حكمة صفائح الزبالة

على مائدة إفطار صباح السبت كنتُ أقرأ مع كاترين الصحف التي عَلَّقت على الحكم بحِدَّة غير مألوفة. كان أكثر ما أثار غضب الصحفيين هو حيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة المُحلفين. عبْر فناجين القهوة وشطائر المربى تبادَلْنا قراءة بعض الجُمل الواردة في تعليقات «تاجيس-شبيجل» و«فرانكفورتر روندشاو» و«برلينر تسايتونج». كانت حُجة رئيس هيئة المحكمة أن أحكام محكمة الشعب العليا سليمة من منظور تلك الفترة، لم ينتهكِ القاضي «ر» مواد القانون عندما شارك آنذاك في إصدار أحكام الإعدام. من منظور هذه الأيام فإن الأحكام غير إنسانية، غير أن كل دولة، ولا سيَّما في أوقات الأزمات والحروب، لديها الحق في درء المخاطر التي تُهدِّدها، ومن تلك المخاطر تسهيل مهمة العدو وإشاعة روح الهزيمة؛ ولذلك لا نستطيع أن ندين قاضيًا اليوم لأنه أصدر تلك الأحكام آنذاك. بل حتى صحف «شبرينجر»١ الشعبوية شاركت في حملة الهجوم: يوم أسود في تاريخ القضاء الألماني، ثم أوردَتْ أول انتقاد للحكم: إنه حكم ببراءة فرايزلر.٢

اشمئزاز كاترين وتعليقات الصحف هدَّآ من روعي. لم أكن الوحيد الذي يشعر بالارتياع والصدمة. إلى هذا الحد كان حكم البراءة فضيحة كبيرة، إلى هذا الحد كان التناقض صارخًا، واستنكار الصحفيين واضحًا، ولذا لم يكن من الضروري أن أبرز غضبي. سعيدًا بموجة الاستياء العام عُدتُ إلى شقتي، ونسيتُ الخطط الهمجية التي نسجتُها في الليل، ورحت أواصل أعمالي. كان لدي الكثير لأنجزه، فبدأت بالبحث الذي كنتُ أعده عن «العقد الاجتماعي» لروسو.

بعد أن كتبت على الآلة الكاتبة عدة فقرات، أحسست بالظمأ إلى انتقادات جديدة للحكم، فأدرت المذياع قرب الظهيرة — وعلى الفور تلقيت عقوبة هذا العمل الطائش: ها هو مرة أخرى، الصوت الذي لا يدعني في هدوء. ماذا تفعل بصوت كهذا في رأسك؟ التجاهل، التفكير في شيء آخر، التركيز فيما تفعله. ولكن إذا لم ينفع ذلك كله؟ شعرتُ بالاضطراب. لماذا يمارس الصوت الآتي من «إذاعة القطاع الأمريكي» كل هذه السطوة علي؟ ولماذا أخضع لهذه السطوة؟ لماذا لم أستطع أن أنفض عني هذا الأمر المُتوَهَّم؟ هذه المحطة تحديدًا، لماذا كانت للمحطة الأمريكية تحديدًا هذه السُّلطة علي؟ هذه السُّلطة التي تسوقني سوقًا إلى فعل مجنون كهذا؟

إني أشعر بالضعف أمام الأصوات، الأصوات الإيحائية. وقعتُ في حب كاترين بسبب صوتها. إن الشعراء الذين يتعثرون في إلقاء قصائدهم بصوت ضعيف، لا يمكن أن يكونوا شعراء جيدين، أنا متأكِّد من ذلك. في قاعات المحاضرات لم آخذ أستاذًا مأخذ الجد — مهما كان ذكيًّا في كلامه — إذا راح يقدم لنا علمه بصوت ناعق. الأصوات حاسمة بالنسبة لي.

ربما أستطيع أن أستخدم أصوات مُذيعِين آخَرين ترياقًا مضادًا؟ إذن، فلْأدَعْهُم كلهم يدخلوا إلى غرفتي خلال فترة الظهيرة، واحدًا تلو الآخر، بين الثانية عشرة والواحدة والنصف، أساتذة الإلقاء من طبقة «الباص» أو «الباريتون»، المحمولِين على الموجة القصيرة جدًّا، الأصوات القوية من محطتي برلين الغربية، الأصوات الداعية من محطات برلين الشرقية، المذيعون الإنجليز والأمريكان والفرنسيون. كانوا يقرءون نصوصهم، وعلى الفور تتغير نبرة الصوت والكلمات المستخدَمة، كل جانب من السور يحاول أن يهدينا إلى الحقيقة الواحدة الوحيدة لفهم العالم، ثم في النهاية ينتصر مذيع محطة القطاع الأمريكي، بصوت خافِت، وبوضوح مُؤلِم: لا بُدَّ من أن يقوم شخص بقتل السيد «ر». أنت ولا أحد سواك!

خرَّب «ر» بحثي، أزعجني الصوت، هاجمني. ماذا أفعل إذن؟ لم يخطر على بالي في فترة الضحى شيء غير أن أستقلَّ السيارة وأقودَها عبْر شوارع المدينة، دون هدف، فقط لكي أطرد هذا الصوت من رأسي.

لا أحد يريد أن يُجَن، ولا سيَّما إذا كان هذا الشخص يتشبَّث بحلم العقلانية. في برلين كان هناك ما يكفي من أنصاف المجانين الذين يهيمون على وجوههم في الشوارع، بإمكان المرء أن يقابلهم في أي حانة على الناصية، وهم أيضًا يتحدَّثُون عن أصوات في رءوسهم، بعضهم يحكي بافتخار، وبعضهم بنبرة شكوى. هناك من يشعر بأن المخابرات تقوم بتوجيه تحرُّكاته عن بُعد، وهناك من يرى نفسه أداةً في يد الشيوعيين أو ضحيةً للنازيين القابعِين تحت الأرض. وسريعًا يعرف الإنسان مَن منهم يدعي الأهمية فحسب، ومن يحتاج إلى ذريعة لإدمانه الخمر. قد يكون من المُفيد للغاية أن يَدَّعي المرء الجنون؛ لأنه يسمع أصواتًا، ولكنني لم أكن أريد على أية حال أن أنتسب إلى هذا النادي.

هدأَتْ أعصابي خلف عجلة القيادة، متجنبًا الشوارع التجارية المزدانة بالأشكال المضيئة لعيد الميلاد رحتُ أقود السيارة في اتجاه أطلال برلين المهجورة بجوار حديقة الحيوان، الأمر سواء، في أي اتجاه يسير المرء في هذه المنطقة؛ إذ لم يكن بالإمكان أن يضل المرء طريقه. الشرق يحيط بالإنسان من كل مكان، السور في مكان ما، عندئذٍ لا بُدَّ من الرجوع أو السير بمحاذاة الجدار الخرساني الخالي من الرسومات. وهكذا وصلتُ إلى ظهر «القاعة الفيلهارمونية»، فنزلتُ عند فندق «إسبلانادا»، وتوقفْت أمام أحد الأكشاك، ورُحت أتفرَّس في البطاقات السياحية التي تضم أحدث اللقطات عن سور برلين، وأتأمل في «الكيتش» المعروض: «نواقيس الحرية». تجنَّبْت النظر تجاه ساحة «بوتسدامر بلاتس» الخربة؛ إذ إن الصرخة كانت عالقة في الهواء في كل مكان: لن تهرب منه، من السيد «ر»، لن تهرب منه هنا! لقد ساعد «ر» على إطالة مدة الحرب! لقد شنق أشخاصًا كانوا يريدون إيقاف الحرب وإلقاء القنابل! لا خيار أمامك!

الشيء نفسه يتكرَّر في كل ناصية شارع، الصوت في الرأس يعلو ويغدو أكثر وقاحة، إنه يتحكم في مسار بصرَي، ويعاملني كأنني أبله، النازيون يَتحمَّلون وِزْر كل شيء: الأنقاض، الواجهات المتهالكة الرَّثَّة، القبح المنتشر في كل مكان! ثم حانتِ اللحظة التي صرخت فيها مجاوبًا الصوت: ليس ضروريًا أن تقول لي ذلك ألف مرة! خلاص، كفاية! عندئذٍ خفَّ الصوت، وكأنه أراد أن يحميني. أحدث ذلك أثرًا مهدِّئا في نفسي، ورحت أقود السيارة على السرعة الثالثة عبر الشوارع العريضة في أحياء شونيبرج ونويكولن وكرويتسبرج، شاعرًا بالسعادة لأن سيارتي تخلو من راديو.

بدأ المساء يحط أثقاله على المدينة، فتوقفتُ في «ناونين-شتراسه» حيث يسكن صديقي هانيس، وفكَّرت في أن أسأله عن كيفية التعامل مع صوتي الداخلي، لن أنطق حرفًا عن «ر»، ولا عن التكليف بالقتل طبعًا، ربما خَبر هو أيضًا أفكارًا جنونية مشابهة. الشاعر هانيس يركب البحار، وربما يعتقد بوجود العفاريت، إنه على كل حال مُرهَف الحس ومُفعم بالخيال، ولهذا لن يبادِر ويقول لي على الفور إني مجنون. ارتقيتُ درج البيت الخلفي إلى الطابق الثالث، ضغطتُ على الجرس، وانتظرت، ثم طرقت الباب بقوة. كالمعتاد، عندما أبحث عن هانيس لا أجده في المنزل.

في الأسفل، في الفناء الخلفي ذي الإضاءة الشاحبة، كانت تتكوم ألواح خشبية وأنقاض ودراجات وصفائح زبالة نالت نصيبها من الخبطات وفوقها طبقة من الرماد البني، ثم اللافتة المعهودة: «ممنوع اللعب! على الآباء أن يتحمَّلُوا عواقب سلوك أطفالهم!» ضحكتُ من كل قلبي، ربما ضحكتُ على نكتة تحمل العواقب، أو ربما لأنني لم أُرِد أن أفسد على نفسي بهجة اللعب، وفجأة أشرق عليَّ الفهم في وسط جحر الفئران هذا: لا مفر أمامك، من العبث أن تقاوم، ينبغي عليك أن تقبل التكليف. لم تكن هذه النية جادة أو احتفالية، إنها بالأحْرَى فكرة خطرَت على بالي وكأنني ألعب. يا لها من سخرية معزية! إننا نعرف من صمويل بيكيت أن الحكمة تنبع من صفائح الزبالة.

لأول مرة خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية أشعر بالاسترخاء التام والثقة في النفس، وكأنني قد خبرت حكمة بوذية في هذا الفناء الخلفي: قل نعم، قل ببساطة نعم لكل ما يقوله لك صوتك الداخلي. وفي حالة الضرورة، ألْقِ كل الذنب على محطة الإذاعة في القطاع الأمريكي. أو على بيكيت!

كنتُ مأخوذًا بهذا الوضوح وأنا أقود السيارة في طريقي إلى المنزل، ثم توقفتُ أمام إشارة مرور، ورحتُ أحملق في محل جزارة، ورأيتُ — بهذه البدائية يعمل المخ — خطاطيف الجزَّار مُعلَّقة في سجن «بلوتسنزيه»، ورأيت القاضي «ر» جالسًا في وضْع مسترخٍ مُريب على الأريكة في بيته، وأمامه زجاجة شمبانيا. رأيت رءوس المشنوقِين المنحنية إلى الأمام، ورأيت «ر» مع امرأة وثلاثة أو أربعة رجال وأمامهم كئوس الشمبانيا. وسمعتُ صوت فرايزلر كما أعرفه من الأفلام القديمة، وسمعت السدادات تفرقع، ورأيت رغوة الشمبانيا والفقاقيع الصغيرة المتصاعدة، شمبانيا من ماركة «بومري» بالطبع، ورأيت الأيدي متغضنة البشرة تقرع الأنخاب، وسمعت نحنحات قبل أن يقولوا: في صحة براءتك، في صحة الحرية!

كيف يتعلم المرء أن يلجم خيالًا مُستَثارًا مطلق العنان، خيالًا جموحًا عصيًّا على كل لجام؟ خيالًا لا يعوق انطلاقه أن يحاول المرء ببساطة أن يجمع أجزاء الصورة الواحدة معًا؟ ما هو هذا الإنسان، السيد المستشار القضائي سابقًا؟ ماذا تجد في الكتب عن القضاء النازي؟

وهكذا حدث أني لأول مرة كذبتُ على كاترين، بسبب «ر»، وأغضبتها مني. تعلَّلتُ بوجوب أن أواصل العمل في البحث الجامعي، وأنه ليس لديَّ وقت للذهاب إلى السينما. «لاعبو السيرك» بإمكانهم الانتظار، أم إن الفيلم كان «اختبار الكفاءة» بطولة داستين هوفمان؟ لا تسعف الذاكرة المرء على الدوام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤