ملاك لندن

على الإنسان أن يحتفظ بأفضل الخواطر لنفسه، وعلى الأخصِّ بتلك المصيرية. رغم ذلك كنتُ أطرح فكرتي للنقاش كل يوم، دون أن يلاحظ الذين أتحدَّث معهم شيئًا، كما حدث — مثلًا — مع ملاك لندن.

إنه صديق صديقي برونو، وصديقي أيضًا إلى حدٍّ ما؛ أحد أكثر الناس ودًّا وبشاشة، أما اسمه فمن أقبح الأسماء: هوجو. منذ أن تآخَيْنا قبل عامين في لندن أطلقنا عليه Angel of London، رغم أنه أمريكي الجنسية، وهو واحد من أنشط أصحاب المكتبات الهيبيز، Their Majesties’ Bookseller دكانه في إيست هامستيد لا يُورِّد الكُتب إلى بلاط صاحبة الجلالة وحدها، بل يقوم على خدمة ملوك بريطانيا العظمى الحقيقيين، فهو المُورِّد الملكي للبيتلز والرولينج ستونز. عندما تعرَّفْنا إليه في سبتمبر ١٩٦٦م كان يتردَّد على مكتبته: بول مكارثي، وميك جاجر، وبراين جونز، وجون لينون، وكافة المشاهير الآخرين. كانوا يَشتَرون منه أو يطلبون مجلات الفرق الأمريكية السرية، أو الكُتيبات الهندية في التأمل الروحي، وأناجيل ماو المقدَّسة، وتعاليم بوذا، وكتيبات عن الطعام النباتي، وقصائد، وكل ما يحتاجون إليه من غذاء ذهني. لعل هوجو الوديع هو الإنسان الوحيد الذي ظل صديقًا لكلا الفريقين الغريمين.

في تمام السابعة مساءً والدقيقة السادسة والأربعين من يوم العاشر من ديسمبر، هكذا دَوَّنْت في مفكرة الجيب، وصل ملاك لندن إلى محطة قطارات برلين الواقعة بجوار حديقة الحيوانات، «برلين تسو». الزيارة الأولى لألمانيا، كان يريد أن يرى السور والاحتجاجات، يريد أن يرانا، بل لقد أعلن أنه يفكر في الحياة هنا.

كنت أتباهى — ليس فقط أمام كاترين — بأن صديق ميك جاجر، وجون لينون، وكيث، وباول هو أيضًا صديق برونو وصديقي. راحت كاترين تتحدث بحماس — مستهلَك — عن لينون. أما هوجو فلم يكن يتفاخر بذلك، ولم يكن يريد أن يضايقه الآخَرُون بأسئلة عن حالة النجوم. رسالته: الناس متساوون في القيمة كأسنان المشط.

في ذلك المساء، عندما عرَّفْتُه إلى كاترين في الشقة التي يتقاسمها برونو مع شباب آخرين، قال هوجو على الفور:

- Wow! What a marvelous woman!

كان معتادًا على أن يُحَيِّي ببشاشة أشخاصًا لا يعرفهم، ويُوزِّع عليهم مديحه، وبذلك كان يلفت الأنظار إليه، خصوصًا في برلين، حيث كان يُنظر إلى اللُّطف والبشاشة باعتبارهما من الأخلاق السيئة. استولت الحماسة على كاترين، وأشرق وجه هوجو، كان وَجْهه الصغير الباسم دومًا يزدان بنظارة بسيطة من النيكل ذات عدسات مستديرة، أما خصلات شعره نصف الأشقر ونصف الطويل، المفروق من المنتصف، فلم يكن في إمكان أي رسام للوحات الدينية أن يرسم أفضل منها. كان يلبس قميصًا هنديًّا بلا ياقة، مُزرَّرًا حتى العنق، وفوقه يرتدي سترة بلا أكمام أو ياقة تشبه «البونشو». رَكِبنَا نحن الأربعة سيارتي الفيات ٥٠٠ القديمة، ثم قُدتُها إلى حانة في حي شارلوتنبورج؛ حيث كنا على موعد مع صديقة برونو. سألَنَا هوجو عن سبب وجود فجوات عديدة بين المنازل، فأجبنا بكلمات مثل:

- War, bombs, British and American airplanes.

ومن الخلف تصاعد صوت برونو يقول:

- Well done!
- But that was twenty-three years ago?
- The Germans like destruction.
هكذا رد عليه برونو. كانت حانة «الاسكتلنديين» مكتظة، لا أمل في انتظار أن تخلو مائدة. كلهم كانوا يتزاحمون على المجيء إلى هنا منذ أن احتسى بعض زعماء الحركة الطلابية بيرتهم في هذه الناحية من شارلوتنبورج. إلى ذلك كان المكان يستفيد من الشائعة المنتشرة بأن بادر١ أخذ أكثر من علقة ساخنة في هذه الحانة، قبل أن ينتقل إلى فرانكفورت ويشعل النار في المَتاجِر هناك، ولهذا كان يجلس إلى الموائد صحفيون عديدون يبحثون عن حكايات، وسائحون يساريون يبحثون عن طريق يصلهم بعالَم الثورة العنيفة. كان الزبائن الدائمون من الطلبة يتزاحمون حول البار وأمام الأبواب وإلى الحائط، وإذا كان الطقس معتدلًا يقفون في الخارج أيضًا، ومعهم كئوس البيرة.
يجب أن يتضمن اعترافي كقاتِل حكاية واحدة على الأقل من تلك الأمسية، أعني نقاش اﻟ bullshit.
لم يكن مَلَاك لندن يشرب الخمر؛ لذلك طلب شايًا، وعندما جاءت الساقية وكيس الشاي في الكوب، طلب أيضًا كأسًا من الماء. أراد برونو أن يجامله فسأله بعد فترة عن شعوره في بلد النازيين؛ رد عليه قائلًا إنه لا يشعر بأنه في بلد النازيِّين، الناس هنا، شباب، متحرِّرون، بشعورهم الطويلة، هؤلاء ليسوا بالتأكيد من النازيين، بالإضافة إلى ذلك فإن النازيين وحدهم هم الذين يساندون حرب فيتنام، وأنتم ضدها، إذن كل شيء واضح. كان هوجو أحد أكثر المعارِضين حدةً وحماسةً لتلك الحرب وللمعارك التي تشعلها بلده في العالم الثالث. كان من الممكن اعتباره مخترع شعار: Make love not war. رحنا نشكو من صعوبة معارَضة الحرب، ولا سيَّما في برلين؛ حيث ترتفع على الفور هراوة «معاداة أمريكا»، وتهبط على رأس كل مَن تُسوِّل له نفسه ممارسة أي نقد للولايات المتحدة. إذا أتاكم أحد بهذه الهراوة — قال ضاحكًا — فاصرخوا في وجهه: نحن أصدقاء الأمريكيين! إننا نتظاهر من أجل صديقنا هوجو من سان دييجو وملايين الأمريكيين الذين يفكرون مثله!
ولكن، أضاف هوجو، عندما يعود ثلاثين عامًا إلى الوراء، ويتخيل برلين، ١٠٠ في المائة «بولشيت»، ربما هنا في هذه الحانة بالذات، المُكتظَّة عن آخرها برجال اﻟ SS واﻟ SA،٢ «بولشيت»، تركت هذه الكلمة انطباعًا كبيرًا لدَيَّ. كيف كان يتجنب كلمة «النازي» ويقول ببساطة: «بولشيت». شرحَتْ له أوته أن حزب «البولشيت» لم يحصل في الانتخابات الحرة الأخيرة في برلين إلَّا على نصف الأصوات فقط.

فرصة طيبة، فكرت، للتحدث عن المقاومة، ليس عن مقاومة الضباط والشيوعيين، بل عن جروسكورت وهافَمان والاتحاد الأوروبي، لكنني تراجعت؛ لأني لم أكن أعرف حكاية المجموعة جيدًا، ولا كيف أقص شيئًا على نحو شيق.

وهكذا أدرتُ الحديث إلى القاضي النازي الذي صدر الحكم ببراءته. سخط عام على المائدة، ثم أعلن ملاك لندن رسالته: Peace, peace to everyone! إذا كنا نريد تغيير العالم، فعلينا ألَّا نقع في فخ الأنماط التقليدية للتفكير، by no means. علينا تجنب تلك الأنماط كلها، تجنب كل أعمال العنف، ونزع فتيل كل نزاع. عندما اعترضتُ قائلًا: إنهم قَتَلة ومجرمون، رد قائلًا: ماذا سنستفيد عندما نرمي برجل عجوز من حزب «البولشيت» في السجن؟ وتذكَّروا أوسكار وايلد: سامحوا أعداءكم، لا شيء يثير غيظهم أكثر من ذلك!

اعترضَتْ أوته قائلة: إن علينا ممارَسة العنف بين الحين والآخر، وهذا عنف مُضاد، لا أكثر، بين الحين والآخر «مولوتوف كوكتيل»، هذا أمر لا بُدَّ منه كي نوقظ الناس من سُباتهم، وإعطاء «الحركة» دفعة إلى الأمام. كانت مثل هذه العبارات شائعة، منذ أن بدأ تمجيد المعركة التي جرت في نوفمبر أمام محكمة الولاية في «تيجلر شتراسه». اكتسبت كلمة «عنف» آنذاك هالة مقدَّسة. حاوَلت أوته إشعال حماسة مَلاك لندن، فحَكَت له أنهم أجبروا محاميًا يساريًّا يُدعى مالر على أن يدفع التكاليف التي سببتها المظاهرة ضد صحف «شبرينجر» اليمينية، وما تبعها من اندلاع حرائق (واليوم نعرف أن دائرة الأمن الداخلي في برلين هي التي قامَتْ بتلك الأعمال). تظاهروا أمام المحكمة، وأَجْبَر المتظاهرون قوات الشرطة على الهرب بعد أن أمطروهم بوابل من الحجارة، أول الانتصارات التي يتم تحقيقها تحت الرايات الحمراء.

ضايقتني آراء أوته ولهجتها المتهوِّرة، كنتُ أعتبِر المعارك مع الشرطة أمرًا طفوليًّا، وكنت سعيدًا عندما رد هوجو نيابةً عني: Violence is bullshit، بهذه الطريقة لن نخرج من الفخ، إنكم بذلك تضربون أنفسكم، عليكم بالامتناع عن كل أعمال العنف، عن كل شيء يتعارض مع مشاعركم.
كاترين وأنا هززنا رأسينا، ما شجعه على إلقاء محاضرة طويلة شرح فيها مبادئه: علينا ألا نفعل شيئًا سوى love, love, love، أن نحب أكبر عدد ممكن من الناس، هذا هو السبيل الوحيد. لو كان النازيون البولشيت قد أَحبُّوا الناس بدلًا من أن يكرهوهم، لو أحب الأمريكيون البولشيت الفيتناميين، ولو أحب الروس البولشيت التشيك، بدلًا من أن يحرقوهم بالنابلم ويقمعوهم بالدبابات … هكذا واصَل كلامه، وشعرتُ عندئذٍ أن مَلاك لندن أيديولوجي أيضًا. إن وداعَتَه — سواء كان مبعثها الماريوانا أو مخدر اﻟ LSD — ليست إلا وسيلة لتبسيط العالم. إن شعار love and peace إغواء ديني جديد وجذاب، يشبه الدين القديم على نحو مُدهِش، بوذا ولوتر يشدان معًا حبلًا واحدًا.

حتى هذا الإنسان الوديع لم يستطع أن يجعلني أتخلى عن خططي. على العكس: كلما زاد وعظ مَلاك لندن حرارةً، قلَّت رغبتي في أن أكون مسالِمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤