قاتل والد الصديق

لا أتذكر إلا ما حدث بعد ذلك بساعات، عندما كنتُ راقدًا بجوار كاترين التي استدارتْ على جنبها راضية مرضية، ثم استغرقَتْ في النوم. كلا، لم تكن فرنسية، بل مصوِّرة ألمانية، لا بأس بقدراتها، هربت من ماركتردفيتس إلى برلين؛ حيث مَنحت اسمها الألماني «كاتارينا» بعض النُّبل، وحوَّلَته، مُسايِرةً في ذلك موضة العصر، اسمًا فرنسيًّا، وذلك بمطِّ حرف الياء مطًّا طويلًا عند نطق الاسم. مع كاترين كنت أسير في الشارع، وأنام في الفراش، كان حبًّا، إذا لم أكن مخطئًا، قد استغنى عن كلمة «الحب»، كنا نخوض النقاشات المعتادة في السياسة وعلم الجمال، لكنني لم أسمح لها بأن تعرف كلمة واحدة عن مستقبلي المِهني كقاتل.

حسدتُ كاترين على نومها، ومع الحسد استيقظَت داخلي وساوس وهلوسات الأمسية السابقة، ومثلما يحدث في الفترات التي تسبق القرارات الحاسمة أو الامتحانات والمغامَرات، لم يستسلم المخ للنوم. أخذت المشاعر المتضاربة تتأرجح بي، ورُحت أنا أعذب نفسي بأحاديث مع الذات، لقد دبَّر لك أحدُهم مقلبًا، قلتُ لنفسي: هذا كمين، مَن ينفعل اليوم بسبب النازيِّين القدامى؟ فلتترك ذلك لصبية الكشافة المُستعِدِّين دومًا للغضب والاستياء، سوف يعترضون على الحكم بأصوات مُتعَبة مبحوحة، فليفعلوا ذلك، هذا جيد، حتى لو لم يُؤدِّ إلى أي نتيجة. سيرسمون علامات التعجب في الهواء، وسيشعرون كالعادة بالإهانة وقلة الحيلة، هؤلاء هم آخِر الصالِحين على وجه الأرض، بعدها سيذهبون إلى بيوتهم، إلى أن تجيء القضية التالية، ولن ينتظروا طويلًا حتى يصدر حكم بالبراءة على قاتل نازي.

كانت كاترين تتنفس بانتظام، لمستُ بحذر كتفها، شممتُ جسدها المُشتهى، وحاولت أن أهدئ من روعي: نم، فَلْتنَم، هناك ما هو أفضل من ضرب أعداء أمس الأول أو قَتْلِهم، ما هو أفضل من التخلُّص من واحد من مئات آلاف المجرِمِين الذين يسيرون في الشارع دون أن يعترض سبيلهم أحد. فليواصل عواجيز الصليب النازي المعقوف رحلاتهم إلى العمل بالسيارة التي يقودها السائق الخاص، وليقم المتقاعدون بجولاتهم التنزهية، وفي أيام الآحاد فليشحذوا سكينهم أمام قطعة اللحم المحمرة التي يتصاعد منها البخار — ما دخلي أنا في الموضوع؟!

لا أمل في تغيير شيء، قلت لنفسي، لن يستطيع المرء أن يحبسهم كلهم؛ إنهم كثيرون جدًّا، يجلسون في كل مكان، في الإدارات الحكومية وفي المحاكم، في المؤسَّسات والشركات الكبيرة وفي الجامعات، ليس هذا سرًّا، هذه حقيقة مُبتذَلة، وعُهر يومي، شيء عادي لا يثير إلا الضيق، انسَ الأمر، هذا موضوع لا يعنيك، فلتظل خارجه. إنهم يتقاسمون السُّلطة فيما بينهم، أو ما زالوا يعيشون على سُلطتهم السابقة، يقضون غروب حياتهم في مكاتب الرؤساء، في المقاعد الوثيرة أو على أسرة بيوت المُسنِّين، أو يعقدون الصَّفَقات المربحة مثل هرمان يوزيف أبس، أو والد كاترين الذي تخصص في تجارة الأدوات المنزلية بعد أن كان يومًا عمدة نازيًّا مجتهدًا في بلدة ما بمنطقة البفالتس العليا، فلتكن له من الشاكرين؛ لأنه أنجب ابنته الجميلة الذكية وانْسَه، انْسَ كل هؤلاء!

يبذل الإنسان جهده لينسى، ولكن ما يحدث هو العكس، هذه الآلية البسيطة لم أكن أعرفها في تلك الليلة، رحتُ أُفكِّر في أشياء مختلفة لأُشتِّت انتباهي، بحثت عن النوم، نسيتُ … استغرقتُ … وبسرعة انبعثَتْ في رأسي الصورة الحاسمة: صديقي أكسل على المائدة في مطعم الجامعة، وبجانبنا الجريدة المفتوحة على صفحةٍ عنوانها يدور حول القضية التي بدأت ضد هذا القاضي الذي أصدر في محكمة الشعب العليا ما لا يقل عن ٢٣٠ حكمًا بالإعدام. وعلى الفور سمعت الجملة المريرة الطافحة بالاحتقار التي علق بها أكسل على الصورة، هذه الجملة تردَّدَت على سمعي الآن — في الفراش — مثل إلهام شرير، إنه هو الذي لفق الحكم لأبي، هو وفرايزلر.

هذه الحكاية المُظلِمة، حكاية والد أكسل الذي قتله النازيون؛ لأنه كان يكافح ضدهم، كانت ترافِقُني منذ الطفولة. الأب — كنتُ قد عرفت ذلك — أَسَّس مع روبرت هافَمان وآخرين إحدى جماعات المقاوَمة، ولهذا أُعدم عام ١٩٤٤م، قبل العشرين من يوليو.١

الآن، في أعماق ليلة القديس نيقولاوس، أدركتُ أنه هو الذي أمَر بقطع رأس جيورج جروسكورت، والد أعز أصدقائي! بالاشتراك مع رولاند فرايزلر! وها هو يخرج من القضية بلا أدنى عقوبة، كالشعرة من العجين!

في تلك اللحظة — هكذا أستطيع اليوم أن أَدَّعِي — تمَّرد الطفل داخلي، والباقي أتركه للمحلِّلين النفسيين. في أقصى حالات اليقظة وبعيون مفتوحة في الظلمة أدركتُ لماذا لازَمني التفكير في القاضي، لماذا ركبني كشيطان، لماذا طاردتني الوساوس وراحتْ تحثني على ارتكاب الجريمة.

لم أَعُد أسمع صوت قارئ نشرة الأخبار بل صوتي أنا: لا بُدَّ من أن يَقْتُل شخصٌ هذا القاتلَ، وهذا الشخص هو أنت.

لم تكن هذه الفكرة مستهجَنة في نهاية العام الذي اغتِيلَ فيه مارتين لوثر كينج، وروبرت كيندي، العام الذي كاد زعيم الطلبة رودي دوتشكه يَلقى فيه مصرعه أيضًا، عام المذابح الكبرى في فيتنام والمكسيك، عام الانتفاضة في باريس وحركة المقاوَمة في براغ ضد الدبابات الروسية. في كل شهر انتهاكات جديدة لروح العدالة، كل شهر غضب ومشاعر مهتاجة. كل مأساة من هذه المآسي كانت تؤكد الرغبة في التغيير والتمرُّد والحرية. السلطة فاسدة، سواء في موسكو أو في واشنطن، في بون أو في باريس، وكل إنسان يطالِب بأبسط الحقوق الأساسية ينال نصيبه من القمع بلا رحمة. إلى هذا الحد كانت صورة العالم مُبسَّطة، إلا أن السؤال كان معقدًا: كيف يدافع الإنسان عن نفسه؟

غمرني الهدوء، وحاولتُ أن أُقنع نفسي بأن فعلًا كهذا — إذا ارتكبته — لن يكون إلا فعلًا خيرًا. مساهمة صغيرة في تنوير المجتمع، في الديمقراطية والعدالة، تمامًا مثلما فعلَتْ بيآته كلارسفلد قبل أربعة أسابيع حينما صفَعتِ المستشار الألماني، ليس هذا فحسب، بل وأمام كافة الأعضاء المجتمِعِين من حزبه.

حتى هذه الجزئية تمَعَّنتُ فيها: في السابع من نوفمبر ١٩٦٨م نال المستشار الصفعة الشهيرة، وأنا أروي هنا ما حدث في ليلة السادس وفجر السابع من ديسمبر. ورغم أني أعرض نفسي لشبهة أن أبدو محض مُقلِّد للآخرين، فإنني لا أريد أن أُتَّهَم بالجبن أمام الوقائع.

كلارسفلد إذن، هذه الأسطورة العتيقة، كانت قد حضرت إلى اجتماع الحزب الديمقراطي المسيحي بهوية صحفية. المستشار يعطي توقيعه لمعجبيه، وهي تتسلل من الخلف، ليس من الأمام حتى لا يهرب منها، وعندما استدار كيسينجر صفَعَتْه صفعة قوية صائحة: نازي، نازي! بعد الظُّهر، وفي قضية مستعجلة، وُجِّهت إليها تهمة الإيذاء البدني والإهانة المتعمَّدة؛ لأنه لا يحق للمرء أن يطلق وصف «نازي» على عضو سابق في الحزب النازي، وعلى رجل كان مسئولًا في وزارة الخارجية عن الرقابة والبروباجندا في الخارج. سنة حَبْس مع التنفيذ الفوري. والعاقبة؟ تصفيق من كافة أنحاء العالم، بطلَة يتحدث عنها الناس، امرأة لن تُنسى، نجمة يحبها البعض ويكرهها آخرون غير أنها تُصوَّر في كل مكان وتُجرَى معها المقابَلات الصحفية.٢

سمعتُ شخيرًا خافتًا جواري، فوضعتُ يدًا رفيقة على خصر كاترين، وحاولتُ أن أخمد جذوة الرغبة التي استعرَتْ داخلي وحثَّتْنِي على إيقاظ النائمة بحنان وإشعال شهوتها مرة أخرى، وأن أنسى كل هذه الحكاية البلهاء. كانت مستغرِقة في النوم، وكل اقتراب منها كانت ستأخذه على محمل سيء. عندئذٍ أفزعني السؤال: ماذا ستقول كاترين عن هذه الفكرة التي تملكتني؟ الإجابة واضحة؛ لذا قررت ألَّا أسألها، وألَّا أخبرها أبدًا بما يدور في رأسي.

في تلك السنوات لم أكن قد وثقتُ بعدُ بفطرة المرأة. كنتُ أفكر مثل الجنود وأبطال أفلام الكاوبوي: الرجل يأخذ قراراته الصعبة وحده، فالمرأة تفكر بقلبها، وهو أمر لا يزيد الأمور إلَّا تعقيدًا. ما أقلقَني بالفعل كان السؤال التالي: كم سنةً في السجن تكفي لتدمير حُبِّنا؟ خَمس؟ ثماني سنوات؟ أم نصف سنة؟

ولأنه كُتب عليَّ أن أقضي نصف الليل أفكر وأفكر، فقد فضَّلت أن أطلق تكهناتي حول أشياء ملموسة، مثلًا الأداة المناسبة للاغتيال. فكرَّت في المسدَّسات والسم والهراوات والسكاكين، غير أن خيالي كان محدودًا فقيرًا، مثل خيال الإنسان العادي، المبتدئ. لم تكن لدي خبرة في الإجرام، ولم أكن حتى من عشاق الروايات البوليسية. رُحت أتخيل إمكانيات عديدة، والقاتل في أوضاع مختلِفة: أنا والمسدَّس، أنا وزجاجة السم، أنا والهراوة، أنا والسِّكِّين، لم أتحمس لأي شيء من هذا، كل هذه الأدوات بدَتْ غير مقنِعة، كما في الأفلام الصامتة أو الرسوم الكاريكاتورية. وهكذا أجَّلْتُ التفكير في المسائل المتعلِّقة بالتنفيذ العملي. اضمحلَّت كل خطط القتل الجميلة، وتأقلم إيقاع تنفُّسي مع تنفُّس صديقتي، ولا بُدَّ من أني غُصتُ سريعًا في أمواج النوم الناعمة.

بالمناسَبة، إني أدين لأكسل أيضًا بالفضل في اختصار اسم القاضي بالحرف «ر». إن مَن أمر بقطع رأس أبي، يستحق أن أقطع على الأقل عدة حروف من اسمه الكريم، حتى وإن بدَا الأمر صبيانيًّا، يدرس أكسل علم النفس؛ لذا أقنعَتْنِي حجته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤