الفصل السادس

الأضاحي البشرية في الهند واليابان والصين

(١) الهند

تقع جمهوريَّة الهند إلى الجنوب من قارَّة آسيا، وتتكوَّن من ثمانٍ وعشرين ولايةً وسبعة أقاليم اتحاديَّة، وتعتبر الهند من أكبر دول العالم من حيث المساحة، حيث تبلغ مساحتها ما يقارب ثلاثة ملايين كم٢، وتشترك في حدودها مع الصين، وباكستان، ونيبال، وأفغانستان، وبنغلادش وغيرها.

(١-١) الهندوسية

وتُسمَّى البراهمية وهي دين وثني يدين به الغالبية العُظْمى من أهل الهند، وأصل كلمة الهندوسية مشتقة من كلمة سند لأن أهل فارس واليونان كانوا يتجولون على سواحل السند ويُغيِّرون حرف السين إلى الهاء، فقالوا الهند، ومن كلمة استهان ومعناها المقر، وكانت ثقيلة عليهم فجعلوها استان بحذف الهاء ثم قرنوا بينهما فقالوا: هندوستان؛ أي مقر أهل الهند وسموا سكانها هندو وإليها نسب دينهم الهندوسية أو الهندوكية، والهندوسية عبارة عن مجموعة من العقائد والعادات والتقاليد التي تَشكَّلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وتتكوَّن في أصلها من امتزاج عقيدتين؛ عقيدة الشعوب الآرية التي غزت الهند، وعقيدة أهل البلاد الأصليين.١

(١-٢) الطقوس والمعتقدات الدينية في الهند

تنوَّعت الطقوس والمعتقدات الدينية في الهند ما بين طقوس جماعية وأخرى فردية،٢ وكانت أعظم الطقوس الجماعية في الهند هي تقديم القرابين، وأعظم الطقوس الخاصة الفردية هي التطهُّر؛ فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية، لأنه يعتقد أنه إذا لم يقدم للآلهة طعامًا فإنها تموت جوعًا، وكانت القرابين في الهند كما في غيرها من كثير من بلاد العالم لا بد وأن تكون أضحية بشرية، بل ويفضل أن تكون من الرجال؛ إذ كانت «كالي» تحب أن يكون قربانها رجالًا، وفُسِّر هذا بأنها إنما تحب أن تأكل رجالًا من أهل الطبقات الدنيا وحدها، فلما تقدمت الأخلاق أخذ الآلهة يكتفون بالحيوان قربانًا، فكان الناس يضحون لهم بالكثير منه، على أن الماعز كان ذا منزلةٍ خاصة في هذه الاحتفالات، ثم جاءت البوذية والجانتية و«أهمسا» فحرمت التضحية بالحيوان في بلاد الهندستان، ثم عادت العادة مجراها القديم حيث حلَّت الديانة الهندية محل البوذية.٣
وفي الهند القديمة كان البراهمة يعلِّمون تلاميذهم أن كعكة الأرز التي يقدمونها كأضحيةٍ إنما هي بديل عن الكائنات البشرية، وأن ذلك الكعك يتحوَّل إلى أجسام رجال حقيقيين على يد الكاهن، فكان الهنود يضعون قطعةً من الكعك كبيرةً جدًّا على صورة معبودهم، وفي كل عام يضعون الكعكة على صورته فيكسرونها ويوزعونها بينهم ويأكلونها وهم يعتقدون أنهم يأكلون جسد معبودهم، وكانوا يقولون وهم يأكلونها: أكلنا ربنا. ويقولون: إنا نحفظ الله ونحرسه حين نأكله.٤
ويسود في الهند أعلى نسبة من الاعتقادات الخرافية والأساطير، فمن الصعب أن تجد هندوسيًّا لا يعبد عددًا من الآلهة؛ فالعالم عنده زاخرٌ بها حتى إنه يصلي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الحديد الذي يصنعه الأوروبي، وللأوروبي نفسه عند الحاجة لذلك. ويسود في الهند أيضًا التعامل بالسحر والشعوذة حيث يؤمن الهندي بالأرواح الشريرة والتقمُّص، حيث إن روح الإنسان بعد موته يمكن أن تحلَّ في جسد آخر وتكون قد مرَّت بعدة تناسخات، فإذا كانت النفس طيبة فإنها تحل في صورة حسنة، وأما إذا كانت شريرة فإن هذه الروح سوف تحل في جسد خنزير أو أفعى، ولعل هذا المعتقد قد نشأ نتيجة الديانة التي يؤمن بها الهنود (الهندوسية).٥
كما أن الإنسان الياباني والهندي وغيرهما من الشعوب المجاورة لهما جغرافيًّا يقومون بتقديس البقرة ويعتبرونها مصدرًا للحياة ويحرمون أكلها، وقد يكون ذلك بقايا الفكر الطوطمي الذي يمنع أكل لحومها نظرًا لأهميتها في حياتهم، ولعل عبادتهم للحيوانات أو تقديسها يرجع إلى تفكيرهم بأن الله يمكن أن يتجلَّى في أحد الحيوانات. وتنتشر في الهند ظاهرة غريبة وهي تقديس العضو الذكري وكذلك العضو الأنثوي؛ وذلك لاعتقادهم أنهما مصدر الحياة والتجدُّد والبقاء، وتنتشر المعابد والمحارق إذ يعتقد الهنود أن حرق جثث الموتى أمر هام الغرض منه عدم تدنيس الأرض، وهذه من معتقدات الديانة الهندوسية.٦

عقيدة التناسخ

هي إحدى العقائد البوذية التي قامت على مبدأ وحدة الوجود وتناسخ الأرواح؛ فالله والمخلوق واحد، والروح سرمدية تذهب إلى الجنة أو إلى النار،٧ ولقد تعددت عقائد الهندوس؛ فهم يؤمنون بأن الروح خالدة لا تموت ولا تولد ولكنها ببساطة تنتقل من جسد إلى آخر، وهذه العملية تتحكم فيها الكارما Karma أي أعمال وأقوال الإنسان في حياته السابقة (السيئات والحسنات)، وعلى أساسها يتحدد الشكل الجديد الذي سيولدون به.٨
أي أن الأرواح في اعتقاد أصحاب هذه العقيدة تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخرى، وأن هذه الروح جوهر خالد أزليٌّ، أما الجسد فهو قميصها الذي يبلى فتستبدل به قميصًا آخر تنتقل إليه؛ ولهذا يُسمَّى التناسخ — أحيانًا — تقمُّصًا، ويعنون بالتقمُّص انتقال الروح من جسدٍ إلى جسد آخر، وإن كان البعض يفرق بين التناسخ والتقمص، فيجعل التقمص انتقال الروح من إنسانٍ إلى إنسان آخر فقط، بينما التناسخ يشمل انتقالها من إنسان إلى إنسان أو حيوان أو نبات، وبذلك يكون التناسخ أعم من التقمص. وإنما سمي تناسخ الأرواح بهذا الاسم، ولم يُسمَّ تناسخ الأجساد؛ لأن جوهر النظرية هو الروح وليس الجسد، وأن وظيفة الجسد فيها مقصورة على أنه وعاء لتتابع الروح وميدان تداولها، وليس موضوع التتابع والتداول.٩
ومن الأمور المسلَّم بها في الهند منذ أقدم الأزمنة، أن الإنسان لا يختصُّ وحده بصفات الجود والتضحية بالنفس والوفاء والمحبة وسائر الصفات الأخلاقية الرفيعة، إنما يتَّصف بها أيضًا الحيوان والطير، وحتى الأشجار والزهور، كما هو واردٌ في العديد من الأساطير الهندية.١٠ فروح الميت قد تنتقل إلى حيوانٍ أعلى أو أقل منزلةً لتنعم أو تعذب جزاء على سلوك صاحبها الذي مات، وقد شاع أمر تلك العقيدة بين الهنود وغيرهم من الأمم القديمة.١١
ولقد مارس الهنود عادة التضحية البشرية فيما عُرف بحرق موتاهم، ولكنهم نادرًا ما كانوا يأكلون أضاحيهم أو موتاهم.١٢

طقس الساتي

طقس الساتي الجنائزي هو تقليدٌ قديمٌ جدًّا يتمُّ اتِّباعه من قبل معتنقي الديانة الهندوسية، فبعد وفاة الزوج وحرْقِه ونثر رماده في النهر، تقوم الزوجة التي يتوفَّى عنها زوجها بحرق نفسها برغبةٍ منها في فعل ذلك، أو من دون رغبة، برمي نفسها في محرقة زوجها١٣ (شكل ٧-١).

فهو طقس يعتمد على التضحية البشرية المسببة، فبموت الزوج يُضحَّى بالزوجة لتُحرق معه وتشاركه نفس النهاية.

(٢) اليابان

اليابان مجموعةٌ من الجزر التي تطلُّ على المحيط الهادي وتقع بالقرب من الساحل الشرقي لكتلة الأرض التي تمثل القارة الآسيوية الأوروبية الضخمة.

وسيطر الفكر الأسطوري على الشعب الياباني منذ الأزل، وفي اليابان عُرف العديد من العقائد والأساطير التي ارتبطت في طياتها بتقديم الأضاحي البشرية.

(٢-١) العقيدة الشنتوية

الشنتوية أو الشنتو كلمة صينية الأصل مكونة من مقطعين: شين shen، وتعني: الإله أو الروح، وتاو Tao وتعني الطريق، والمراد بها: طريق الآلهة. والشنتو هو الدين التقليدي لليابانيين، ويسمونه بلغتهم «كامي-نو-ميتشي» ومعناها أيضًا: طريق الآلهة، غير أن التسمية الصينية غلبت عليه واشتهر بها. ولم تذكر لنا المصادر الكثير عن الشنتو قبل دخول البوذية إلى اليابان، ومما يقال في ذلك إنها تولَّدَت من الخوف من مظاهر الطبيعة؛ إذ يعتقد اليابانيون أن كل الحركات الأرضية والسماوية هي بمنزلة الأدلة أو نتائج الأنشطة الإلهية.١٤

وقد تطورت المذاهب البدائية لعبادة الطبيعة إلى مذاهب لعبادة آلهة الأسلاف وأرواح الأسلاف، ولم يكن هناك تمييزٌ واضح بين الإله والبشر، وبين الطبيعة والآلهة، ومن هنا نشأت أقدم ديانةٍ في اليابان؛ وهي «الشنتوية» وكانت عبادة الأسلاف من الأُسس الرئيسة التي قامت عليها. وقد عُرف للشنتوية صورتان:

  • الأولى: تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف، وهم الآلهة الذين أسَّسوا الدولة وأقاموا بناءها.
  • والثانية: التي تقام في المنزل، وهي عبادةٌ تتجه إلى أسلاف القبيلة.١٥
وسيطر معتقد الشنتو على الشعب الياباني، ووفقًا لهذا المعتقد فإن مؤسس السلالة الإمبراطورية هو سليل الشمس المقدسة وقد وصل إلى الأرض مرورًا بالكوبرا العائمة بين الأرض والسماء، والتي تمثل بمعناها الطريق إلى الآلهة وذلك لتمييزها عن الديانة البوذية، تتركز هذه الممارسات الدينية حول عبادة الآلهة أو «كامي» التي تتمثل في عبادة إحدى الظواهر الطبيعية أو الأجداد الأسطوريين الذين كانوا في أغلب الأحيان ظواهر من الطبيعة كالشمس مثلًا، وكان الخط الفاصل بين الإنسان والطبيعة خطًّا واهيًا فكان من السهل إضفاء صفة الألوهية على رجلٍ مهيب أو غير عادي، والغريب أنه لم يكن هناك ارتباطٌ بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الأخلاقية باستثناء الخوف من الطبيعة واحترامها.١٦
وتقوم فلسفة الشنتو على التفرقة بين ما هو نقي وما هو ملوث، بدلًا من فكرة الخير والشر. وفي أفكار الشنتو لا توجد جهنم أو محاكمة أو عذاب. وأما روح الميت فقد اعتقدوا أنها أطلق سراحها من قيودها المادية لتصبح جزءًا من تكوين الطبيعة، وتهتم الشنتو بالحياة أكثر من اهتمامها بالموت؛ ولذلك تتعدد الاحتفالات الدينية التي كان اليابانيون يزورون فيها المعابد حيث تتداعم الصلة بين الفرد والكامي.١٧
الشنتو لا يؤمنون بحياةٍ أخرى غير الحياة الدنيا، والموت عندهم ينتهي بجسم المتوفى إلى منطقة ملوَّثة، أمَّا روح الميت، فقد أطلق سراحها من قيودها المادية لتصبح مرة أخرى جزءًا من قوى تكوين الطبيعة.١٨
وكما يعتقد اليابانيون القدامى أن عددًا لا يحصى من الآلهة يحوم حول الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء الصباح ووهجه، ولعل هذا الاعتقاد يعود إلى صناعة الهواجس التي بعثها الخوف من الطبيعة وكان التقرُّب إلى الآلهة الكثيرة والعاتية بإحراق عظام غزالة أو قوقعة سلحفاة وبفحص العلامات والخطوط التي تُحدثها النار فحصًا تستمد فيه المعونة من دُعاة المعرفة، وكما جرَت العادة فإن اليابانيين كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم لأن غضبهم، كما يعتقدون، سوف يُنزل بالعالم شرًّا مستطيرًا ولكي يسترضوا الموتى ويحافظون على رضائهم كانوا يضعون النفائس في قبورهم وكانت تختلف باختلاف المتوفى؛ ففي حال كان المتوفى ذكرًا فإنهم يضعون سيفًا إلى جانبه، ويضعون مرآةً إذا كانت امرأة، بالإضافة إلى تقديمهم الطعام وأداء الصلاة أمام صور أسلافهم كل يومٍ، بالإضافة إلى ذلك اتجه اليابانيون في عبادة أرواح الآباء إلى أكثر مِن هذا حيث تطوَّرت هذه العبادة لتصبح لها معابد؛ فالأباطرة العظام لهم معبد تعبد فيه أرواحهم وكذلك الأبطال، كما توجد معابد تعبد فيها السيوف التي خاض بها أصحابها معارك وحقَّقوا انتصاراتٍ على أعدائهم، فإن للسيف روحًا هي التي ساعدَتْ صاحبه على تحقيق الانتصارات.١٩

(٢-٢) تقديم الأضحية البشرية

عرف المجتمع الياباني ظاهرة التضحية البشرية وكان ذلك بمثابة نوع من التوسل ﻟ «آني» كي يوقف المطر الغزير أو لإيقاف هزات الأرض؛ فقد لعبت طبيعة بلاد اليابان دورًا في التأثير في معتقدهم حيث كانوا يُفسِّرون جميع ظواهر الطبيعة التي كانوا يتعرَّضون إليها بالقوى الإلهية وغضبها عليهم. وكان هناك غرضٌ آخر من تقديم الأضاحي البشرية يتعلَّق بالحماية والدفاع؛ فقد كان الغرض من دفن الأتباع مع أسيادهم المتوفين هو الدفاع عنه في أول مراحل حياتهم الآخرة وهذا جزء مرتبط بعبادة الأسلاف.٢٠
وفي اليابان كان يتم استخدام الأجساد البشرية لبناء القلاع والجسور والسدود، فهناك الكثير من المباني في اليابان عُثر فيها على عظام آدمية تعود إلى أشخاص جرى قتلهم واستغلال أجسادهم في البناء، وتستند تلك التضحيات لمعتقداتٍ قديمةٍ تؤمن بأن التضحية بالبشر واستخدام أجسادهم في البناء سيحقِّق بنيةً قوية ودوامًا واستمرارًا لتلك الأبنية المشيدة على الأشلاء البشرية.٢١
ولعل أشهر الأبنية التي يُعتقد بأنها شيدت بالأجساد البشرية هي قلعة ماتسوي matsue الواقعة في محافظة شيماني اليابانية والتي تم بناؤها في القرن السابع عشر، فبسبب انهيار أجزاء من القلعة أثناء تشييدها، واقتناعًا منهم بأن الأجساد البشرية ستساعد في تقوية دعائم تلك القلعة، قام البناة بالبحث عن شخصٍ مناسبٍ في الحشود خلال مهرجان بون المحلي، واختاروا شابةً جميلةً كانت تقوم بعرض مهاراتها الرائعة في الرقص، خطفوها وقتلوها ثم قاموا باستخدام جسدها في بناء الجدار وأكملوا بناء القلعة بدون حوادث تعيقهم.٢٢

(٢-٣) الانتحار الشعائري

هناك مثال آخر حول القربان البشري يتمثَّل في التضحية بالنفس كنوعٍ من تقديم الولاء للإله، ويُعرف هذا النوع من التضحية بالنفس ﺑ «سيبوكو» (الانتحار الشعائري)، ولقد اتسمت سيبوكو بتمالك النفس أثناء قيام المحارب بشرط بطنه بسكين خاص، ثم يقطع جلاد عنقه.٢٣

(٣) الصين

تقع الصين في شرق قارة آسيا، وتعد الديانة البوذية هي الديانة الأم في الصين.

(٣-١) الطقوس والمعتقدات الدينية البوذية

يُقدِّس الصينيون أرواح أجدادهم الأقدمين، ويعتقدون ببقاء الأرواح، ويؤمنون بأن القرابين عبارة عن موائد يدخلون بها السرور على تلك الأرواح بأنواع الموسيقى، ويوجد في كل بيت معبد لأرواح الأموات ولآلهة المنزل.٢٤
وتقوم الديانة البوذية على مبدأ هو «أن أسعد الناس وأوفرهم حظًّا يتعين عليه التسليم بقدرٍ من البؤس أو التعاسة.» ولكن ترى هل كانت التعاسة المقصودة هنا هي تلك التعاسة القدرية التي قد يعاني منها الإنسان، أم أنها تعاسة ترجمت إلى معنى آخر يخدم غاية هي أبعد ما تكون عن مبادئ أي دين؟٢٥

(٣-٢) تقديم الأضحية البشرية

عرفت الصين عادة تقديم القرابين البشرية، فكان يتم التضحية بالبشر ويتم استخدام أجسادهم ودمائهم لأهداف شعائرية تشمل التواصل مع الآلهة، ولطالما قُدمت القرابين البشرية على مدار التاريخ هناك، فقد قُدم عددٌ كبير من الجنود وسائقي العجلات والمرافقين والخيول قرابين، ودفنوا مع الحاكم الأعظم حوالي عام ١٥٠٠ق.م. وقد استندت تلك الطقوس إلى فكرة تنص على وجود علاقةٍ وثيقة بين الأموات والأحياء، وقد فُهم من ذلك أنه بعد الموت يقوم جمع من الخدم والمساعدين على خدمة الملك المتوفى وأسرته كما عملوا في الحياة الدنيا.٢٦

(٣-٣) رأس السنة الصينية

ينتشر الدين البوذي بكثرة في الصين، وكان من مدعيات هذا الدين أن يقام احتفال في اليوم الرابع والعشرين من شهر فبراير من كل عام؛ حيث كانت تقدم الفتيات كقرابين لبوذا، ويوضح «شكل ٦-١» قرابين من فتيات عذارى يقدمونهن الصينيون قرابين لبشر حولوه إلى إله ويأكلون لحومهن، يتم اختيار الضحية بعناية من طرف الكهنة البوذيين في أرياف الصين وأحيانًا يطلبونها من والدَيْها الجاهليْنِ اللذين يفرحان بتقديم ابنتهما العذراء إلى إلههما بوذا كأضحية، يتم إحضار الفتاة للمذبح مكبلة اليدين والرجلين، وكانوا قد غسلوها ونظفوها كما يفعلون بالخنازير، ثم يكون الاستعداد لنحرها على طاولةٍ خاصة بذبح الخنازير مع وَضْع وعاءٍ لجمع الدماء لشربها كجزء من الاعتقادات الجنونية.٢٧
fig30
شكل ٦-١: تقطيع اللحوم لتقديمها قربانًا. (http://yafeau.net/vb/showthread.php?t=38181.)

(٣-٤) الدفن في السماء في مقاطعة التبت الصينية

يعدُّ الدفن في السماء من الطقوس الجنائزية التي تتمُّ ممارستها حتى الوقت الحاضر في مقاطعة التبت الصينية ومنطقة منغوليا، يتضمن هذا الطقس قطع جثةِ الإنسان المتوفى إلى قطع صغيرة وتوضع على قمةِ جبلٍ عالٍ ليتم تعريضها للطيور الجارحة (شكل ٦-٢)، وحسب معتقدهم فإنَّ الفكرة من هذه الممارسةِ هي ببساطةٍ التخلُّص من بقايا الوجود الفيزيائي للإنسان بطريقةٍ سخيةٍ حيث يتم تقدمتها كطعامٍ للحيوانات ولعوامل الطبيعة.
fig31
شكل ٦-٢: صورة توضِّح الطيور الجارحة إذ تقوم بتناوُل الجثث الآدمية.
وقد جاء آنفًا كيف أن الدفن السماوي نوع من طقوس عادات الدفن التي ظهرت إرهاصاتها الأولى في بلاد الأناضول في عصور ما قبل التاريخ، ثم أعاد التاريخ نفسه لتظهر مرةً أخرى لدى بعض الشعوب في جنوب آسيا، من خلال طقس ديني جنائزي يتَّبعه سكان التبت الصينية ومنطقة منغوليا عُرف باسم الدفن السماوي،٢٨ يعمدون فيه إلى ترك جثث موتاهم للنسور كي تتغذَّى عليها؛ ففي اعتقادهم أن الجسد ما هو إلا وعاءٌ يحوي الروح التي تصعد في السماء.٢٩
ولقد أطلق على هذا الطقس أيضًا باللغة المحلية لسكان التبت «إعطاء الوعاء للطيور»، وهي عادة تعبر عن احترام الميت، وتسود لدى أغلب أصحاب الديانة البوذية والزرادشتية.٣٠
فأصحاب تلك الديانات الوضعية يؤمنون بتناسخ الأرواح وتحتم عليهم تلك الديانة أن يتَّصفوا بالسخاء؛ لذلك نجد أن طريقتَهم في التخلُّص من جثث الموتى يعتبرونها نوعًا من الكرم؛ فهم يقدمون الجثث طعامًا للحيوانات والطيور.٣١
وفي طقوس ذلك الدفن السماوي يتم تقديم جثث الموتى إلى تلك الطيور (النسور)، في أغلب الأحيان يجري تقديم الجسم كاملًا للطيور الكبيرة، وعندما لا يبقى إلا العظام يكون الهيكل محطمًا بمخالب الطيور الكبيرة القوية، فتقدم طعامًا إلى الطيور الأصغر.٣٢ وفي بعض المناطق التي تقوم بالدفن السماوي تُؤدَّى بعض الرقصات الطقسية مستخدمين عصا٣٣ ربما كانت طقسية من أجل تحفيز الطيور على الأكل.٣٤
ويبين «شكل ٢-٥» ما يُعرف ﺑ «قبر نسور البحر» وهو أحد صور الدفن السماوي حيث يتم وضع الجثة في مكان معلوم مرتفع قرب البحر ليقوم طائر النسر بتنظيف الجثة ونزع اللحم عنها؛ إذ يُعتقد أن إزالة اللحم تمكن الروح من مغادرة الجسد، وهي رمزية عقائدية لعب فيها النسر الدور الأكبر بحمله رفات الموتى إلى السماء،٣٥ تمامًا كما كان عليه الوضْعُ في الأناضول في عصور ما قبل التاريخ، ويتطابق هذا النوع من الدفن مع المضمون الإنساني للديانة الهندوسية التي تقوم على الانسجام والتكافل بين مكونات الطبيعة، حيث يكون الناس سعيدين أن يتكرموا بجعل جسدهم طعامًا لاستمرار الحياة عوضًا عن العمل على تحنيطه وحفظه؛ ففي المفهوم الهندوسي يكون الجسد بعد أن غادرته الروح مجرد لحم فقط، لم يعد له وظيفة أخرى.٣٦

(٣-٥) طقسُ الخنق

تُعتبر هذه الممارسة حديثة نوعًا ما حيث إنَّها مستمدةٌ من الطقوسِ القديمة المسماة «ساتي» (شكل ٦-٣) يقوم سكان إحدى جزر فيجي الواقعة جنوب المحيط الهادي بمراسم هذه الطقوس الغريبة التي تنطوي على قتلِ أحب شخصٍ على قلب المتوفى من أفرادِ أسرته ليتم دفنهما معًا. فحسب معتقداتهم فإنَّ الروح يجب ألَّا تبقى وحيدة في العالم الآخر؛ لذلك يجب أن تصاحبها روحٌ قريبةٌ لها لجعل مرحلة الموت والحياة الأخرى أقل ألمًا وأكثر وديةً.٣٧
fig32
شكل ٦-٣: طقسُ الخنق.

(٣-٦) قبيلة كورواي بأندونيسيا

تعيش تلك القبيلة في إندونيسيا بجنوب شرق آسيا، وهي تعتبر من القبائل الآكلة للحوم البشر، وتعتبر الأكلة المفضلة لتلك القبيلة هي المخ البشري، ويفضل أن يتم تناوله وهو لا يزال دافئًا. ويعيش أفراد تلك القبيلة فوق الأشجار من أجل أن يحتموا من الأعداء٣٨ (شكل ٦-٤).
fig33
شكل ٦-٤: أحد أفراد قبيلة كورواي ممسكًا بجمجمة آدمية.
١  عبد الله عوض العجمي، التناسخ في الفكر الهندوسي وأثره على غلاة الصوفية: Bingöl Üniversitesi, İlahiyat Fakültesi, Dergisi (2015) Sayı: 5, p. 73.
٢  ف. دياكوف؛ س. كوفاليف، الحضارات القديمة، الجزء الأول، مترجم، دمشق، ٢٠٠٠، ص٢٢٢.
٣  ول ديورانت، قصة الحضارة، الهند وجيرانها، الجزء الثالث، مترجم، القاهرة، ١٩٥٠، ٢٢٥.
٤  خالد موسى عبد الحسيني، ٢٠١٦، ص٤١.
٥  جون كولر، الفكر الشرقي القديم، مترجم، الكويت، ١٩٩٥، ص٢٢.
٦  مسعد بري، تطور الفكر الطوطمي (دراسة في الجغرافية الاجتماعية)، سوريا، ٢٠١٠.
٧  عبد اللطيف سلمان، الفن الهندي، القاهرة، ص١٢٢.
٨  وعن عقائد الهندوس انظر: ول ديورانت، مرجع سابق، ص٢١٠–٢٢٠.
٩  عبد الله عوض العجمي، التناسخ في الفكر الهندوسي وأثره على غلاة الصوفية: Bingöl Üniversitesi, İlahiyat Fakültesi, Dergisi (2015) Sayı: 5, pp. 71-72.
١٠  ديمتري أفييرينوس، الأساطير الهندية وأثرها في المنقول الثقافي الهندي، القاهرة، ٢٠١٤؛ محمد إسماعيل الندوي، الهند القديمة، حضارتها ودياناتها، القاهرة، ١٩٧٠؛ رافد الدوري، تاريخ شامل عن الأساطير الدينية والاجتماعية لدى الشعوب، القاهرة، ٢٠١٣.
١١  فهيد صلاح عاهد الجعبري، تناسخ الأرواح في الأديان والحركات الباطنية في الإسلام، دراسة مقارنة، بحث تكميلي لدرجة الماجستير في أصول الدين، قسم العقيدة الإسلامية، كلية الدراسات العليا، جامعة الخليل، ٢٠١٤، ص٤١.
١٢  Lukaschek, K., The History of Cannibalism, Thesis submitted in fulfilment of the MPhil Degree in Biological Anthropology, University of Cambridge, UK, Lucy Cavendish College, 2000/2001, p. 6.
١٣  ريتا فرج، التسوية ما بعد الكولونية، دراسات، مجلة الفيصل: العددان ٤٩٧-٤٩٨، مارس-أبريل ٢٠١٨، ص٦٠.
١٤  عبد الله عوض العجمي، فلسفة الرموز في الأديان الشرقية التقليدية: دراسة تحليلية، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والقانونية، المجلد ١٣، العدد الأول، يونيو ٢٠١٦، ص٢٨٣.
١٥  عبد الله عوض العجمي، ٢٠١٦، ٢٨٣.
١٦  مسعد بري، تطور الفكر الطوطمي (دراسة في الجغرافية الاجتماعية)، سوريا، ٢٠١٠.
١٧  مسعد بري، ٢٠١٠.
١٨  أمين الوزان، الديانة الشنتوية، موقع العقيدة والحياة، ٦ / ٧ / ١٤٢٨.
١٩  مسعد بري، ٢٠١٠.
٢٠  مسعد بري، ٢٠١٠.
٢١  ديفيد كارسكو؛ سوكت سيشونز، عصر الأزتك أمة الشمس والأرض، مترجم، أبو ظبي، ٢٠١٢، ص٢٥١.
٢٢  محمود الضبع، خرافات وأساطير قلعة ماتسوي، انفراد، ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦.
٢٣  ديفيد كارسكو، ٢٠١٢، ص٢٥١.
٢٤  جون كولر، الفكر الشرقي القديم، مترجم، الكويت، ١٩٩٥، ص١٧٩–١٨١.
٢٥  ديفيد كارسكو، ٢٠١٢، ص٢٥١.
٢٦  ديفيد كارسكو، ٢٠١٢، ص٢٥١.
٢٧  كوستا ريكا، «ذبح الفتيات في الصين»، الحقيقة الضائعة، تعريب قوال بلوجر، http://nepasmentir.blogspot.com/2012/04/blog-post_729.html, 09:48.
٢٨  زينب عبد التواب رياض، ٢٠١٧.
٢٩  التبت هضبة تقع في آسيا الوسطى معدل ارتفاعها يفوق ٤٠٠٠م فوق مستوى سطح البحر، وهي الأعلى من نوعها في العالم، ولارتفاع تلك الهضبة يتم وصفُها عادةً بأنها أقرب بقعة على الأرض من الشمس؛ ومن ثم أطلق على الطريق المبني في مكانها اسم «الطريق السماوي».
٣٠  الباحثون السوريون، أغرب طقوس الدفن في العالم، الفن والتراث، ٢٠١٤، ص٤.
٣١  Avar, R., unlocking the mysteries of chalcolithic ossuaries, Excavation: food for Vultures, in: Biblical Archaeology Review, November/Desemper, 2011, p. 49.
٣٢  Avira, R., 2011, pp. 40–49.
٣٣  وربما فسرت مثل تلك الأعمال المناظر المحيرة التي جاءت على جدران مقاصير شاتال هويوك، حيث مهاجمة النسور لرجل ممسكٍ عصًا في يده، وربما فسَّرت أيضًا دور الرقص الذي كان يمارسه الشامان والكاهنات بارتدائهم أجنحة النسور.
٣٥  Archaeology Course book, Religion and Ritual, Chapter 6, London, 2001, p. 144, fig. 6.11.
٣٦  See: Tweg, S., Sky burial, China, 1999, p. 1ff; Rinpoche, S., The Tibetan Book of Living and Dying, Rider, London, 1995.
٣٧  الباحثون السوريون، من أغرب طقوس دفن الموتى في العالم، ٢٢ / ١٠ / ٢٠١٤.
٣٨  مي جمال الدين، آكلي لحوم البشر، عالم المعرفة، http://knowledge.world.blogspot.com/2013/01/blog-post_7.html.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤