الفصل الأول

ما الروبوت؟

يُوضِّح الشكل ١-١ أحد روبوتات إي-باك. الحق أنَّ إي-باك لا يُعَد روبوتًا حقيقيًّا، لكنه أيضًا ليس لعبة. إن إي-باك، الذي صمَّمه فرانشيسكو موندادا وزملاؤه في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في لوزان، سويسرا، لأغراض دراسية وبحثية في مجال الروبوتات المتحركة، هو روبوت صغير متحرك مزوَّد بعجلات؛ ومن ثَم فهو مرشَّح جيد لنا للنظر إلى روبوت من الداخل. ويُعَد إي-باك أيضًا روبوتًا مفتوحَ المصدر؛ مما يعني أن جميع خُططه وبرامجه متاحة مجانًا.

بالنظر إلى إي-باك، ستلاحظ أن الروبوت له عجلتان، يدفعهما محرِّكان كهربائيان. في هذه الصورة، لا يمكننا سوى رؤية العجلة الموجودة في الجانب الأيمن، لكن توجد عجلة أخرى أيضًا في الجانب المقابل. يمكن لهذا الروبوت التحرك إلى الأمام والخلف والدوران وزيادة السرعة أو إبطاؤها. ويحتوي الروبوت إي-باك على كاميرا أمامية (مُماثِلة لتلك الموجودة في الهواتف المحمولة)، ويحيط بجسمه ثمانية «مستشعرات اقتراب». تستخدم مستشعرات الاقتراب ضوء الأشعة تحت الحمراء لاستشعار اقتراب الأشياء من جسم الروبوت — في نطاق سنتيمتر واحد أو اثنين — لذا فهي تمنح الروبوت شيئًا يشبه حاسة اللمس.

fig1
شكل ١-١: الروبوت المتنقل التعليمي إي-باك
وعلى الرغم من عدم ذكر ذلك في الشكل ١-١، فإنَّ إي-باك يحتوي أيضًا على ثلاثة ميكروفونات وجهاز يُسمى مقياس التسارع يمنح الروبوت شيئًا أشبه بالإحساس بالتوازن، مثلما تفعل أُذنك الداخلية. ومقارنةً بصغر حجمه، فإنَّ جهاز الحس لدى إي-باك غني بشكل مُدهِش. فبإمكانه أن يرى بالكاميرا، ويسمع بالميكروفونات، ويستشعر وجود الأشياء القريبة من حوله باستخدام مستشعرات الاقتراب، ويستشعر الصدمات (مثل الاصطدامات المفاجئة) بمقياس التسارع الخاص به. ويمكن للروبوت إي-باك إرسال إشارات (على سبيل المثال، إلى روبوتات إي-باك الأخرى)، وذلك من خلال حلقة تحيط بجسمه وبها ثمانية مصابيح، أو عن طريق إصدار أصوات باستخدام مكبِّر الصوت
fig2
شكل ١-٢: «الجهاز العصبي» للروبوت إي-باك
أخيرًا، يحتوي إي-باك على كمبيوتر ذي شريحة واحدة، يُسمى وحدة التحكم الدقيقة، وهو يوجد على اللوحة الأم أسفل مكبِّر الصوت. ويمكننا النظر إلى وحدة التحكم الدقيقة باعتبارها الجهاز العصبي المركزي لإي-باك. ذلك أنها تتصل بكلا المحرِّكَين ومستشعرات الإدخال وأجهزة إرسال الإشارات التي أشرت إليها. ثم إنَّ وحدة التحكم الدقيقة، إضافةً إلى أنظمة برمجتها، هي ما يجعل الروبوت يعمل بالفعل؛ إنها في الواقع «دماغ» الروبوت. يُوضِّح الشكل ١-٢ تنظيم «الجهاز العصبي» لدى الروبوت إي-باك.

(١) التاريخ الطبيعي للروبوت إي-باك

إن الموطن الأصلي للروبوت إي-باك هو موطن اصطناعي: الصفوف الدراسية لعلم الروبوتات ومختبرات الأبحاث. فما الذي يفعله إي-باك في الواقع عندما يكون في موطنه؟ وكيف يستجيب إي-باك للمحفِّزات، وما سماته أو سلوكياته المحددة؟

أول ما يجب أن نفهمه عن الروبوت إي-باك هو أنه، من دون برامجه، لا يفعل أي شيء على الإطلاق. وهذه ملاحظة مهمة للغاية؛ لأنها تنطبق على جميع الروبوتات تقريبًا. وما أعنيه بالبرامج هنا هو برنامج التحكم المثبَّت في وحدة التحكم الدقيقة — «الدماغ» — الخاصة بإي-باك. فمن دون برنامج التحكم هذا، ليس إي-باك إلا قشرةً فارغة، جثة هامدة بلا عقل. فبرنامج التشغيل هو ما يبثُّ الروح في الروبوت ويمنحه الحياة (الاصطناعية).

من الواضح أيضًا أن القدرات الجسدية للروبوت إي-باك محدودة. ذلك أنها تقتصر على تحريك نفسه، وهو حتى لا يستطيع التحرك إلا على الأسطح المستوية أو الأسطح الناعمة الطفيفة الانحدار. وعلى عكس العديد من الروبوتات، لا يمكن للروبوت إي-باك التقاط الأشياء أو وضعها جانبًا؛ فهو ليس مزوَّدًا ﺑ «قابض» ليؤدي وظيفة اليد.

إذا كان لنا أن نلاحظ روبوتات إي-باك في ميدانها التجريبي، فقد نرى مجموعة منها في حركة مستمرة، وهي يتحرك بعضها بالقرب من بعض لكنها لا تصطدم أبدًا. وتمامًا مثل سرب من البراغيش، يبدو أن روبوتات إي-باك تتحرك عشوائيًّا بعضها حول بعض، لكنها تظل معًا. وقد يستنتج عالم طبيعة الروبوتات أنها ليست كائنات منعزلة، بل توجد على الأرجح في مجموعات، مثل الحشرات الاجتماعية.

ومن خلال المراقبة الدقيقة لأفراد روبوتات إي-باك داخل هذه المجموعة، قد يستنتج عالم طبيعة الروبوتات أنها تستخدم أجهزة الاستشعار الخاصة بها لاكتشاف ما إذا كانت على وشك الاصطدام أو على وشك مغادرة المجموعة، وأنها تستخدم محركاتها لتتحرك وتدور.

وقد يتساءل عالم طبيعة الروبوتات عن السبب الذي يجعل الروبوتات تتصرف بهذه الطريقة. وسيلاحظ أن روبوتات إي-باك لا تخضع للتحكم عن بُعد. فلا حاجة إلى أي تدخُّل بشري على الإطلاق بينما هي منشغِلة في التحرك هنا وهناك. على غرار الحيوانات الحقيقية، تتصرف الروبوتات بشكل مستقل. فالبرنامج الموجود في وحدة التحكم الدقيقة، «الدماغ»، هو ما يعطي روبوت إي-باك سلوكياته الأساسية.

ليست روبوتات إي-باك مستقلة تمامًا بطبيعة الحال. فهي تحصل على طاقتها من بطارية، وعندما تنفد البطارية يتوقف الروبوت ببساطة عن العمل. ولهذا، فالروبوتات أشبه في حقيقة الأمر بالحيوانات الموجودة في حديقة الحيوانات؛ إذ تعتمد على البشر في «إطعامها»؛ أي تغيير بطارياتها. ينطبق هذا الأمر على الغالبية العظمى من الروبوتات، وحتى الروبوتات المتصلة بإمدادات الطاقة الرئيسية تعتمد على شبكة الكهرباء للحصول على الطاقة.

(٢) مِمَّ يتكون الروبوت؟

في الشكل ١-٢ الذي يُوضِّح الجهاز العصبي لروبوت إي-باك، جمعتُ «مستشعرات» إي-باك معًا، والمستشعرات هي الأشياء التي يستخدمها للإحساس بالعالم من حوله. وجمعتُ أيضًا الأشياء التي يستخدمها ليرسل الإشارات إلى الروبوتات الأخرى، تحت مسمَّى «إرسال الإشارات»، وعلى محرِّكَيه وضعت عنوان «التنقل». ينبع «ذكاء» روبوت إي-باك من وحدة التحكم الدقيقة والبرنامج الذي يعمل عليها. ويحتاج إي-باك إلى مصدر للطاقة يأتي من بطاريته. وأخيرًا — وربما الأهم من ذلك كله — يتمتع إي-باك بجسد: الهيكل البلاستيكي الشفَّاف الموضَّح في الشكل ١-١.

بعض من هذه الوظائف الخمسة أو كلها — الاستشعار وإرسال الإشارات والتحرك والذكاء والطاقة، مدمَجة في جسد — موجودة في جميع الروبوتات. ويعتمد تصميم المستشعرات الفعلية، والمحركات، والسلوكيات في جسم روبوت معين، على الوظيفة التي صُمم الروبوت للقيام بها. وهذه العناصر جميعها معًا هي ما يحدد ماهية الروبوت. فإدراك أن جميع الروبوتات مصنوعة من المكونات ذاتها يعطينا إطارًا لفهم تصميم فرادى الروبوتات وكيف أنها تختلف عن غيرها. وسيساعدنا هذا الإطار أيضًا على فهم نقاط القوة وأوجه القصور الموجودة في الروبوتات الحالية.

يُصنِّف الجدول ١-١ الوظائف التي تُشكِّل روبوتًا، بوجودها معًا، ويقسم كلًّا منها إلى أنواع مختلفة. تحتوي جميع الروبوتات التي أعرضها في بقية هذا الكتاب على مزيج من الوظائف الواردة في الجدول ١-١. ولكل نوع من الوظائف، يذكر الجدول كلًّا من الجهاز الاصطناعي (سواء إلكتروني، أو ميكانيكي، أو برمجي) الذي يُستخدم عادةً لتنفيذ هذه الوظيفة، جنبًا إلى جنب مع ما يعادله في الحيوانات والبشر. غير أنَّ عددًا من أنواع وظائف الروبوتات ليس له مكافئ بيولوجي؛ ومن الأمثلة الواضحة على ذلك عدم وجود حيوان يتحرك على عجلات. وبالمثل أيضًا، لا يوجد استخدام بيولوجي معروف للتواصل اللاسلكي.

إنَّ هذه المقارنة غير العلمية على الإطلاق توحي بأن الروبوتات يمكن أن تمتلك من الحواس أو من وسائل إصدار الإشارات نطاقًا أكبر مما تمتلكه الحيوانات، وهذا صحيح. بالرغم من ذلك، فإنَّ كفة الميزان ترجح بقوة مرةً أخرى لصالح الحيوانات عندما نضع في الاعتبار أن الحاسة المكافئة لدى الحيوان تتفوق تفوقًا كبيرًا على كل جزء من الروبوت. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ حاسة البصر واللمس والشم لدى الحشرات، أفضل بكثير مقارنةً بنظيراتها لدى الروبوتات. فالروبوتات من جميع النواحي تقريبًا محاكاة بدائية للحيوانات.

لم أتحدث حتى الآن عن الجزء الأكبر من أي روبوت، وهو: جسمه، الهيكل الميكانيكي الذي تُركَّب عليه جميع الأجزاء الأخرى. ويُعرف تخطيط شكل الروبوت وتكوينه الجسدي، وتحديد موضع أجهزة الاستشعار، والعجلات (أو الأرجل أو الأجنحة)، والأذرع، إن وُجدت، بعلم التشكل (المورفولوجيا). ولا بد من تصميم مورفولوجيا الروبوت بعناية فائقة بحيث يكون مناسبًا للغرض الذي صُمم من أجله. ومن سوء الحظ أن المواد وطرق التصنيع التي نستخدمها لتصنيع أجسام الروبوتات، وهي معدنية أو بلاستيكية في أغلب الأحوال، هي أيضًا بدائية مقارنةً بمثيلاتها الحيوانية. وغالبًا ما يشعر علماء الروبوتات بالإحباط بسبب هذه القيود، لكن مع التقنيات الجديدة مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد، بدأنا نرى روبوتات ذات أجسام «عضوية» أكثر تطورًا.

جدول ١-١: وظائف الروبوتات وما يعادلها في الطبيعة.
الوظيفة النوع الطبيعي/البيولوجي الروبوت/الاصطناعي
الاستشعار الرؤية العيون الكاميرات
السمع الأذن الميكروفونات
التوجه (نسبي) الجهاز الدهليزي مقياس التسارع
التوجه (مطلق) البوصلة المغناطيسية (الطيور المهاجرة) البوصلة الإلكترونية
الشم الأنف الأنف الإلكتروني
الاستشعار قصير المدى مستشعرات الحرارة (الثعبان) مستشعرات الأشعة تحت الحمراء
اللمس (الجلد) الجلد الجلد الاصطناعي
اللمس (الشارب) الشوارب/الشعر على الجلد الشوارب الاصطناعية
الاستشعار طويل المدى تحديد الموقع بصدى الصوت (الوطواط) الموجات فوق الصوتية/الرادار
الاستشعار طويل المدى لا يوجد ماسح ضوئي بالليزر
استشعار المواقع لا يوجد جهاز تحديد المواقع
إرسال الإشارات الأضواء اللون (الحرباء) مصابيح إضاءة/مصابيح ثنائية باعثة للضوء
الصوت الصوت مكبر صوت
إيماءات (الوجه) تعابير الوجه جلد مزود بحركات
إيماءات (الجسد) حركات الجسد محركات
الاتصال اللاسلكي لا يوجد واي فاي أو بلوتوث
التنقل عجلات لا يوجد محركات وعجلات
أرجل عضلات وأرجل محركات وأرجل
طيران عضلات وأجنحة محركات وأجنحة
التحكم في المواد مهارات حركية كبيرة عضلات وأذرع محركات وأذرع
مهارات حركية دقيقة أيدي وأصابع قابض (قوابض)
الطاقة طاقة كهربائية لا يوجد إمدادات الطاقة الرئيسية
لا يوجد البطاريات
لا يوجد ألواح الطاقة الشمسية
المعدة خلايا الوقود
الذكاء وحدة التحكم الدماغ (المادة) وحدة (وحدات) معالجة دقيقة
السلوكيات العقل (التصور والإدراك) البرامج (برامج التحكم)
الهيكل عظام، غضاريف، هيكل خارجي معدن وبلاستيك

على الرغم من أوجه القصور التي أوضحتها، فإن المكوِّنات الأساسية ذاتها موجودة في الحيوانات مثلما هي موجودة في الروبوتات. فهل يعني هذا أن الروبوتات على قيد الحياة؟ يعتقد بعض علماء الروبوتات أن روبوتاتهم حيوانات اصطناعية، وثَمَّة فرع من فروع الدراسة نشأ من الذكاء الاصطناعي وعلم الروبوتات يُسمى «الحياة الاصطناعية». لكن أيًّا من علماء الروبوتات لن يدَّعي أن الروبوتات التي يُصمِّمها أكثر من مجرد محاكاة لبعض الجوانب المحدودة من الحياة أو الذكاء.

لا شك أنَّ بعض الروبوتات قد تُصدِر سلوكيات أو تستجيب للمحفِّزات بشكل مُفعَم بالحياة؛ مما يجعلها تبدو كما لو كانت على قيد الحياة، غير أنه لا توجد روبوتات حية في حقيقة الأمر. وفيما يأتي ثلاثة أسباب وجيهة لذلك: لا تستطيع الروبوتات أن تحافظ على بقائها ذاتيًّا (أي تحصل على الطاقة)؛ وهي لا تستطيع أن تنمو أو تصلح جسدها (أي تتعافى)؛ ولا هي تستطيع أيضًا إنتاج نُسخ من نفسها (أي تتكاثر). إن أصبحت الروبوتات قادرة على فعل هذه الأشياء كلها، حينها فقط سيتعين علينا التفكير بجِدِّية في مسألةِ ما إذا كانت على قيد الحياة أم لا. بالرغم من ذلك، توجد استثناءات لواحدة من هذه القواعد: منها مثلًا، الروبوت إيكوبوت، الذي يمكنه الحصول على الطاقة من هضم الطعام، وسيَرِد وصفه في الفصل الثالث.

(٣) ما تعريف الروبوت؟

الآن بعد أن نظرنا فيما يجعل الروبوت يؤدي وظائفه، يمكننا التفكير في تعريف أعم للروبوت ككلٍّ. وفيما يأتي ثلاثة تعريفات مفيدة كلها؛ لأنها تُسلِّط الضوء على الصفات الأساسية المحددة للروبوتات.

الروبوت هو:
  • (١)

    جهاز اصطناعي يمكنه استشعار بيئته والعمل في تلك البيئة على نحو هادف.

  • (٢)

    الروبوت ذكاء اصطناعي مُتجسِّد.

  • (٣)

    الروبوت آلة يمكنها الاضطلاع بأعمال مفيدة بشكل مستقل.

تتمثل أهمية التعريف الأول في أنه يصف الروبوت في سياق تفاعلاته مع بيئة عمله: عالمه. والكلمتان الأساسيتان هنا هما «استشعار» و«العمل»، وهما يشيران إلى مستشعرات الروبوت، وعيونه وآذانه الإلكترونية، ومحركاته، التي يمكنه من خلالها معالجة عالمه أو التحرك فيه. وكلمة «هادف» مهمة أيضًا؛ لأنه بدون أفعال مجدية وذكية بشكل ما، سيكون الروبوت بلا هدف أو وظيفة.

أما التعريف الثاني، فيبرز أن الروبوت هو ذكاء اصطناعي في هيئة جسد مادي. والذكاء الاصطناعي هو الشيء الذي يزود الروبوت بغايته من العمل، أي إدراكه؛ فمن دون الذكاء الاصطناعي، سيكون الروبوت محض هيكل ميكانيكي عديم الفائدة. يتكون جسم الروبوت من أجزاء ميكانيكية وإلكترونية، ومنها كمبيوتر دقيق، إضافةً إلى الذكاء الاصطناعي الناتج عن البرنامج الذي يعمل في الكمبيوتر الدقيق. إن نظير ازدواجية العقل والجسد لدى الروبوتات هي ازدواجية البرامج والأجهزة. فبرنامج الروبوت هو الشيء الذي يحدد مدى ذكاء سلوكيات الروبوت، أو ما إذا كانت لديه سلوكيات على الإطلاق.

علينا توخِّي الحذر هنا؛ لأن السلوك لا يتعلق بالبرمجة فحسب. فالسلوك هو ما ينجم عند تفاعل الروبوت مع بيئته، والحق أنَّ هذا يتعلق بمورفولوجيا الروبوت وبيئته بقدر ما يتعلق بذكائه الاصطناعي. يرى علماء الروبوتات أن سلوك الروبوت شيء «ينبثق» من تفاعلات الروبوت مع بيئته التشغيلية. فعلى سبيل المثال، إذا كنا نصنع روبوتًا بإمكانه السير، وكانت لديه الأجهزة الضرورية (مثل الأرجل)، فإن برنامج الروبوت هو الذي سيحدد متى يمشي الروبوت للأمام أو يتوقف أو يستدير ولماذا. لكن السير الفعلي سيكون نتيجة لتفاعل أرجل الروبوت، الخاضعة لسيطرة البرنامج، مع السطح الذي يسير عليه.

يُركِّز التعريف النهائي على أن الروبوت يجب أن يكون مفيدًا. فالروبوتات مناسبة للوظائف التي قد نعتبرها مملة أو قذرة أو خطيرة. ولهذا سنجد أنَّ العديد من الروبوتات تؤدي وظائف تتسم بدرجة كبيرة من التكرار (على خطوط تجميع المصانع، على سبيل المثال)، أو في أماكن غير مناسبة للبشر (مثل أعماق البحار، أو في الفضاء)، أو تقوم بوظائف خطيرة (مثل المساعدة في إبطال مفعول قنابل مزروعة على جوانب الطرق). ربما يكون هذا التعريف هو الأقرب إلى معنى الكلمة التشيكية «روبوتا»، التي تعني حرفيًّا أعمال السُّخرة أو الأعمال الشاقَّة، والتي كانت مصدر الإلهام الأصلي لكلمة «روبوت».

(٤) استقلالية الروبوتات

ثَمَّة طريقة أخرى للتفكير في الروبوتات وتصنيفها، وهي حسب مستوى استقلاليتها. فالعديد من الروبوتات الفعلية، بما في ذلك بعض الروبوتات التي سأناقشها في الفصل الثاني، ليست مستقلة، وإنما يشغلها البشر عن بُعد. ومن الأمثلة على ذلك المَركبات الغواصة المشغَّلة عن بُعد، وهي من الروبوتات المستخدَمة للتنقيب تحت سطح البحر أو صيانة آبار النفط. وتُعرف هذه الروبوتات أيضًا باسم الروبوتات المشغَّلة عن بُعد.

لا تحتاج الروبوتات المشغَّلة عن بُعد إلا إلى الحد الأدنى من الذكاء المدمَج فيها؛ لأن «الذكاء» الرئيسي الذي يتحكم في الروبوت هو الإنسان. وتتمتع بعض الروبوتات المشغَّلة عن بُعد بمستوًى عالٍ من الذكاء الداخلي، ولا تستلزم تحكُّم مَن يُشغلها عن بُعد إلا في أوقات معيَّنة. على سبيل المثال، يمكن للطائرات بدون طيار أن تطير وحدها (على نظام الربَّان الآلي) حتى تصل إلى موقع محدَّد مسبقًا، وعندها يتولى الطيار البشري زمام الأمور. وفي بعض الأحيان تُعرف هذه الروبوتات بأنها شبه مستقلة.

عندما يتحدث علماء الروبوتات عن الروبوتات المستقلة، فإنهم عادةً ما يقصدون الروبوتات التي تقرر ما ينبغي فعله في الخطوة التالية دون أي تدخل أو تحكم بشري على الإطلاق. ولا بد هنا من توخِّي الحذر لأنهم لا يتحدثون عن الاستقلالية الحقيقية، بمعنى أنها قادرة، مثلي ومثلك، على تقرير مصائرها، بل يتحدثون عما يمكن أن أُسميه «استقلالية التحكم». المقصود باستقلالية التحكم أن الروبوت يستطيع أداء وظيفته أو مهمته دون تدخل بشري، لكن الأمر بأداء هذه المهمة أو البرمجة على أدائها قد صدر من البشر على أي حال.

واقع الأمر أنَّ عددًا قليلًا للغاية من الروبوتات المستخدَمة الآن هي التي تتمتع بهذه الاستقلالية حتى في سياق هذا المعنى المحدود. ومن الأمثلة المرعبة على مثل هذا النوع من الروبوتات الصاروخُ الجوَّال، وهو «سلاح ذكي» قادر على توجيه نفسه إلى الهدف المخصص له دون تحكم بشري. لكنه يحتاج بالرغم من ذلك إلى مشغل بشري لمراقبة وحدة التحكم في الصاروخ وإيقافه إذا لزم الأمر.

ربما سيساعدنا أن نتخيل استقلالية الروبوتات على أنها نطاق واسع يتراوح بين التشغيل عن بُعد (بلا استقلالية) إلى الاستقلالية الكاملة. ويمكننا بعد ذلك تصنيف الروبوتات ضمن هذا النطاق وفقًا لدرجة استقلاليتها.

المربع ١: ما مدى ذكاء المِكنسة الروبوت؟

تحتاج المِكنسة الروبوت عادةً إلى خمسة سلوكيات مبرمَجة مسبقًا:
  • استشعار العوائق وتجنُّبها، مثل الأثاث أو الجدران.

  • استشعار أن بطاريتها على وشك النفاد، و«التوجه» إلى محطة إعادة الشحن لتوصيل نفسها بالكهرباء وإعادة الشحن.

  • استشعار الحواف الموجودة أسفل مقدمة الروبوت والابتعاد عنها حتى لا يسقط من فوقها.

  • استشعار أن جامع الغبار ممتلئ؛ ومن ثَم التوقف وإرسال إشارة (للإنسان) بأنه يحتاج إلى التفريغ.

  • وفي حالة عدم وجود أيٍّ مما سبق، التقدم للأمام (أي أداء السلوك الافتراضي).

ما قد يبدو غريبًا هو أن هذه المجموعة من السلوكيات لا تشمل «تنظيف السجاد». الواقع أنَّ الروبوت ينظف السجاد الموجود تحته تلقائيًّا بينما يتحرك؛ ومن ثَم فإن السلوك الرئيسي لتنظيف السجاد هو «التقدم للأمام». بالطبع، تحتوي جميع الغُرف على جدران، ومعظمها يحتوي على أثاث؛ لذلك لا يستطيع الروبوت التقدم للأمام لفترة طويلة قبل أن يشعر بوجود عقبة؛ مما يستدعي السلوك الأول المذكور بالأعلى.

يحتوي الروبوت أيضًا على عدد من مستشعرات الاقتراب، وسيختلف سلوك «تجنب العقبات» قليلًا حسب المستشعر الذي تعرَّض للتحفيز. على سبيل المثال، إذا كان المستشعر الأمامي الأيسر هو الذي تعرَّض للتحفيز، فسيَستدير الروبوت لليمين؛ وإذا أعاق شيءٌ ما المستشعر الأمامي الأيمن، فسيستدير الروبوت إلى اليسار. وإذا تعرَّض للتحفيز كلٌّ من المستشعر الأمامي الأيسر والمستشعر الأمامي الأيمن في الوقت ذاته، فلا بد أن الروبوت على وشك الاصطدام بشيءٍ ما أمامه؛ ولهذا سيتوقف ويبتعد. إذا كان الروبوت مستدير الشكل، فيمكنه ببساطة أن يدور بزاوية أكبر من ٩٠ درجة. وفي حالة اختلاف تلك الزاوية في كل مرة (أي إنَّ الروبوت يختار — في حدود معيَّنة — منعطَفًا عشوائيًّا)، فهذا يعني أنه كلما تعيَّن على الروبوت أن يتجنب شيئًا ما، فإنه سيستدير وينطلق في اتجاه جديد عبر الغرفة. وبهذه الطريقة، سيغطي الروبوت في النهاية الغرفةَ بأكملها ويُنظفها.

ربما يبدو أنَّ هذا النهج غير فعَّال للغاية، وهو كذلك بالفعل. فنمط حركة المكنسة الروبوت هو ما يُسميه علماء الروبوتات المشي العشوائي. وهذا يعني أن بعض أجزاء السجادة سيُنظَّف عدة مرات، في حين أن الأجزاء الأخرى ستُنظف مرةً واحدة فقط (أو قد لا تُنظَّف على الإطلاق إذا كنت سيئ الحظ للغاية). بالرغم من ذلك، فالأرجح أن الروبوت سيُنظف السجادة بالكامل بعد فترة من الزمن. أما الأسلوب الأكثر فاعلية، الذي يتذكر فيه الروبوت أجزاء السجادة التي نظفها بالفعل، أو يرسم «خريطة» للغرفة بحيث يمكنه وضعُ خطة لتنظيف الغرفة من أولها لآخرها، فسيتطلب أجهزة استشعار أكثر تعقيدًا وتكلفة، وقدرًا أكبر من «الذكاء»؛ مما يعني أن الروبوت سيكلف آلاف الجنيهات بدلًا من المئات. ثم إنَّ نهج الذكاء المنخفض، إضافةً إلى السلوكيات الخمسة المبرمَجة مسبقًا، تكفي لإتمام المهمة.

يجدر بي الآن أن أُوضِّح شيئًا عن الفرق بين كلمة المستقلة وكلمة ذاتية الحركة. فعلى الرغم من أن الكلمتين لهما معانٍ متشابهة في الواقع، يفضل علماء الروبوتات كلمة المستقلة لأنها أوسع نطاقًا وأكثر ثراءً من ذاتية الحركة، ويعتبر السعي لتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية هدفًا مهمًّا في علم الروبوتات.

ما نقصده بكلمة ذاتية الحركة هو «العمل من خلال سلسلة ثابتة من الإجراءات المبرمَجة مسبقًا». ولهذا يوصف ذراع الروبوت المستخدَم في طلاء السيارات بالرش بأنه ذاتي الحركة، وهو يقع على الطرف الأدنى من مقياس الاستقلالية. لكن ماذا عن المكنسة الروبوت؟ صحيح أنه روبوت بسيط نسبيًّا، لكنه يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية. والسبب هو أن أفعاله تحدد من خلال مدخلاته الحسية، وليس بسبب ترتيبها في سلسلة الإجراءات المبرمجة مسبقًا. فعند وضع عقبة أمام الروبوت، سيتَّخذ إجراء تجنبها. وفي حالة عدم وجود أي عوائق، سيواصل الروبوت التقدم للأمام.

على مقياس الاستقلالية، يُعتبر الروبوت الذي يمكنه أن يتصرف من تلقاء نفسه استجابةً لأجهزة الاستشعار الخاصة به مستقلًّا للغاية. والروبوت الذي لا يستطيع التصرف، ربما لأنه لا يحتوي على أي أجهزة استشعار، غير مستقل. من المهم أيضًا ملاحظة أن الاستقلالية والذكاء ليسا الشيء نفسه. فقد يكون الروبوت مستقلًّا لكن ليس ذكيًّا جدًّا، مثل المكنسة الروبوت.

(٥) ذكاء الروبوتات

كثيرًا ما يُطرَح عليَّ السؤال الآتي: «ما مدى ذكاء الروبوتات؟» وربما يكون ذلك بدافع الشعور بالقلق إزاء تمتُّع الروبوتات بالذكاء الشديد. الحق أنه سؤال تصعب الإجابة عنه على النحو الملائم. فإجراء مقارنات ذات مغزًى بين ذكاء روبوت معيَّن وحيوان معيَّن أمرٌ محفوف بالصعوبة، لأسباب أهمها أننا لا نملك فكرة واضحة عن كيفية مقارنة ذكاء معظم الحيوانات بعضها ببعض وبالبشر.

فبصورة عامة، نشعر أن التمساح أذكى من النملة، وأن القطة أذكى من التمساح، لكن هذه الفكرة خاطئة. فالذكاء ليس صفة واحدة قابلة للقياس (على غرار اختبار معدل الذكاء) يختلف مقدارها في الحيوانات المختلفة، أو حتى الروبوتات. لكن بغضِّ النظر عن هذا الاعتراض، ما تقييمنا لذكاء المكنسة الروبوت، على سبيل المثال؟ إذا كنت مُصرًّا على معرفة الجواب، فسأقول إنها تتمتع بمستوًى منخفض جدًّا من الذكاء.

فالمكنسة الروبوت تتمتع بعدد صغير من السلوكيات المبرمجة مسبقًا (الغريزية)، وهي ليست قادرة على أي نوع من التعلم (انظر المربع ١ للاطلاع على الوصف). إننا نعزو مثل هذه الخصائص إلى حيوانات بسيطة جدًّا. فهل المكنسة الروبوت بمثل ذكاء حيوان وحيد الخلية مثل الأميبا؟

عندما يصف علماء الروبوتات الروبوت بأنه ذكي، فإن ما يقصدونه هو «روبوت يتصرف، بدرجة محدودة، كما لو كان ذكيًّا». وللتعبير «كما لو» هنا أهمية كبيرة. فقلةٌ فقط من علماء الروبوتات هم مَن يدعون أن الروبوت ذكي حقًّا. وقد يزعمون أن الروبوت يستحق أن يُطلَق عليه لقب ذكي — بالمعنى الذي أشرت إليه — لأن الروبوت قادر على تحديد ما ينبغي فعله للتصرف بشكل مناسب استجابةً للمحفزات الخارجية.

وجهة نظري الخاصة هي أنه يمكن اعتبار الروبوت تجسيدًا لمحاكاة محدودة للذكاء، ويمكن اعتباره ذكيًّا في الوقت ذاته أيضًا. فعلى سبيل المقارنة، يمكن اعتبار الطائرة محاكاة للطيران، لكن لا مجال للشك في أنها تطير بالفعل أيضًا. لذلك أعتقد أنه من الصعب القول إن الروبوت الذي يتصرف كما لو كان ذكيًّا — في النطاق المحدود للغاية لتلك السلوكيات — ليس ذكيًّا حقًّا. لكنني أقبل أن هذا الرأي قد يكون مثيرًا للجدل. فلا يزال السؤال عن الخصائص التي تشكل الذكاء سؤالًا صعبًا من الناحيتين العلمية والفلسفية.

لنفكر في ذكاء الروبوت بطريقة مختلفة. كان بإمكاني الإجابة عن السؤال «ما مدى ذكاء الروبوتات؟» كما يأتي: «إنها ذكية بقدر ما تحتاج لأداء المهمة التي صُممت من أجلها.» فالمكنسة الروبوت لا تحتاج إلى أن تكون ذكية جدًّا حتى تكون جيدة في تنظيف السجاد، وينطبق الشيء ذاته على العديد من الروبوتات. ولكن ماذا لو كانت الوظيفة التي نحتاج إلى روبوت لتنفيذها تتطلب ذكاءً أكثر بكثير؟ كيف يمكننا جعل الروبوتات أذكى، وما الحدود الحالية لذكاء الروبوتات؟

توجد طريقتان أساسيتان يمكننا من خلالهما جعل الروبوت يتصرف كما لو كان يتمتع بقدر أكبر من الذكاء:
  • (١)

    البرمجة المسبقة لعدد أكبر من السلوكيات (الغريزية).

  • (٢)

    تصميم الروبوت بحيث يمكنه التعلم؛ ومن ثَم يُطوِّر ذكاءه الخاص وينميه، ويمكن استخدام كلتا الطريقتين أو إحداهما.

هذه الطريقة الأولى جيدة، إذا كنا نعرف كل شيء عما يجب أن يفعله الروبوت وجميع المواقف التي سيتعين عليه الاستجابة لها خلال عمله. ونحن لا نستطيع القيام بذلك عادةً إلا إذا صمَّمنا كلًّا من الروبوت وبيئة التشغيل الخاصة به. فبهذه الطريقة يمكننا الحد من عدد الأشياء غير المتوقَّعة التي قد تحدث؛ ومن ثَم توقع كيفية استجابة الروبوت لكلٍّ من هذه الأحداث وبرمجته على هذا الأساس. تُعَد روبوتات المصانع مثالًا جيدًا على ذلك، فهي تعمل في بيئة مصمَّمة بعناية حيث يوجد العمل الذي يتعين عليها القيام به في نفس الموضع والاتجاه في كل مرة (لحام أجزاء من السيارة على سبيل المثال).

لكن ماذا لو أردنا أن يكون الروبوت قادرًا على العمل في بيئات غير مهيكَلة، أي في أي مكان لم يُصمم خصوصًا للروبوت؟ ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار أي بيئة خارجية أو داخلية غير مهيكلة. وحتى المكاتب، التي تبدو لنا على درجة عالية من الهيكلة، تمثل مشكلة للروبوتات بسبب الأشخاص الموجودين بها. إنَّ جعل الروبوتات ذكية وآمنة في البيئات البشرية من المشكلات الرئيسية التي يواجهها علماء الروبوتات، وهم لم يتوصلوا إلى حلها بعد.

في البيئات غير المهيكلة، يتعذر تطبيق الطريقة الأولى لذكاء الروبوتات؛ وذلك ببساطة لأنه من المستحيل توقُّع كل موقف محتمل قد يواجهه الروبوت، خاصةً إذا كان عليه التفاعل مع البشر. والحل الوحيد هو تصميم روبوت قادر على التعلم، إما من تجربته الخاصة أو من البشر أو من الروبوتات الأخرى؛ ومن ثَم التكيف وتطوير ذكائه الخاص: أي تنمية جميع سلوكياته ليكون قادرًا على الاستجابة بشكل مناسب على مزيد ومزيد من المواقف.

يقودنا هذا إلى موضوع تعلم الروبوتات، وهو شيء سأناقشه بمزيد من التفاصيل لاحقًا في هذا الكتاب. وسأكتفي الآن بالقول إنَّ تعلم الروبوتات أو «تعلم الآلة» عمومًا — وهو أحد فروع الذكاء الاصطناعي — قد ثبت أنه أصعب بكثير مما كان متوقَّعًا في الأيام الأولى للذكاء الاصطناعي. ومن ثَم، فعلى الرغم من وجود كثير من الأمثلة على روبوتات الأبحاث التي تتمتع بالقدرة على التعلم البسيط، مثل تعلم العثور على طريق للخروج من المتاهة، فإنَّ أيًّا منها لم يُظهر حتى الآن ما يمكن أن نُسميه بالذكاء العام لحل المشكلات. وهذه هي القدرة على التعلم إما فرديًّا (عن طريق التجربة والخطأ) أو اجتماعيًّا (من خلال المشاهدة والتعلم من معلم بشري أو روبوت آخر)، ثم تعميم تلك المعرفة المكتسَبة وتطبيقها على المواقف الجديدة. إنه نوع التعلم الذي يكتسبه أطفال البشر طبيعيًّا.

(٦) تاريخ مُوجَز جدًّا للروبوتات

على الرغم من أن كلمتَي «روبوت» و«علم الروبوتات»، والعلوم التي سارت على نهج الخيال، تعود بالتأكيد إلى القرن العشرين؛ فللروبوتات تاريخ طويل من الأفكار والاختراعات يسبق هذه الحقبة. ربما تكون أول إشارة معروفة لفكرة الأداة «الذكية» التي يمكن أن تحل محل العمالة البشري قد أتت من أرسطو، الذي كتب في عام ٣٢٠ قبل الميلاد أنه «إذا تمكَّنت كل أداة، عندما يُطلَب منها، أو حتى من تلقاء نفسها، من أداء العمل الذي يتناسب معها … حينها لن يحتاج العمَّال ذوو الخبرة إلى متدربين، ولن يحتاج السادة إلى عبيد.»

تعود ممارسة تصميم الآلات الذاتية التشغيل إلى ما لا يقل عن ٢٠٠٠ عام. صمَّم هيرو السكندري عددًا من الآلات الذاتية التشغيل، ومنها عربة ذات ثلاث عجلات تعمل بالطاقة الذاتية، وذلك عام ٦٠ ميلاديًّا تقريبًا. كانت العربة تعمل عن طريق وزن يتدلى ساحبًا خيوطًا ملفوفةً حول محاورها، وقد اكتُشف مؤخرًا أنه يمكن برمجتها عن طريق وضع أوتاد في المحاور، بحيث يمكن عكس اتجاه لف الخيط على المحور. وبناءً على هذا، يمكن برمجة العربة على أن تنعطف وتتبع مسارًا محدَّدًا مسبقًا.

وتأتي أول إشارة إلى فكرة الإنسان الآلي من التراث الشعبي اليهودي، متمثِّلةً في شخصية جولم، وهو كائن حي في هيئة البشر مصنوع من مواد جامدة، عادةً من الطين، بُثَّت فيه الحياة عن طريق السحر. وتروي إحدى أكثر القصص شهرةً، على الرغم من أن أصولها الحقيقية مثيرة للجدل، كيف أنشأ الحاخام لوف من براج في القرن السادس عشر جولم للدفاع عن حي اليهود بالمدينة من الهجوم. تتمثل أحد الجوانب المثيرة جدًّا للاهتمام في هذا المخلوق الأسطوري في أنه يفهم الأوامر حرفيًّا؛ مما يتسبب في حدوث عواقب غير مقصودة تكون كارثية في بعض الأحيان. وهذه أيضًا من خصائص الروبوتات الحديثة، التي غالبًا ما نُذكَّر بها، نحن علماء الروبوتات، بشكل مؤلم.

تُعَد عربة ليوناردو دافنشي الذاتية الحركة واحدة من أكثر الآلات الذاتية التشغيل التي ظهرت في عصر النهضة إثارةً للاهتمام، والتي كانت سابقة لزمانها. لقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن هذه العربة بمثابة آلة تعمل بالطاقة الذاتية وتتسم بدرجة بارزة من التطور والتعقيد. تعمل عربة ليوناردو عن طريق نوابض تشبه تلك الموجودة بالساعة، لكن أبرز ما فيها هو نظام الكامات القابلة للاستبدال التي تتحكم في كلٍّ من التوجيه والسرعة. يسمح هذا النظام ببرمجة العربة لتتبع مسارًا محدَّدًا مسبقًا، مع إمكانية الانطلاق والتوقف والانعطاف حسب الحاجة. يمكن أيضًا برمجة الروبوت لإحداث تأثير خاص في وقت محدَّد مسبقًا، مثل فتح باب على منحوتة مثبتة على العربة. من الممكن أيضًا أن يُنسب إلى ليوناردو الفضل في تصميم أول إنسان آلي كامل، قرابة عام ١٤٩٥، عندما صمم الفارس الروبوت. واستنادًا إلى مبادئ الميكانيكا الحيوية التي توصل إليها أبحاثه التشريحية، صمَّم ليوناردو لفارسه ذراعين ورأسًا وفكًّا تتحرك بكابلات.

خلال القرن الثامن عشر، بلغت الآلات الميكانيكية الذاتية التشغيل درجةً عالية من التطور (وكذلك التزييف). ربما يكون المثال الأكثر شهرةً هو البطة الميكانيكية التي ابتكرها المخترِع الفرنسي دي فوكانسون عام ١٧٣٩، والتي اشتهرت بقضاء حاجتها بعد «أكل» الحبوب. لكن ذلك لم يكن سوى خدعة، فما كانت البطة تفرزه في الواقع هو خلطة مجهَّزة مسبقًا من فتات الخبز المصبوغة باللون الأخضر. (فالهضم الاصطناعي الحقيقي للروبوتات لم يظهر إلا بعد ٢٧٠ سنة، كما أذكر في الفصل الثالث.) ومن وجهة نظري، يتجسد المثال الأهم لدي فوكانسون في آلة لعب الفلوت التي تتخذ شكل إنسان، والتي تتميز بتطور آلياتها ومحاكاتها الحيوية للتحكم في تدفق الهواء، عبر حركات لسان الروبوت وشفتَيه، اللازمة لعزف الفلوت بنجاح.

يعتمد موضوع هذا الكتاب، علم الروبوتات الحديث، على العديد من التقنيات الرئيسية، ومنها المحرِّك الكهربائي الذي يُزوِّد الروبوتات بالقدرة على الحركة، والأجهزة الإلكترونية التي تُوفِّر وسائل أتمتة الروبوتات والتحكم فيها. لكن الأفكار الجديدة كانت ضرورية أيضًا، وفي منتصف القرن العشرين، وضعت مجموعة رائعة من الرجال أسس علم الروبوتات الحديث فيما كان يُسمى في ذلك الوقت (ولا يزال أحيانًا) بالسبرانية.

وكان من بين الأعضاء البارزين العالمان البريطانيان آلان تورنج ودبليو روس آشبي، وفي الولايات المتحدة نوربرت وينر ووارن ماكولوتش. وكان من بين تلك المجموعة عالم الفسيولوجيا العصبية اللامع دبليو جراي والتر. يحتل والتر مكانةً خاصة في تاريخ علم الروبوتات الحديث بسبب سلاحفه «الروبوتية»، التي يُنظَر إليها الآن على نطاق واسع على أنها أول روبوتات إلكترونية متحركة مستقلة (انظر الشكل ١-٣).

طوَّر والتر سلاحفه (التي سُميت بهذا الاسم لأنها «علمتنا» مثلما فعلت سلحفاة لويس كارول) لتوضيح أفكاره عن وظائف الدماغ. لقد كان مقتنعًا بأن أهمية الوصلات الموجودة داخل الدماغ وعددها في ظهور الذكاء أكبر كثيرًا من أهمية عدد خلايا الدماغ. وقد صمم نظام التحكم في الروبوتات مستخدِمًا ما يصفه بأنه: «نظام عصبي بسيط مكوَّن من خليتين» لإثبات أن نظامًا بسيطًا جدًّا كهذا يمكنه أن يتمتع بسلوكيات غنية. وكانت «الخليتان» عبارة عن أنابيب مفرغة (مكافئ الترانزستور في الأربعينيات)، ومن خلال ربط الخليتين وأجهزة استشعار الروبوت ومحركاته ببراعة، أظهرت الروبوتات أربعة سلوكيات مختلفة.

fig3
شكل ١-٣: نسخ طبق الأصل من سلاحف جراي والتر الروبوتية

في الوضع الافتراضي، تدور العجلة الأمامية للروبوت التي توفر التوجيه والجر (مثل دراجة الطفل الثلاثية العجلات) باستمرار؛ مما يُوفِّر للروبوت حركة دائرية مميزة؛ وهذا هو سلوك «الاستكشاف». وثَمة خلية كهروضوئية مُركَّبة في الجزء العلوي من عجلة التوجيه/الدفع تجعل الروبوت حسَّاسًا للضوء؛ لذلك ينجذب إلى مصدر الضوء القوي الموجود على مسافة ما، وينفر من مصدر الضوء عندما يكون قريبًا جدًّا. أما السلوك الرابع فهو تجنب العوائق: حيث يتمتع الروبوت بقشرة مصنوعة من البرسبيكس مزوَّدة بمستشعر للصدمات، وحين يستثيره محفزٌ ما، يغير الروبوت حركته كي يتفادى الاصطدام بالعائق.

لقد أثبتت روبوتات والتر أفكارًا في مجال علم الروبوتات أُعيد اكتشافها في الثمانينيات بعدما كانت في طي النسيان. وبالرغم من أن سلاحف والتر غير مبرمجة مسبقًا ولا يتم التحكم فيها عن بُعد، فهي تتصرف بطريقة معقَّدة وغير متوقَّعة ترتبط ببيئة تشغيل الروبوت بقدر ما ترتبط بالروبوت ذاته. وفي سلسلة رائعة من التجارب، ثبَّت والتر شموعًا على السلحفاتَين، المُسمَّيَين بإلسي وإلمر، ثم التقط حركاتهما بكاميرا تسمح بدخول كمية كبيرة من الضوء لفترة طويلة. وأظهرت كلٌّ من إلسي وإلمر سلوكيات غير متوقَّعة. على سبيل المثال، عند وضعهما في غرفة مظلمة من دون أي مصدر ضوء آخر، كانت إلسي تلاحظ إلمر، والعكس صحيح، وكان الروبوتان يقتربان أحدهما من الآخر، ثم ينخرطان في نوع من «الرقصات».

تنبَّأت هذه التجارب بأفكار من علم الروبوتات القائم على السلوك، والتي أذكرها في الفصل الثالث، وأسراب الروبوتات، التي أعرضها في الفصل الخامس. ومن ناحية أخرى، حافظت سلاحف جراي والتر الروبوتية على تقليد ترسَّخ بالفعل في آلات القرن التاسع عشر الذاتية التشغيل، وهو تجسيد الآلات لنماذج بسيطة من الحياة، للتثقيف والترفيه على حدٍّ سواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤