مصر والإسلام

غزت جيوش الخلافة مصر سنة ٦٤٠ بعد الميلاد، وقطعت العلاقة التي كانت تربطها بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، وبذا أصبحت مصر جزءًا من دار الإسلام، إلَّا أنَّ العملية التي أصبح بها المصريون مسلمين يتكلمون العربية نمت بالتدريج؛ إذ جاء انتشار الإسلام عن طريق اعتناق سكان البلاد المسيحيين الإسلام تدريجيًّا، كما جاء نتيجة لاستيطان الوافدين من بلاد العرب، وقد تمشى انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام جنبًا إلى جنب، إلَّا أنَّ انتشار اللغة كان أشمل وأتم من انتشار الديانة، فهي لغة الأهلين كافة — المسلمين منهم والمسيحيين — على السواء.

ونستطيع أنْ نقسم تاريخ مصر الإسلامي على وجه العموم إلى فترتين مختلفتين كل الاختلاف في الطول، فالأولى تستغرق من منتصف القرن السابع حتى نهاية القرن الثامن عشر، بينما تشمل الثانية السنوات المائة والخمسين الأخيرة. وقد شهدت الفترة الأولى تكون ثقافة إسلامية، بلغت قدرًا كبيرًا من الاستقرار والتماسك، سواء في أيام ازدهارها أو في عصر انحطاطها، وسواء نظرنا إليها من وجهة بنائها الداخلي، أو من وجهة علاقاتها الخارجية. أما الفترة الثانية فقد شهدت إخضاع تلك الثقافة لدوافع وحركات من الشد والجذب، كانت ذات تأثير بليغ في كيانها، ولما كانت اتصالاتها بالحضارة الغربية هي المسئولة عن حدوث عوامل التغير؛ فإني سأتناول الفترة الثانية من تاريخ مصر الإسلامية في حديثي التالي — عن مصر والغرب — خاتمة هذه الأحاديث.

أما هذا الحديث فيتناول نشأة الثقافة الإسلامية، وبلوغها كمال نموها، وعلى أنْ أبدأ ببناة تلك الثقافة، فإن وفود العرب على البلاد كان إيذانًا ببزوغ فجر عملية جديدة من عمليات بناء الأمة المصرية، فاجتذب الريف المصري رجال الصحراء إليه، وما زال حتى الآن يجتذبهم، وارتباط مصر بدار الإسلام فتح أبوابها — وبخاصة أبواب مدنها — للمستوطنين من البلدان الإسلامية الأخرى، وبخاصة من بلاد المغرب ومن فلسطين وسوريا، وقيام دول من المماليك، واعتماد تلك الدول على جيوش مؤلفة من أبناء الرق، أديا إلى قدوم جموع من الجواري والعبيد من مختلف العناصر والأجناس، من أتراك وشراكسة وصقالبة ومن إليهم، أضف إليهم مستوطنين من شتى السلالات الأفريقية، والآن نتساءل إلى أي مدى تمثلت الأمة تلك العناصر؟ إذا اتجه النظر إلى أهل الريف فإننا نجدهم — قديمهم وجديدهم — يستوون في الانتماء إلى طائفةٍ من الفلاحين، بيد أنَّ بين الفلاحين فروقًا لا تخفى، ففلاحو الدلتا مختلفون عن فلاحي الصعيد، بل الاختلاف ظاهر من مديرية إلى أخرى.

أمَّا في المدن فكان القادمون الجدد أميل إلى الارتباط ممن سبقهم من أبناء بلادهم، يزاولون ما يزاول هؤلاء من حرفٍ أو أعمال، ومن وفد منهم إلى مصر للتعلم، فإنه يلحق بمعاهد الأزهر «أروقته» المخصصة لبني قومه أو لأهل مذهبه، ومن جاء للتجارة، فإنه يستقر في السوق المخصصة لسلعه ومتجره، أو سوق «الأمة» التي ينتمي إليها، ومع ذلك فلم تكن هناك حواجز تحول دون الاختلاط، فاختلط المسلمون الوافدون بالمسلمين من أهل البلاد، كما اختلط المسيحيون الذين جاءوا من الشام بالأقباط وغيرهم.

أما الطائفة التي بقيت بمعزلٍ عن الأهلين، فقد كانت طائفة التجار الوافدين من أوروبا، وقد ظلت طائفة قليلة العدد نسبيًّا حتى نهاية القرن الثامن عشر، وكان مجال نشاطها قاصرًا على تجارة الجملة، ولذا لم تتصل إلَّا بقليلٍ من أهل البلاد، أغلبهم من الرعايا اليهود والمسيحيين، ولم يكن للأوروبيين حتى نهاية القرن الثامن عشر أية رسالة ثقافية، كما أنهم لم يتلقوا شيئًا ما عن الأهلين، إلى جانب ذلك نشطت التجارة مع بقية العالم الإسلامي، ومع تلك البلدان فيما وراء البحار، في قارتي أفريقية وآسية التي وصل إليها نشاط التجار العرب وسفنهم، وهذا الاتصال المستمر المستديم بالعالم الخارجي، هو الذي يميز تاريخ مصر الإسلامية عن تاريخ مصر المسيحية، ومما يفسر هذا الفرق بين التاريخين أنَّ مسيحيي مصر — فيما عدا فئة قليلة من العلماء — لم تجمعهم بالعالم المسيحي في الشرق والغرب لغةٌ مشتركة كاللاتينية والسريانية، وكانت لغتهم القبطية وقفًا عليهم وحدهم، بينما كان لدى مسلمي مصر ولسانهم — العربية — وسيلة المشاركة في حركة الثقافة الإسلامية.

ولكن هل تعني تلك المشاركة أنْ ليس لثقافة مصر الإسلامية ذاتية خاصة بها مميزة لها، وللإجابة على هذا السؤال نقول: إنه كان لمصر — شأنها في ذلك شأن الأقاليم الكبرى لدار الإسلام — ذاتيتها. ولكن، يجب أنْ نتذكر دائمًا أنَّ احتفاظ مصر بذاتيتها، لم يكن من شأنه النزوع نحو العزلة أو الانطواء على النفس، بل كان يتجه نحو الملاءمة بين العناصر الثقافية المستوردة وبين بيئةٍ خاصة، وهنا نقرر ما كان للعناصر المسيحية المصرية في البلاد من الأثر الكبير في إجراء تلك الملاءمة، سواء منهم في ذلك من احتفظ بمسيحيته أو تحول إلى الإسلام، فقد علموا الوافدين على البلاد كيف يعيشون تلك العيشة التي تلائم خير الملاءمة ظروف مصر، من حيث أساليب الزراعة وطرائقها، ونظام حيازة الأراضي ومسحها وريها، وما يستتبع هذا كله من نظم إدارية، وكذلك الصناعات القائمة على استخدام المواد الأولية التي بين أيديهم على أحسن ما يتفق وأحوال البلاد الطبيعية، هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضي أذواق الأهلين المتوارثة.

أما عن مساهمة الأقباط في الجانب العقلي من الثقافة الإسلامية، فأمرٌ ليس من اليسير الكلام فيه، وإني لأرى أنَّ من الأسلم لنا أنْ ندمج العنصر المسيحي المصري الخاص في مجموع ما ساهم به الفكر الهيليني، والفكر السرياني المسيحي في بناء صرح الثقافة الإسلامية عامة، ولا أستثني من هذا القول إلَّا شيئين؛ أولهما: أنَّ ثمة ظروفًا مصرية محلية أثرت في اتجاهات معينة للفقه الإسلامي، وثانيهما: هو أثر مساهمة الأدب الشعبي المصري القديم في الأدب الشعبي العربي.

ونتناول بعد ذلك باختصار موضوع «الذاتية» المصرية في حركة التاريخ الإسلامي، ونظرًا إلى أنَّ هذا الوجه من أوجه الثقافة هو أكثر استجابة لأثر البيئة الجغرافية؛ فإننا نلاحظ أنَّ تطور مصر الإسلامية يجري على نسقٍ خاص بها، بيد أنَّ هذا الاتجاه كان في الوقت نفسه سريع التأثر بمبادئ الإسلام الأساسية، وبالحركات الإسلامية عامة، كما حدث أحيانًا أنَّ مصر لم تعد أنْ تكون مجرد أساس اتخذه من اتخذه للعمل على تحقيق غايات تخص مصر وغير مصر.

هذا وبينما أقرر صحة هذه التحفظات، فإنه من الواضح الجلي أنَّ تاريخ مصر سار وتطور وفقًا لخطوط تختلف اختلافًا بيِّنًا عما سار عليه تاريخ العراق، أو تاريخ المغرب، ولم يكن شأن مصر ولاية ممتازة من ولايات الخلافة الإسلامية، أو الدولة العثمانية، شأن الولايات الأخرى، وكذلك لم يكن شأن مصر مقرًّا لخلافة شيعية، أو دولة من دول المماليك شأن الممالك الإسلامية الأخرى.

والآن يجدر بنا أنْ نتساءل: ترى كيف يمكن أنْ تقارن الثقافة الإسلامية التي نمت وترعرعت في بلادنا، بثقافة البلدان الإسلامية الأخرى؟ إنَّ الرد على ذلك يمكن أنْ يلخص في العبارات الآتية:

إنَّ ثقافتنا الإسلامية بلغت مستوًى وسطًا، فلم ترق إلى ما سمت إليه في ديارٍ أخرى، كما لم تهبط إلى ما هبطت إليه في ديارٍ أخرى. وإنَّ أصالة ثقافتنا الإسلامية لترجع إلى تماسكها الشامل، وارتباطها المحكم أكثر من رجوعها إلى أي وجهٍ خاص من أوجه الحياة الثقافية، فهي — مثلًا — لم تنتج من الشعر الرفيع ما أنتج العراق، كما أنَّ التفكير الفلسفي لم يزدهر عندنا بقدر ما ازدهر في الأقطار الشرقية من العالم الإسلامي. حقًّا إننا أسهمنا بقدرٍ ذي شأن في نمو علوم اللغة والدين، ولكننا لم نخرج إلى الوجود ذلك النوع من الآراء الذي تقوم عليه المدارس والمذاهب، وقد ينطبق هذا القول على فن العمارة، فإنتاجنا جيد إلَّا أنَّ الأسس تصلنا من الخارج. أما الوجه الثاني المميز لثقافتنا الإسلامية، فهو بقاؤها على الزمن، واستدامتها أطول مما دامت في البلدان الإسلامية الأخرى، أضف إلى ذلك أنها لم تتلق ضربات قاصمة، أو تصب بنكباتٍ كالتي حلت بإخوان لنا في الدين، فمن ذلك أنَّ مصر لم يصبها شيءٌ يمكن أنْ يقارن بما حل بالمغرب على أيدي القبائل البدوية، أو بما لقيه الإسلام في إسبانيا من إبادة وإفناء، أو بما حل بالشام والعراق وما يجاوره من تدمير وخراب على أيدي المغول.

ولم يبدأ صرح حياتنا الثقافية في الاهتزاز والتخلخل إلَّا عندما دق الغرب على بابنا في نهاية القرن الثامن عشر، بحملة جيش من الغزاة الفرنسيين، وسوف أتناول شرح ذلك في حديثي التالي عن «مصر والغرب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤