الفصل الثالث

الروبوتات الحيوية

منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، حدث تغيرٌ جذري في كيفية تعاملنا مع تصميم الروبوتات الذكية، التي غالبًا ما توصف بأنها «إلهام أحيائي»، أو روبوتات مستوحاة من علم الأحياء. لكن هذا التغيير أعمق بكثير من الإلهام فحسب؛ ولن يستلزم الأمر سوى التفكير في ليوناردو دافنشي لندرك أن المصممين والمهندسين استلهموا أفكارهم من الطبيعة على مدار القرون. وفي مجال الروبوتات الذكية، ينطوي الاستلهام من علم الأحياء على شيئين.

  • أولًا: أن تخضع الطريقة التي نتعامل بها مع تصميم الروبوت إلى مراجعة شاملة، وعدم التعامل معه باعتباره تطبيقًا هندسيًّا بحتًا، بل مجال متعدد التخصصات يتداخل مع العلوم الحياتية. ففي أحيان كثيرة، تضم الأبحاث في مجال الروبوتات الذكية عدةَ علوم أخرى، منها الكيمياء الحيوية وعلم الأحياء وعلم الأعصاب وعلم سلوك الحيوان.
  • ثانيًا: أن الروبوتات ليست مستوحاة من الطبيعة فحسب، بل تُصمَّم مباشرةً على غرار نماذج أو أنظمة موجودة في الطبيعة، أو تكون هي نفسها تجسيدًا لتصميمات الطبيعة وأنظمتها. يُعرف هذا النوع الأخير باسم روبوتات المحاكاة الحيوية. وهذا يعني أنه لا ينبغي لنا التفكير بعد الآن في الروبوتات على أنها محض آلات للقيام بعمل ما، بل على أنها — في نطاق ضيق للغاية — نماذج للأنظمة الحية. ربما على أنها حيوانات اصطناعية. لقد نشأ مجال جديد بالفعل يُعرف باسم الحياة الاصطناعية، يستخدم نماذج المحاكاة بالكمبيوتر أو الروبوتات المادية الحقيقية لتصميم نماذج من الأنظمة أو العمليات الحية.

(١) كيفية تصميم روبوت مستقل

ثبِّت محركَين بسيطين منخفضَي الطاقة، مزوَّدَين بعجلات، على جانبَي هيكل روبوت صغير. ثم ضع لوحَين شمسيَّين منخفضَي التكلفة على جانبَي الروبوت بحيث يبدوان مثل الجناحين إلى حد كبير. ووصِّل خرج اللوح الشمسي الأيسر بالمحرك الأيمن عن طريق سلك، والعكس صحيح. تلك هي الطريقة التي صمَّم بها مهندس الروبوتات كريس بايذاواي مثل هذا الروبوت.

يتصرف هذا الروبوت الصغير، المسمَّى سولاربوت، بالطريقة التالية. يشغِّل كلا المحركين، بالدرجة ذاتها تقريبًا، ضوءٌ قوي يُضيء بنفس الشدة على جناحَي الروبوت، ويتقدم الروبوت إلى الأمام باتجاه مصدر الضوء. من ناحية أخرى، إذا كان الجناح الأيمن مظلمًا لكنَّ الجناح الأيسر مضاء، فعندئذٍ سيعمل المحرك الأيمن فقط، وسيتوقف المحرك الأيسر؛ ومن ثَم يستدير الروبوت إلى اليسار، كما لو كان يحاول الوصول إلى الضوء. وإذا حدث العكس، أي كان الجناح الأيسر مظلمًا والآخر مضاءً، فسيستدير الروبوت إلى اليمين. ونتيجةً لذلك، يمكن للروبوت أن يشقَّ طريقه عبر مسار به عقبات بسيطة نحو الضوء. ويُقال إن سولاربوت استجابة إيجابية للضوء، ويتمتع بنوع بسيط من تجنب العوائق. يوجه سولاربوت نفسه أيضًا نحو الضوء إذا لم يكن في مواجهته مباشرةً.

يقدم لنا سولاربوت مثالًا توضيحيًّا رائعًا على أن السلوكيات البسيطة الهادفة لا تتطلب أي أجهزة كمبيوتر على الإطلاق. ويُعَد سولاربوت مثالًا على ما يشير إليه علماء الروبوتات بآلة برايتنبرج.

في كتابه الصادر عام ١٩٨٤ بعنوان «المركبات»، أوضح برايتنبرج، من خلال مجموعة رائعة من التجارب الفكرية، أن مجرد توصيل المستشعرات والمحركات بالطريقة التي ذكرتها يمكن أن ينتج سلوكيات انعكاسية بسيطة ذات تطور مذهل. وما يوضحه سولاربوت أيضًا هو أن روبوتًا بسيطًا بدون دماغ (من جانب ما) يمكن أن يصدر سلوكًا هادفًا ومثيرًا للاهتمام، بينما يوضح في الوقت ذاته أن السلوكيات خاصية ناجمة عن التفاعل بين الروبوت وبيئة العمل الخاصة به. فسلوكيات الروبوت هي خاصية منبثقة عن تلك التفاعلات.

علاوةً على ذلك، يرتبط مدى تعقيد تلك السلوكيات بمدى تعقيد البيئة. لهذا إذا وُضع سولاربوت في غرفة مظلمة، فلن يفعل شيئًا على الإطلاق. وفي غرفة فارغة بلا عوائق وبها مصدر ضوء واحد، لن يثير سلوك الروبوت الاهتمام بشكل كبير؛ إذ يتجه ببساطة نحو مصدر الضوء حتى يصطدم به (ثم يستمر دون جدوى في أن «يتغذى» على الطاقة الشمسية ويوجه محركاته إلى الأمام دون توقف). فنحن نتمكن من رؤية جميع سلوكيات سولاربوت إلا في وجود مجموعة من العوائق التي تخلق بقعًا من الظل.

يوضح لنا سولاربوت أيضًا أن الروبوت المستقل ليس من الضروري أن يكون معقدًا. الحق أنَّ الروبوتات المستقلة، وعلى نحو غير متوقَّع، غالبًا ما تكون أبسط من الروبوتات المُشغَّلة عن بُعد (تخيلْ مدى تعقيد أنظمة التحكم والإلكترونيات التي سينبغي وجودها في سولاربوت حتى تتمكن من توجيهه عبر متاهة من خلال جهاز تحكم لا سلكي). إن إدراك أن سلوك الروبوت المستقل هو خاصية منبثقة من تفاعلاته مع العالم حوله له تبعات مهمة وبعيدة المدى على الطريقة التي نصمم بها الروبوتات المستقلة.

fig8
شكل ٣-١: حلقة ردود الفعل المتبادلة بين الروبوت والعالم
يُوضِّح الشكل ٣-١ ما يُسميه علماء الروبوتات حلقة التحكم الخارجية للروبوتات المستقلة. توصف الحلقة بأنها: «مغلقة من خلال بيئة عمل الروبوت.» ما يعنيه هذا هو أن الروبوت يستشعر بيئته، وأن القيم التي تتلقاها المستشعرات الخاصة به تؤدي بطريقة ما إلى مخرجات حركية جديدة (مباشرة في حالة سولاربوت). عندئذٍ يتحرك الروبوت (كله أو جزء منه)، ونتيجةً لهذه التحركات، من المرجَّح أن تتلقى مستشعرات الروبوت قيمًا مختلفة. وربما تولد قيم أجهزة الاستشعار الجديدة هذه سلوكيات مختلفة، تؤدي بدورها إلى تحرك الروبوت، وما إلى ذلك. وبهذه الطريقة تُغلَق حلقة الاستشعار والفعل الخاصة بالروبوت. وهنا يظهر السؤال الآتي: ماذا يعني هذا بالنسبة لعلماء الروبوتات؟

حسنًا، أولًا، عندما نُصمِّم الروبوتات، وخاصةً عندما نُقرِّر السلوكيات التي نبرمج بها الذكاء الاصطناعي للروبوت، لا يمكننا التفكير في الروبوت بمفرده. لا بد أن نراعي كل تفاصيل بيئة عمل الروبوت. إذا كانت هذه البيئة بسيطة، بمعنى أن المصمم يمكنه قياس أو تحديد كل شيء قد يواجهه الروبوت ويتفاعل معه (والكيفية التي ستُصرِّف بها هذه الأجسام نفسها)، فربما لا تتسم مهمة تصميم الروبوت وسلوكياته حينها بالصعوبة البالغة. من ناحية أخرى، إذا كانت البيئة التي سيعمل فيها الروبوت غير معروفة (مثل سطح كوكب غير مستكشف)، أو معروفة لكنها غير متوقَّعة، فلن يكون التنبؤ بكل موقف محتمل قد يواجهه الروبوت، ومن ثَم تصميم روبوت يتفاعل مع كل تلك الاحتمالات، صعبًا فحسب، بل مُحال أيضًا. تشمل هذه الحالة الأخيرة بالطبع، وهي حالة أن البيئة معروفة لكنها غير متوقعة، كل بيئة بشرية قد نحتاج فيها إلى الروبوتات، مثل: أماكن معيشة البشر، وأماكن اللعب، وأماكن العمل، بما في ذلك الطرق والأماكن الحضرية المفتوحة.

ثانيًا، يتسبب هذا في أن يصبح اختبار الروبوت المستقل أمرًا صعبًا، وخاصةً إثبات أنه سيتصرف دائمًا كما هو متوقَّع (تذكر أن هذه السلوكيات هي خصائص منبثقة عن التفاعل بين بيئة العمل والروبوت). عند وضع روبوت بسيط له سلوكيات محددة تمامًا (مثل سولاربوت) في بيئة غير متوقعة، يصبح من المستحيل توقع ما سيفعله الروبوت بالضبط. وهذا لا يسبب مشكلة لروبوتات المختبر مثل سولاربوت، ولكن إذا كان الروبوت مطلوبًا للعمل، على سبيل المثال مع البشر، فإن إثبات أن الروبوت سيكون دائمًا آمنًا، والتصديق على ذلك، يصبح تحديًا كبيرًا للغاية.

لا شك أنَّ الروبوتات المستقلة في بيئات العمل غير المتوقعة (خاصةً البشرية) لا تزال تقنية جديدة وناشئة، لكن ربما يكون الأمر أنها تحتاج إلى نُهُج جديدة للتصميم والتصديق، نُهُج ربما تحيد تمامًا عن الممارسات الهندسية التقليدية التي تراعي الدقة في تحديد كل شيء وتصميمه واختباره. فالعالم الطبيعي مكان معقَّد، ومعظم الحيوانات البسيطة تعيش دون أن تكون على دراية بنسبة ١٠٠ بالمائة بكل ما يدور حولها، أو أن يكون لديها استجابات سلوكية لكل الاحتمالات الممكنة. ربما سيشير النهج المستوحى من علم الأحياء إلى أن الروبوتات المستقلة مصمَّمة لتكون على درجة كافية من الجودة والأمان، للقيام بالمهمة المطلوبة منها، وليس أكثر من ذلك.

(٢) الروبوتات القائمة على السلوك

في سبعينيات القرن الماضي، كانت الروبوتات المتنقلة التجريبية المستقلة تتحرك ببطء وتردد عبر العقبات الموضوعة في طريقها. لم يكن لبطئها علاقة بضعف المحركات أو إمكانية التنقل أو عدم فعاليتهما. كان ذلك لأن هذه الروبوتات، التي يمثلها الروبوت البارز «شاكي» التابع لمعهد ستانفورد للأبحاث، لديها أنظمة تحكم تعتمد على نهج الذكاء الاصطناعي السائد في ذلك الوقت، والمعروف باسم التمثيل الرمزي.

استخدمت الروبوتات مثل «شاكي» طريقة تحكم تشاورية تُعرف باسم «الاستشعار–التخطيط–الفعل». الفكرة التي يستند إليها هذا النهج أن يستخدم الروبوت البيانات الواردة من مستشعراته لتكوين تمثيل داخلي لعالمه والاحتفاظ به. فعلى سبيل المثال، يلتقط الروبوت صورة بالكاميرا الخاصة به، ومن خلال معالجة الصور، يتعرف على الأجسام في مجال رؤيته، ويحدد مكان الزوايا والحواف، والفجوات بين الأجسام المختلفة؛ ومن ثَم يرسم نوعًا من الخريطة المكانية لما «يراه». ويستخدم الروبوت هذه الخريطة الداخلية للتخطيط لحركته التالية قبل تنفيذ هذه الحركة فعليًّا، ليكمل بذلك دورةً واحدة من دورات «الاستشعار–التخطيط–الفعل». بعد ذلك، يتحرك الروبوت للأمام ربما بضعة سنتيمترات، ثم يلتقط مجددًا صورةً أخرى ويبدأ في تنفيذ دورة جديدة من «الاستشعار–التخطيط–الفعل».

وهنا تكمن المشكلة. فنظرًا لأن الروبوت قد تحرك، فإن طريقة رؤيته للعالم صارت الآن مختلفة؛ ومن ثَم يتعين عليه إجراء بعض العمليات الحسابية المعقدة إلى حدٍّ ما لاستنتاج، على سبيل المثال، أن الكتلة الحمراء الموجودة على اليسار هي نفس الكتلة الحمراء التي «رآها» في الصورة السابقة (حيث تغيرت نظرته لهذا الجسم)؛ ومن ثَم يحافظ على خريطته الداخلية ويحدِّث موقعه واتجاهه في تلك الخريطة.

من السهل أن ترى أن هذه عملية معقَّدة وبطيئة، حتى في البيئات الساكنة تمامًا حيث يكون الشيء الوحيد الذي يتحرك هو الروبوت نفسه. إنَّ جسدًا متحركًا واحدًا في مجال رؤية الروبوت، شخصًا ما على سبيل المثال، يمكن أن يتسبب في عجز الروبوت عن الحركة، وعدم قدرته على مطابقة ما «يراه» مع خريطته الداخلية والتخطيط لخطوته التالية. قارن هذا مع سولاربوت، الذي لا يخطط على الإطلاق: فنظام التحكم الخاص به هو مجرد استشعار–فعل، أو رد فعل.

في منتصف الثمانينيات، أدرك عالم الروبوتات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا رودني بروكس أن النهج السائد للتحكم في الروبوتات المتنقلة المستقلة ينطوي لا بد على خطأ ما. واتَّجه تفكيره إلى ما يلي. معظم الحيوانات على هذا الكوكب، الحشرات على سبيل المثال، لا تمتلك آلية الإدراك لتكوين التمثيلات الداخلية للبيئات الديناميكية المعقدة التي يتعين عليها العيش فيها، والحفاظ أيضًا على هذه التمثيلات. ومع ذلك، فإن هذه الحيوانات ناجحة للغاية في التنقل في بيئتها، والبحث عن الطعام، والتزاوج، وتجنب الحيوانات المفترسة. فهي لا تحتاج إلى تمثيل داخلي؛ لأن لديها العالم ذاته. والعالم، كما كتب بروكس، «أفضل نموذج لنفسه». وبناءً على هذا، يجب أن يكون الروبوت المتنقل، مثل الحشرة تمامًا، قادرًا على التجول في جميع أنحاء العالم، متجنبًا الاصطدام بالعوائق الثابتة مع الابتعاد بأمان عن الأجسام المتحركة، وذلك ببساطة عن طريق استشعار تلك الأجسام والتفاعل معها فقط عندما تقترب بما يكفي لتشكل تهديدًا.

في واحدة من أكثر الأوراق البحثية تأثيرًا في مجال الروبوتات الحديثة بعنوان «نظام تحكم قوي متعدد الطبقات لروبوت متنقل»، اقترح بروكس بديلًا لنهج «الاستشعار–التخطيط–الفعل»، ينطوي على تصميم نظام التحكم في الروبوت من طبقات مُرتَّبة تصاعديًّا، باستخدام مجموعة من «السلوكيات» المتفرقة لتنفيذ المهام. تقبل كل طبقة من هذه الطبقات مدخلات من مستشعرات الروبوت، وتتحكم في قيادة محركات الروبوت. تمثل الطبقات العليا مستويات أعلى من الكفاءة، وتعمل جميع الطبقات بالتوازي.

وفقًا لمجمل الأعمال التي صُمم الروبوت لتنفيذها، قد تكون هناك حاجة لوجود طبقات عالية المستوى لإنشاء خرائط لبيئة عمل الروبوت، لكن الأهم من ذلك أن السلوكيات المنخفضة المستوى مثل تجنب العوائق لن تعتمد على تلك الخرائط. وبهذا، سيتمكن الروبوت المصمم وفقًا لهذه الشروط من التحرك بأمان، والاستجابة للعقبات أو المخاطر بسرعة، وفي الوقت ذاته تحقيق أهداف ذات مستوًى أعلى مثل الانتقال من مكان إلى آخر.

يجمع النهج القائم على السلوك بين نقاط قوة النهج التفاعلي والنهج التشاوري، التي تتناسب مع طبقات مختلفة من وحدة التحكم في الروبوت. والأهم من ذلك أن السلوكيات مستقلة. فعلى سبيل المثال، ليست جميعها من السلوكيات التي يستلزم الاطلاع على خريطة العالم. وقد يؤدي السلوك العالي المستوى إلى إنشاء خريطة والاحتفاظ بها، لكن السلوك المنخفض المستوى لا يحتاج إلى هذه الخريطة؛ فهو يتفاعل مباشرة مع مدخلات المستشعر. وبسبب استقلالية الطبقات السلوكية، ينتج سلوك الروبوت الملاحظ بشكل عام — ووظائفه — عن تفاعل سلوكيات الروبوت الفردية وتفاعل الروبوت مع بيئته.

يقدم روبوت مايا ماتاريك «توتو» المستوحى من علم الأعصاب مثالًا رائعًا جدًّا على هذا النهج. فقد أدى سلوك منخفض المستوى يُسمى «تتبع الحدود» إلى تزويد توتو بإمكانية التجول بدون اصطدامات من خلال العثور على حدود (أي الجدران) وتتبعها. وثَمة سلوك متوسط المستوى يُسمى «اكتشاف المعالم»، تتبع قراءات مستشعر توتو وتعرَّف على وجود معالم مثل جدار على يسار الروبوت أو على يمينه أو على كلا الجانبين، أي ممر. وثَمة سلوك عالي المستوى: «التوجه نحو هدف محدد وتعلم استخدام الخرائط»، قد تعلم هذا التسلسل من المعالم، ومن ثَم صمم خريطة؛ مما سمح لتوتو بالعثور على موقعه في الخريطة والتنقل إلى مواقع جديدة. وبما أنَّ الجرذان تتنقل بتتبع الحدود، حاجج ماتاريك أن الذكاء الاصطناعي لتوتو قد يساعد في فهم الجزء الموجود في مخ الجرذ المسئول عن التنقل، وهو الحصين.

(٣) سلج بوت: الروبوت المفترِس

على غرار جميع الآلات، تحتاج الروبوتات إلى طاقة. وبالنسبة إلى الروبوتات الثابتة، التي تستخدم أذرعها في التصنيع، لا تمثل الطاقة مشكلة؛ لأن الروبوت متصل بمصدر التيار الكهربائي. أما الروبوتات المتنقلة، فإنَّ توفير الطاقة مشكلة كبيرة؛ لأن الروبوتات المتنقلة تحتاج إلى حمل إمدادات الطاقة الخاصة بها معها، وهنا تظهر مشاكل في كلٍّ من حجم البطاريات ووزنها، والأهم من ذلك هو كيفية إعادة شحن تلك البطاريات عندما تنفد.

يتعقد الموقف مع الروبوتات المستقلة؛ إذ لا يمكن القول إن الروبوت مستقل حقًّا ما لم يتمتع بالاستقلالية في الحصول على الطاقة إضافةً إلى الاستقلالية في أداء المهام؛ فلا يوجد جدوى من تصميم روبوت ذكي «يتوقف عن العمل» عندما تنفد بطاريته.

فيما يتعلق بالروبوتات المتنقلة التي تعمل في المناطق المفتوحة، تتمثل إحدى الطرق الواضحة في استخدام الألواح الشمسية لشحن بطاريات الروبوت مباشرة. حينها يصبح ضوء الشمس مصدر طاقة الروبوت. وتُعتبر مركبتا المريخ الجوالتان سبيريت وأوبورتيونيتي مثالًا مثيرًا على نجاح هذا النهج، ويمكن وصف هذه الروبوتات بأنها مستقلة حقًّا من ناحية الحصول على الطاقة.

بالرغم من ذلك، فإن الاعتماد على ضوء الشمس وحده يمكن أن يكون مشكلة في الشتاء عندما تكون الليالي طويلة (يتعين على سبيريت وأوبورتيونيتي البقاء في حالة سبات خلال فصول الشتاء على سطح المريخ)، خاصةً إذا كنا نريد أن يعمل الروبوت ليلًا ونهارًا وفي جميع الظروف الجوية. فهل يمكن للروبوتات التي تعمل في الأماكن المفتوحة (على الأرض وليس على المريخ) أن تحصل على الطاقة من خلال البحث عن الطعام أو الافتراس، مثل الحيوانات؟ في عام ١٩٩٨، في مختبر بريستول للروبوتات، بدأ مشروعٌ بحثي للتحقيق في هذا الاحتمال، وأُطلِق على أول روبوت له اسم «سلج بوت».

كان سلج بوت هو المحاولة الأولى لتصميم روبوت مفترِس: روبوت قادر على اصطياد البزاقات ثم استخدامها للحصول على الطاقة. لقد اختيرت البزاقات مصدرًا للغذاء لسببين: بطء حركتها مما يسهل (نظريًّا) اصطيادها، وأنَّ الجميع تقريبًا يعتبرونها آفات. يبحث سلج بوت، الذي صمَّمه إيان كيلي وأوين هولاند وكريس ميليش، عن فريسته، ويلتقطها بذراع طويلة خفيفة الوزن مصنوعة من ألياف الكربون. ويوجد في نهاية الذراع كاميرا/قابض متخصص الأغراض لاستشعار وجود البزاقات وتجميعها.

يسمح هذا التصميم المبتكر للروبوت بتفتيش الأرض من حوله بدقة بحثًا عن البزاقات من خلال البحث بنمط دائري حلزوني. يُثبت القابض، مع الكاميرا التي تستقر في مركزه، على ارتفاع بضعة سنتيمترات فوق الأرض في أثناء البحث، مما يعني أنه عند العثور على بزاقة، لا يتعين على الذراع سوى خفض القابض على التربة الموجودة أسفله مباشرةً للحصول على البزاقة. وعلى الروبوت المفترِس أن يكون شديد الحرص في استخدام الطاقة المستمدة من طعامه. وينعكس هذا في تصميم سلج بوت: فتحريك ذراعه المصنوعة من ألياف الكربون يستهلك طاقةً أقل بكثير من نقل جسمه؛ لذا بالمقارنة بحجمه، يمكن لسلج بوت البحث في مساحة كبيرة من الأرض عن فريسته، باستخدام الحد الأدنى من الطاقة.

إنَّ العثور على البزاقات أمرٌ صعب؛ ذلك أنَّ درجة حرارتها لا تختلف عن درجة حرارة التربة؛ ومن ثَم لا يمكننا استخدام جهاز استشعار الحرارة للعثور عليها. ولا يمكننا الاعتماد على استخدام الكاميرا للبحث عن شيء على شكل بزاقة، وإلا فإن الأحجار أو أوراق الأشجار أو قطع الخشب التي يمكن أن تكون على شكل بزاقة ستُعَد خطأً أنها بزاقات. حل مصمِّمو سلج بوت هذه المشكلة من خلال ملاحظة أن البزاقات تعكس ضوءًا أحمر. لذلك وضعوا مصدر ضوء أحمر، بجانب الكاميرا، في راحة اليد القابضة لسلج بوت. وبناءً على هذا، يبحث برنامج معالجة الصور الخاص بالروبوت عن كُتل لزجة حمراء اللون بحجم البزاقة وشكلها.

حل سلج بوت مشكلة الافتراس (افتراس البزاقات على الأقل)، لكنه لم يتمكن من تحويل البزاقات إلى طاقة كهربائية، وهي مشكلة عالَجها خلفه: إيكو بوت.

(٤) إيكو بوت: روبوت بجهاز هضمي اصطناعي

توجد العديد من الطرق المختلفة لتحويل الكتلة الحيوية إلى طاقة كهربائية. من هذه الطرق تخمير الكتلة الحيوية، وإنتاج الغاز الحيوي (الميثان)، ثم حرق الميثان في خلية وقود. وتوجد طريقة أخرى أبسط كثيرًا من حيث المفهوم، وتتمثل في استخدام خلية وقود ميكروبية. تُعَد خلية الوقود الميكروبية شبيهة بالبطارية إلى حد ما، لكنها تستخدم التفاعل الكيميائي الحيوي لتوليد الطاقة الكهربائية، بدلًا من استخدام تفاعل كيميائي.

مثل البطارية العادية تمامًا، تتكون خلية الوقود الميكروبية من قسمين: الأنود والكاثود. غير أنَّ قسم الأنود في خلايا الوقود الميكروبية التي طُوِّرت في مختبر بريستول للروبوتات، يحتوي على «حساء» سائل من الميكروبات القادرة على هضم الطعام حرفيًّا. يتكون هذا الحساء عادةً من رواسب مياه الصرف الصحي، التي يقع الاختيار عليها؛ لأنها تحتوي على مجموعة كبيرة من أنواع الميكروبات القادرة على هضم أي مادة حيوية بشكل عام، وتحليلها.

ويترتب على عملية الهضم هذه إنتاج الأيونات التي تحمل شحنة كهربائية بالطبع. إضافةً إلى ذلك، فالكاثود في خلايا الوقود الميكروبية المطورة في مختبر بريستول للروبوتات مكشوف للهواء، وهو يمتص الأكسجين؛ مما يساعد على تبادل الإلكترونات عبر غشاء يوجد بين الأنود والكاثود. وفي حالة توصيل خلية وقود ميكروبية داخل دائرة كهربائية، يتدفق تيار من الأنود إلى الكاثود، وحينها نحصل على بطارية بيولوجية تؤدي وظيفتها بالاعتماد على الطعام.

تولد خلايا الوقود الميكروبية مستويات منخفضة جدًّا من الطاقة؛ فعادةً ما توفر خلية الوقود الميكروبية الواحدة عددًا قليلًا من وحدات الميكرووات (أي أقل مما تنتجه بطارية AAA قياسية بألف مرة)، وخلال التطوير المبكر لخلايا الوقود الجرثومية بمختبر بريستول للروبوتات، اختبر الباحث يوانس يروبولس مواد غذائية مختلفة لمحاولة العثور على واحدة تنتج أفضل كفاءة للطاقة. وكانت أفضل مادة اكتشفها هي الكيتين المتعدد السكاريد، الذي يوجد عادةً في الهياكل الخارجية للحشرات. والجدير بالملاحظة أن أحد نماذج إيكو بوت الأولية استمد طاقته من ثماني ذبابات منزلية (موسكا دوميستيكا) ميتة، واحدة لكل خلية وقود ميكروبية.

إنَّ ثمانية من خلايا الوقود الميكروبية المتصلة على التوالي تولد قدرًا قليلًا جدًّا من الطاقة لا يكفي لتشغيل الروبوت بشكل مستمر؛ لذلك تُستخدم الطاقة الكهربائية التي تنتجها خلايا الوقود الميكروبية لشحن مجموعة من المكثفات الفائقة حتى يتوفر ما يكفي من الطاقة المخزنة لتشغيل الروبوت. ولهذا يعمل إيكو بوت بنمط متقطع يمرُّ فيه بفترات من التوقف عن العمل، في أثناء هضم الطعام، وفترات أقصر من النشاط المفاجئ عند استشعار بيئته، ونقل البيانات، وقيادة محركاته. وبناءً على هذا، لم يكن إيكو بوت الثاني أول روبوت في العالم يكتسب طاقته من الذباب الميت فحسب، بل ربما كان أيضًا الأبطأ على الإطلاق، حيث يتحرك بسرعة ١٣سم في الساعة. ومع ذلك، كانت الطاقة المكتسبة من ثماني ذبابات ميتة فقط تكفيه ليعمل دون توقف لمدة أسبوعين تقريبًا.

وبالرغم من اعتبار إيكو بوت الثاني إنجازًا كبيرًا، فقد كان به عيبان خطيران. العيب الواضح أنه يجب «تزويده بالطاقة» يدويًّا؛ بمعنًى آخر، يُدخَل الطعام يدويًّا في حجرات الأنود بخلايا الوقود الميكروبية الثمانية. فعلى عكس سلفه سلج بوت، لم يكن إيكو بوت الثاني قادرًا على الحصول على طعامه بنفسه. وظهرت أيضًا مشكلة ثانية، لا تقلُّ خطورةً عن العيب الأول، وهي تصميم خلايا الوقود الميكروبية لا سيما حجرة الأنود المغلقة. فهناك نُفايات تنتج عن الهضم، وفي النهاية، تسمم هذه النفايات الكائنات الدقيقة الهاضمة؛ ومن ثَم ستتوقف خلية الوقود الميكروبية عن العمل إلى حين تجديد لقاح الهضم. وقد صُمم إيكو بوت الثالث على يد يوانس يروبولس وجون جرينمان وكريس ميليش وإيان هورسفيلد للتغلب على هذين القيدين.

يتمثل أحد الابتكارات المهمة في إيكو بوت الثالث في تصميم خلية الوقود الميكروبية الفردية. وكما هو مُوضَّح في الشكل ٣-٢ (الصورة الملحَقة)، أُضيفت منافذ الإدخال والإخراج إلى حجرة الأنود كي يمكن تدوير اللقاح الميكروبي الخاص بخلية الوقود الميكروبية. وكان من المهم أيضًا أن يتقلص حجم خلية الوقود الجرثومية إلى حوالَي ١سم مكعب؛ إذ أظهرت الاختبارات أن زيادة عدد خلايا الوقود الجرثومية الأصغر حجمًا هو أفضل طريقة لزيادة الطاقة الناتجة من الجهاز الهضمي الاصطناعي للروبوت. ومن ثَم زُوِّد إيكو بوت الثالث بثمانٍ وأربعين خليةَ وقود جرثومية توجد في حلقتين حول جسم الروبوت.
fig9
شكل ٣-٢: إيكو بوت الثالث: روبوت بجهاز هضمي اصطناعي. توضح الصورة إحدى خلايا الوقود الميكروبية

في ابتكار آخر لإيكو بوت الثالث، احتوى الروبوت على مصيدة ذباب في الجزء العلوي من الروبوت. وبنفس فكرة نبات الإبريق الآكل للحشرات، فإنَّ مزيج اللون والفيرومونات الاصطناعية يجذب الذباب لدخول المصيدة، حيث تسقط في بركة تحتوي على اللقاح الميكروبي. وفي البركة، يُهضم الذباب وينتج عنه محلول غني بالمغذيات، يُنقل بعد ذلك عبر أنابيب إلى خلايا الوقود الميكروبية الثمانية والأربعين، حيث تكتمل عملية الهضم وتولد الطاقة لتشغيل الروبوت. وللحصول على أقصى قدر من الطاقة، يُعاد تدوير اللقاح مرتين عبر خلايا الوقود الميكروبية. تُصفَّى النفايات الصلبة من المحلول ويقوم الروبوت حرفيًّا بإخراجها في صورة فضلات. وبناءً على هذا، يُعَد إيكو بوت الثالث هو المثال الوحيد المعروف، حتى الآن، للروبوت المزوَّد بجهاز هضمي اصطناعي كامل.

تتكون بيئة الاختبار التجريبية للروبوت من خزان زجاجي مغلق يُدخل فيه الذباب الحي. يسير الروبوت على عجلات ويتحرك ذهابًا وإيابًا على طول مجموعة من القضبان القصيرة، تصل بين أحد طرفَي الخزان والطرف الآخر. يوضح هذا أن الروبوت قادر على توليد طاقة كافية للتنقل، إضافةً إلى تلك الطاقة المطلوبة لتشغيل التمثيل الغذائي الداخلي الخاص به. الحق أنَّ استقلالية الروبوت في الحصول على الطاقة تستلزم حصوله على الماء علاوةً على البروتين، وهو يستطيع جمع الماء من أنبوب في أحد طرفَيه. وفي حالة وجود إمداد مستمر من الماء والبروتين في الخزان (على شكل ذباب)، فإنَّ الروبوت يكون قادرًا، من الناحية النظرية، على مواصلة العمل دون توقف (على عكس أسلافه من روبوتات الإيكو بوت).

أرى أن إيكو بوت الثالث مهم لعدة أسباب. أولها أنه يقدم إثباتًا لمفهوم الروبوتات المستقلة من ناحية الطاقة التي تجمع طعامها وتهضمه للحصول على الطاقة، وأنه يستطيع القيام بذلك مع توليد ما يكفي من الطاقة الفائضة لأداء مهامه. وثاني هذه الأسباب أنَّ إيكو بوت الثالث يجسد التطبيق الجديد لأساليب التصميم والتصنيع، وذلك بالاستفادة المكثفة من الطباعة الثلاثية الأبعاد للأشكال والهياكل البلاستيكية المعقدة (التي تدمج بعض أنابيب الروبوت، على سبيل المثال). أما السبب الثالث، فهو أنَّ الروبوت يجسد تعاونًا متعدد التخصصات بين علم الروبوتات والكيمياء الحيوية. وعلى الرغم من أنه قد يُعَد أحد الروبوتات المستوحاة من الأحياء بشكل كبير (من نبات الإبريق)، يمكن حقًّا وصف إيكو بوت الثالث بأنه روبوت حيوي.

ما التطبيقات المحتملة لتقنية إيكو بوت؟ يمكن للمرء أن يتخيل، على سبيل المثال، روبوتًا بستانيًّا قادرًا على تحديد الحشائش والآفات الكبيرة (مثل البزاقات) والتقاطها بشكل انتقائي، لتزويد نفسه بالطاقة بما يجمعه، ثم يخرج نفاياته في صورة سماد. مثل هذا الروبوت سوف «يعيش» فعليًّا في حديقتك، ويؤدي عمله بهدوء واستقلالية. في مجالَي البستنة والزراعة، يمكن للمرء أن يتخيل مجموعات من هذه الروبوتات ذاتية التنظيم (انظر أسراب الروبوتات في الفصل الخامس) تعمل بشكل جماعي — وعضوي (نظرًا لعدم وجود مبيدات أعشاب أو مبيدات حشرية) — لمكافحة الحشائش والآفات في الحقول والصُّوَب الزراعية.

(٥) سكراتش بوت: نهج المحاكاة الحيوية لاستشعار العالم

تستخدم العديد من الحيوانات اللمس النشط لاستشعار بيئتها. وتُعتبر قرون استشعار الحشرات وشوارب الثدييات أمثلة على ما يُسمى بأنظمة استشعار اللمس النشط أو المستشعرات الميكانيكية. إنَّ شوارب القوارض على وجه التحديد مثيرة للاهتمام؛ إذ إنها تتحرك فعليًّا للخلف وللأمام، وتجمع معلومات عن الأجسام التي تقع ضمن نطاقها وشكلها وملمسها.

الفئران، على سبيل المثال، ترى في الظلام بشكل ثلاثي الأبعاد وتشعر بالملمس، باستخدام شواربها، وقد قدَّر علماء الأعصاب أن نسبة القشرة الدماغية التي تستخدمها الفئران في معالجة البيانات القادمة من شواربها أكبر من تلك التي تستخدمها لمعالجة البيانات القادمة من نظام الرؤية الخاص بها. ولا يبدو أنَّ هناك قدرًا كبيرًا من الشك في أن الإحساس المهيمن لدى الفأر هو اللمس النشط باستخدام شواربه.

بالنسبة إلى الروبوتات، تُعَد الشوارب الاصطناعية أجهزة استشعار في غاية الجاذبية. تخيل روبوتات بحث وإنقاذ صغيرة مصمَّمة لدخول المباني المنهارة للتفتيش داخل المبنى. من المحتمل أن تكون هذه الأماكن مظلمة، ومن المحتمل جدًّا أن يكون الهواء بها مليئًا بالغبار أو الدخان. ولهذا، فإن مستشعرات الروبوت التقليدية المعتمدة على الضوء، مثل أنظمة الرؤية المعتمدة على الكاميرا أو جهاز الكشف عن الضوء وتحديد المدى المعتمد على الليزر، ستكون عديمة الفائدة بشكل كبير.

قد توفر الشوارب الاصطناعية، من حيث المبدأ، أفضل شكل من أجهزة الاستشعار لتمكين الروبوت من التنقل والبحث في مثل هذه الأماكن الضيقة والخطيرة. ففي مثل هذه البيئة، سيتعين على الروبوت أن يتحرك بحذر، وسوف تساعد الشوارب الاصطناعية بلمستها الناعمة أن تقلل من خطر تسبب الروبوت نفسه في أي انهيار آخر.

صُمم سكراتش بوت الخاص بمختبر بريستول للروبوتات (انظر الشكل ٣-٣) ليكون بمثابة جهاز اختبار للشوارب الاصطناعية. ففي إطار مشروع «بيوتاكت»، وبقيادة عالم الأعصاب الإدراكي توني بريسكوت، صمم كلٌّ من مارتن بيرسون وتوني بايب وجيسون ويلسبي، سكراتش بوت الذي يبلغ حجمه ضعف حجم الجرذ، ويحتوي «رأسه» على مجموعتين من الشوارب الكبيرة، تصطف على كلا الجانبين. تتراص هذه الشوارب، التي تمثل الشوارب الكبيرة (الشعيرات الكبيرة) لدى لفئران، في ثلاثة صفوف يحتوي كلٌّ منها على ثلاثة شوارب. غير أنَّ الجرذ الحقيقي لديه أكثر من ثمانية عشر شاربًا من هذا النوع. وتسمح المحركات لجميع شعيرات الروبوت الكبيرة البالغ عددها ثمانية عشر بالتحرك للخلف وللأمام؛ مما يوفر دائرة استشعار يبلغ نصف قُطرها حوالَي ٢٠ سم، ويبلغ قوسها حوالَي ٦٠ درجة، وذلك على جانبَي رأس الروبوت.
fig10
شكل ٣-٣: سكراتش بوت، روبوت بشوارب اصطناعية

يبلغ طول كل شارب اصطناعي نحو ٢٠ سنتيمترًا، مع مقطع عرضي دائري يتناقص قُطره من ٢ ملِّيمتر عند القاعدة إلى ٠٫٦ ملِّيمتر عند الطرف، وهي مصنوعة بالطباعة الثلاثية الأبعاد من مادة بلاستيكية تمنح الشوارب قوة وخفة ومرونة. تُثبت قاعدة الشارب الاصطناعي بقوة في جذر يُدمج فيه مستشعر يعمل بخاصية تأثير هول ذو محورَين. يولد هذا المستشعر، المناظر للمستقبلات الميكانيكية في بُصيلة الشارب الحقيقي، إشارات كهربائية تتناسب مع مقدار انثناء الشارب واتجاهه.

وفي الجزء الأمامي من رأس الروبوت، توجد مجموعة أخرى من الشوارب الاصطناعية مرتَّبة في أربعة صفوف يوجد بكلٍّ منها أربعة شوارب. هذه الشوارب القصيرة ثابتة (أي إنها لا تتحرك فعليًّا)، وهي تمثل شوارب الفئران الصغيرة (الشعيرات الدقيقة). يُعتقد أن الجرذ يستخدم شعيراته الكبيرة أولًا ليحدد موقع الأشياء داخل نطاق «اللمس» الخاص به، ثم يدير رأسه بما يمكنه من وضع الشعيرات الدقيقة على الجسم لفحصه بدقة أكبر؛ ومن ثَم فإن الشعيرات الدقيقة تعمل بمثابة حاسة اللمس المكافئة للمنطقة النقيرية بالعين. ويحاكي سكراتش بوت هذا السلوك. فهو يبحث في إحدى المناطق باستخدام الشعيرات الاصطناعية الكبيرة المتحركة، وعندما يعثر الروبوت على شيء ما، حينها سيدير رأسه، باستخدام رقبته المفصلية، ﻟ «تركيز» شعيراته الدقيقة على الشيء.

كيف يفهم سكراتش بوت الإشارات الصادرة من شواربه الاصطناعية؟ على الرغم من أن سكراتش بوت يحتوي على شوارب أقل بكثير من نظيره الحي؛ فمع وجود أربعة وثلاثين شاربًا، يوجد قدر كبير من البيانات التي تولَّد ديناميكيًّا عند مواجهة جسم ما. وليس من السهل على الإطلاق تحويل تلك البيانات إلى موضع الجسم واتجاهه (بالنسبة إلى جسم سكراتش بوت) أو حتى شكله وملمسه.

لا يولد الشارب الاصطناعي أي إشارة على الإطلاق عندما يكون ثابتًا. وتولَّد البيانات عندما يتلامس الشارب مع الجسم، ويمكن استخدام طبيعة البيانات التي تولَّد في أثناء خدش الشارب لسطح الجسم لاستنتاج ملمسه: فالملمس الخشن، على سبيل المثال، سيولد إشارة مختلفة عن الملمس الناعم (مثلما أنك لا تستطيع معرفة ما إذا كان السطح خشنًا أم ناعمًا عن طريق وضع إصبعك فحسب على السطح؛ فأنت تحتاج في الواقع إلى تحريك إصبعك على السطح).

عندما تتحرك جميع الشوارب في مصفوفة الشعيرات الكبيرة نحو جسم واحد، يمكن استخدام التوقيت النسبي للإشارات التي تولدها الشوارب في حالة وجود ترابط بينها وبين الموقع النسبي للشوارب التي تولد تلك الإشارات، لاستنتاج موقع خواص الجسم، خاصةً الزوايا والحواف، في مكان ثلاثي الأبعاد.

اتخذ مصمِّمو سكراتش بوت نهجًا مختلفًا في المحاكاة الحيوية للطريقة التي يعالج بها الروبوت البيانات الناتجة عن شواربه الاصطناعية. يمتلك الروبوت نموذجًا إلكترونيًّا لجزء صغير جدًّا من مخ الجرذ: الجزء الذي يقوم بالمعالجة المسبقة للنبضات العصبية القادمة من الشوارب. وباستخدام تقنية «مصفوفة البوابات القابلة للبرمجة في الموقع»، ينفذ الروبوت نموذجًا عالي الدقة من الشبكة العصبية الاصطناعية المتصاعدة لجزء من جذع دماغ الجرذ، يُطلق عليه اسم المجمع الحسي الثلاثي التوائم. وبصفة مبدئية، تعالج مصفوفة البوابات القابلة للبرمجة في الموقع إشارات الشوارب باستخدام نحو ٤٠ ألف خلية عصبية اصطناعية وهيكل التواصل ذاته.

بناءً على هذا، يوفر لنا سكراتش بوت مثالًا جيدًا على نهج محاكاة حيوية قوي لتصميم الروبوتات. فهو يوضح أنَّ علم الروبوتات قد أصبح الآن مسعًى متعدد التخصصات، وهو يجمع في هذه الحالة بين علماء الروبوتات وعلماء السلوك الحيواني وعلماء الأعصاب. ويعد الروبوت نموذجًا عمليًّا لاختبار فرضيات علمية، وهي في هذه الحالة فرضيات عن كيفية عمل بعض أنظمة التحكم في مخ الجرذ، بينما يوفر في الوقت ذاته منصة اختبار لتطوير تقنية استشعار جديدة للروبوتات. ولا شك أنَّ الشوارب الاصطناعية من النوع الموجود في سكراتش بوت إضافة قوية لمجموعة المستشعرات المتاحة لمصمِّمي الروبوتات.

(٦) الروبوتات القابلة للتعلم

من الجلي أنَّ التعلم عنصر مهم وفعَّال لأي كائن، سواء أكان حيوانًا أم روبوتًا، فليس من المستغرَب أن يبحث علماء الروبوتات في مناهج تعلم الروبوتات لسنوات عديدة. غير أنَّ القليل فقط من الروبوتات الموجودة بالفعل قادرة على التعلم أو تكييف سلوكياتها. ويعبر هذا عن أمرين: أن تعلم الروبوتات لم يزل تحديًا بحثيًّا كبيرًا، وأن الروبوتات القادرة على التعلم تثير مشكلةً ذات طبيعة خاصة عندما يتعلق الأمر بالتصديق على سلامة الروبوت. فكيف يمكننا الإقرار بأن الروبوت سيفعل الشيء الصحيح دائمًا إذا كنا لا نعرف ماهية السلوكيات التي قد يتعلمها في المستقبل؟

بالرغم من ذلك، فإنَّ تعلم الروبوتات أمر مهم، وفيما يأتي سألخِّص المناهج الرئيسية في هذا المجال.

يُعرف النهج الأول لتعلم الروبوتات، وهو النهج الأكثر قوة ونجاحًا بلا شك (والذي يعتبره البعض أحد أعظم الإنجازات في علم الروبوتات حتى الآن)، باسم «تحديد المواقع ورسم الخرائط في آن واحد». فتحديد المواقع يمثل مشكلة رئيسية في الروبوتات المتنقلة؛ أي كيف يعرف الروبوت موقعه من مكان ثنائي أو ثلاثي الأبعاد؟

وإذا كان الروبوت طائرًا أو متنقلًا على الأرض في الأماكن المفتوحة، فإن نظام تحديد المواقع العالمي يوفر حلًّا جاهزًا. وإذا كان روبوتًا يعمل في الأماكن المغلقة، مثل روبوت شركة أيثون لنقل المعدات في المستشفيات: «تَج»، الذي وصفته في الفصل الثاني، وكان الروبوت مزودًا بخريطة إلكترونية، فسيصبح تحديد المواقع حينها أمرًا بسيطًا نسبيًّا.

بالرغم من ذلك، ففيما يتعلق بالروبوتات غير المزوَّدة بنظام تحديد المواقع العالمي (أو ما شابه) ولا هي مزوَّدة بخريطة، يوفر «تحديد المواقع ورسم الخرائط في آن واحد» تقنية لرسم خريطة (لما يراه الروبوت بأجهزة استشعاره) مع التوصل إلى تقدير تقريبي لموقعه من تلك الخريطة في الوقت ذاته. وفي أثناء تنقل الروبوت في بيئته، تتحسن الخريطة ومستوى ثقة الروبوت في موقعه بالنسبة إلى الأجسام الموجودة في تلك الخريطة.

ثَمة نوع آخر من تعلم الروبوتات عام بدرجة أكبر، ويُسمى بالتعلم المعزز. وهو مستوحًى بالطبع من علم الأحياء؛ لأنه نوع من التعلم المشروط. إذا كان الروبوت قادرًا على تجربة العديد من السلوكيات المختلفة، واختبار نجاح كل سلوك أو فشله، ثم «تعزيز» السلوكيات الناجحة، حينها يُقال إنه يتمتع بتعلم معزز. وعلى الرغم من أنه هذا يبدو بسيطًا من حيث المبدأ، فهو ليس كذلك فعليًّا. فهو يفترض، أولًا، أن قائمة السلوكيات التي سيُجرِّبها الروبوت بها سلوك واحد ناجح على الأقل، وثانيًا أنه يستطيع اختبار فائدة كل سلوك؛ أي أن يكون للسلوك فائدة فورية يمكن قياسها. وإذا كان على الروبوت أن يجرب كل سلوك ممكن أو إذا تأخرت الفائدة، فإن هذا النوع من التعلم الفردي «غير الخاضع للإشراف» يكون بطيئًا للغاية.

ثَمة نوع آخر من التعلم المستوحى من علم الأحياء، لا سيما التعلم الاجتماعي لدى البشر، وهو النهج الثالث لتعلم الروبوتات الذي يُعرف باسم «برمجة الروبوتات بالمثال». في الفصل الثاني، شرحت كيف يمكن للمستخدم برمجة ذراع روبوت لينفذ سلسلة من الحركات المطلوبة باستخدام لوحة تحكم تسمح للإنسان بالتحكم في ذراع الروبوت وقيادته بالفعل «يدويًّا»؛ ومن ثَم «تعليم» الروبوت. ويمثل هذا شكلًا بسيطًا جدًّا من البرمجة بالمثال، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحول التركيز إلى التعلم عن طريق المحاكاة.

يُعَد التعلم عن طريق المحاكاة مناسبًا بشكل خاص للروبوتات التي تشبه البشر، وهو في جوهره على مراقبة الروبوت للإنسان في أثناء تأدية مهمة. بعد ذلك، يحاول الروبوت نسخ الحركات والأفعال ذاتها. وتُعَد برمجة هذا الشكل من التعلم بالمحاكاة أمرًا معقدًا، وتتطلب حلًّا لما يُسمى بمشكلة التطابق: حيث يتعين على الروبوت تحويل ما «يراه» بكاميراته إلى سلسلة مطابقة من الأفعال الحركية.

إن الأساليب الثلاثة التي أشرت إليها بالأعلى كلها طرق لتعلم روبوت فردي مهمة أو مهارة. أما في الطبيعة، فلا تتعلم معظم الحيوانات البسيطة فرديًّا، بل تولد بمجموعة من التصرفات اللاإرادية المحددة وراثيًّا. بالرغم من ذلك، فقد تكيَّفت هذه السلوكيات عبر الأجيال المتعاقبة، من خلال الانتخاب الطبيعي. ثَمة نوع رابع من التعلم في الروبوتات، مستوحًى من نظرية التطور لداروين، يطلق عليه أحيانًا اسم «التعلم التطوري»؛ لأنه يحدث عبر أجيال متعددة من الروبوتات. ويرد وصف هذا النهج في الفصل الخامس.

ليست الروبوتات الحيوية بأحد أوهام فرانكشتاين لتصميم «آلات حية». فعلى النقيض من ذلك، يُضفي التغيير الجذري الذي ذكرته في هذا الفصل إحساسًا أعمق بالتواضع والاحترام أمام التعقيد البديع ﻟ «التصاميم» المتطورة التي نراها في الطبيعة. فأفضل جهودنا لإنشاء نماذج اصطناعية لهذه التصاميم محدودة بشكل يُرثى له، وهي توضح الفجوة بين أكثر الروبوتات الذكية تعقيدًا وأبسط الحيوانات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤