أعمالهم كرماد اشتدت به الريح

قرأت في «الأهرام» حديثًا كان مع أحد كتابها للأستاذ الفاضل مدير الجامعة يصف ما تم في جامعته مدة عام ويؤرخها فيه، وقد رأينا الأستاذ ركب فنًّا غريبًا من الكلام لا يعمد إليه في طبيعة القول وأساليبه إلا من كان في نفسه أشياء تناقض ما في لسانه، أو كان قوله على أصل مخترع، وسنعرض لحديثه بعد قليل.

ولما استوفيت القراءة رجعت إلى نسختي القديمة من كتاب «كليلة ودمنة» لعلي أجد فيها بيان الحديث أو تأويل هذه الفلسفة، فأصبت ما أقص عليك من هذا المثل الغريب، قال دمنة: وأنت يا كليلة بعدُ لا أراك تخرج من نحيزتك ولا تدع زهوك وفلسفتك وما تبرح في لسانك دأبًا كلمتان: واحدة تنحدر، وأخرى تَهِمُّ أن تنحدر، وتحسب أن ما معك من هذه الخاصية ليس مع أحد مثله، كأن الله أفردك بها وما يفرد إلا نبيًّا وما يميز إلا رسولًا وما أنت بأحدهما؛ وإن رجاء الأمور لا يكون بزخرف الكلام ولكن بصحته، ولا تجزئ منه كثرة أساليب الباطل وإنما غناؤه في أسلوب واحد؛ إذ كانت الحقيقة الواحدة لا تتعدد؛ ولعمري لو نفعك شيء من ذلك لقد كان نفع الفيلسوفة الأمريكية. قال كليلة: وكيف كان ذلك؟

قال: زعموا أنه كان في أمريكا امرأة فيلسوفة أحكمت المنطق وجمعت العلوم ونظمت الشعر وألفت الكتب، وكانت صلعاء منقشرة الرأس، يعرفون ذلك منها ويتواصفونه، فكانت لا ترى امرأة جثلة الشعر واردة الفرع إلا قالت في نفسها: أما إني لا أعرف أحدًا من العلماء والفلاسفة وأهل الأدب يقطعني جداله وتعجزني مسألته، ولو قد جادلتني امرأة كهذه لأعجزتني بأول كلمة منها، فإنها أول بدأتها لا تتكلم إلا في الصلع، ويا ويلك إن لم ينطق في قبحك إلا لسان الحُسن! قال: ثم إن النساء يومئذ وقع نقص حديد في عقولهن فذهبت كل حسناء تُجَمِّمُ١ وتقص شعرها تشبهًا بالغلمان والفتيان، وعمهن ذلك، فقالت الصلعاء الفيلسوفة: لقد هان أكثر الصبر العسير وقارب فنٌّ فنًّا، وما الشَّعر الذي يسقط إلا أخو الشَّعر الذي لا ينبت.

قال دمنة: ثم إن الفيلسوفة أرادت أن تَسْبح وترى الأرض حتى تنتهي إلى مصر فترى آثار الفرعون تتْخمون، فلما جاوزت البحر ووقعت في الأرض المسلمة رأت الناس في حينما نزلت من مراكش إلى مصر يحلقون رءوسهم بالمواسي، فقالت: أما والله إن هذه لهي المدنية التي فتحت العالم ودوَّخت الممالك، وغير مستنكر ممن ينشئون على حلق رءوسهم بالموسي أن يحلقوا أعناق الأمم بالسيف، وإن هذا لهو الرأي، وإني لموفقة أحسن التوفيق، ولن أبرح الفرصة حتى أفعل وأفعل، إلى أن أحمل هذه المواسي على رءوس الأمريكيات، فلا يبقى من فرق بيني وبينهن إلا أنهن يحلقن مرة بعد مرة وحُلقت أنا بالموسي الإلهية التي ليس لها مر بعد!

قال كليلة: ويحك: يا دمنة! فماذا صنعت هذه اللكعاء؟

قال دمنة: سبحان الله! أقول لك: فيلسوفة، وتقول: لكعاء؟ ثم إنها تعجلت الرجوع إلى أرضها فعملت خطبة سمتها «من بلاد الموسي» ولم تدع فيها جهدًا من مثلها إلا بلغته، حتى أتت على آخر وسعها، فصنفتها أحسن تصنيف وعدلت أقسامها وأحكمت فصولها وابتدأتها بأن في الشرق مذهبًا فلسفيًّا جديدًا أبدعه مدير الجامعة المصرية، وهي مدرسة أفريقيا كلها، فما كان من عمل ولو إنشاء جامعة كبرى في زمننا هذا زمن الجامعات، فسنته الأولى تجربة، يذهب خطؤها في طلب صوابها فهو لا بد لاحق به، فهو من ثم معدود منه، فهو ليس بخطأ، ولو أن الدنيا خربت به لم يمنعه ذلك أن يسمى في الفلسفة الشرقية صواب تجربة.

ثم إنها حشدت الأمريكيات وخطبت فيهن خطبتها تلك وشرحت قضية الموسي، ولم تدع أن تزينها وتقرِّظها وتدعو إليها، وقالت آخر ما قالت: هب أنكن لا تعرفن عواقبها، فإن المذهب الفلسفي الشرقي يقضي «بسنة تجربة» فلا عليكن أن تَكْفُرْنَ بالمقص وتؤمنَّ بالموسي! واعلمن أصلحكن الله أن «سنة التجربة» ستكون الدين الجديد الذي يطبق الأرض، فسارِعْنَ إلى تجربة الحلق بالموسي ليأخذه عنا الأوربيات والسابقة لنا قبل أن نأخذه عنهن والسابقة لهن.

قال دمنة: فانتدبت لها امرأة من المجلس وضيئة حسناء، فلما وقفت بإزائها أمسكت المشط فمرت في شعرها تفيئه يمينًا وشمالًا وقالت لها: يا هَناهُ! لو كان على رأسك من هذا لما كان في لسانك هذا.

•••

وقرأنا حديث الأستاذ مدير الجامعة، والأستاذ أول كاتب مصري جرت في قلمه عبارة «سلطة الأمة» ولكنه في هذا الحديث سكت عن الأمة وشكواها واحتجاجها كأنه لم يوجد من هذا شيء، أو كأن الأستاذ يرى دين الأمة في الجامعة كقطن الأمة في البورصة، يبعد السعر ويقرب ويرتفع وينزل ولا عليه من ذلك، فإن كان اليسر فاليسر، وإن كان إفلاس فإفلاس، إنما عمله هو نشر السعر كما تجيء به المصادفات خرابًا وعمارًا!

قلنا: فلتكن الجامعة كافرة كفرًا صريحًا، ولتكن على هذا أديرت إن لم تكن لهذا أنشئت، فيبقى أمر هذه الغلطات التاريخية والأدبية التي وقع فيها أستاذها وأبان فيها عن حماقة تركت الجامعة سخرية في الألسنة؛ فما سكوت الأستاذ المدير عن هذا وللعلم حق يقضي عليه بإحدى قضيتين، فإما أن يسلم بالخطأ ويلتمس إصلاحه ويعمل في ذلك ويعلنه للأمة، وإما لا؛ فليدفع حجة بحجة وليردَّ كلامًا بكلام وليربأ بالجامعة أن تكون في موقف المعاند المكابر؛ فإن المعاند يحسب السكوت مما يغطي ويموه على الناس، ولا يعلم أنه متى قام الدليل من أحد خصمين لم يكن لسكوت الخصم الآخر إلا معنى واحد لا يختلف لا في القانون ولا في العرف ولا في الشرع، وهو الإقرار والإذعان وإن كان لم يقر ولم يذعن.

يقول الأستاذ المدير: الجامعة تبتدئ، ولا شبهة في أن السنة الأولى لإقامة معهد علمي كبير يراد به ترقية التعليم العالي من ناحية أخرى ونشر المعلومات التي تحبب العلم إلى الجماهير (كذا كذا) من ناحية ينبغي اعتبارها «سنة تجربة».

قلنا: ولكن يا سيدي المدير، ما نحن من أخلاط الأمم المبعثرة، ولا نحن في مجهل من مجاهل الدنيا، ولا نحن مبتدعين في إنشاء الجامعة فتضيع أموالنا وأعمار أبنائنا في سنة تجربة؛ أو لو قام تاجر مقصِّر ينشئ مصرفًا ويعامل فيه الناس ثم خسر وانكسرت عليه أموالهم يكون عذره عندك وعند المحاكم أنها سنة تجربة؟

ويقول الأستاذ: «لا أحد يشك في أن البرلمان المصري بعد أن استقبل في العام الماضي نبأ تأليف الجامعة بالتصفيق لا يتردد هذا العام (بهذا الجزم) في أن يقر قانون الجامعة ويحرص على إثبات شخصيتها المعنوية من غير أن ينقص (من غير أن ينقص!) من مشخصاتها شيئًا — ولو بعض الشيء — بل ربما زاد (الله الله!) على قوة هذه الشخصية المعنوية ووسع في دائرة مظاهرها.» انتهى.

ونحن نظن أن الحديث كله لم يوضع إلا ليستجرَّ هذه العبارة وحدها، فهي والله ثقيلة على كل نفس، بل هي كالإملاء على البرلمان يفرضها عليه المدير فرضًا، فلا أحد يشك حتى ولا يُهَمْهِمُ في نفسه؛ لا أحد عليه لا أحد، و«لا» لنفي الجنس، ولكن أين مذهب ديكارت يا سعادة المدير؟ أتشكون في الدين والعلم وتعلمون الشك وتحامون عنه وتحملون فيه سخط الأمة كلها، حتى إذا انتهى أمركم إلى نواب الأمة قلتم: «لا أحد يشك»! أفلا تعلم يا سيدي المدير أنك حقرت هذه الأمة، وأنك بعملك أنزلت الجامعة من الأمة منزلة عدو من عدوه!

فكيف تريد البرلمان على أن يكون الخاضع وهو الحاكم، وكيف تريد أن ينسى الأمة ليذكر الجامعة، وكيف تتقدم له «بسنة تجربة» ثم تقول إقرار القانون وإثبات الشخصية وتقويتها وتوسيع دائرة مظاهرها؟

ونريد نحن أن نفهم كيف يكون التوسيع في دائرة مظاهر دروس الأدب؟ أيأمر البرلمان بحرق المصاحف توسيعًا لمظهر الدائرة التي تدور على أن القرآن كتاب موضوع دخلته الخرافات العربية كما تعلِّمون في الجامعة؟

حدثني عنك يا سيدي المدير، ألا تعلم وأنت مدير الجامعة أن طه حسين أعلمَ الطلبةَ بعد أن احتج العلماء وثار الرأي العام وكادت تقع الفتنة: دروس الأدب في السنة الآتية ستكون في «مناقشة القرآن من الوجهة الأدبية» أَمِثل طه يناقش القرآن في مثل هذه الجامعة الممقوتة التي تتقدم إلى البرلمان في سلاسلها وأغلالها من غضب الله والأمة وصالح المؤمنين ثم تفرض عليه إثبات الشخصية وتوسيع دائرة المظاهر؟!

وحدثني عنك يا سيدي المدير، ألم تكن تعرف المسيو كازانوفا الذي جئتم به للجامعة وما علمتم أن الله سيبطله؛٢ لأنه تعالى أرحم من أن يجمع على أبناء هذه الأمة المسكينة كازانوفا وتلميذه طه حسين في مدرسة واحدة، ألم تكن تعلم أنه صاحب كتاب «محمد وانتهاء العالم» الذي يقرر فيه أن النبي لم يستخلف أحدًا بعده؛ إذ كان لا يعتقد أنه سيموت، بل يرى أن الساعة قائمة في عهده، فلما مات كان موته تكذيبًا صريحًا لأصل عقيدته، فاضطر أبو بكر الصديق أن يكذب ويزيد في القرآن آيتين؛ إحداهما: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، والأخرى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ويقول بعد ذلك: هذه كذبة حلال نحن مدينون لها بقرآن أبي بكر.

غطِّ يا سيدي على الناحية الحية من الجامعة فقد غطى القبر على الناحية الميتة منها، ولقد أكثرتم الرماد فإذا أثارته الريح فلا تلوموها ولوموا أنفسكم!

•••

ولنأخذ الآن في كتاب طه؛ فقد وقعت فيه جَهْلة لم نرَ مثلها لأحد إلا بعض المستشرقين وهي تأويل سيرة امرئ القيس وإثبات الشيخ بالبحث الفني، أن هذه القصة مكذوبة؛ ولقد رأينا في تاريخ الأدب قصة أخرى أراد العلامة ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن يقول: إنها موضوعة. وبحث في ذلك بوسائلَ فنيةٍ، فنريد أن نعرض عليك البحثين لتقابل بين هذا وذاك ولتعلم الجامعة في أي منزلة من السخف تنزل دروسها.

قالوا: إنه لما نشأت فتنة الخلافة أبَى عليٌّ أن يبايع لأبي بكر، فبعث الصديق لأبي عبيدة وأنفذه إلى عليٍّ برسالة يؤديها وحمَّله عمرُ كلامًا آخر، فأدى ذلك إلى علي، فرد عليه السلام بكلام يعتذر فيه، ثم غدا فبايع؛ وتركه أبو بكر مع عمر فتناقلا كلامًا بليغًا، والقصة طويلة يترادُّ فيها هؤلاء الثلاثة: أبو بكر وعمر وعلي، كلامًا من النمط العالي، فرواه ابن أبي الحديد ثم قال: «قلت: الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات والمحاورات وهذا الكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي؛ لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلام عمر ورسائله وكلام أبي بكر وخطبه، فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفي؛ وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدَثين؟

ومن تأمل كلام أبي حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك المعدن خرج ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروزي، وهذه عادته في كتاب البصائر: يسند إلى أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارهًا لأن ينسب إليه.»

ومما يوضح لك أنه مصنوع، أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكل من صنف في علم الكلام والإمامية، لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية، ولقد كان الرضيُّ — رحمه الله — يلتقط من كلام أمير المؤمنين — رضي الله عنه — اللفظة الشاذة والكلمة المفردة الصادرة عنه في معرض التألم والظلم فيحتج بها ويعقد عليها، نحو قوله … وقوله … وقوله …٣ وكان الرضيُّ إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان الرضيُّ عن هذا الحديث، وهلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامية كلام أمير المؤمنين — رضي الله عنه — هذا، وكذلك من جاء من الإمامية، كابن النعمان وبني نوبخت وبني بُوَيْه وغيرهم وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا — وسط القرن السابع — وهلا ذكره قاضي القضاة في المغني مع احتوائه على ما جرى بينهم حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير في أخبار السقيفة؛ وهلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا؟ وكذلك القول في متكلمي الأشعرية وأصحاب الحديث، كابن الباقلاني وغيره، وكان ابن الباقلاني شديدًا على الشيعة عظيم العصبية على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر وعمر في هذا الحديث لملأ الكتب والتصانيف بها وجعلها هِجِّيراهُ ودأبه.

«والأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أدنى معرفة بعلم السير وأقل أُنْس بالتواريخ.» انتهى.

فتأمل كيف يكون بحث المطلع المستوعب للمادة التي يتكلم فيها حتى لا يفوته كتاب من الكتب ولا كلام عالم من العلماء، حتى لا يحكم إلا بعلم ولا يحكي إلا عن مقنع، ثم قابل هذا ببحث أستاذ الجامعة وركاكته، قال في صفحة ١٣٤:

وهنا يَحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تَشِعْ بين الناس إلا في عصر متأخر، وفي عصر الرواة المدونين والقصاصين، فأكبر الظن أنها نشأت في هذا العصر ولم تورث من العصر الجاهلي؛ وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو ذلك المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية إلى أواخر القرن الأول للهجرة.

فنحن نعلم أن وفدًا من كندة وفد على النبي وعلى رأسه الأشعث بن قيس، وأن الأشعث — بعد الردة — تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوج أخته أم فروة، وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس، وتولى عملًا لعثمان، وظاهر عليًّا على معاوية، وأكره عليًّا على قبول التحكيم في صفين.

ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيدًا من سادات الكوفة، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حُجر بن عدي الكندي؛ ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدي هذا وقتل معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرًا قويًّا عميقًا مَثَّل هذا الرجل في صورة الشهيد؛ ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد قد ثار بالحَجاج وخلع عبد الملك، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ثم أعاد الكرَّة فتنقل في مدن فارس، ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج، ثم قتل نفسه في طريقه إلى العراق، أتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية لا تصطنع القصص ولا تؤجر القصاص؛ لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟ بلى، ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبد الرحمن بن الأشعث اتخذ القُصاص وأجَرَهم، وكان له قاصٌّ يقال له عمرو بن زر، وقصة امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة الرحمن بن الأشعث، فهي تمثل لنا امرأ القيس مطالبًا بثأر أبيه، وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقمًا لحجر بن عدي، وهي تمثل لنا امرأ القيس طامعًا في الملك، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بني أمية استئهالًا للملك الذي كان يطالب به، وهي تمثل لنا امرأ القيس متنقلًا في العرب، وكان عبد الرحمن متنقلًا في مدن فارس والعراق، وهي تمثل امرأ القيس لاجئًا إلى قيصر مستعينًا به، وقد كان عبد الرحمن لاجئًا إلى ملك الترك مستعينًا به، وهي تمثل لنا خبر امرئ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديٌّ في القصر، وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج، وهى تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائدًا من بلاد الروم وقد مات عبد الرحمن عائدًا من بلاد الترك.

قال الشيخ العلامة الطاهوي الحسيني:
أليس من اليسير أن نفرض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس التي قد تحدث بها الرواة ليست إلا لونًا من التمثيل لحياة عبد الرحمن استحدثه القصاص؛ إرضاءً لهوى الشعوب اليمنية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضِّلِّيل؛٤ اتقاءً لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالًا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضِّلِّيل من جهة أخرى؟

انتهى كلامه بنصه.

وكل ما مر بك من تاريخ فهو من تاريخ الطبري، ليس فيه لطه إلا التحريف أو التخريف؛ فأين تقف من مثل ذلك على بحث أو اطلاع، وقد جهل الشيخ أن التاريخ كله حوادث متشابهة؟ إذ تنشأ في الأصل من طباع متقاربة محدودة في آثارها فتتشابه به هذه الحوادث كما يتشابه الناس.

وسنقفك على ما في كلام الشيخ من الكذب والخلط، فالأشعث بن قيس لم يكره عليًّا على قبول التحكيم، وإن كان قد تكلم في ذلك، إنما أكرهه القراء الذين كانوا معه حين انخدعوا برفع المصاحف من جيش معاوية.

وزياد بن أبي سفيان لم يعتمد على محمد بن الأشعث في أخذ حجر بن عدي، بل قال لمحمد: والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ولا دارًا إلا هدمتها، ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربًا إربًا.٥ ثم أمهله ثلاثًا وأرسله إلى السجن، فخرج محمد منتقع اللون يُتَلُّ تلًّا عنيفًا؛٦ أفمثل هذا يقال فيه: «عليه وحده اعتمد زياد» أم هي سنة العرب في أخذ سيد بسيد والاستفادة من رجل برجل، واستفزاز الحمية والإباء في نفس من يفوتهم هربًا؛ لكيلا يظلم فيه غيره فإذا عرف من أخذ به أسلم نفسه؟

والمضحك أن الشيخ يقول: إن زيادًا اعتمد على محمد بن الأشعث في أخذ حجر بن عدي، ثم يقول بعد ذلك: «هل ثار عبد الرحمن بن محمد عند من يفقهون التاريخ إلا منتقمًا لحجر؟» أفليس الأقرب أن ينتقم لإهانة أبيه؟

ثم يقول: إن قتل حجر مثله في صورة الشهيد؛ فمن هو الشهيد إذن إن لم يكن مثل حجر؟ ولكن الشيخ فهم ذلك من قول الطبري: إن حجرًا قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديدًا ولا تغسلوا عني دمًا فإني ألاقي معاوية غدًا على الجادة! ثم قُدِّمَ فضرب عنقه، قال هشام: كان محمد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد يغسل؟ حدثهم حديث حجر، أفأنت ترى أنهم يسألون ابن سيرين هل يغسل الشهيد كما يغسل الميت، فيحدثهم حديث حجر يعني أنه لا يغسل بل يدفن بثيابه؛ ولكن الشيخ فهم أن السؤال وجوابه تصوير لحجر عند المسلمين في صورة الشهيد.

ثم يقول: إن أسرة هذا شأنها تتخذ القُصاص لينشروا لها الدعوة. فإن كان هذا فكيف أمِن الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فأرسله قائدًا على أربعين ألفًا لمحاربة الترك؟ وكيف يمكن أن يقع هذا من مثل الحجاج إذا كان قُصاص هذه الأسرة ينشرون لها الدعوة؟ ألا يدل صنيع ذلك الطاغية الحجاج على أن أولئك القصاص لم يكونوا قد خُلقوا بعد؛ إذ لم يخلقوا إلا في سنتنا هذه في رأس شيخنا هذا؟

قال العلامة الطاهوي: «ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبد الرحمن اتخذ القصاص، وكان له قاص اسمه عمرو بن زر.»

فسلوه من أين جاء بهذا؟ ومن الذي حدثه به من الرواة؟ إنه رأى في الطبري هذه العبارة، قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن زر القاص: أن أباه كان معه هنالك «في بلاد الترك» وأن ابن محمد، كان ضربه وحبسه؛ لانقطاعه إلى أخيه القاسم، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف — أي الانتقاض على الحجاج وخلع عبد الملك — دعاه وكساه وأعطاه، فأقبل فيمن أقبل؛ وكان قاصًّا خطيبًا» ا.ﻫ.

فالعبارة صريحة في أن عمرًا هذا كان قاصًّا، وأن أباه كان قاصًّا خطيبًا وأنهما كانا في بلاد الترك يقاتلان كما يقاتل قراء المصرين: البصرة، والكوفة؛ لأن هذا هو الجهاد في سبيل الله، حتى إن أقوى كتائب عبد الرحمن كانت كتيبة كل جندها من القراء، وأن عبد الرحمن كان ضرب زرًّا وحبسه؛ لانقطاعه إلى أخيه القاسم، فلما احتاج إلى المقاتلة دعاه فحمله، يعني فأركبه، وجعله من فرسانه لا من قصاصه، فمن أين يؤخذ أن عمرو بن زر أو زرًّا أبا عمرو كان قاصًّا لابن الأشعث اتخذه وأجره؛ ليصنع له ولأسرته الأخبار كقصة امرئ القيس، وبخاصة إذا علمنا أن الأب منهما ضُرب وحبس.

وليس ينتهي عجبنا من الخلط في التمثيل والمقابلة بين سيرة ابن الأشعث وسيرة امرئ القيس، فابن الأشعث ليس بشاعر، ولا ابن ملك، ولا قُتل أبوه فخرج يطلب الثأر كامرئ القيس؛ وابن الأشعث لم يكن في سيرته صعلوكًا، ولا متعهِّرًا، ولا متفحشًا كصاحبه؛ فإذا قابله القصاص برجل فلن يكون هذا الرجل امرأ القيس في تبطله وانقطاعه لصعاليك العرب وذؤبانها وفي الخمر والنساء والفحش ونحوها.

وابن الأشعث إن كان قد طلب الملك، فما طلب امرؤ القيس إلا ثأر أبيه، ولهذا قال: حمَّلَني دمه. ولم يقل: حمَّلَني مُلكه.

وابن الأشعث لم يلجأ إلى ملك الترك مستعينًا، بل منهزمًا؛ لأنه كان صالحه على أن يكف عنه ثم يفرغ للحجاج، فإن ظهر أعفى ملك الترك من الخراج ما بقي، وإن انهزم فأراده وجب على الملك أن يلجئه عنده، وقد وفى الملك بذمته وعهده.

وابن الأشعث لم يكِدْ له رسل الحجاج عند ملك الترك، وإنما هددوه ليسلمه فأسلمه صاغرًا، واشترط على الحجاج شروطًا قبلها منه، وفي بعض الروايات أن ابن الأشعث مات بالسل وجاء الملك فاحتز رأسه وأرسله إلى الحجاج.

وابن الأشعث لم يتنقل في مدن فارس والعراق مستنصرًا مستجيشًا كما فعل امرؤ القيس في قبائل العرب، بل كان محاربًا يرحل بالجيش وينزل بالجيش، وامرؤ القيس كان سبب هلاكه أنه فتن بنت قيصر بجماله وغزله أو على الأصح بمنظره العصبي، أما عبد الرحمن فكان سبب هلاكه أحد اثنين: إما السل، وإما رغبة ملك الترك أن يتخذ له يدًا عند الحجاج.

وإذا صحت رواية الموت بالسل — وبرهانها قوي — فلم يمت الرجل في طريقه إلى بلاده ولم يقتل نفسه، وإذا صح أنه مات في طريقه فقد قالوا: إنه وثب من فوق قصر، وأين هذا من ميتة امرئ القيس في حلة مسمومة نثرت لحمه نثرًا؟

وإذا أراد قصاص بني الأشعث أن يكذبوا فيزيدوا قصة امرئ القيس في مفاخرة كندة، فليس من الفخر أنهم جعلوه شاعرًا طرده أبوه، ثم يوصف بالتصعلك والعهر والفحش، ثم يجعلونه عاجزًا ضائعًا في القبائل لا يأخذ بثأر أبيه، ثم يلجئونه إلى قيصر فيكون هناك فاحشًا ويقتل بفحشه وليس في السب عندهم أشنع من هذا ونحوه، وهو كما ترى أعجز العجز، لا يوافق أهواء شعب عربي ولا عاداته.

وكيف يخاف القصاص عمال بني أمية فيضطرهم هذا الخوف أن يكنوا عن ابن الأشعث بامرئ القيس، وان يلفقوا هذا التلفيق البعيد ويضعوا له هذه القصة المخزية، وهم يرون المؤرخين وأصحاب الأخبار يذكرون خبر ابن الأشعث ويدونون حروبه ويقصونها ويسندونها بالأسانيد، وهل كانت دولة بني أمية من الضعف بالمنزلة التي تخاف فيها ابن الأشعث ميتًا وهي التي كسرته حيًّا ثائرًا في مائة ألف مقاتل؟ ولو قد خاف القصاص عمال بني أمية لخافوهم في الحسين بن علي، أو في عبد الله بن الزبير، وكانا يطلبان الخلافة بحقها، ولو قد خافوهم لخافهم الشعبي وهو قاص محدث، وكان يقاتل مع ابن الأشعث، ثم لقي الحجاج من بعد، ثم دخل على عبد الملك، قال: فذهبت لأصنع معاذيرَ؛ لما كان من خلافي مع ابن الأشعث على الحجاج، فقال الملك: مه! لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى تفارقنا.

أينما يذهب طه حسين في تأويله فهو لا يرى إلا ما يهدم عليه رأيه، ولكن أنى لمثله أن ينكر الهدم وفي رأسه مثل هذا الفهم الخراب!

١  التجميم: هي الكلمة العربية لما شاع في نساء العالم هذه الأيام مما يسمينه مُودَة قص الشعر A la garconne وكان ذلك معروفًا عند العرب جاهلية وإسلامًا، ويقال: جارية مجمومة إذا كانت مقصوصة الشعر، وجممت المرأة وهي مجمة، إذا اتخذت لشعرها هذا الزي.
٢  هلك هذا المستشرق في مصر، وكانت نادبته الأستاذ طه حسين!
٣  الاختصار منا.
٤  لقب لامرئ القيس، أول من لقبه به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومعناه: الكثير الضلال؛ لما يعلن به في شعره من الفسق.
٥  أي عضوًا عضوًا.
٦  يسحب من عنقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤