خاتمة
إنَّ قصةَ الكَمِّ كما عرضتُها هنا، تبدو واضحةً وجافة، إلا فيما يتعلَّق بالسؤالِ شبهِ الفلسفي عما إذا كنتَ تفضِّل تفسيرَ كوبنهاجن أم نسخةَ العوالم المتعددة. تلك هي الطريقة الأفضل لعرض القصة في كتاب، لكنها لا تمثل الحقيقة كاملة. ذلك أنَّ قصةَ الكَمِّ لم تنتهِ بعدُ، ولا يزال علماء الفيزياء النظرية اليوم يعالجون مشكلاتٍ قد تؤدي إلى إحراز خطوة جوهرية للأمام، كتلك الخطوة التي اتخذها بور عندما تمكَّن من تكميم الذرة. ومحاولة الكتابة عن هذا العمل غير المكتمل، هي مهمةٌ فوضوية وغير مُرضية؛ فالآراء المقبولة عما هو مهم وعما يمكن تجاهله دون ضرر، ربما تتغيَّر تمامًا قُبيل طباعةِ ما كتبته. ومع ذلك، فمن أجلِ تقديمِ تصوُّرٍ عن الكيفية التي يمكن أن تتطوَّر بها الأمور، أوردُ في هذه الخاتمة عرضًا للجوانب غير المكتملة في قصةِ الكَمِّ، وبعض التلميحات عما يمكن ترقُّبه في المستقبل.
تأتي الإشارة الأوضح على أنه لا يزال هناك الكثير من الجوانب الخفية في نظريةِ الكَمِّ من أحدِ الفروع الذي يُعَدُّ الأهمَّ في النظرية وأعظمَّ انتصارٍ لها. يتمثَّل هذا الفرع في الكهروديناميكيا الكَمِّية، وهو النظرية التي «تشرح» التفاعل الكهرومغناطيسي من منظورِ الكَمِّ. أزهرت الكهروديناميكيا الكَمِّية في أربعينيات القرن العشرين، وثبت أنها ناجحةٌ للغاية حتى إنها استُخدِمت نموذجًا لإحدى نظريات التفاعل النووي القوي، وهي النظرية التي تُلقَّب بدورها بالكروموديناميكية الكَمِّية؛ لأنها تتضمَّن تفاعلاتِ جسيماتٍ تُدعى بالكواركات يميِّز العلماء بين خواصها من خلال وصفها بأسماء الألوان. على سبيل الطرافة. غير أن الكروموديناميكية الكَمِّية نفسَها تعاني عيبًا خطيرًا. ذلك أنها لا تستقيم إلا بعد التلاعب بالرياضيات كي تلائم ملاحظاتنا للعالم.

تتعلَّق المشكلات بأنَّ الإلكترون في نظريةِ الكَمِّ ليس بالجسيم العاري كما هي الحال في النظريةِ الكلاسيكية، بل هو محاطٌ بسحابةٍ من الجسيمات الافتراضية. وتؤثِّر سحابة الجسيمات هذه بالطبع على كتلة الإلكترون. من الممكن جدًّا إعدادُ المعادلاتِ الكَمِّية بما يتلاءم مع إلكترون + سحابة، لكن عند حل هذه المعادلات دائمًا ما تُقدَّم «حلول» لا نهائية الكبر. فبدءًا من معادلة شرودنجر، وهي حجر الزاوية في نظريةِ الكَمِّ، نجد أنَّ المعالجة الرياضية الصحيحة للإلكترون تعطي كتلةً لا نهائية وطاقةً لا نهائية وشحنةً لا نهائية. وما من طريقةٍ رياضيةٍ شرعية للتخلُّص من هذه اللانهائيات، لكن يمكن التخلُّص منها بالغش. فنحن نعرف قيمةَ كتلة الإلكترون بالقياسات التجريبية المباشرة، ونعرف أن هذه هي الإجابة التي يجب أن تقدِّمها النظرية لكتلة الإلكترون + السحابة. لذا يزيل النظريون الكَمِّيات اللانهائية من المعادلات عن طريق قسمة إحداها على الأخرى. ومن الناحية الرياضية، إذا قسَّمتَ كميةً لا نهائية على كميةٍ أخرى لا نهائية، يمكن أن تحصلَ على أي حلٍّ؛ ومن ثَم فإنهم يقولون إن الحل لا بد أن يكون هو الحل الذي نريده؛ أي الكتلة المقيسة للإلكترون. وتسمَّى هذه الخدعة بإعادة التطبيع.
ولكي تفهم ما يجري، تخيَّل أنَّ شخصًا ما يزن ١٥٠ رطلًا يذهب إلى القمر؛ حيث تبلغ قوة الجاذبية على سطحه سدسَ قوة الجاذبية على سطح الأرض. إذا ضبطنا ميزانَ الحمَّام المألوفَ على سطح الأرض، وأخذناه في الرحلة إلى القمر، فسنجد أنَّ وزن المسافر ٢٥ رطلًا فقط، مع أن جسمه لم يفقد أيَّ كتلة. وفي ظل هذه الظروف، ربما يكون من المنطقي أن «نعيد تطبيع» الميزان المنزلي من خلال تحريك المؤشِّر حتى يسجِّل الوزن ١٥٠ رطلًا من جديد. لكن هذه الخدعة تنجح فقط لأننا نعلم الوزن الفعلي للمسافر بمقياس الأرض، ولأننا نود الحفاظ على سجلاتنا بما يتماشى مع الوزن المرصود على الأرض. إذا سجَّل الميزان وزنًا لا متناهيًا، فلا يمكننا ضبطه بما يتفق مع الواقع إلا من خلالِ إجراءِ تصحيحٍ لا متناهٍ، وهذا هو ما يفعله منظِّرو الكَمِّ في مجال الكهروديناميكيا الكَمِّية. ومن سوء الحظ أن قسمة ١٥٠ على ٦ تعطي نتيجةً مؤكدة مقدارها ٢٥، لكن ضرب ٢٥ في ما لا نهاية ثم قسمتها على ما لا نهاية، لا تعطي الجواب ٢٥ دون شك، بل يمكن أن تعطي أيَّ إجابة على الإطلاق.

عليَّ الاعتراف بأنني في غايةِ السخط على الوضع؛ لأن هذه النظرية التي توصَف بأنها «نظريةٌ جيدة» تنطوي على تجاهل اللانهائيات التي تظهر في معادلاتها، ويحدث هذا التجاهلُ بطريقةٍ اعتباطية. وليس هذا ما يحدث في الرياضيات السليمة؛ فالرياضيات السليمة تتجاهل كميَّةً عندما تكون هذه الكَمِّية ضئيلة، وليس إهمالها لأنها كبيرةٌ إلى ما لا نهاية، وأنك لا ترغب فيها.

وبعد أن أوضح ديراك أنَّ «معادلة شرودنجر ليس لها حلول» من وجهة نظره، ختم محاضرته بالتأكيد على ضرورةِ إجراءِ تغييرٍ «جذري» على النظرية لكي تصبح سليمةً رياضيًّا. «فالتغييرات البسيطة لن تكفي … وأنا أشعر أن التغيير المطلوب سيكون بضخامة الانتقال من نظرية بور إلى ميكانيكا الكَمِّ.» لكن أين نستطيع البحثَ عن مثل هذه النظرية الجديدة؟ لو أنني أملك الإجابةَ لكنت في طريقي للفوز بجائزة نوبل، لكني قد أستطيع أن ألفت انتباهَكم إلى بعض التطورات المثيرة للاهتمام النابعة من الفيزياء اليوم، والتي ربما تلائم في النهاية حتى تحقيقات ديراك الفاحصة عما يشكِّل نظريةً جيدة.
الزمكان المنحني
ربما تكمُن الوسيلة لتحقيقِ فهمٍ أفضلَ لطبيعة الكون في ذلك الجزء من العالم المادي الذي ظل مهملًا على نطاقٍ كبير في نظريةِ الكَمِّ حتى الآن. تخبرنا ميكانيكا الكَمِّ بالكثير عن جسيمات المادة، لكنها لا تخبرنا إلا بالقليل للغاية أو لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن الفضاء الخالي. بالرغم من ذلك، فمثلما علَّق إدنجتون منذ أكثر من ٥٠ عامًا في «ذا نيتشر أوف ذا فيزيكال وورلد»، بأنَّ الثورةَ التي كوَّنت صورتنا عن المادة الجامدة بصفتها فضاءً خاليًا في معظمه، جوهريةٌ بدرجةٍ أكبرَ من الثورة التي جاءت بها نظرية النسبية. فحتى جسمٌ جامد مثل مكتبي، أو هذا الكتاب، يكاد يكون بأكمله فراغًا خاليًا. إنَّ نسبة المادة إلى الفضاء أقل حتى من النسبة بين حبة رمل وبين قاعة «ألبرت هول». والشيء الوحيد الذي يبدو أن نظريةَ الكَمِّ تخبرنا به عن هذا الجزء المهمل الذي يمثِّل ٩٩٫٩٩٩٩٩ من الكون، هو أنه دوامةٌ من الجسيمات الافتراضية تموج بالنشاط. ومن سوء الحظ أن المعادلات الكَمِّية التي تؤدي إلى حلولٍ لا نهائية في الكهروديناميكيا الكَمِّية، تخبرنا هي نفسُها أيضًا أن كثافة طاقة الفراغ لا نهائية، وأنه لا بد من تطبيق إعادة التطبيع حتى على الفضاء الخالي. وعند الجمع بين معادلات الكَمِّ القياسية ومعادلات النسبية العامة في محاولةٍ للوصول إلى وصفٍ أفضلَ للواقع فإن الموقف يصبح أسوأ؛ إذ نظل نجد اللانهائيات، لكنها لا تعود حتى قابلة لإعادة التطبيع. من الواضح أننا نسعى وراء هدفٍ خاطئ. فما الهدف الذي ينبغي أن نسعى خلفه؟
عاد روجر بنروز الباحث في جامعة أوكسفورد، إلى الأساسيات في محاولة لإحراز تقدُّم. وقد درس العديدَ من الطرق المختلفة لرسم وصفٍ هندسي للفراغ وجسيماته، مثل أوصافٍ هندسية تتضمَّن زمكانًا مشوَّهًا، وقِطعًا مبرومةً من الزمكان نرصدها على أنها جسيمات. ولأسبابٍ واضحة، يُطلَق على النظرية التي أسَّسها نظريةُ المبرومات، لكن من سوء الحظ أنَّ الرياضيات المتعلقة بالنظرية صعبةٌ على معظم الناس، والنظرية نفسُها أبعدُ عن أن تكون مكتملة. غير أنَّ المفهوم في حد ذاته مهم؛ فباستخدامِ نظريةٍ واحدة، يحاول بنروز تفسيرَ كلٍّ من الجسيمات الدقيقة والمساحات الشاسعة من الفراغ داخل شيءٍ جامد مثل هذا الكتاب. وربما تكون هذه هي النظرية الخطأ، لكن معالجتنا لصميمِ مشكلةٍ أُهملت بشكلٍ كبير، يسلِّط الضوء على أحد الأسباب المحتملة لفشلِ النظرية القياسية.
هذه الأفكار كلُّها مبهمة وغير كافية ومحيِّرة. وليس لدينا إجاباتٌ جوهرية حتى الآن، لكن لا ضررَ في إدراك أن «فهمنا» للفضاء الخالي مشوَّش في واقع الأمر وغير مؤكَّد ومبهم وغير كافٍ. وإنه لأمر يوسِّع من مداركنا أن نفكِّر مليًّا في أن كل الجسيمات المادية قد لا تكون أكثرَ من أجزاءٍ مبرومة من الفضاء الخالي. وإذا كانت النظريات التي «نفهمها» تتداعى، فمن المحتمل إذن أن يأتي التقدُّم من أشياءَ لا نفهمها بعدُ؛ لذا فقد يكون من المثير للاهتمام أن نراقب ما قد يأتي به مهندسو الكَمِّ في السنوات القليلة القادمة.
اختلال التناظر
يُعد التناظر مفهومًا أساسيًّا في الفيزياء. فالمعادلات الجوهرية تتسم بالتناظر الزماني على سبيل المثال؛ أي أنها تكون صالحةً بالدرجةِ نفسِها عند التقدُّم بالزمن للأمام أو العودة به للخلف. ويمكن فهمُ بعض الأنواع الأخرى من التناظر بالمصطلحات الهندسية. يمكن مثلًا أن تنعكس كُرةٌ تدور في مرآة. وعند النظر إليها من أعلى، قد نراها تدور عكس عقارب الساعة، وفي هذه الحالة سنرى صورةَ المرآة تدور مع عقارب الساعة. كلٌّ من الكرة الحقيقية وصورة المرآة تتحركان بطرقٍ تسمح بهما قوانين الفيزياء، وهي تناظرية بهذا المعنى (ولا شك بأنَّ صورة الكرة المنعكسة في المرآة تدور على النحو الذي كانت الكرةُ الحقيقية ستدور به إن تحرَّك الزمن للوراء. أمَّا إذا انعكس الزمن «مع» انعكاس صورة الكرة على المرآة أيضًا، فسنرجع إلى حيث بدأنا). يوجد العديد من الأنواع الأخرى من التناظر في الطبيعة. ومن هذه الأنواع ما يسهُل فهمُه بلغة الحياة اليومية؛ إذ يمكن على سبيل المثال أن نتخيَّل الإلكترون والبوزيترون على أنَّ كلًّا منهما صورةُ مرآة للآخر، كما يمكننا أيضًا تخيُّل أنَّ أحدهما يمثِّل نظيرًا معكوسَ الزمن للآخر. فالشحنة الموجبة المعكوسة هي شحنةٌ سالبة. إنَّ أفكار الانعكاس في الفضاء هذه معًا (تسمَّى تغيُّر التكافؤ لأنها تبدِّل اليسار باليمين)؛ ويشكِّل الانعكاس في الزمن وانعكاس الشحنة أحد أقوى المبادئ الأساسية في الفيزياء متمثلًا في مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» التي تنص على أن قوانين الفيزياء يجب ألا تتأثَّر بتغيير «هذه العوامل الثلاثة كلها» إلى نظائرها المضادة في الوقتِ نفسِه. إنَّ مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» هي أساس الافتراض القائل بأن انطلاق جسيم يكون مكافئًا «تمامًا» لامتصاصِ نظيره الجسيم المضاد.

كيف يختل التناظر الرياضي؟ يأتي أفضل مثال على هذا من المغناطيسية. لنتخيل قضيبًا من مادةٍ مغناطيسية يحتوي على عددٍ هائل من مغناطيساتٍ داخليةٍ دقيقة تشبه الذرات المفردة. وعندما تكون المادة المغناطيسية ساخنة، تتحرَّك هذه المغناطيسات الداخلية الدقيقة حركتَها المغزلية، ويزاحم بعضها بعضًا بصورةٍ عشوائيةٍ متحركة في جميع الاتجاهات، ولا يوجد مجالٌ مغناطيسي كلي للقضيب، ولا عدم تناظرٍ مغناطيسي. لكن عندما يبرد القضيب تحت درجة حرارة معينة، تسمَّى درجة حرارة «كوري»، يتخذ فجأة حالةً ممغنطة؛ إذ تصطفُّ كل المغناطيسات الداخلية الدقيقة بعضها مع بعض. في درجة الحرارة المرتفعة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ متاحةٍ تقابل صفرًا من المغنطة، وفي درجات الحرارة المنخفضة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ تقابل اصطفاف المغناطيسات الداخلية الدقيقة (بصرف النظر عن طريقة اصطفافها). اختل التناظر وحدث التغيُّر لأنه في درجات الحرارة المرتفعة تتغلب الطاقة الحرارية للذرات على القوى المغناطيسية، أما في درجات الحرارة المنخفضة، فتتغلب القوى المغناطيسية على الحركة الحرارية للذرات.

الجاذبية الفائقة
إضافةً إلى صعوبة إعادة التطبيع، تكمُن المشكلة مع نظريات المقياس في أنها ليست فريدة. فمثلما أنَّ نظريةَ مقياس واحدة تتضمَّن لا نهائيات لا بد من تكييفها لتلائم الواقع عن طريق إعادة التطبيع، يوجد أيضًا عددٌ لا نهائي من نظريات القياس المحتملة، وتلك النظريات المختارة لوصف تفاعلات الفيزياء لا بد أن تُكيَّف بالطريقةِ نفسِها، وعلى أساسٍ مخصَّص بالدرجةِ نفسِها، لتلائم مشاهدات العالم الواقعي. الأسوأ من ذلك أنه لا يوجد في نظريات المقياس ما يوضِّح العدد الذي ينبغي أن يوجد من أنواع الجسيمات المختلفة؛ أي لا يوجد ما يوضِّح عدد الباريونات أو اللبتونات (جسيمات من عائلة الإلكترونات)، أو بوزونات المقياس، أو أي شيءٍ آخر. من ناحيةٍ مثالية، يودُّ الفيزيائيون التوصُّل إلى نظريةٍ فريدة لا تستلزم إلا عددًا معينًا من أنواعٍ معينة من الجسيمات لتفسير العالم الفيزيائي. وفي عام ١٩٧٤، تحققت خطوة في اتجاه تشكيل مثل هذه النظرية مع ابتكار التناظر الفائق.

جاءت الفكرة من أعمال يوليوس وايس من جامعة كارلسروه، وبرونو زمينو من جامعة كاليفورنيا بولاية بيركلي. بدأ الاثنان بتخمينِ ما يجب أن تكون عليه الأمور في عالمٍ مثالي التناظر، وهو أن يكون لكل فيرميون بوزون مقابلٌ مساوٍ له في الكتلة. إننا لا نرى في الطبيعة هذا النوع من التناظر فعليًّا، لكن تفسير ذلك قد يكون أنَّ التناظر اختلَّ مثل التناظر الذي يتضمَّن التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة. ومن المؤكَّد بما فيه الكفاية أنك إذا أجريت العمليات الرياضية، فستجد طرقًا تصف التناظرات الفائقة التي وُجدت خلال الانفجار الكبير، لكنها اختلت بحيث اكتسبت الجسيمات اليومية في الفيزياء كتلةً صغيرة بينما اكتسبت شريكتها الفائقة كتلةً كبيرة جدًّا. لم يكن من الممكن للجسيمات الفائقة حينئذٍ أن توجد إلا لزمنٍ قصير قبل انقسامها إلى فيضٍ من الجسيمات الأقل كتلة، ولتكوين مثل هذه الجسيمات الفائقة اليوم، فإننا نحتاج إلى تهيئةِ ظروفٍ مثل ظروف الانفجار الكبير، وتلك ظروف تتسم بطاقةٍ هائلةٍ بالطبع، فلن يكون من المستغرب إذن أن تفشل حتى أشعة البروتونات/مضادات البروتونات المتصادمة في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في إنتاجها.
إنَّ ذلك كلَّه قائم على الاحتمالات. غير أنَّ ذلك ينطوي على ميزةٍ عظيمة. لا يزال هناك أنواعٌ مختلِفة من نظريات المجال للتناظر الفائق تمثِّل تنويعات على الفكرة الأساسية، لكن قيود التناظر تعني أن كل نسخةٍ من النظرية لا تسمح إلا بوجود عددٍ محدودٍ من أنواع الجسيمات المختلفة. بعض النسخ تحتوي على مئات من الجسيمات الأساسية المختلفة، وهو احتمال مخيف، لكن بعضها الآخر يتضمَّن عددًا أقل كثيرًا، ولا تتنبأ أيٌّ من النظريات باحتماليةِ وجودِ عددٍ لا نهائي من الجسيمات «الأساسية». والأفضل من ذلك أن الجسيمات مرتَّبةٌ بانتظامٍ في مجموعاتٍ عائلية في كلٍّ من نظريات التماثل الفائق. في النسخة الأبسط، يوجد بوزون واحدٌ فقط حركتُه المغزلية تساوي صفرًا مع شريكٍ حركته المغزلية تساوي −١ / ٢؛ بينما تتضمَّن إحدى النسخِ الأكثرِ تعقيدًا لها اثنين من البوزونات بحركةٍ مغزلية تساوي −١ وفيرميون واحدًا حركتُه المغزلية −١ / ٢ وفيرميون آخرَ حركتُه المغزلية ٣ / ٢ وهكذا. لكنَّ أحسنَ الأخبارِ لم تأتِ حتى الآن. وهو أنه في نظريات التناظر الفائق لا يكون عليك دائمًا أن تقلق بشأن إعادة التطبيع. ففي بعض هذه النظريات تلغي اللانهائيات بعضها بعضًا تلقائيًّا وليس بطريقةٍ معينة، متبعةً بذلك القواعدَ السليمة للرياضيات مع التخلي عن الأعداد المحدودة والمعقولة.
هل الكون تقلبات فراغية؟
ربما يكون علم الكونيات في الواقع فرعًا من فيزياء الجسيمات. ذلك أنه وفقًا لإحدى الأفكار التي تطوَّرت من اعتبارها محضَ فكرةٍ مجنونة تمامًا إلى أن حظيت بالتقدير باعتبارها فرعًا من فروع علم الكونيات، ربما يكون الكون وكل شيء فيه، ليس سوى واحد من تلك التقلبات الفراغية التي تسمح لمجموعاتٍ من الجسيمات بأن تنبثق من لا شيء، وتعيش لفترة ثم يُعاد امتصاصها ثانيةً داخل الفراغ. ترتبط هذه الفكرة ارتباطًا وثيقًا باحتمالية أن يكون الكون مغلقًا فيما يتعلَّق بالجاذبية. فكونٌ وُلِد في لهيب انفجارٍ كبير ويتمدَّد لفترة من الزمن ثم يتقلص مرةً أخرى إلى كرة من اللهب ويختفي، «هو» تقلُّبٌ فراغي بالفعل، لكن على مستوًى ضخمٍ جدًّا. وإذا كان الكون متوازنًا تمامًا على مستوى الجاذبية بين التمدُّد اللامحدود والانهيار المحتوم، فلا بد أنَّ طاقةَ الجاذبية السالبة للكون ستلغي بالضبط كتلةَ الطاقة الموجبة لكل المادة الموجودة فيه. إنَّ إجمالي الطاقة في كونٍ مغلقٍ تساوي صفرًا، وليس من الصعب جدًّا تكوين شيءٍ ما بطاقةٍ كليةٍ صفرية من إحدى التقلبات الفراغية، حتى وإن كان الأمر ينطوي على خدعةٍ محبوكة بعض الشيء لكي تتمدَّد جميع الأجزاء الصغيرة مبتعدةً بعضها عن بعض، وتسمح — مؤقتًا — بوجود كل ذلك التنوُّع المثير للاهتمام الذي نراه حولنا.
إنني مولَع بهذه الفكرةِ على نحوٍ خاص؛ إذ كان لي دور في ظهورها بشكلها الحديث في سبعينيات القرن العشرين. يمكننا أن ننسب الفكرةَ الأصلية إلى لودفيج بولتزمان، وهو فيزيائي من القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الديناميكا الحرارية الحديثة والميكانيكا الإحصائية. لقد افترض بولتزمان أنه بما أنَّ الكون ينبغي أن يكون في حالةِ اتزانٍ ديناميكي، لكنَّ ذلك لا يبدو ظاهريًّا، فربما يكون مظهره الحالي نتيجةَ انحرافٍ مؤقت عن الاتزان الذي تسمح به قواعد الإحصاء، شريطة الحفاظ على الاتزان في المتوسط، على المدى الطويل. إنَّ احتمالية حدوث مثل ذلك التقلُّب على مقياس الكون المرئي ضئيلة، لكن إذا كان الكون موجودًا في حالةٍ مستقرة على مدارِ زمنٍ لا نهائي، فثمَّة يقينٌ افتراضي بوقوع شيء من هذا النوع في نهاية المطاف، وحيث إن انحرافًا عن الاتزان هو وحده ما يمكن أن يسمح بوجود الحياة، فليس من الغريب أن نكون هنا خلال حدثٍ نادر من انحراف الكون عن الاتزان.
يمكن أن يكون طويلًا جدًّا بالفعل. وقال: «لست أزعم أنَّ أكوانًا مثل كوننا تظهر كثيرًا، وإنما الوتيرة المتوقَّعة لظهورها لا تساوي صفرًا فحسب.» وأوضح أيضًا: «إنَّ منطق الظروف يقتضي على كل حالٍ أن يجد المراقبون أنفسهم دائمًا في أكوانٍ قادرةٍ على توليد الحياة، ومثل هذه الأكوان كبيرة بدرجةٍ مثيرة للإعجاب.»
ظلت هذه الفكرة مهملةً لعشر سنوات. لكن في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الناس يأخذون نسخةً جديدةً منها على محمل الجِد. وبرغمِ آمالِ ترايون الأولية، أظهرت الحسابات المقترحة أن أي «كون كمِّي» جديد يتكوَّن من تقلبٍ فراغي سيكون في الواقع ظاهرةً دقيقة، وقصيرة الأجل، ولا تشغل سوى حجمٍ صغيرٍ للغاية من الزمكان. غير أنَّ علماء الكون قد اكتشفوا بعد ذلك طريقةً تؤدي بهذا الكون المتناهي الصِّغر إلى تمددٍ دراماتيكي يمكن أن يضخِّمه حتى يصل إلى حجم الكون الذي نعيش فيه في أقلَّ من طرفةِ عين. صار مصطلح «التضخم» هو الكلمة السحرية في علم الكون في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ويفسِّر التضخم كيف أن تقلبًا فراغيًّا متناهي الصِّغر يمكن أن ينمو إلى الكون الذي نعيش فيه.
التضخُّم والكون
كان علماء الكونيات مهتمين بالفعل بأي جسيماتٍ إضافية قد تكون موجودةً في الكون، لأنهم يبحثون دائمًا عن «الكتلة المفقودة» اللازمة لكي يصبح الكون مغلقًا. يمكن للجرافيتونات التي تبلغ كتلةُ الجسيم الواحد منها ١٠٠٠ إلكترون فولت أن تكون مفيدةً للغاية هنا؛ إذ إنها لن تساعد في غلق الكون فحسب، بل إن وجودها سيكون ملائمًا تمامًا لتكوينِ تكتلاتٍ من المادة في حجم المجرات، وذلك وفقًا للمعادلات التي تصف تمدُّد الكون من الانفجار الكبير. وقد تكون النيوترينوات التي تبلغ كتلة الواحد منها ١٠ إلكترون فولت ملائمةً تمامًا لتشجيع نمو تكتلات من المادة على مستوى تجمُّعات المجرات، وهكذا. غير أنَّ علماء الكونيات أصبحوا أكثرَ اهتمامًا بفيزياء الجسيمات، لأن أحدث التأويلات لاختلال التناظر تشير إلى أن هذا التناظرَ المختلَّ نفسَه ربما يكون هو القوة الدافعة التي فجَّرت فقاعتنا من الزمكان إلى حالتها المتمددة.
جاءت الفكرةُ في الأساس من آلان جوث الباحث بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. تتلخَّص الفكرة في صورةٍ للكون في مرحلةٍ كان فيها ساخنًا جدًّا وكثيفًا جدًّا وكانت كل التفاعلات الفيزيائية (ماعدا الجاذبية؛ إذ لا تتضمَّن النظرية التناظر الفائق بعد) متحدةً في تفاعلٍ تناظريٍّ واحد. وبينما بدأ الكون يبرد، اختلَّ التناظر واتخذت كلٌّ من القوى الأساسية للطبيعة، الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة، مسارَها المنفصل. ومن الواضح أن حالتَي الكون قبل اختلال التناظر وبعده، مختلفتان إحداهما عن الأخرى تمامًا. إنَّ التغيُّر من حالةٍ إلى الأخرى يشبه التغير الطوري، مثل تغيُّر الماء إلى الثلج عند التجمُّد، أو إلى البخار عند الغليان. بالرغم من ذلك، فبخلاف تغيُّر الأطوار على مستوى الحياة اليومية، فإنَّ اختلال التناظر الذي حدث في الكون المبكِّر ينبغي، وفقًا للنظرية، أن يكون قد ولَّد قوةَ جاذبيةٍ طاردة طاغية، فينفجر كل شيء مبتعدًا بعضه عن بعض في جزء من الثانية.
لم تحاول نسخة جوث الأولية للكون التضخمي أن تفسِّر المكان الذي أتت منه الفقاعات الأولية الدقيقة، لكن من المغري جدًّا أن نكافئها بتقلباتٍ فراغية من النوع الذي وصفة ترايون.
إنَّ هذه الرؤية الدرامية للكون تحلُّ الكثيرَ من الألغاز الكونية، ولا سيما المصادفة البارزة المتمثِّلة في أن فقاعة الزمكان التي يوجد فيها كونُنا تتمدَّد فيما يبدو بمعدلٍ على الحدود بين أن يظل الكون مفتوحًا أو مغلقًا. وهذا التصوُّر للكون التضخمي «يستلزم» وجود هذا التوازن، بسبب العلاقة بين كثافة الكتلة/الطاقة للفقاعة وبين القوى التضخمية. والأمرُ الأكثرُ إثارةً هو أن هذا التصوُّر يعهد بنا إلى دورٍ تافهٍ جدًّا في الكون؛ إذ يضع كلَّ ما نستطيع رؤيته في الكون في فقاعةٍ داخلَ فقاعةٍ أخرى لِكُلٍّ آخرَ يتمدَّد بدرجةٍ أكبرَ كثيرًا.
إننا نعيش في زمنٍ مثير، ويبدو أننا على شفا فتحٍ كبيرٍ لفهمنا عن الكون يتسم من الأهمية، كما تنبَّأ ديراك، بما تتسم به خطوة الانتقال من ذرة بور إلى ميكانيكا الكَمِّ. وإنني أجد أنه من المثير للاهتمامِ للغاية أن ينتهي بحثي عن قطة شرودنجر بالانفجار الكبير، وعلم الكون، والجاذبية الفائقة والكون التضخمي؛ ذلك أنني بدأت في كتابي السابق «انثناء الفضاء» في سرد قصة الجاذبية والنسبية العامة، وانتهيت إلى المكانِ نفسِه. لم يكن ذلك هو مخطَّطي الأصلي في كلتا الحالتين، وفي كلتا الحالتين أيضًا يبدو أن الجاذبية الفائقة هي نقطةُ النهاية الطبيعية، وربما تكون تلك إشارة إلى أن التوحيد بين نظريةِ الكَمِّ والجاذبية يلوح في الأفق. بالرغم من ذلك، فليس لدينا نهايةٌ واضحة بعدُ، وأنا آمُل ألا يحدث هذا أبدًا. وكما قال ريتشارد فاينمان «من الطرق التي تؤدي إلى توقُّف العلم ألا نجري التجارب إلا حيثما نعرف القانون». والفيزياء هي استكشاف المجهول، وأضاف:
إذا انتهى عمل الفيزياء في أيِّ يوم من الأيام، فإن العالم سيصبح مكانًا أقلَّ إثارةً فيما يتعلَّق بالحياة، ولهذا فإنني سعيدٌ لأنْ أتركك مع هذه النهايات المفتوحة، والتلميحات المغرية، واحتمال وجود المزيد من القصص التي لم تُروَ بعدُ، وكلٌّ منها لا تقل في عنصر الإثارة عن قصة قطة شرودنجر.