتأثير على استعدادنا لاتهام الفاعل بالتعمُّد أصلًا. باختصار، إذا لم يعجبنا ما فعله الشخص، فمن المرجَّح أن نشعر أنه فعل ذلك عن قصد. وإليك هذا المثال من الفيلسوف التجريبي جوشوا نوب. فقد اقترب من بعض المارَّة في إحدى الحدائق وبادرَهم بالكلام راويًا القصتَين التاليتين:

ذهب نائب رئيس إحدى الشركات إلى رئيس مجلس الإدارة وقال له: «نحن نفكر في بدءِ بَرنامج جديد. سيُساعدنا على زيادة الأرباح، لكنه [سيضُر] بالبيئة أيضًا.» فردَّ رئيس مجلس الإدارة قائلًا: «لا أبالي إطلاقًا ﺑ [الإضرار] بالبيئة. كلُّ ما يهمني أن أُحقق أكبر قدرٍ ممكن من الأرباح. لنبدأ البرنامج الجديد.» فبدَءوا البرنامج الجديد. و[تضرَّرَت] البيئة بالطبع.

ذهب نائب رئيس إحدى الشركات إلى رئيس مجلس الإدارة وقال له: «نحن نفكر في بدء برنامج جديد. سيساعدنا على زيادة الأرباح، لكنه [سينفع] البيئة أيضًا.» فردَّ رئيس مجلس الإدارة قائلًا: «لا أبالي إطلاقًا ﺑ [نفع] البيئة. كل ما يُهمني أن أحقق أكبر قدْرٍ ممكن من الأرباح. لنبدأ البرنامج الجديد.» فبدَءوا البرنامج الجديد. و[انتفعت] البيئة بالطبع.

كان السؤال الذي طرحه نوب على المارة «هل أضر الرئيس التنفيذي بالبيئة عمدًا؟» وتبين أنَّ ٨٢ في المائة منهم قالوا إنَّه فعل ذلك. ولكن عندما سُئل أولئك الذين قرَءوا القصة الثانية عمَّا إذا كان الرئيس التنفيذي قد نفع البيئة عمدًا، لم يقُل نعم سوى ٢٣ في المائة. لقد كانت القصتان مُتطابقتَين باستثناء تغيير كلمة «ضرر» في كلِّ موضع ذُكِرَت فيه في السيناريو الأول إلى كلمة «نفع» في السيناريو الثاني، ومع ذلك اختلف الحُكم على النية اختلافًا ملحوظًا.33
يُظهِر هذا التفاوتُ في الإجابات، المعروفُ الآن باسم تأثير نوب (أو «تأثير التأثير الجانبي» في بعض الأحيان)، أننا نربط تقييمنا لشيءٍ واقعي، أي نوايا الرئيس التنفيذي، بشيءٍ مُحمَّلٍ بالقِيَم؛ أي ما إذا كانت النتيجة ضارةً أم نافعة. وهذا الخلط بين الحقائق والقِيَم — اللذَين حذرَنا فيلسوف التنوير الأسكتلندي ديفيد هيوم من عدم وجود أيِّ ارتباط بينهما من الناحية المنطقية؛ إذ لا يمكنك استخلاصُ «ما يجب أن يكون عليه الشيء» من «حقيقة هذا الشيء» — يبدو سِمةً غريبة أخرى من غرائب الأحكام البشرية.34

ويصير الوضعُ أشدَّ تشابكًا وفوضويةً عندما تتأمل الكيفية التي يحكم بها بعضُنا على بعضٍ ضِمن سياق أنواع مختلفة من الأضرار الناجمة عن أفعالنا. فالنزعة إلى طمس وضوح القصد والنتائج مختلفةٌ بحدِّ ذاتها فيما بين الناس. ويتجلى أحدُ الاختلافات الكاشفة في تفاوت أحكامنا عندما نرى السلوك رهنَ الحكم ينتهك المعاييرَ الأخلاقية المتعلقة بالضرر، وعندما نراه ينتهك المعايير الأخلاقية المتعلقة بالطهارة. فعندما يُنتهَك المبدأ المتعلق بالضرر، يكون من المهم جدًّا معرفةُ ما إذا كان الفعل مقصودًا أم لا. إذا لم يكن مقصودًا، تكون مُسامحةُ فاعله أسهلَ بكثير. أمَّا حين تُنتهك المحظورات المتعلقة بالطهارة، فلا يبدو الفارق كبيرًا ما إذا كان الفعل مقصودًا أم لا. فنحن نُصدِر ردَّ فعلٍ سلبيًّا تجاه مَن يضرط على مائدة العشاء، سواءٌ أكان ذلك غيرَ مقصود أم مقصودًا (ويبدو ذلك شيئًا مُتعلقًا برد الفعل الاشمئزازي التلقائي الموروث لدينا، الذي قد يكون نافعًا لنا بشدة في تجنُّب الملوثات). كذلك تؤثر معرفة ما إذا كان الضرر مقصودًا أم غيرَ مقصود فيما إذا كنا سنتجنَّب الشخص الفاعل أم سنثق به. وهنا يَرد تَكرارٌ لما ورد في الفصلين السابقين عن الشعور بالذنب والشعور بالعار. فشعور الذنب مرتبطٌ بمسئولية المرء الكاملةِ عن أفعاله وحرية اختيارها، في حين أنَّ شعور العار أقلُّ ارتباطًا بها. ويُعتبر خرقُ معايير الضرر مُرتبطًا بشعور الذنب، ويؤدي بطبيعة الحال إلى بحثٍ عن الدافع، في حين أنَّ خرق معايير الطهارة من الخطايا التي يبدو أنَّ الآخرين يرَونها متأصلة لدى المخطئ.

إن هذا المسح السريع للتقلبات غير المتوقعة في الأحكام الإيجابية يُحتم علينا مجددًا أن نقف وقفةً مع النفس. تُوجَد فجوةٌ بين تصوراتنا عن ذواتنا كأشخاص عقلانيين ومحايدين وبين قدرتنا الفعلية على الحكم على الآخرين بإنصاف.

هل نستطيع الحكم بإنصاف؟

أدى الممثل ألان ألدا شخصية هوكاي بيرس في المسلسل التلفزيوني «المستشفى الجراحي العسكري المتنقل» (إم إيه إس إتش) الذي ظل يُعرَض مدةً طويلة، وكان يدور حول حياة الأطباء الأمريكيِّين في ظل الحرب الكورية. كان هوكاي الشخصية الرئيسة في المسلسل، حيث كان يُظهِر مزيجًا من السِّمات البطولية والتعليقات الفكاهية المعادية للمؤسسة الحاكمة. فيظل هوكاي، هو وصديقه المقرب بي جيه هنيكت، طوال المسلسل يُبدي تعليقاتٍ ساخرةً لا تتوقف عن جنون الحياة في منطقة حرب. ولكن قُرب نهاية المسلسل، يمر هوكاي بموقف سيئ جدًّا، ويجفُّ سيل التهكم والسخرية الذي كان يتدفَّق منه تدفقًا شبهَ مُستمر، لتحلَّ محله موضوعاتٌ أشدُّ قتامةً تُهدد صحته العقلية نفسَها. يتضمن المسلسل مشهدًا كاشفًا بصورةٍ مؤلمة يُبرِز نهجَنا القائم على نظام التفكير الثاني في إصدار الأحكام الأخلاقية بصورة جيدة جدًّا. ونعرف بأمر هذا المشهد من خلال جلسات العلاج النفسي التي يخضع لها هوكاي. فيحكي قائلًا إنه كان في حافلةٍ مع امرأة تحمل معها دجاجةً تُقرقر بصوتٍ عالٍ. وكانوا كلهم مهدَّدين بخطرٍ شديد، لكنَّ الدجاجة لم تكُفَّ عن القرقرة. فأمر هوكاي المرأة بأن تُخرس الدجاجة، فاضطُرت المرأة في ظل يأسها من إسكاتها إلى خنق الدجاجة. لم نبدأ إدراكَ حقيقةِ ما حدث بالفعل إلَّا ونحن نرى جلسات هوكاي العلاجية المستمرة ومدى ضيقه الشديد من هذه الحادثة. فتنهار دفاعاته النفسية ويُضطَر إلى إعادة تذكُّر تفاصيل الحادثة من جديد، والدور الذي اضطَلع به؛ لأنَّ الكائن الذي خنقته المرأة لتُنقذهم جميعًا لم يكن دجاجة. بل كان طفلها الرضيع. وهكذا تُواجهنا معضلةُ هوكاي، التي لا تُطاق، بقوةٍ شديدة جدًّا. فكيف يُمكن لأي شخصٍ أن يحكم على الصواب والخطأ في موقفٍ كهذا؟ من الواضح أنَّ هوكاي يستطيع تبرير فعلته بأنَّ النتيجة النهائية أدَّت إلى إنقاذ أرواح، ولكن من الواضح بالقدر نفسِه أنه لا يستطيع أن يسامح نفسه.

ينبعُ أصل المعضلة الرهيبة من التناقض المتأصِّل بين الحكم القائم على النظام الأول وذلك القائم على النظام الثاني. فالأول هو ردُّ الفعل الانفعالي (عدم إيذاء الطفل) الذي يُركز على فعل ما يبدو صوابًا بغض النظر عن النتيجة مقابل وجهة النظر النفعية الثانية التي ترى أن تفعل الصواب (إنقاذ المجموعة) بناءً على تأثير أفعالك على مصلحة الآخرين ورَفاهتِهم. فهل نستطيع إيجاد طريقةٍ للموازنة بين وجهتَي النظر هاتين لنتمكنَ من إصدار أحكام أفضل؟ يعتقد الفيلسوف جوشوا جرين أننا نستطيع ذلك في بعض الأحيان. فهو يُدرك أنَّ هذين النظامين مُدمجان بالفعل في أدمغتنا وبينهما حالةٌ عميقة من الشد والجذب. ويستخدم في كتابه «قبائل أخلاقية» استعارةً يُشبِّه فيها دماغنا بكاميرا ذات إعدادات تلقائية مُدمَجة تُمكِّننا من التقاط صورٍ جيدة في ظروفٍ عديدة (مُشبِّهًا هذه الإعدادات التلقائية بنظام التفكير الأول)، لكنه في المقابل يُشبه النظام الثاني بالإعدادات اليدوية التي نستخدمها لظروفٍ مُعينة لا يُمكن تلبية متطلباتها جيدًا بالإعدادات التلقائية (كالإضاءة والحركة وما إلى ذلك). وهذه القدرة على إصدار أحكام أخلاقية استنادًا إلى «معالجة مزدوجة» تُعطينا بصيصًا من الأمل في أن نستطيع إصدارَ الأحكام بكيفية أفضل من المعتاد.

وتتضح قوةُ هذا التشبيه عندما ترى البديهيات الأخلاقية بوصفها «الإعدادات التلقائية» التي تُمكِّننا من التعاون مع الآخرين إلى حدٍّ كبير في ظروفٍ عديدة. وتتمثل وجهة نظر جرين في هذا الشأن أننا طوَّرنا هذه الإعدادات لحل إشكالية «الذات» مقابل «الجماعة»؛ أي كيفية الانتقال من الأنانية الفردية إلى التعاون مع الآخرين. ويُتيح لنا هذا الانتقالُ أن نَجنيَ فوائد التعاون، من خلال تطوير انفعالاتٍ شعورية اجتماعية شبيهة بانفعالات النظام الأول تُثار تلقائيًّا إلى حدٍّ كبير، مثل الشعور بالذنب والحب والعار وما إلى ذلك؛ لموازنة تأثير نزعةِ المرء إلى المُبالغة في التركيز على خدمة مصالحه فقط. غير أنَّ هذه الإعدادات تُمكننا من التعاون «ضِمن» نطاق قبائلنا الأخلاقية فقط. فحين تلتقي قبائلُ ذات قِيم مختلفة، لا نستطيع الاعتماد على هذه البديهيات الشعورية لنرى الصورة الكبرى. وهذه المعضلة المتمثِّلة في تفضيل «جماعتنا» على «جماعتهم» لا تُحَل بما نشعر به في وضع الإعدادات التلقائية. لكنه يقول إننا، على الجانب الآخر، نستطيع التفكيرَ في طريقةٍ ما في إطار الوضع اليدوي القائم على نظام التفكير الثاني لحلِّ تلك المشكلات باستخدام المبادئ المنطقية للفلسفة النفعية.

يرى جرين أنَّ الحياة العصرية جلبَت معها ظروفًا مُعيَّنة أكثرَ تَكرارًا، وأنَّ البديهيات الأخلاقية وحدَها ليست كافيةً لدعم الأحكام الأخلاقية في العالم في ظل هذه الظروف. ويُشير بالأخصِّ إلى أنَّ حَدْسنا الغريزي يُضلِّلنا في ظل هذا العالم العصري الذي نعيش فيه عبر مسافاتٍ هائلة ووسطَ كمٍّ هائل من السكان. ويمكن لهذه الإعدادات التلقائية، أي براعم التذوق الأخلاقي لدَينا، أن تَطغى على الدوافع الأنانية بدوافعَ أخرى أكثرَ جماعيةً ومُتجذرة في المشاعر الأخلاقية كالشعور بالذنب أو الحاجة إلى السُّمعة الطيبة. وكل هذا منطقيٌّ جدًّا عند الحديث عن مجتمعاتٍ لا يتجاوز عدد أفرادها ١٥٠ فردًا وفق الحدِّ الأقصى الذي وضعه عالم الأنثروبولوجيا روبن دنبار، ولكن علينا الآن حلُّ مشكلةٍ أخلاقية مختلفة، تكمن تحديدًا في الانتقال من الاهتمام بجماعاتنا إلى الاعتراف بوجود الآخرين. وهؤلاء الآخرون قد لا يكونون في متناوَل تخيلاتنا البديهية وقدرتنا على التعاطف. وهنا يرى جرين أننا نحتاج إلى استخدام قدرٍ أكبرَ من الوضع اليدوي، الشبيه بنظام التفكير الثاني، الذي قدَّمه لنا جيرمي بينثام والمذهب النفعي، الذي يَعتبر كل الحيوات متساويةَ القيمة، حتى لو لم تكن مرتبطًا عاطفيًّا بالغرباء بقدرِ ارتباطك بالأقرباء والأصدقاء.

وبينما يعترف جرين بصحة النموذج الحدسي الذي وضعه جوناثان هايت، وافترض فيه أننا نحكم أولًا ثم نُبرر لاحقًا؛ يشير أيضًا إلى أنَّ الوضع العقلاني الأكثرَ تروِّيًا يُمكن، وينبغي، أن يطغى على ذلك الحُكم في بعض الأحيان. ففي وضع نظام التفكير الثاني الأكثرِ تروِّيًا، يُمكن أن يبدأ الكثيرون في رؤية قصة «مارك» و«جولي» من منظورٍ أوضحَ من المنظور الذي رأَوها منه في البداية. فقد عَرَض جرين قصتهما على بعض الطلاب، ثم أعطاهم مبرراتٍ وجيهةً أو سيئة ليُبرر بها مقبولية ممارستهما الجنسَ بالنسبة إليهما. وقد قيل في أحد المبررات الوجيهة إنَّ رد فعلنا المُعارض للقصة هو نزعةٌ تطورية فائضة ربما تكون قد نفعَتنا سابقًا في حظر العلاقات الجنسية بين أفراد الأسرة الواحدة، بينما قيل في المبرر السيئ إنَّ تصرفهما من شأنه أن يخلق «مزيدًا من الحب في العالم». صحيحٌ أنَّ هذين المبررين المتناقضَين لم يُحدِثا أي فارق في رد الفعل الاشمئزازي الأوَّلي الذي أبداه الكثيرون ولا إجفالهم لأنهم يرَونه فعلًا منافيًا للأخلاق. ولكن بعد مرور دقيقتين، صار مَن سمعوا المبررات الوجيهة أكثرَ استعدادًا للصفح.35

وهكذا يشير وضعُ المعالجة المزدوجة الذي يطرحه إلى أننا نستطيع تحقيق التوازن بين الاعتبارات العقلانية وردود الفعل الغريزية القائمة على النظام الأول التي نميل بشدةٍ إلى التأثُّر بها. وهذا الأمل الذي يحمله مثيرٌ للإعجاب ونابعٌ من إدراكِ أنَّه في العصر الذي تُمكِّننا فيه التكنولوجيا من الإتيان بأفعالٍ مروعة أو طيبة يمتدُّ صَداها عبر مسافاتٍ هائلة، فإنَّ الأدوات الأخلاقية التي كانت تُمكننا من التعامل مع مجموعات أصغر حجمًا ليست مناسبةً على الدوام للتعامل مع أنواع المعضلات الجديدة التي نُواجهها الآن.

في سياقٍ متصل، يُناقش عالم النفس بول بلوم هذه القضايا في كتابه «ضد التعاطف»:36

أتفق على أنَّ التعاطف يمكن أن يحفز سلوكًا لطيفًا في بعض الأحيان. لكنه منحاز؛ إذ يدفعنا نحو ضيق الأفق والعنصرية. وهو قصير النظر؛ لأنه يُحفِّز أفعالًا قد تجعل الوضع أفضلَ على المدى القصير، لكنها تؤدي إلى نتائجَ مأساوية في المستقبل. وجاهل بالأرقام والحسابات؛ إذ يُفضِّل الواحد على الكثيرين. ويمكن أن يثير العنف؛ فتعاطفنا مع المقرَّبين منا يحمل بين طياته قوةً هائلة قد تدفعنا إلى محاربة الآخرين وارتكاب فظائعَ ضدَّهم. ويُسبب تآكُل العلاقات الشخصية؛ إذ يستنفد الروحَ ويمكن أن يُضعف قوة الرفق واللين والمحبة.

هذه نقطة مهمة. ربما نُمجِّد مزايا التعاطف، لكننا نحتاج أيضًا إلى إدراكِ نقاطِ قُصوره. فعلى سبيل المثال، يوضح بلوم كيف يُمكن أن يُصبح التعاطفُ عائقًا أمام التربية السليمة؛ لأنه يُصعِّب علينا تحمُّلَ معاناة أطفالنا، التي يجب أن نقدر على تحمُّلها في بعض الأحيان بالطبع.

وهكذا فالنزعة إلى التعاطف يُمكن أن تفسد قدرتنا على إصدار أحكام مُنصِفة، أو حتى مراعاة البعد الأخلاقي في تصرفاتنا. فالخيارات القائمة على التعاطف يُمكن مثلًا أن تُقيدنا من خلال إفقادنا الحساسيةَ للأرقام؛ بمعنى أننا يُمكن أن نشعر بأننا مُتخَمون بالأخلاق الحميدة ومُشبعون بروح البر والإحسان إذا ساعَدْنا شخصًا أو اثنين فقط. وبذلك تتضاءل رغبتُنا في مساعدة أعدادٍ أكبر ممَّن لا نستطيع الشعورَ بآلامهم؛ لأنهم لا يُقدمون القصص الفردية التي يُمكن أن تجذب تعاطفنا.

وإذا كان جرين وبلوم مُحِقَّين في أننا طوَّرنا الآلية المناسبة لإيجاد طريقنا نحو إيجاد حلٍّ لتعارُض احتياجات الفرد مع احتياجات الجماعة، لكننا لا نبرع كثيرًا عندما يتعلق الأمر بحلِّ تعارض احتياجات جماعتنا مع احتياجات جماعات الآخرين، فما الذي يوضحه ذلك عن الكيفية التي ينبغي أن نحكم بها على أحكام بعضِنا على بعضٍ؟ هل نُشيد بنهج النظام الثاني العمَلي فحسب؟ هل ينبغي أن نُعجَب دائمًا بالأب الصارم الذي يستطيع أن يتعامل مع ألَم أطفاله بهدوء يصِل حدَّ البرود؟ لم يقُل بلوم ولا جرين إننا ينبغي أن نكون بلا قلبٍ هكذا، ولكن من الواضح أنهما يعتقدان أنَّ نهج النظام الثاني الأكثر تروِّيًا هو الطريق الأفضل لإصدار أحكام أخلاقية وجيهة. ومن الواضح أنَّ لديهما منطقًا معينًا يؤيد فرضيتهما.

غير أنَّ هذا المنطق مُقيَّد بحدٍّ جوهري. فما يوضحه عن كيفية الحُكم الصحيحة لا يَسري إلا إذا كان مَن لن ينزعج من معضلة هوكاي هو الشخصَ السيكوباتي فقط. فالحُكم على أساسٍ نفعي فقط يعني أنَّ المرء سيكون أقلَّ إنسانيةً من منظورٍ ما. وتطلُّع المرء إلى أن يكون عقلانيًّا بصورةٍ بحتة بمنزلة سعي في طريق مسدود من المنظور الإنساني. فنحن لا نُحب القساةَ عديمي الرحمة. نحن بحاجةٍ إلى معرفة أنَّ الآخرين يهتمُّون بنا اهتمامًا صادقًا في قرارة أنفسهم، حتى في الوقت الذي نُقيِّم فيه مَدى مُلاءمة هذا الاهتمام. فبالرغم من كل مَزايا الحياد اللامتأثر بالمشاعر، لا نستطيع أن نتعامل بجدِّية مع قدرة الشخص على الحُكم دون أن يستخدم النوعية المناسبة من المشاعر في إصدار هذا الحكم. والفيلسوفان جون دوريس وستيفن ستيتش يصوغان ذلك بالعبارات التالية، مُكرِّرين ما ذكره برنارد ويليامز:
إن التصور الأخلاقي الذي يُشيد بالعلاقات أو الالتزامات أو المشروعات الحياتية التي تتعارض مع أنواع الارتباطات العاطفية العميقة التي يمكن، بمقتضى التوقعات العقلانية، أن تترسخ في الحياة الإنسانية الفعلية وتملأها بالحيوية، هو تصورٌ أخلاقي أضعفُ بكثير — في أحسن أحواله — من أن ينال تأييدنا.37
وبالرغم من فكرة بلوم عن مَواطن قصور التعاطف، فبدون وجود النوع المناسب من المشاعر، لن يكون للفكرة وجودٌ حرفيًّا. فنحن لن نحتفيَ أبدًا بالسيكوباتي الخيِّر (الساعي إلى الشهرة والتملُّق) على حساب الأبِ المُحِب الذي يقرأ لطفله كلَّ ليلة. صحيحٌ أنَّ الحسابات النفعية الضيقة تُخبرنا بأنَّ ذاك السيكوباتي أنفعُ من هذا الوالد المفرد، لكنَّ ذلك لن يبقى قائمًا عند النظر إلى الأمر من منظور إنساني.38 فلكي تتحققَ إنسانيتُنا على أكمل وجه، نحتاج إلى حيِّزٍ لإبداء استجابات كتلك التي أبداها إدوارد توماس لِنَعيق البومة، وكانت غيرَ منطقية بالمعنى الحرفي للكلمة لكنها مؤثرة عاطفيًّا:
البومة
أتيتُ إلى أسفل التل، جائعًا ولكن لستُ متضورًا،
شاعرًا بالبرد، لكني كنتُ مفعَمًا بحرارة حصينة
ضد الرياح الشمالية؛ متعبًا لكن تلك الراحة
تحت سقف بدت أجملَ شيء في الوجود.
ثم حظيت في النَّزَل، بطعامٍ ودفءٍ وراحة،
فأدركتُ كم كنتُ أشعر بالجوع والبرد والتعب.
كان كل شيء في تلك الليلة محجوزًا في الخارج،
عدا صرخة بومة، صرخة كئيبة جدًّا؛
إذ جاءت طويلةً وواضحة، من أعلى التل.
لم يكن فيها نبرةٌ بهيجة، ولا مُبهجة،
لكنها نبرةٌ أخبرتْني بوضوح، بحقيقةِ ما هربَت منه
وحدي من دون الآخرين، في تلك الليلة، عندما دخلت النَّزَل.
وكان طعامي مُملحًا، وكذلك مُلِّحَت عذوبة راحتي،
وقُضَّت سكينتي بصوت الطائر
الذي كان يتحدث نيابةً عن كل من يلتحفون السماء،
كالجنود والفقراء، عاجزين عن الابتهاج.

نحن نحتاج إلى أن نعرف أن لدَينا نوعيةَ المشاعر المناسبةَ إلى جانب الكيفية التي نُقيِّم بها فوائدَ أي فعلٍ أو أضراره. صحيح أنَّ بروك لا يفعل أيَّ شيءٍ نافع هنا، لكن تعاطفه يُمكننا من إصدار حكمٍ إيجابي عليه في العموم. وهذا ليس مجردَ شيء يجب أن نُرضيَ أنفسنا به، بل إن الاستجابات العاطفية والشعورية تُعد كذلك مصدرًا لمغزى حياتنا وأهدافنا. فنحن لدينا تفضيلات مُعيَّنة، ومن ثَم ستتلوَّن أحكامنا وتتشكَّل بالمشاعر إذا كان لهذه الأحكام أن تبدوَ بشَرية بوضوح. ربما تكون هذه الألوان الخفيفة غيرَ مُنصفة، لكن العالم بدونها سيُصبح بلا لونٍ ولا رائحة. لذا لا يُمكن أن يكون التفكير من منظورٍ نفعي ضيق كالآلات هو ما نتطلع إلى الوصول إليه، حتى وإن كنا نُدرك أننا يجب ألا ننغمسَ في المشاعر.

على أي حال، فحتى في الحالات التي يصحُّ فيها كلامُ جرين وبلوم بأن نظام التفكير المنطقي الثانيَ يجب أن يطغى على دوافع النظام الأول الانفعالية الطائشة، فهذا في حد ذاته صعبٌ بالنسبة إلينا؛ بسبب طريقة تطورنا. فما الذي كان أهمَّ لبقاء أسلافنا في النهاية: الحقيقة أم السمعة؟39 حسنًا، إنها السُّمعة، حسبما يرى هايت، الذي يذهب إلى أنَّ البشر الاجتماعيِّين الأوائل لم يُحسِّنوا فرصَ بقائهم بالاعتماد كثيرًا على تكوين تصورات دقيقة عن العالم، بل بالحرص على ترك انطباعٍ إيجابي عن أنفسهم لدى أولئك الذين كانوا يحتاجون إلى التعاون معهم. وهذا يعني أننا نُخضِع «الفكر الاستكشافي»، الذي يُعنى بمحاولة فهم الأمور بالشكل الصحيح، إلى «الفكر التأكيدي»، الذي يركِّز على البحث عن أدلة تدعم تفضيلاتنا.

ومع أننا قد نتطلع إلى استخدام نظام التفكير الثاني، والسيطرة على نزعة استخدام النظام الأول المُعرَّض للتحيُّز، تُوجَد مشكلة. فالعمليات المعنية هنا تجري دون وعيٍ منا؛ ولذا لا نستطيع إدراكها واستخدامها مرارًا بما يكفي لتغييرها. ولأنها تجري دون وعي، عادةً ما لا ندرك نوعية المردود الذي نحتاج إلى تعلُّمه وتغييره. لذا ينبغي ألا نفترض أننا نستطيع السيطرة على ردود الفعل التلقائية هذه. والخبراء الذين يظنون أنهم يستطيعون استخدام خبراتهم لمحاربة هذه النزعات أضلُّ سبيلًا. فهم يميلون إلى المبالغة في تقدير قدرتهم على التحلِّي بالموضوعية، وبذلك يكونون، من بعض الجوانب، أكثرَ عرضةً لتلك القيود. وكما صاغ دانيال كانمان نفسُه ذلك، بأسلوبٍ استفزازي بعضَ الشيء، قائلًا: «تدريس علم النفس غالبًا ما يكون مَضيعةً للوقت.»

إن الفكرة الباعثة على استفاقتنا من غفلتنا هنا أنَّ نظام التسويغ المنطقي الأخلاقي، الشبيه بنظام التفكير الثاني، عند استخدامه من الأساس، إنما يُستخدَم لأسبابٍ تكتيكية مُغرِضة في ضوء السعي إلى إقناع الآخرين بدلًا من إجراء تقييم محايدٍ عقلاني، ونستعين به لدعم تلك الأحكام الأخلاقية القائمة على الميول، بدلًا من اختبارها. فقد تَبدَّل غرضُه، وصار دوره الرئيسي أن يكون بمثابة مُحامينا الداخلي (على حدِّ قول هايت) الذي يبحث عن أدلة لإقامة حجةٍ تُبرر حُكمنا الحَدْسي البديهي، وبالأخص حُجة تكون مُقنعة بحيث تصمد في أعين الآخرين الذين ينتقدون حُكمَنا. وحينئذٍ يبدو أننا، حتى عندما نكون في وضع التسويغ المنطقي الأخلاقي الأكثر عقلانية، نكون منخرطين في نسخةٍ من مُرافعة خاصة ممزقة بدوافعَ خادمةٍ للمصلحة الذاتية وتبريرات تُنشأ لاحقًا بعد إصدار الحُكم. فلماذا تتَّسم عقولنا بهذا التصميم الغريب؟ ولماذا، مع تضاعُف حجم الدماغ البشري ثلاثَ مرات على مرِّ الخمسةِ ملايينِ سنةٍ الماضية، وتطوير اللغة والتحسُّن الهائل الذي طرأ على القدرة على التفكير المنطقي، طوَّرنا مُحاميًا داخليًّا، بدلًا من تنمية قاضٍ أو عالِمٍ داخلي؟ أما كان سيصبح من الأفضل لأسلافنا في سعيِهم إلى التكيُّف أن يحاولوا معرفة الحقيقة؟40 الإجابة أننا جُبِلنا على إيلاء سُمعتنا اهتمامًا أكبر، وهذا يعني أنه دائمًا ما سيكون من الصعب تغييرُ رأي شخصٍ ما في أشخاصٍ آخرين (بما في ذلك رأيك) باللجوء إلى المنطق أو الأدلة.
أجرى عالم النفس فيليب تيتلوك دراسةً دقيقة عن الكيفية التي يُصدر بها الخبراءُ والأشخاص العاديُّون الأحكام والتنبؤات، وخلص إلى أنَّ الفكر «التأكيدي» يتفوق بالفعل على الفكر «الاستكشافي» تفوقًا شبهَ دائم. فالفكر التأكيدي، كما رأينا، هو النَّزعة المُرضية إلى التشبُّث بالأدلة التي تؤكد افتراضاتك، على عكس الفكر الاستكشافي، الذي يسعى إلى معرفة الحقيقة، مهما كانت غيرَ ملائمة لتفضيلاتك. ومن وجهة نظر تيتلوك، لا يتفوَّق الفكر الاستكشافي على الفكر التأكيدي إلَّا تحت ثلاثة شروط:
  • (١)

    أن تكون مدركًا أنك مسئول أمام جمهور قبل اتخاذ القرار،

  • (٢)

    وأن تكون آراء الجمهور مجهولة،

  • (٣)

    وأن تؤمن بأنَّ الجمهور على اطلاع جيد ومُهتم بالدقة.

هذا ما يسعى إلى تحقيقه نظامُ العلم المترسِّخ (وأحيانًا ما يُحققه بالفعل) رغم قصور كل عالِم على حدة. وحال افتقادِ هذه الشروط، فإن «إحدى وظائف التفكير الرئيسة ضمانُ أنَّ المرء يتصرف بطريقةٍ يُمكن تبريرها بمبرراتٍ أو أعذارٍ مُقنعة للآخرين.»41 أي إنَّ وظيفتنا هي الإقناع؛ إقناع الآخرين وإقناع أنفسنا.

نحن لسنا مُلزَمين بقَبول التفسير التطوري البحت لظهور هذه السِّمات في أحكامنا الأخلاقية للاقتناع بقوة التحليل. وما يجب تَوخِّي الحذَر منه، عندما نشعر أنا أو أنت باليقين في أحكامنا، أننا يجب أن نُدرك حقيقة أنَّ لدَينا العديدَ من الآليات الداخلية التي تُنشئ ذلك اليقين في آرائنا الأخلاقية المنحازة إلى مصالح الذات. فالأحكام غير الموثوقة تسري خلالنا ومترسخة بداخلنا بعُمق. فنحن لدينا أحكامٌ مُسبقة وسُمعة يجب أن نحميَها، وتحالفات يجب أن نُشكِّلها.

ويبدو أنَّ هذه الرُّؤى تُثبت صحةَ رأيٍ طرَحه ديفيد هيوم عن الطبيعة البشرية، وتجدُر الإشارة إلى أنَّ هيوم، بصفته مثالًا نموذجيًّا لعالِم التاريخ الطبيعي، كانت لديه رُؤًى متبصرة ظلت مهملةً حتى وقتٍ قريب. فعلى عكس بعض الفلاسفة مثل بينثام وكانط وأفلاطون، الذين كانوا يرَون أنَّ الحكم الأخلاقي مهمة عقلانية، حيث كانت الأسباب المنطقية المجردة هي نفسها مصادر الدوافع الأخلاقية، قال هيوم ذلك:
لا يُوجَد ما يُسمَّى بالأخلاق في الطبيعة المجردة للأشياء، لكنها مرتبطة تمامًا بالعاطفة أو التذوُّق الذهني لدى كل كائنٍ على حدة، مثلما تنبثِق الاختلافات المميزة بين الحلو والمر، والساخن والبارد، من الشعور الخاص لدى كلِّ حاسَّةٍ أو عضو. لذا يجب ألَّا تُصنَّف التصورات الأخلاقية ضِمن عمليات الفهم، بل ضمن الأذواق أو العواطف.42
على الرغم من أن رؤية ذلك أمر صعب بالنسبة إلينا، والاعتراف به في قرارة أنفسنا أصعب، يبدو أنَّ الأدلة المستمَدة من علم النفس الأخلاقي تدعم رأيه. فيصف هايت ذاتَنا الواعية بأنها كالفارس على ظهر فيل ضخم، بما ينطوي عليه ذلك التشبيهُ من إيحاءٍ بعدم القدرة على التحكم الواعي. والسبب الذي يجعل النظرياتِ الأخلاقية التقليدية لا تتَّفق على الدوام مع التجرِبة الإنسانية أنها تُبالغ في اللجوء إلى افتراض أنَّ الفارس واعٍ، وتتجاهل حقيقة أنَّ الفيل هو مَن يؤدي مجهود الحمل العاطفي الشاق.43

إرجاء الحُكم (أو إعادة النظر فيه)

«عندما نمرُّ بموقفٍ جديد في الحياة ونواجه شخصًا جديدًا، نجلب معنا أحكامًا مُسبقة من الماضي، وتجارِبنا السابقة مع الناس. ونجد أنفسنا نُسقِط هذه الأحكام المُسبقة على الشخص الجديد. والواقع أن التمكُّن من معرفة الشخص الجديد يعتمد، إلى حدٍّ كبير، على سحب الإسقاطات؛ على تبديد الحاجز الضبابي المتمثل في تخيلاتنا عن ماهية هذا الشخص، وإحلال حقيقة ماهيته الفعلية محلَّه.»

(أنطوني ستور، مقتبس من كتاب «بوبر» تأليف براين ماجي (لندن، ١٩٧٣))

نرى في هذا الاقتباس أنَّ التوصُّل إلى حلٍّ هو شيءٌ صعب وأمل زائف. فأحكامنا المسبقة وإسقاطاتنا وحواجزنا الضبابية، شأنها شأن تأويلاتنا الأخلاقية للأمور ودوافعنا وحساسياتنا المنحازة إلى الذات، عديدة ومتنوعة كما ذكَرتُ في هذا الفصل. الأمل الذي يطرحه أنطوني ستور أننا، بدون هذه الأوهام، نستطيع أن نتعلم أن نرى بوضوح. وصحيحٌ أنَّها نصيحة مُلهِمة لكنها مثالية في نهاية المطاف. فلا تُوجَد أرضية محايدة، ولذا لن يفهمَك أحد حقَّ الفهم. ودائمًا ما نكون عُرضةً للتأثُّر بهذه النزعات؛ لذا من المهم أن نعرف كيف نُشكك في صحة أحكامنا بدلًا من إنكار وجودها أو تمنِّي زوالها. ربما نظن، مثل نيك كاراواي في فيلم «جاتسبي العظيم» (ذا جريت جاتسبي)، أنَّ «إرجاء الحكم مسألة أمل غير محدود»، وربما نحاول، في تصرُّف سليمٍ منَّا، إرجاء الحكم لإعطاء الناس مجالًا لالتقاط الأنفاس، والتطور، والتغير، بدلًا من محاصرتهم بالتقييمات الاندفاعية المفاجئة؛ ولكن يبدو أنَّ الحكم على الآخرين شيءٌ راسِخ بداخلنا، حتى عندما لا نلاحظ أننا نفعل ذلك، وأحد أسباب ذلك أننا لا نلاحظ.

وحتى العمل بالنصيحة التي تدعو إلى تأمُّل عيوبك قبل النظر إلى عيوب الآخرين أصعبُ من قولها. والسبب في ذلك أنَّ أبرعَ الكذابين أقنَعوا أنفسهم بكذبهم، وبذلك لم تعُد لديهم حاجةٌ إلى الشعور بالحرج من الدوافع المختلطة. وكما قال روبرت رايت في كتابه «الحيوان الأخلاقي»، «النوع البشري رائعٌ في مجموعة أدواته الأخلاقية، وبشعٌ في مَيله إلى إساءة استخدامها، ومُثير للشفقة في جهله المتأصل بأنه يُسيء استخدامها.»44

كما أوضحت في هذا الفصل حسبما أرجو، فادِّعاء الفضيلة، وعدم الاتساق، والإيمان بأننا أقوَمُ خُلقًا من الآخرين، والولاء الانتقائي، والنفاق كلها بمنزلةِ غذاءٍ يوميٍّ لنا، ولن نستطيع تجاوزها ببساطة عندما يتعلق الأمر بالحكم على الآخرين.

ولكن تُوجَد إيجابياتٌ عديدة في أنماط أحكامنا وأساليبها رغم كل عيوبها. فينبغي ألَّا نتجاهلَ القوة الهائلة النابعة من هذه البديهيات الأخلاقية نفسِها. صحيحٌ أنَّ الباحثين التجريبيِّين ربما يبرعون في إظهار حدود قدرتنا، مثل أولئك الذين يدرُسون موضوع التصور البشري ويستحضرون أوهامًا بصرية مشهورة لإظهار حدود نظامنا البصري، ولكن ينبغي أن نُدرِك النقطة التي يحرص جوشوا جرين على توضيحها؛ وهي أنَّ الوضع التلقائي في كاميراتنا ذاتِ المعالجة المزدوجة مؤثرٌ ونافع في معظم الأحيان أيضًا.

لذا فقبل أن نبدأ في إصدار أحكام بالغةِ القسوة على أحكامنا، لنتذكَّرْ أننا نستطيع التصرف والتعاون بصور جيدة جدًّا بفضل هذه القدرة على التعامل مع العالم الاجتماعي. إن أجندات الأخبار تعتمد على الأشياء الخارجة عن المألوف؛ وهو ما نُعبِّر عنه عادة بعبارات مثل «إذا وُجِدت دماء، فستجذب الانتباه»، أو، كما قال أحد الصحفيين، «أن يعضَّ كلبٌ رجلًا فهذا لا يُعَد خبرًا، أمَّا إذا عض الرجلُ كلبًا، فهذا خبر بالتأكيد.» وبسبب هذه النزعة إلى التمسُّك بالأشياء السيئة البرَّاقة المثيرة، لا نعطي الأشياءَ الجيدة المملة حقَّها. فلِمُعظم الوقت، لا يعَضُّ البشر كلابًا، وفي معظم الأحيان لا نفعل شيئًا سوى المُضيِّ قُدمًا في حياتنا العادية. والقصة الأقلُّ تداولًا أنَّ البشر يتعاونون في معظم الأوقات. فالبديهيات الأخلاقية التي ورثناها مُصمَّمةٌ لتُمكِّننا من مثلِ هذا التعاون على نطاقٍ لا نشهده في أي مكانٍ آخر في الطبيعة. أكتب هذه السطور أثناء انتظار رحلةٍ جوية متأخِّرة، وبينما أشعر بالإحباط كالآخرين، وجَدْنا طُرقًا لإدارة الموقف مع أننا جميعًا نركز في الأساس على احتياجاتنا الشخصية، ونُقيِّم العالم من خلال تلك العدسة. وهكذا نُنسِّق فيما بيننا تنسيقًا جيدًا بما يكفي معظم الوقت.

وسواءٌ أكنا نحطُّ من قدر الأحكام البشرية أم نرى نقاطَ القوة الكامنة فيها، فلا سبيل إلى العيش بدون إصدار أحكام. وأحد أسباب ذلك أنَّ الكثير من تلك الأحكام تُصدَر بلا وعيٍ منَّا. ولذا فالامتناع الفعليُّ والحقيقي عن إصدار الأحكام، بعقلية نيك كاراواي، وهمٌ زائف تمامًا مثل إصدار الأحكام بموضوعية. ومن المهم أن نُدرك هذا. فمن المنظور الخطابيِّ البليغ، قد يُتيح وهم الامتناع عن إصدار الأحكام تبريرًا يخدم المصلحة الشخصية في حدِّ ذاته؛ فجُملة «أنا لا أحكم عليك»، تُمثل امتناعًا عن المُساءلة، مثلها مثل عبارة «أنا أمزح فحسب»، التي تتبع طريقةً غير مباشرة لإيصال رأيٍ مُعين دون الاعتراف بمصدر هذا الرأي. ما أقصده أنك إذا لم تكن واضحًا في حكمك عليَّ، فلن يكون لديَّ أيُّ طريقةٍ لتحدِّي أي تحريفاتٍ ربما تكون أخفَيتَها في كلامك، أو دحضها؛ لأنها مستترة خلف حاجز ضبابيٍّ آخر، والحاجز هذه المرةَ هو الحياد.

ما الذي نستطيع أن نفعله إذن؟ وجهة نظري الشخصية أننا، نظرًا إلى أننا نُصدر أحكامًا دائمًا، فينبغي أن نُدرك أننا نفعل ذلك، ونُدرك أنَّ هذه الأحكام في أحسن الأحوال تكون مُتحيِّزة، ونُراجِعها باستمرار مع معرفة المزيد عن الشخص أو الموقف المَعنيِّ. وهذا يعني أن تُدرك رأيك تجاه شخصٍ ما، ولكن لا تكُون قانعًا به. بل ابحث عن طريقة لتكون منفتحًا على تقبُّل أدلةٍ جديدة قد تُغيِّر حكمك. وإحدى الطرق، عملًا بنصيحة هايت، أن:

تتخيل نزاعًا شخصيًّا دَبَّ مؤخرًا بينك وبين شخصٍ آخر تهتمُّ بشأنه، ثم تحاول أن تجد جانبًا لم يكن سلوكُك فيه مثاليًّا. ربما فعلتَ شيئًا تجرَّدتَ فيه من المشاعر (حتى وإن كنتَ على حقٍّ في فعله)، أو شيئًا جارحًا (حتى وإن كانت نيتك سليمة)، أو غير متَّسق مع مبادئك (حتى وإن كنت تستطيع تبريره بسهولة). وحالما تُلاحظ خطأً في سلوكك، من المحتمل أن تسمع حُججًا هائجة من مُحاميك الداخلي يلتمس لك من خلالها الأعذارَ ويُلقي باللوم على الآخرين، ولكن حاوِل ألَّا تُنصت إليه. فهدفك أن تجد شيئًا واحدًا على الأقل قد أخطأتَ فيه.

ويرى هايت هذه العملية، من منظور عقلية القَذى والخشبة، أشبهَ بإخراج شظيةٍ من الجسد. إذ يقول: «إنها مؤلمة في البداية لكنها تجلب الراحة، وخصوصًا أنها تجلب معها شيئًا آخَر، وهو الشعور بالشرف. وهذا يجلب معه التخفيفَ من وطأة مشاعر الغضب والنقد ذاتِ الطابع الأخلاقيِّ المبالَغ فيه.»45

تُوجَد طريقة أخرى لإعادة النظر في الأحكام، وهي أن ترى القيمة الكامنة في إصدار الأحكام على الآخرين مع إدراك أنَّ أيَّ رأيٍ تتوصل إليه قابلٌ دائمًا للمراجعة. تخيَّل قرارًا صعبًا للغاية يتعينُ عليك اتخاذُه في وقتٍ ما في المستقبل. فكِّر مثلًا في اختيار مدرسةٍ لطفلك، أو فيما إذا كنتَ ستقبل وظيفةً تتطلب منك الانتقال إلى مدينة أخرى، أو فيما إذا كنتَ ستنتقل إلى منزلٍ آخر للمعيشة مع شخصٍ ما. ينبغي أن يكون لديك وجهةُ نظر مبدئيةٌ مؤقَّتة طَوال الوقت، بدلًا من التظاهر بالتشكك وعدم اليقين، حتى وإن كان من الممكن أن تُغيرها مع ظهور أدلةٍ وحجج جديدة إلى أن يحينَ وقتُ اتخاذ القرار بالفعل.

عندما يتعلق الأمر بالحُكم على شخص آخر، لا يكون القرار نهائيًّا أبدًا. فثمة أشياءُ أكثرُ بكثيرٍ يجب معرفتها، وأشياءُ أكثر بكثيرٍ ممَّا نستطيع أن نعرفها على الإطلاق. أليس هذا هو السببَ الذي جعل جوزيف كونراد يقول مرةً، كما يُحكى عنه، «لم أقابل رجلًا مُملًّا قط»؟ المشكلة أننا نَقْنع بالنظريات المبدئية الآنيَّة، ونفقد الدافع التخيُّليَّ الموجود لدى الروائيِّين الأدبيين الذين يدرسون شخصياتِ رواياتهم ويفكرون فيها باستمرار، ويهتمُّون دائمًا بالكيفية التي يُجمِّل بها هؤلاء الشخصياتُ أنفسَهم. ومن المفارقات أنَّ الحُكم على تلك الأحكام ومراجعتها باستمرار يجعلان تلك الأحكامَ نفسها أقلَّ أهميةً لأنها تكون واسعةَ الانتشار وتُصبح أكثرَ ارتباطًا بظروفٍ معينة؛ لأنَّ عادات العقل الدائمِ التغير تجعل المرء أقلَّ اعتمادًا على وجهة نظر فردية ومشوهة حتمًا. ويبدو لي أنَّ هذه هي الكيفيةَ التي نستطيع بها أن نتسلل إلى مراجعة أحكامنا إن لم نُرجِئْها تمامًا، بدلًا من أن نكتفيَ بتمنِّي زوالها أو نُبالغ في الاعتماد عليها. لكن الحكم نفسه يظل موجودًا دائمًا؛ ولهذا نحلم بالهروب في بعض الأحيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤