الفصل الأول

مَن هو ويليام شكسبير؟

في عام ١٨٤١ تُوفِّي أحد كهنة كاتدرائية كولونيا، الكونت فرانسيس فون كيسيلستات. ووَعدَتْ وفاتُه بتقديم إجابةٍ حاسمة على السؤال الذي يدور حوله موضوع هذا الكتاب، وهو: مَن هو ويليام شكسبير؟ كان هذا لأنه من بين مُقتنياتِ هذا الكونت المُتفرقة أحد أقنعة الموتى الذي كان مكتوبًا عليه: «أَثَرٌ خاصٌّ بشكسبير»،1 وكُتب عليه من الخلف «١٦١٦ ميلاديًّا»، وهو عامُ وفاةِ شكسبير (انظر شكل ١-١). ثَمَّةَ اعتقادٌ بأن هذا الأَثَر اشتراه في إنجلترا أحد أجداد هذا الكونت، والذي كان مُصاحِبًا لبعثةٍ دبلوماسية إلى بلاط جيمس الأول، وجرى استرداده في عام ١٨٤٩ من مَحلٍّ للسلع المُستعمَلة في مدينة دارمشتات، وأُحضر من ألمانيا إلى المُتحَف البريطاني على يد رجلٍ يُدعى دكتور لودفيج بيكر، على أنه ليس إلَّا قِناعَ الموت الذي يخصُّ شاعر إنجلترا الوطني.2 ومع الأسف، «لا» يُعبِّر قِناع الموت هذا عن صورة شكسبير، لكن الاعتقاد بأنه كذلك أصدقُ تعبيرٍ على الرغبة المُلِحَّة في التعرُّف على هُوية شكسبير.
ربما يُعبِّر قِناع الموت هذا عن الشكل «المُفترَض» أن يبدو عليه شكسبير، على عكس الشكل المُثبت على الجدار الشمالي للمذبح في كنيسة الثالوث المُقدَّس في ستراتفورد (أبون) أفون الذي وُضع في عام ١٦٢٢، ويحمل في يديه ريشةً وورقة (انظر شكل ١-٢). وبعيدًا عن الصورة التي حفَرها مارتن دروشاوت على «المطوية الأولى» (وهي الطبعة التي تضمُّ بين دفَّتَيها مسرحيات شكسبير المُجمَّعة في عام ١٦٢٣)، يُعتبَر هذا الشكل غير الجذَّاب الصورةَ الصحيحة الوحيدة الموثوق فيها لشكسبير المتروكة للأجيال القادمة. من المؤسِف للغاية، إذن، أنَّ الشكل في التِّمثال التَّذكاري الجنائزي في كنيسة الثالوث المُقدَّس، كما وصفَهُ الناقد دوفر ويلسون ذات مرة، يبدو «مثل جزارِ لحمِ خنزيرٍ مُعتزٍّ بنفسه.»3 نما الاستياء من هذا التِّمثال النصفي بالتناسُب مباشرةً مع زيادة شُهرة شكسبير بعد وفاته، والتي نمَت بقوةٍ طَوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبحلول القرن التاسع عشر، زاد الإعجاب بقِناع الموت الخاص بكيسيلستات بسبب الشعور بعدَم ملاءمة تمثال كنيسة الثالوث المُقدَّس التَّذكاري. وعندما قدَّم إيه إتش وول، الذي قضى سنواتٍ عِدَّة في العمل كفنانٍ مُحترف في رسم الوجوه، لجمعية شكسبير في ملبورن في عام ١٨٩٠ ورقةً بحثية بعنوان: «وجه شكسبير: حوارٌ ذاتي عن صور الوجوه العديدة لشكسبير مقارنةً بقناع الموت …» وصف التِّمثال التَّذكاري بأنه عملٌ «فاشل» و«أخرق»، و«غير بارع، وغير فني، وغير طبيعي».4
fig1
شكل ١-١: قِناع الموت الخاص بكيسيلستات. هذه الصورة أُعيدت طباعتها بإذنٍ من جامعة دارمشتات ومكتبتها العامة.
fig2
شكل ١-٢: تِمثال شكسبير النصفي التَّذكاري في كنيسة الثالوث المُقدَّس، ستراتفورد-أبون-أفون. حقوق الطبع محفوظة لجون تشال، «إنسبيرد إيمدجيز ٢٠١٠».
وأيًّا كانت أوجه النقص المزعومة، فلا بُدَّ أنَّ التِّمثال التَّذكاري في ستراتفورد (والذي هو باعتراف الجميع ليس عملًا فنيًّا رائعًا) يُقدِّم على الأقل الحدَّ الأدنى من التشابُه المقبول مع شكسبير؛ لأنَّ زوجته آن وبنتَيه؛ جوديث وسوزانا، وأخته؛ جوان، بالإضافة إلى أقاربه الآخرِين وأصدقائه وسُكَّان ستراتفورد، الذين عَرفوا الشاعر جيدًا، كانوا يَرَونه في كلِّ مرة يذهبون فيها إلى الكنيسة. إلَّا أنَّ الاستياء الذي يُعبِّر عنه وول يمتدُّ إلى أبعدَ من الجَدارة الفنية إلى إعادة البناء الأيديولوجية لوجهِ شكسبير على يَدِ أنصار الحركة الرومانسية، في صورة ملامحَ شِعرية هادئة لوجهٍ عريض الجبهة ومُرتفِع الحاجِبَين، يكون التشابُه فيه على الأرجح قليلًا أو يكاد يكون مُنعدِمًا مع وجه شكسبير الحقيقي — الذي يُشبِهُه التِّمثال التَّذكاري دون شكٍّ على نحوٍ مُرضٍ، وإن غابت عنه البراعة الفنية. وفي المقابل، يبدو التِّمثال الرُّخامي الذي صَنَعه إدوارد أونسلو فورد في كلية أكسفورد الجامعية للشاعر الشاب الوسيم بيرسي بيش شيلي، الذي مات غَرقًا في عام ١٨٢٢، تمامًا مثل الشاعر المُتوفَّى (انظر شكل ١-٣). لا عجب، إذن، أنه عند اكتشاف قِناع الموت لكيسيلستات، تحمَّس كثيرٌ من الفنانين والخبراء لإعلان التَّشابُه بينه وبين شكل شكسبير الحقيقي؛ فبعد «اكتشاف» قِناع الموت، عبَّر رونالد جاور عن رأيه قائلًا: «عند الحُكم بالعاطفة، أنا مُقتنع بأن هذا ليس إلَّا وجه شكسبير؛ فلا أحد غير هذا العظيم الخالد يبدو كذلك عند الموت، ويحمل هكذا بجلالٍ على جبهته العريضة وملامحه الهادئة الوعدَ بالخلود ليس على هذه الأرض فقط.»5 وعلى الرغم من أنه، من وقتٍ لآخر، تظهر مزاعمُ بأصالة القِناع (وكان آخر مُؤيِّدٍ له دكتورة هيلدجارد هامرشميدت-هومل من جامعة ماينتس في عام ٢٠٠٦)، فقد دُحِضَت أصالته الآن بالكامل، ولم يعُد جزءًا من مجموعة المُتحف البريطاني؛ إذ أُودع في مُتحفٍ ناءٍ ومغمور وهو المُتحف الدُّوقي الضخم في مدينة دارمشتات، في ألمانيا. وتساءل ديفيد بايبر من معرض اللَّوحات القومي في لندن عمَّا إذا كان هذا العمل يعود فعليًّا إلى هذه الفترة؛ فهو يرى أنه إن كان بالفعل عملًا أصليًّا ينتمي للحقبة اليعقوبية، «فلا بُدَّ أنه كان قِناع الموت الوحيد الذي صُنع لفردٍ غير أفراد العائلة الملكية، والذي ظلَّ باقيًا في هذه الفترة.»6 ومع ذلك، فإن ما يُظهِره قناع الموت هذا على نحوٍ لا جدالَ فيه هو: إلى أيِّ مدًى ما زالتِ الأفكار الموروثة من القرن التاسع عشر عن مدى صحةِ مِلكيةِ شكسبير لِلمؤلَّفات المنسوبة إليه، تُشكِّل أفكارنا وفهمنا لحياة شكسبير وأعماله. ففي النهاية، كان التفاوُت بين شخصية شكسبير الموجودة في السجلَّات التاريخية والأفكار المُبجَّلة عن الشعراء المُتوفَّين ما دفع الأكسفورديِّين وغيرهم إلى النظر إلى شكسبير الحقيقي والتاريخي على أنه مُجرَّد «رجلٍ عادي من ستراتفورد».
fig3
شكل ١-٣: تمثالٌ تَذكاري لبيرسي بيش شيلي لإدوارد أونسلو فورد. الصورة للدكتور روبن داروول-سميث، زميل جمعية لندن للأثريِّين، وزميل الجمعية التاريخية الملكية. وهي معروضة بإذن من كلية أكسفورد الجامعية.

ربما نتوقَّع أن شكسبير استحق، على أقلِّ تقدير، الحصول على خدمات أحد أكبر الفنانين في عصره؛ مايكل أنجلو (إنجليزي) مثلًا: ربما نيكولاس ستون، الذي نحت التمثال الرائع بالحجم الطبيعي لجون دون في كفَنه في كاتدرائية القديس بولس في عام ١٦٣١. وبحلول عام ١٦١٤ كان ستون يحصل بالفعل على تفويضاتٍ مُهمَّة، بينما كان في الخامسة عشرة فقط من عمره، وبعد عامَين، في السنة التي تُوفِّي فيها شكسبير، عُيِّن في الخدمة الملكية. أو ربما ماكسيميليان كولت، الذي أنهى التمثال الرُّخامي لإليزابيث الأُولى من أجل دَير وستمنستر، والذي عُيِّن في عام ١٦٠٨ كبير النحَّاتِين لدى الملك؛ كان جديرًا بهذه المهمة. وعلى الرغم من الهجوم الذي انهال على النقائص الفنية في تِمثال شكسبير التَّذكاري، فإن الفنان الذي صنَعه، خيرارت يانسن (وأحيانًا تُكتب بالإنجليزية جيرارد جونسون) — ابن المثَّال الهولندي الذي يحمل الاسم نفسه الذي استقرَّ في لندن في عام ١٥٦٧ تقريبًا وأَسَّس عملًا تجاريًّا عائليًّا بارزًا بالقُرب من مسرح «ذا جلوب» في منطقة ساذرك — كان في الواقع اختيارًا جديرًا بكل الاحترام لِصُنع تمثالٍ يُشبِه الشاعر. فقد صنع يانسن الأب والابن التِّمثال التَّذكاري حَسَن الطَّلْعة لإدوارد مانرز؛ الإيرل الثالث لروتلاند، الذي تُوفِّي في عام ١٥٨٧، وكان هذا العمل على نطاقٍ أكبر وأضخم من تمثال شكسبير؛ فهو يدل على حجم سلطة روتلاند السياسية والذي يظهر في شكل تمثالٍ جاثِم على ركبتَيه من الألباستر لحفيدة روتلاند، إليزابيث، التي رتَّب هو زواجها من حفيد رئيس وزراء الملكة إليزابيث نفسه، ويليام سيسل، أو اللورد بيرلي. صُنع قبرٌ آخر (يضم أيضًا زوجته إليزابيث) من أجل أخي إدوارد، جون، الإيرل الرابع لروتلاند، الذي تُوفِّي بعد عامٍ واحد فقط من وفاة أخيه. ومن أجل هذه المهمة الأرستقراطية — صُنْع مَقبرتَين وأربعِ لوحاتٍ في كنيسة القديسة مريم العذراء في بوتسفورد، ليسترشير— تقاضى يانسن الأب مائتَي جنيه في عام ١٥٩٠. وعندما تُوفِّي روجر، الإيرل الخامس، اختِير يانسن الأب والابن مرةً أخرى من أجل صُنع تمثالٍ راقدٍ من الألباستر للإيرل وزوجته. وكان شكسبير على الأرجح يعلم بأمر هذه المقابر لأنَّ الإيرل السادس لروتلاند، فرانسيس مانرز، كان صديقًا لراعي شكسبير، إيرل ساوثهامبتون. في الواقع، انضمَّ روتلاند إلى ساوثهامبتون كإقليمَين تحت سلطة اللورد بيرلي. بالإضافة إلى هذا، في عام ١٦١٣ دفع روتلاند لكلٍّ من شكسبير وريتشارد بيرباج ٤٤ شلنًا من أجل أن يُصمِّما «إمبرسا» — وهو رمز نبالةٍ يتكون من صورة وشعار — والذي يُوضع على درع المقاتلِين، في مُبارَزات يوم اعتلاء إليزابيث الأولى للعرش، وهي سلسلة مبارياتِ مبارزةٍ تُقام سنويًّا.

إن المقارنة بين التماثيل الراقِدة بالحجم الطبيعي ذات التفاصيل الواضحة لإيرلات روتلاند التي تضمُّ شخصياتٍ أخرى والتمثال المُتواضع لشكسبير تُوضِّح الكثير؛ فقد كان شكسبير شاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا ومُمثلًا، وليس أرستقراطيًّا، ويُعبِّر تِمثاله التَّذكاري، الذي يُخلِّد حياته التي بدأها في ستراتفورد؛ حيث عُمِّد في عام ١٥٦٤ ودُفن في عام ١٦١٦، عن حالةٍ يعكس فيها الفنُّ بدقَّةٍ حياةَ المرء، أو على الأقل المكانة الاجتماعية. هكذا بالضبط كانت نظرة الناس للأمور في أوائل العصر الحديث؛ إذ، كما ورد عن جون ويفر في كتابه «التماثيل التَّذكارية القديمة» (١٦٣١)، «مِن المُفترَض أن تُصنع المقابر وفقًا لمكانة المُتوفَّى ودرجته، حتى يُمكن للمرء أن يرى من قبره الطبقة التي كان ينتمي إليها في حياته.»7 إذن، يعكس التِّمثال الموجود في كنيسة الثالوث المُقدَّس بدقةٍ مكانة الشاعر والكاتب المسرحي في إنجلترا في أوائل العصر الحديث، حتى وإن كان في موهبة شكسبير التي لا نظير لها. ووفقًا لهذه المعايير، يكون التِّمثال النصفي مُناسِبًا، ويُحقِّق بنجاحٍ الغرض المقصود منه. وفي الواقع، يُشير نيكولاس رو في طبعته لأعمال شكسبير الصادرة في عام ١٧٠٩، إلى أن أحد الزُّوَّار الأوائل، وهو المُلازم هاموند، وَصَفه في عام ١٦٣٤ بأنه «تمثالٌ تَذكاريٌّ مُتقَن».8 في الحقيقة يُخبِرنا هذا التمثال الكثيرَ عن معنى أن يُصبح المرء مؤلِّفًا في هذا الوقت، الذي لم يكن أحدٌ يستطيع أن يتصوَّر فيه أنَّ ابن ووريكشير الموهوب سيتنافس مع إليزابيث الأُولى على مكانة أهمِّ شخصيةٍ في أواخر القرن السادس عشر في إنجلترا.

أغلب الظنِّ أنَّ أقارب شكسبير من الدرجة الأولى هم الذين أرادوا صُنع هذا التِّمثال التَّذكاري، وربما استعملوا خيرارت يانسن بسبب صُنْعه لتمثالٍ راقد من الألباستر بالحجم الطبيعي لابنٍ آخر من أبناء ستراتفورد، وهو جون كوم، والذي يُوجَد أيضًا في كنيسة الثالوث المُقدَّس. كان كوم الصديق الذي ترك ﻟ «السيد ويليام شكسبير خمسة جنيهات» في وصيَّته، وحينما تُوفِّي الشاعر نفسه، ورَّث سيفه لِعضوٍ آخر من أُسرة كوم، وهو توماس ابن أخي جون. إنَّ تمثال شكسبير هو عبارةٌ عن مُجرَّد النصف العلوي من جسمه وهو مصنوعٌ من حجر كوستوولد الجيري المحلي الرخيص الثمن، وبالتأكيد كان أرخصَ بكثيرٍ من تمثال كوم التذكاري المُنمَّق أكثر، الذي تكلَّف ٦٠ جنيهًا في عام ١٥٨٨. ومع ذلك، فإنَّ أكثر ما يُميِّز التِّمثالَين التَّذكاريَّين لِهذَين الصديقَين أن كوم صُوِّر وهو راقدٌ في سلام، بينما يظهر شكسبير مُستيقِظًا ومُنتصِبًا ويعمل. ولا تُعتبَر هذه الوضعية حِكرًا على شكسبير، بل إنها تتَّفِق ببساطةٍ مع العُرف التمثيلي؛ فعلى سبيل المثال، صُوِّر جون ستو، مُؤرِّخ لندن، على هذا النحو أيضًا. إلَّا أنَّ تصوير شكسبير أَصلعَ بالكامل تقريبًا، وذا شارب ولحية، ويرتدي سُترةً ضيِّقة حمراء ورِداءً أسودَ بلا أكمام، ويُمسِك في يدَيه أدوات مهنته — ريشة وورقة — يُوحِي بشعور أنه حتى حياة شكسبير بعد الموت ستكون بنحوٍ ما مرتبطةً بالكتابة بدلًا من أن يرقد بسلام.

إلَّا أنَّ ظاهرة قِناع كيسيلستات الغريبة بشَّرَت بأكثر من مُجرَّدِ وجهٍ يتناسَب أكثر مع مسرحيات شكسبير مقارنةً بتصوير يانسن؛ فلو كانت أصالة القِناع قد ثبتَت، لكان من الممكن له أن يُمثل الأَثَر المادي على هُوية شكسبير المرئية الحقيقية بطريقةٍ لا يمكن لمُجرَّد تمثالٍ منحوت أن يُصوِّرها. أضف إلى ذلك أن تمثال يانسن النصفي أحد اثنَين فقط من الصور المُثبَتة أصالتها لشكسبير — الأخرى صورة مارتن دروشاوت المحفورة على «المطوية الأولى».9 هذا، ويُعتبَر التَّوق، المُتمثِّل في قناع الموت، لِصورةٍ تُقرِّبنا من شكل شكسبير أمرًا مُبرَّرًا؛ نظرًا لوفاة سُلالتِه قبل نهاية القرن السابع عشر، ولِعدم وجود آثارٍ شخصية حقيقية، مِثل مُذكِّراتٍ أو خطاباتٍ أو مُقتَنَيات، ولا حتى ثاني أفضلِ سريرٍ لشكسبير الذي تَعرَّض لِذمٍّ كثير، والذي وَرَّثه لزوجته. ربما يكون أقربَ ما يُوجَد لدَينا عن شكسبير الإنسان وصيَّتُه، التي ببساطة عبارةٌ عن حَصرٍ لمُقتَنَياته وتوزيعها. لا عجب إذن أنه حتى في أواخر القرن العشرين، تمنَّت سوزان سونتاج الحصولَ على اتصالٍ حيٍّ مستحيل مع شكسبير؛ فتقول: «يُشبِه الحصولُ على صورةٍ لشكسبير الحصولَ على مِسمارٍ من الصليب الحقيقي … شيء مأخوذ مباشرةً من الأصل، مثل آثار أقدامٍ أو قناع موت.»10 وفي الواقع، وَعَد القِناع الألماني بالضبط بالحصول على مثل هذا الأَثَر المُقدَّس والاستدلالي؛ فقد كان الشعر الأحمر للوجه لا يزال عالقًا بالجَصِّ من الداخل.11
هكذا، ظلَّ الافتِتان بصورة شكسبير مُستمرًّا رغم بَيت بن جونسون الشِّعري الذي وَجَّه فيه القُرَّاء إلى ضرورة الاهتمام بأعماله بدلًا من الصورة المحفورة على «المطوية الأولى»؛ إذ قال: «أيها القارئ: انظُر، ليس إلى صورته، بل إلى كتابه.» كما يُقدِّم شعر المديح الذي كتبه ليونارد ديجز بعد سبعِ سنواتٍ من وفاة شكسبير وطُبِع تحت نقْش تِمثال الثالوث المُقدَّس النصفي، تذكيرًا مُشابهًا:
حينما يبلى هذا الحَجَر،
ويُفني الزمن تِمثالَك في ستراتفورد،
سنظل نراكَ حيًّا هنا، [في] هذا الكتاب.12
بدأ التِّمثال التَّذكاري يتفكَّك بالفعل في وقتٍ مُبكِّر نسبيًّا؛ فتَكسَّرت الأصابع وتَقشَّر الطلاء بحلول عام ١٧٤٨. لكن في عام ١٧٩٣ أقنع مُحرِّر أعمال شكسبير، إدموند مالون، جيمس دافنبورت، كاهن ستراتفورد في هذا الوقت، بطلاء التِّمثال النصفي بالكلس بسبب الاعتقاد الخاطئ بأنَّ هذا الأسلوب الكلاسيكي المُتحفِّظ يُفترَض به أن يكون لونه الأصلي. ولِمَا تكبَّده مالون من عناء — الذي تعرَّضَت مجهوداته في تحرير أعمال شكسبير، التي أشاد بها كثيرٌ من مُعاصريه، لهجومٍ شديد أيضًا — حصل كمكافأةٍ له على أبياتٍ شِعرية ساخرة وُضِعَت في «سجل زائري ستراتفورد»:
أيُّها الغريب، الذي يرى هذا التمثال،
استحضِر لعنة الشاعر على مالون؛
الذي حماسُ تَدخُّلِه نَمَّ عن ذوقه البربري،
ولطَّخ تِمثاله التَّذكاري، تمامًا كما شوَّه مسرحياته!13
في عام ١٨٦١، أُعيد طلاء التِّمثال «المُلطَّخ»، وهذه المرة على أساس الاعتقاد بأن شكسبير تَمثَّل على حدِّ قوله: «على النحو الذي عاش عليه.»14

•••

أبدأ هذا الكتاب وأنا أضع النهاية في ذهني؛ أي نهاية حياة شكسبير مُتمثِّلةً في تِمثاله التَّذكاري وسُمعته بعد وفاته، التي تفُوق في بريقها حتى الآن حياتَهُ نفسها — فعلى سبيل المثال، انتخبه الناس «رجل الألفية» في عام ٢٠٠٠. لا تُعبِّر حياة شكسبير عن أعماله ولا يتسنَّى لها ذلك، لكنها، في اعتقادي، يمكن أن تُساعدنا في الحصول على فهمٍ أشملَ لها. يتمثَّل الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب في معرفة كيف ساعدَت ظروف حياة شكسبير الشخصية، بالإضافة إلى الأحداث والأحوال التاريخية التي عاصَرَها، وكذلك الأُطر السياسة والاجتماعية والمؤسَّسية التي عاش في كنَفها، في تشكيل هُويته ككاتب. ينتهج هذا الكتاب أسلوبًا غير مُعتادٍ في تناوُل حياة شكسبير؛ فهو لا يتحدَّث عن كمْ كانت حياته مختلفةً عن حياة الآخرِين في العصر الإليزابيثي، وإنما عن الطُّرق التي كانت مشتركةً فيها مع حياتهم؛ ففي النهاية، ليست حياة شكسبير (مُمارساته خارج النطاق الأدبي) العاملَ الذي جَعلَه مُتميزًا، بل هويَّته ككاتب؛ أي حياته المهنية الأدبية والمسرحية؛ فيسعى هذا الكتاب، في المقام الأول، إلى فَهم معنى أن يكون المرء كاتبًا في عالَمٍ يَسبِق ظهور الرواية بكثير. يتطلَّب هذا دراسةً للقوى الفكرية والاجتماعية والسياسية — المؤسَّسات التعليمية، ونُظُم الرعاية، والمؤسَّسات الجديدة مثل المطبعة والمسرح العام — التي شكَّلَت الكاتب وأَوجدَت الفنانَ الأدبيَّ المُبدع الذي نعرفه اليوم. يتطلَّب السعي لفهم حياة شكسبير وكتاباته أيضًا فَهم القوى السياسية والدِّينية المُعقَّدة التي دَعمَت فنه وعارَضَته؛ فقد كان شكسبير جزءًا من النهضة في العصر الإليزابيثي؛ وهي ذلك الانتعاش الملحوظ الذي حدث في الحياة الأدبية الإنجليزية بالقُرب من نهاية القرن السادس عشر، وهي فترةٌ أنتَجَت، بمُعدَّلٍ مُطَّرد، بعضًا من أعظم الكُتَّاب باللغة الإنجليزية؛ مثل فيليب سيدني، وإدموند سبنسر، وجون دون، وبن جونسون، وكريستوفر مارلو — بالإضافة إلى عددٍ كبير من الكُتَّاب الآخرِين الذين يتضاءل حجم نجاحاتهم الهائلة أمام الإنجازات العملاقة لهؤلاء الكُتَّاب الكبار. ومع ذلك، شهد النظام البروتستانتي في عصرِ ما بعد الإصلاح الذي عاش فيه شكسبير بعضًا من أكثر المُعارضات البليغة على الأدب بِوصفِه نوعًا من الخطاب ينشُر الأكاذيب والفجور، وعلى المسرح بوصفه مكانًا يُشجِّع على الوثنية والفسق.

إنَّ كون «الحقائق» الثابتة عن حياة شكسبير، التي تُوجَد عليها أدلةٌ مُوثَّقة لا جدال فيها، قليلةً نسبيًّا؛ وضعٌ مُعتاد ولا يُشوِّه صحة الحقائق نفسها؛ فمن الثابت، وَفقًا لِما يقوله مؤرخو هذه الفترة، أنَّ مُعدَّل بقاء الوثائق من أوائل العصر الحديث مُنخفِض، وأن شكسبير عاش في عالمٍ قبل الجمع المنهجي والشامل للبيانات، الذي يُمثِّل أساس النظام البيروقراطي المعاصر. خَلَّفَت حياة شكسبير نوعَين من النصوص بعد انتهائها: الأول، يتَّخذ شكل وثائقَ كنسيةٍ وقانونية مُتنوِّعة لم يكن هو كاتبها، لكنها تُشير أحيانًا إليه، أو، في حالةِ وصِيَّته على سبيل المثال، تحمل توقيعه؛ فيذكُر سِجِلُّ الرعايا بِدقةٍ تعميدَه وزواجَه ووفاتَه، بينما تُقدِّم لنا السجِلَّات القانونية، خاصةً المعنية بالصفقات العقارية والتَّرِكات، أَقلَّ تفاصيلَ ممكنة عن حياته. لا يهدُف هذا الكتاب إلى ذِكر تفاصيل كل وثيقةٍ قانونية، أو كل صفقةٍ عقارية، أو كل سجلٍّ يمكن ربطه بشكسبير؛ لأنَّ هذا سيكون بمنزلة الخَوض في أرضٍ جافَّة إلى حدٍّ ما، خاضها آخرون بالتفصيل. إنَّنا محظوظون لأنَّ فنَّ شكسبير بقي لنا بِكمٍّ وافر للغاية أكثرَ من هذه الوثائق الثانوية، حتى إنْ لم تكن المسرحيات ولا القصائد، تمامًا مِثل السجلَّات القانونية، تُقدِّم نوعية المواد التي تسمح لنا بأكثرَ من مُجرَّدِ عملِ تكهُّناتٍ عن عالم شكسبير الداخلي، أو مشاعره، أو علاقاته، أو آرائه السياسية. وحتى إن كانت المعلومات عن أشياءَ أخرى تتعلَّق بحياة الكاتب، مثل آرائه ومشاعره، وانتماءاته السياسية والدينية … إلخ، قليلة، فإنَّ الجدير بالملاحظة فيما يتعلَّق بحياة شكسبير هو أن الفجوات في كلِّ ما يمكن اعتباره «أدلة» و«حقائق» يَسُدُّها الإنتاج الأدبي.

باختصار، إنَّ التفاصيل الأساسية عن حياة شكسبير، بالترتيب الزمني (لكن باستثناء تواريخ عرض مسرحياته ونشرِها التي تُمثِّل إشكاليةً دومًا)، هي كالتالي: إنه هو الابن الأكبر لجون شكسبير وزوجته ماري، التي كان اسم عائلتها قبل الزواج أردين. كان والده، صانع القُفَّازات، تاجرًا بارزًا في ستراتفورد-أبون-أفون، وأصبح مأمورًا في عام ١٥٦٨. وُلِدَت له في البداية بنتٌ، جوان، في سبتمبر عام ١٥٥٨ ويبدو أنها ماتت وهي ما زالت طفلة، ولَحِق المصيرُ نفسُه بابنتِهِ التالية، مارجريت، التي وُلِدَت في عام ١٥٦٢، ودُفِنَت في العام التالي. عُمِّد شكسبير في السادس والعشرين من أبريل عام ١٥٦٤، وكان أكثر حظًّا؛ إذ نجا من تَفشِّي الطاعون في المنطقة في طفولته. وُلِد أخوه جيلبرت في عام ١٥٦٦، ثم وُلِدَت طفلةٌ أخرى أُطلِق عليها أيضًا اسم جوان في عام ١٥٦٩، ثم وُلِدَت آن في عام ١٥٧١. إلَّا أن آن تُوفِّيَت وهي في عمر الثامنة فقط. وفي الواقع من بين أخوات شكسبير الأربعة لم تعِشْ لِفترةٍ طويلة إلَّا جوان والتي تُوفِّيَت في عام ١٦٤٦. وُلِد له أخوان آخران، ريتشارد في عام ١٥٧٤، وإدموند في عام ١٥٨٠، وبذلك اكتَملَتِ الأسرة. ومن بين إخوته الذكور، لم يَحذُ حَذوَ شكسبير إلَّا أخوه الأصغر، إدموند؛ إذ ذهب إلى لندن وأصبح ممثلًا. لم يعِشْ أيٌّ من إخوتِه بعده، رغم أنهم عاشوا جميعًا لِفترةٍ طويلة.

وبما أن ستراتفورد كانت بها مدرسةُ قواعدَ لغويةٍ مُزدهرة، فلا شكَّ في أنَّ شكسبير تَلقَّى تعليمه فيها. ونحن لا نعلَمُ لماذا أَصدَر في عام ١٥٨٢ أسقُف ووستر رُخصةَ زواجٍ باسم شكسبير لِيتزوَّج من آن وايتلي من قرية تيمبل جرافتون، لكن على الأرجح كان هذا مُجرَّدَ نتيجةٍ لخطأٍ كتابي؛ إذ إنه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، في شهر نوفمبر من عام ١٥٨٢، تَزوَّج من آن هاثاواي من قرية شوتري، التي تقع بالقُرب من ستراتفورد. وُلِدَت أول طفلةٍ لشكسبير، سوزانا، بعد زواجه، رغم أن الحمْل حدَثَ قبل الزواج بعدة أشهر. عُمِّدت في ٢٦ مايو عام ١٥٨٣، وبعد عامَين، في الثاني من فبراير عام ١٥٨٥، عُمِّد توءما ويليام وآن، هامنت وجوديث. وفي عام ١٥٨٧، تضاءل حجم ثروة والد شكسبير، التي كانت آخذةً في التدهوُر على مدى عشر سنوات على الأقل، للغاية، لدرجة أنه طُرِد من مجلس ستراتفورد المحلي. وفي عام ١٥٩٢، عندما كان شكسبير في الثامنة والعشرين من عمره، من الواضح أنه أصبح قوةً لا يُستهان بها في مسرح لندن؛ لأنه تعرَّض للهجوم؛ إذ وُصِف ﺑ «الغراب المغرور» في نشرة «جرينز جروتس-ورث أوف ويت»، التي يُزعَم أنها صِيغت بقلم روبرت جرين. حَصَل شكسبير على رعاية إيرل ساوثهامبتون في عام ١٥٩٣، وقد أَهدَى لهذا الإيرل القصيدة السردية التي صَدرَت في هذا العام «فينوس وأدونيس»، وتلك التي صَدرَت في العام التالي، والتي كانت بعنوان «اغتصاب لوكريس». وبحلول عام ١٥٩٥ أصبح شكسبير عضوًا في فرقة «رجال اللورد تشامبرلين»، التي كانت تُقدِّم عروضًا ملكية. وفي عام ١٥٩٦، تَعرَّض شكسبير لمأساة؛ إذ تُوفِّي ابنه هامنت ودُفن في الحادي عشر من أغسطس. وفي العام التالي، تقدَّم شكسبير بالنيابة عن والده لمجمع شعارات النَّبالة من أجل المُطالَبة بالحصول على شعار نَبالة، وفي عام ١٥٩٧ اشترى «نيو بليس»، وهو أرقى منزل في ستراتفورد. وفي عام ١٥٩٧ أيضًا، ذكره فرانسيس ميريس في كتابه «خزانة الأدب»، بوصفه، في هذه الفترة، المؤلفَ ذا الاثنتَي عشرة مسرحيةً وعدد من «السونيتات المُمتعة» غير المنشورة، التي كانت في شكل مخطوطاتٍ محدودة التداوُل. وفي عام ١٥٩٩، في ووريكشير وَجَد مَسحٌ محلي أنه يدَّخِر ثمانين مكيالًا من المَلْت في وقت المجاعة. وفي غضون ذلك في لندن في العام نفسه، بُني مسرح «ذا جلوب» في ساذرك، على الضفَّة الجنوبية من نهر التايمز. وفي الثامن من سبتمبر عام ١٦٠١، دُفن والده. وفي عام ١٦٠٣، كان شكسبير ما يزال يعمل مُمثلًا، وقد لعب دَوْر البطولة في مسرحية بن جونسون «سقوط سيجانوس». طارد شكسبير، في عامي ١٦٠٢ و١٦٠٨، اثنَين من المُستدينِين منه في ستراتفورد من أجل مبلغٍ يقلُّ عن ١٠ جنيهات. واشترى الأعشار في منطقة ستراتفورد في عام ١٦٠٥ نظير ٤٤٠ جنيهًا، وورد في سجلَّاتِ عام ١٦١٤ اشتراكه في مُحاولات ويليام كوم للاستيلاء على أراضٍ عامَّة في أبريشية ويلكوم بالقُرب من ستراتفورد. وفي عام ١٦٠٧، تَزوَّجَت ابنته سوزانا الطبيب جون هول، بينما شهد العام التالي وفاة والدته. هذا، وقد نُشر عمله «السونيتات» في عام ١٦٠٩، بعد مرور فترةٍ طويلة على الهوَس بالسونيتات الإنجليزية في تِسعينيَّات القرن السادس عشر. وقد أدلى بشهادته في قضيةٍ أمام محكمة الالتماسات في عام ١٦١٢ بشأن عقد زواجٍ أتاح تنفيذه في أثناء إقامته في منزل كريستوفر ماونتجوي وأُسْرته في شارع سيلفر ستريت. وفي عام ١٦١٣، في العام نفسه الذي سُوِّي فيه مسرح «ذا جلوب» بالأرض إِثْر حريقٍ اشتعل في أثناء أحد عروض مسرحية «هنري الثامن»، اشترى شكسبير بيتًا في مدخل منطقة بلاكفرايرز، على الرغم من أنه لم يسكن فيه أبدًا، وأُعيد فتح مسرح «ذا جلوب» في العام التالي. وقبل شَهرَين من وفاة شكسبير، تَزوَّجَت ابنته الصغرى، جوديث، توماس كويني، الذي كان لدَيه بالفعل طفلٌ من سيدةٍ أخرى، وهي مارجريت ويلر، وقد عاقَبَتْه المحكمة الأسقفية على هذه الجريمة. دُفِنَت ويلر مع وليدها في ١٥ مارس عام ١٦١٦، وبعد شهر، تُوفِّي شكسبير نفسه، ودُفن في ٢٥ أبريل ١٦١٦. عاشت زوجته، آن شكسبير، بعده وتُوفِّيَت في عام ١٦٢٣. وعلى الرغم من أن شكسبير ذكر كِلتا ابنتَيه في وصيَّتِه، فإن الكَمَّ الأكبر من أملاكه ذهب إلى ابنته الكُبرى، سوزانا.

وطَوالَ حياةٍ بدأت وانتهت في ستراتفورد، اختار شكسبير ألا يتخلَّى عن مسقط رأسه، وعزم على أن يُعزِّز مكانته فيه. وعلى حدِّ قوله في قصيدة «اغتصاب لوكريس» القصصية (١٥٩٤): «الهدف الأساسي ليس إلَّا عَيش الحياة بشرف، وغِنى ويُسر في الكِبر» (البيتان ١٤١-١٤٢). يُعبِّر هذان البيتان حتمًا عن أحد الآراء السائدة في العصر الإليزابيثي من خلال ذكرهما للطموحات المُتواضِعة نسبيًّا بالحصول على الاحترام والرفاهية الاجتماعية في قصيدةٍ تجري أحداثها قبل بزوغ فجر الجمهورية الرومانية مباشرةً، حيث كانت الطموحات الملكية والسُّلالية تفوق بكثير الرغبة في تكديس ثروةٍ كافية من أجل درْء العَوَز عند كِبر السن. وبالتالي، كانت الثروة ويُسر المعيشة اعتبارَين يصعب تجاهلهما في عالم شكسبير.

زاد الاهتمام العام بحياة شكسبير، على أي حال، في السنوات الأخيرة، رغم النُّدرة الواضحة للأدلة المُوثَّقة. وبالمِثل، لم يخبُ بعدُ الاهتمامُ بما عُرِف بالجدَل حول مدى صحة مِلكيته لِلمؤلَّفات المنسوبة إليه. وإذا كان ما يُضعِف تصديق المُتشكِّكين في ملكية شكسبير لأعماله أنَّ رجلًا لم يلتحِق قَطُّ بالجامعة، ولم تكن له خلفيةٌ أرستقراطية مرموقة، ألَّف مسرحياته تلك، فربما علينا النظر إلى حالة صديقِ شكسبير وزميلِه في مجال التأليف المسرحي، بن جونسون، الذي لا جدَل حول ملكيَّته لأعماله؛ فنحن لا نعلم الاسم الأول لأيٍّ من والدَي جونسون الأصليَّين، ولم يظهر اسم والده بالتبنِّي، روبرت بريت، إلَّا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وغياب مِثل هذه المعلومات ليس بالأمر غير المُعتاد أو الغامض، نظرًا لمُعدَّل بقاء الوثائق في أوائل العصر الحديث. وكذلك لم يكن وضع شكسبير الاجتماعي أو التعليمي غريبًا على كاتبٍ في عصره؛ فقد كان كريستوفر مارلو، أحد الكُتَّاب الكبارِ المُعاصرِين لشكسبير وأحد كبار مُنافسِيه في أواخر القرن السادس عشر، ابن إسكافيٍّ من كانتربري. وعلى عكس شكسبير، التحق مارلو بكلية كوربوس كريستي في كامبريدج، لكن جونسون واسِع المعرفة، الذي اشتُهر باتهامه لشكسبير بأنه «يعرف قدْرًا قليلًا من اللاتينية وقدْرًا أقل من اليونانية.» لم يلتحق بجامعةٍ قَط؛ فبعد تَلقِّي جونسون لتعليمه الابتدائي في مدرسة سان مارتن-إن-ذا-فيلدز في لندن، التحق بمدرسة وستمنستر تحت إدارة عالم الآثار الكبير ويليام كامدن؛ ونظرًا لكونه ابنًا بالتبنِّي لبنَّاء، فقد تبِعه وعمِل بمهنتِه. وفي الواقع حافظ على حقِّه في العمل بأجر في شركة تايلرز آند بريكلايرز، حتى في أَوْج ازدهار مهنته الأدبية، عندما اشتُهر ككاتبٍ مسرحي وشاعر. ومن المفهوم أنه بسبب رغبة المُحاضرِين في تجنُّب الحُجَج التي تزعُم تجريد «الرجل من ستراتفورد» من مكانته بوصفه صاحبَ أعمال شكسبير، فهم يُعرِضون أحيانًا عن الحديث عن حياة شكسبير. ومع الأسف، يعمل هذا على استبعاد أحد الأسباب الرئيسية في اهتمام القُراء من البداية بشكسبير، وأحد الأسباب الأساسية التي تدفع الطلَّاب إلى التسجيل في مُقرَّرات دراسة شكسبير. يكمُن أساس هذا الافتِتان بقضية مِلكية الأعمال في الاهتمام المشروع تمامًا بمعرفة معالم حياة شكسبير؛ فمن حقِّ القُرَّاء معرفةُ كيف استطاع شكسبير كتابة مثل هذا الكمِّ الكبير من روائع الأدب العالمية، والتساؤُلُ عن نَوع الحياة — تحديدًا — التي كان يعيشها في أثناء تأليفها.

سأبدأ بالحديث عن ثلاثةٍ من أبرز العوامل التي شكَّلَت هوية شكسبير؛ وهي التعليم والدين والمكانة الاجتماعية. في الواقع، كان العاملان الأخيران يُمثِّلان ظرفَين حتميَّين في الحياة في العصر الإليزابيثي، ومنهما كانت المكانة الاجتماعية — التسلسل الاجتماعي الأساسي في عالم شكسبير، المُعتمِد على الثروة والملكية والنَّسَب — إلى حدٍّ كبير أَهمَّ قوة تُحدِّد مسار حياة الجميع في إنجلترا في أوائل العصر الحديث. وبالطبع، بالنسبة لشكسبير شخصيًّا، كان التعليم، المصدر الحقيقي والجوهري لإنجازاته الأدبية، أَهمَّ عاملٍ سمح له بأن يُصبح، بوصفِهِ شخصًا موهوبًا، كاتبًا. إلَّا أن الوصول إلى هذا التعليم كان مُؤشِّرًا مباشرًا أيضًا على المكانة؛ فلم يكُن الفتى في إنجلترا في العصر الإليزابيثي يحتاج إلى خلفيةٍ رفيعة المستوى أو أرستقراطيةٍ حتى يتلقَّى تعليمًا في مدرسةِ قواعدَ لغوية، لكنَّهُ ظلَّ بحاجة، على الأقل، إلى مواردَ مُتواضعة، كانت رغم ضآلتها أكبر بكثيرٍ من إمكانيات الغالبية العُظمى من الطبقة الكادحة. أمَّا العامل المُتبقِّي، الدين، فقد كان بطبيعة الحال بُعدًا شائكًا ومحفوفًا بالمشاكل في الحياة في عصرِ ما بعد الإصلاح الديني، الذي عاش فيه شكسبير؛ إذ اتَّخذتِ المسيحية الإنجليزية، المُمزَّقة بفعل الانقسام الديني، أشكالًا جديدة وغير مسبوقة؛ فإنَّ كون ارتياد الكنيسة، الذي أصبح بعيدًا كلَّ البُعد عن كونه تعبيرًا اختياريًّا عن التقوى، إجباريًّا، بينما كانت الهرطقة والإلحاد عُرضةً لتجريمٍ قانوني حاد، كان معناه أنَّ العقيدة المُقرَّرة كانت مفروضةً من الدولة، وهو ما كان يفرِض في كثيرٍ من الأحيان الإذعان بفعل أساليبَ عنيفة. بهذه الطريقة، تغلغَلَ الدينُ في كل جانبٍ تقريبًا من جوانب الحياة في أوائل العصر الحديث؛ لذا، لم يُشكِّل الدين خلفيةً لكتابات شكسبير، وإنما شكَّل البَوتقة التي تَولَّدَت فيها أعماله الدرامية العلمانية.

يتحدَّث موضوع الفصل الثاني من هذا الكتاب بالتحديد عن الكتابة والمؤسَّسة الإنسانية التي شَكَّلَت بنحوٍ أساسي فنَّ شكسبير، والمُتمثِّلة في نظام التعليم الإليزابيثي. استفاد كلٌّ من شكسبير ومارلو وجونسون، وغيرهم كثيرون، من الثورة البروتستانتية في مجال التعليم، وخاصةً من نظامِ مدارسِ القواعد اللغوية الإليزابيثية بطريقةٍ تَفرَّد بها جِيلهم. لا تُوجَد أدلةٌ على الإطلاق على أنَّ والدَي ربما أعظم كاتبٍ عاش على الإطلاق كانا يستطيعان الكتابة؛ فلم يكُن جون شكسبير، رغم يُسر حاله، مُتعلمًا ولم يُوقِّع اسمَهُ قط، بل كان يستخدِم دومًا «علامته» التقليدية، المُصمَّمة في حالته بمهارةٍ بالِغة، عوضًا عن ذلك. هذا ولا ينبُع كون مثل هذه الحقيقة مصدرًا للجدَل بين المُعلِّقِين إلَّا من رفض إقرار حقيقة الحياة الريفية في العصر الإليزابيثي؛ حيث في الغالب كان المُقتدِرون يظلُّون غير قادرِين على الكتابة.

تَذكُر قصةٌ غير موثوقٍ فيها عن السنوات الأولى من حياة شكسبير من القرن الثامن عشر أنه كان يعمل في البداية في مِهنة والده، على الرغم من أنَّ القصة تُصوِّره أنه كان يذبح الحيوانات (وهو أمرٌ لم يكن، في الواقع، أحدَ أبعاد مِهنة جون شكسبير)، ويلقي خطاباتٍ درامية وهو يُجهِز على عِجل. ومع ذلك، وعلى الرغم من قِلَّة الأدلة الأخرى، فنحن نعرف يقينًا شيئًا واحدًا عن شكسبير، وهو أنَّ انتقاله إلى لندن مثَّل قرارًا قطعيًّا بعدم اتِّباعِ والده أكثر من ذلك (إذا كان بالفعل قد اتَّبَعَه من قبلُ على الإطلاق) في عمله دبَّاغًا، أو مُبيِّضًا للجلود (وهو شخص «يدبغ الجلود»؛ أي يُعالِجها بالشبَّة والمِلح) وبائعًا للقُفازات. وعندما فكَّر جونزالو في مسرحية «العاصفة» في دولةٍ مِثالية يكون فيها «التعلُّم» (معرفة القراءة والكتابة) غير موجود (الفصل الثاني، المشهد الأول، السطر ١٥٠)، ذكَّر خِطابُه، رغم استناده إلى حديث ميشيل دي مونتين عن السُّكَّان الأصليِّين في البرازيل، أفرادَ الجمهور الذين كانوا الجيلَ الأوَّلَ المُتعلِّم في عائلاتهم، بعالَمٍ لا يُمكنهم العودة إليه أبدًا الآن. لم تُنتِج ستراتفورد شكسبير فحسْب، بل أيضًا صاحب المطبعة ريتشارد فيلد، الذي كان يكبُرُه بثلاث سنواتٍ فقط والذي كان ابن صابغٍ للجلود، وهي مِهنة ترتبط كثيرًا بمِهنة والد شكسبير. ذهب فيلد أيضًا إلى لندن لِيُصبح مُتدربًا عند أحد الناشرِين. وفي حياته المهنية التي حقَّق فيها نجاحًا باهرًا نشر بعضًا من أهم الأعمال في عصره، منها قصيدة شكسبير «فينوس وأدونيس» (١٥٩٣)، وكتاب جورج بوتنهام «فن الشعر الإنجليزي» (١٥٨٩)، وترجمة السير جون هارينجتون لقصيدة أريوستو «أورلاندو الهائج» (١٥٩١). كان فيلد أيضًا جُزءًا مُهمًّا من المشروعات الأدبية النامية في هذا العصر؛ ومن ثم، على الرغم من أنَّ مُعدَّلات معرفة القراءة والكتابة كانت مُنخفِضةً بين إجمالي عدد السكان، فربما تمكَّن الأولاد الذين ينتمون لخلفياتٍ مُتواضِعة ولكنهم التحقوا بالمدرسة الابتدائية، من تحقيق شيءٍ أبعدَ ما يكون عن الحِرَف والمِهَن التي مارَسَها أجدادهم في المُقاطَعات. وتسمح لنا الفجوة التي حَدثَت بسبب التعليم بين المُتعلمِين وغير المُتعلمِين والتي تظهر في كثيرٍ من المسرحيات (مثل «روميو وجولييت» و«العاصفة»)، بالتساؤُل عن معنى أن يكون المرء كاتبًا مُحترِفًا في مثل هذه الفترة، وبالتحديد عن موقع هذه المهنة على طول النطاق بدايةً من معرفة القراءة والكتابة وحتى التأليف الأدبي.

يَتحدَّث الفصل الثالث، «الدين»، عن المُعضِلة الأساسية المُتعلِّقة بالتعامُل مع السنوات التي عاش فيها شكسبير مجهولًا قبلَ تأسيس حياته المهنية في لندن. لقد أبرزت النظريات عن هُوية شكسبير الدينية الفجوات في المعلومات المُتعلِّقة بهذه الفترة من حياته. فبينما أشار النُّقَّاد على نحوٍ مُختلفٍ إلى أن شكسبير كان بروتستانتيًّا مُخلِصًا، أو كاثوليكيًّا مُتخفِّيًا تقيًّا، أو غير مؤمنٍ مُستتِر، أو مؤمنًا بأيٍّ من العقائد التي تقع في المنتصف، يُؤكِّد هذا الفصل بدلًا من ذلك على الطُّرُق التي شكَّلَت بها حركة الإصلاح الديني، والاضطهاد الديني، والقلق بشأن الهُوية الدينية، دون أدنى شكٍّ أسلوبَ شكسبير المسرحي وهُويته ككاتب.

يتعرَّض الفصل الرابع «المكانة» لِتقدُّم شكسبير، بالنيابة عن والده، بطلبٍ للحصول على شعار النَّبالة، الذي سيسمح له بالحصول على مكانة النَّبيل؛ ويليام شكسبير، النبيل. لكن ما الذي كان يَعنيه بالتحديد هذا التحوُّل في المكانة في إنجلترا في أوائل العصر الحديث؟ وما الإجراءات المطلوبة من أجل الحصول على الإقرار الرسمي بحقيقة أنَّ شكسبير تخطَّى الفجوة الاجتماعية الهائلة التي تفصِل عامَّة الشعب عن النُّبلاء؟ عند الإجابة عن مِثل هذه الأسئلة سنرى أنَّ طموح شكسبير في الارتقاء الاجتماعي لم يمُرَّ دون أن يعترِضَه شيء، وأن العقَبات التي واجهَها في مجمع شعارات النَّبالة تعكس بعضًا من أكثر التغيُّرات الهائلة في مُجتمَعه، وهي تغيُّراتٌ تحدَّث عنها بدَوره في مسرحياته. وعلى الرغم من أنَّ هيكل مجمع شعارات النَّبالة ووظيفته ظلَّا مُبهَمَين ولا يُشار إليهما صراحةً في مُعظم السِّير الموجودة، فقد كان أحد أهم المؤسَّسات في إنجلترا في أوائل العصر الحديث. وبالإضافة إلى هذا، يُوفِّر هذا المجمع واحدًا من أكثر المصادر المُوفِّرة للمعلومات عن التجربة الحياتية لِلهُوية الطبقية في هذه الفترة. يهتمُّ هذا الفصل على وجه الخصوص بشرح طُرق عمله بأقصى قدْرٍ من الوضوح.

يتحدَّث الفصل الأخير في هذا الجزء عن الظروف الاجتماعية والمهنية التي شَكَّلَت مسار شكسبير المسرحي في لندن. من المُثير للدهشة أنَّ أول إشارةٍ مُسجَّلة إلى شكسبير ككاتب كانت في الواقع سلبيةً للغاية، لكن ربما يرجع السبب في هذا إلى حقيقة أنَّ الذي كتَبَه كان أحد مُنافسِيه (رغم أنه قد لا يكون بالضرورة هو الشخص الذي ظهر اسمه على صفحة العنوان)، في نشرةٍ بعنوان «جرينز جروتس-ورث أوف ويت» (١٥٩٢)؛ فمن الواضح أنَّ نجاح شكسبير أغضب البعض؛ لأنَّ مُؤلِّف هذه النشرة يُقلِّل من شأنه ويصفه ﺑ «الغراب المغرور»، وبأنه «شخصٌ مُتعدِّد المواهب» يعتقِد بأنه «الأديب» الأوحد في البلاد. تُوضِّح هذه التعليقات قدْرًا من البيئة التنافُسية في مسرح أوائل العصر الحديث، الذي كان أيضًا يتطلَّب، للمفارقة، وجود تعاوُنٍ من أجل تلبية المُطالبة الهائلة بمسرحياتٍ جديدة. ثم ينتقل هذا الفصل للحديث عن طبيعة المسرح بوصفه مؤسَّسةً حضرية جديدة ذات موقعٍ ثابت، بالإضافة إلى ضغوط الرقابة على كلٍّ من العروض والطباعة، وأخيرًا الوضع الغريب نسبيًّا لِلمُمثِّلِين وفِرَقهم مقارنةً بأوضاع العاملِين بمهنٍ أخرى في العاصمة.

تتناول الفصول التي تُشكِّل الجزء الثاني من الكتاب مسرحياتٍ فردية من كل نوعٍ أدبي من مُجمل أعمال شكسبير. ويتضمَّن تحليلُ المسرحيات أيضًا إشارةً إلى مصادر شكسبير ووضع النصوص الأُولى لكلِّ مسرحية، بالإضافة إلى الأدلة، عند وجودها، الخاصة بالعروض الأُولى لها. وتشتمل هذه الفصول أيضًا على تذكرة (غير ملحوظة نسبيًّا، كما أتمنَّى) بالحَبْكة، التي ستكون على نطاقٍ أوسعَ قليلًا في الفصول التي تتحدَّث عن مسرحياتٍ لا تُعرض كثيرًا؛ ومن ثم، لا تكون مألوفةً كثيرًا لدى مُعظم القُرَّاء. هذا، ويَحول ضِيق المساحة المُتاحة دون تناوُل كل مسرحيةٍ وقصيدة، وأنا أعتذر مُقدَّمًا لِلقُرَّاء الذين لا يجدون عملهم المُفضَّل معروضًا — إن كان في هذا الاعتذار عزاءٌ لهم؛ فإنَّ كثيرًا من الأعمال القريبة إلى قلبي لم يَسعْني إدراجها ضمن المجموعة المُختارة النهائية. ومع ذلك، بينما لا يستطيع أي كتابٍ واحد أن يُوفِّي روائع شكسبير حقَّها، فإنَّ ما سيُعرض هنا يُقدِّم عينةً تمثيلية لِتنوُّع كتاباته كشاعرٍ في الأعمال المطبوعة والمُقدَّمة على المسرح.

لا تُوجَد أدلةٌ دامغة كثيرة تدعم فكرة أنَّ «كوميديا الأخطاء» كانت أولى مسرحياته، لكن بسبب وجود هذا الافتراض التقليدي بشأن ترتيب كتابة مسرحياته، سنبدأ الجزء الثاني بها. وتتمثَّل فئات الأنواع الأدبية التي تندرِج تحتها المسرحيات في الكوميدية، والتاريخية، والتراجيدية، بالإضافة إلى الفئة غير الموجودة في «المطوية الأولى»، وهي الرومانسية. تشترك أربعُ مسرحياتٍ من مسرحيات شكسبير في الخطِّ الدِّرامي السحري وغير المُحتمَل الحدوث والنهايات السعيدة التطهيرية التي تُميِّز الفئة الرومانسية، وهي: «سيمبلين» و«بيريكليس» و«حكاية الشتاء» و«العاصفة». وسنتحدَّث في هذا الكتاب عن المسرحيتَين الأخيرتَين؛ نظرًا لكثرة تقديمهما على المسرح وقراءتهما. وعلى الرغم من أن «العاصفة» كانت على رأس قائمة مسرحيات شكسبير الكوميدية في «المطوية الأولى»، فإنَّ هذه المسرحيات أصبحَ من الواضح أنها تستحقُّ فئةً مُنفصِلة؛ لأنها تُمثِّل تَوجُّه شكسبير في كتاباته داخل نوع الكوميديا الأدبي قُرب نهاية حياته المهنية. ويُعتبَر هذا التطوُّر مُهمًّا في أي سردٍ لتاريخ أعمال شكسبير، أو كما يظهر على صفحة عنوان مسرحية «بيريكليس»: «القصة الحقيقة وكامل تاريخ ومغامرات ومصير» شاعرنا.

يتعرَّض الفصل السادس، «المسرحيات الكوميدية: حياة شكسبير الاجتماعية» لنطاق الخبرة الواسع في أعمال شكسبير الكوميدية، التي يصِل بعضها بهذا النوع الأدبي إلى أقصى حدوده. إن ما تشترك فيه جميع المسرحيات المعروضة في هذا الفصل هو إظهار كَمْ كانت الكوميديا في جوهرها نوعًا أدبيًّا «اجتماعيًّا»، يدور حول أسلوب تفاعُل الرجال والنساء معًا من أجل تحقيق نوعٍ مُعيَّن من التواصُل، إمَّا كأزواج تربطهما علاقةٌ زوجية أو كأفراد في مجتمعٍ مُترابط. وباستخدام معلوماتٍ عن حياة شكسبير اليومية في ستراتفورد ولندن، يستعرِض كل تحليلٍ في هذا الفصل القوة والتعقيد الاستثنائيَّين للمنظور الكوميدي. فتدور مناقشةُ مسرحية «كوميديا الأخطاء»، على سبيل المثال، حول حقيقة أنَّ شكسبير كانت له أختان باسم جوان، وتَستخدِم الأدلةَ الأرشيفية الوفيرة لِتُظهِر أسلوب تطبيق مُمارسةِ تَكرار الأسماء في أوائل العصر الحديث، وتُلقي الضوء على التعامُل مع الهُوية الاجتماعية في المسرحية. أمَّا القسم الخاص بمسرحية «ترويض النمرة»، فيتحدَّث عن الطريقة التي تحتفي بها هذه المسرحية بجذور شكسبير الريفية في ووريكشير. في الواقع، تُثبِت المسرحية بقوة أنها مسرحيةٌ تتناول الأمور العائلية، من حيث كونها كوميديا عن الزواج وليس عن المُغازَلة. ويتَّخِذ تحليلُ مسرحية «الحب مجهود ضائع» من علاقات شكسبير مع المُترجِم جون فلوريو، الذي عاش لفترة في السفارة الفرنسية في لندن، وسيلةً لبدء فَهم ما قد يَعنيه تمثيل ثقافة البلاط الفرنسي الرائعة والمُتألِّقة في إنجلترا. أمَّا القسم المُخصَّص لمسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، فيتحدَّث عن ارتباط شكسبير الإبداعي والمفاهيمي بكلٍّ من مَلكته وسيادة الفن التي يعرِضُها بمهارةٍ بالِغة على خلفية الطبيعة النباتية والحيوانية لمَوطنه الأصلي. وفي المقابل، يتحدَّث القسم الخاص بمسرحية «تاجر البندقية» عن كل ما تَعرَّض له شكسبير ويبعُد كل البُعد عن الأُلفة والمحلية، خاصَّةً اليهود والإيطاليِّين، الذين كانوا، مثله تمامًا، يُقدِّمون التسلية للبلاط. يستعرض القسم التالي اسم مسرحية «ضجَّة كبيرة حول لا شيء»، وخاصةً ما به من تَوْرياتٍ فاحشة مُزدَوَجة المعنى، كانت تُسجَّل دومًا في اللغة من شوارع لندن في عصر شكسبير في شهادات القضايا المُتعلِّقة بالنساء المُتَّهَمات بالدعارة؛ فيطرح التشهير بسيدةٍ أرستقراطية، تمامًا مثل تشويه سُمعة النساء من الطبقات الفقيرة الذي تُجرِّمه السلطات، التساؤُلَ عمَّن يفصِل في عفَّة النساء. هذا وتُعيدنا غابة أردين إلى المقاطعة التي ينتمي إليها شكسبير في القسم التالي الذي يتحدَّث عن مسرحية «كما تشاء»؛ إذ تُوجَد علاقةٌ طوبولوجية مُباشرة بين الغابة وووريكشير، بالإضافة إلى أن اسم تلك الغابة هو اسم والدته ماري قبل الزواج. في هذه المسرحية، تُمثِّل الغابة مَلجأً حيث يَستخدِم شكسبير حُجَّة الكوميديا والمنفى والعزْل ليستعرِض بعضًا من أعمق التساؤلات السياسية في عصره — في الواقع وفي عصرنا أيضًا — عن طبيعة الحرية السياسة ومداها. ونبَع تحليلُنا لمسرحية «الليلة الثانية عشرة» من قُرب حلبةِ رياضةِ تعذيب الدِّبَبة في حديقة باريس جاردن من مسرح «ذا جلوب»؛ ففيها استخدَم شكسبير الوحشية والاحتفال باعتبارهما عاملَين مُثيرَين للضحك. عاد شكسبير إلى مشهد المدينة في مسرحية «الصاع بالصاع»؛ ولهذا يَستخدِم القسمُ الذي يتناولها السكانَ المُتحدِّثِين بالفرنسية في لندن، الذين كان شكسبير على علاقةٍ وطيدةٍ بهم، كوسيلةٍ لمُقارنة التهديد بقطْع رأس كلاوديو بواقعةِ قطعِ رأسٍ واقعيةٍ بسبب سلوكٍ جنسيٍّ سيئٍ في جنيف في عصر كالفن.

تُركِّز المسرحيات التي سيرد تحليلها في الفصل السابع، والمُعَنْوَن «المسرحيات التاريخية الإنجليزية والرومانية: السياسة عند شكسبير»، على المفاهيم السياسية، وهياكل القانون، ونظام الحكم أكثر من تركيزها على الأفراد والأماكن. والهدف هنا لا يتمثَّل في معرفة آراء شكسبير السياسية، التي لا نستطيع الوصول إليها، بل تقدير إلى أيِّ مدًى ساعد «السلام والحرية والتحرر!» («يوليوس قيصر»، الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ١١٠) على شُهرة هذا الجنس الأدبي في وقته. تُظهِر التحليلات في هذا الفصل كيف أقحم شكسبير نفسه في بعضٍ من أكثر القضايا والأحداث السياسية المُتغيِّرة والجديرة بالذكر في عصره، بدايةً من المؤامرات ضدَّ الملكة إليزابيث وحتى تداوُل الكتابات الأوروبية التحريضية المحظورة ضِدَّ الحكم الاستبدادي. ويُقال إنَّ مسرحية «ريتشارد الثاني» على وجه الخصوص كانت تُمثِّل أقرب مواجهة لشكسبير مع حَنَق الدولة الإليزابيثية، في حين عَرضَت مسرحية «ريتشارد الثالث» (التي كتَبَها قبل «ريتشارد الثاني»)، عبر الأداء المسرحي الأخَّاذ لبطلها الذي تحمل المسرحية اسمه، الاقترابَ المُذهِل في بعض الأحيان بين المسرح والسُّلطة. ويُوضِّح القسم الخاص بمسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)» كيف أن المسرحية مُتميِّزة بين مسرحيات شكسبير التاريخية بما فيها من تناقُضٍ مسرحيٍّ ملحوظ بين الثقافة الرفيعة والشعبية، والتاريخ، والكوميديا، وعرضها واسع النطاق للمجموعات الاجتماعية. وتتنقَّل المسرحية بين أساليب الكتابة، من الشعر المُرسَل للسياسة العُليا، إلى الشعر الغنائي الويلزي، وحتى عالم النثر الخاص بالذين يرتادون الحانات ويرتكِبون السرقات على الطرق السريعة. ونختتِم هذا الفصل بمسرحيَّتَين من التاريخ الروماني، هما «يوليوس قيصر» و«كوريلانوس»، على الرغم من إدراج مُحرِّرَي «المَطوية الأولى»، جون هيمنجز وهنري كونديل، هاتَين المسرحيتَين تحت عنوان المسرحيات التراجيدية؛ لأنهما عبارةٌ عن تراجيديا سياسيةٍ عميقة وصريحة. يبدأ القسم الخاص بمسرحية «يوليوس قيصر» بالحديث عن صِلة الإمبراطور التاريخية بإنجلترا، التي تنشأ من حقيقة غزوه للبلاد في عام ٥٤ قبل الميلاد، ويستعرِض إلى أيِّ مدًى يُمكن فَهم الحُكم الفردي في روما القديمة على أنه مُشابِه للحُكم المَلَكي المُطلَق في إنجلترا. أمَّا القسم الخاص بمسرحية «كوريلانوس»، فيستعرِض البطل؛ بطل الأفعال، والمُحارب، من جانبٍ مُهم، بوصفه نقيض شكسبير، المُصوَّر بوصفه قارئًا، لغرض هذا التحليل، وهو شخصٌ وثيق الصِّلة بالكُتب؛ ففي الواقع تُقدِّم لنا هذه المسرحية دليلًا مُعبِّرًا عن كيفية قراءة شكسبير للتاريخ بهدف نقْل ما قرأه إلى وسط المسرح.

يتناول الفصل الثامن، «المسرحيات التراجيدية: الحبَّ والفقد في أعمال شكسبير»، مسرحيات «روميو وجولييت»، و«هاملت»، و«عطيل»، و«الملك لير»، و«ماكبث»، و«أنطونيو وكليوباترا». سأتحدَّث عن البُعد الأدبي للتراجيديا غير القابل للاختزال، وتداخُله مع الأحداث الاجتماعية المألوفة من الحُزن والفَقد، التي حدَث بعضها في أُسرة شكسبير؛ فأحزان شكسبير عادية، سواءٌ فقدانه لطفلٍ أو لوالده، لكن الاستثنائي هو أسلوب تحويله لِصور الفقد هذه المُنتشرة في كلِّ مكانٍ تقريبًا، أشكال الحَسْرة اليومية هذه، إلى أعظم مسرحياتٍ تراجيدية في هذه الفترة.

يستعرض القسم الخاص بمسرحية «هاملت» التصادُفَ العجيب في التسمية بين عنوان المسرحية واسم ابنه المُتوفَّى، هامنت، بالإضافة إلى الغرَق في الطين لسيدةٍ شابَّة من قريةٍ قريبة من ستراتفورد، تُدعى كاثرين هاملت. في الواقع تحمِل الأسماء دومًا في مسرحيات شكسبير دلالاتٍ لها علاقة بسيرته الذاتية، وتبدأ مُناقشة مسرحية «الملك لير» بالتساؤُل عن سبب إطلاق شكسبير على أحد أكبر الأشرار في المسرحية اسم أخيه. وتتمثَّل المُفارقة الكبيرة التي سنتحدَّث عنها في القسم الخاص بمسرحية «عطيل» في أنها على الرغم من كونها مسرحيةً غير إنجليزية دون أدنى شكٍّ من عدَّة نواحٍ؛ إذ تقوم على نحوٍ كبير على النظرة إلى أفريقيا وأصلها الإيطالي، فإنها مع ذلك تراجيديا عائلية. تتحدَّث «عطيل» عن أمورٍ مألوفة، خاصةً تَشويه سُمعة الزوجة العفيفة، الذي يمكن لأيَّة سيدة، بما في ذلك ابنة شكسبير سوزانا، أن تقع ضحيةً له. أمَّا المسرحِيَّتان التراجيديتان الرومانسِيَّتان اللَّتان سنتحدَّث عنهما هنا، «روميو وجولييت» و«أنطونيو وكليوباترا»، فسنتناوَلهما في ضوءٍ بعيد قليلًا عن المسائل الشخصية المباشرة؛ إذ تَشي الأُولى بتعلُّق شكسبير الوثيق بالشعر البتراركي، في حين تُوضِّح الثانية اهتمامه بالمُعضِلة المسرحية بالأساس المُتمثِّلة في كيفية تقديم الأنوثة والسلطة التي تليق بإلهة.

أما الفصل الأخير، «المسرحيات الرومانسية: شكسبير والسِّحر المسرحي»، فيتناول مسرحيتَي «حكاية الشتاء» و«العاصفة»، اللَّتَين كتبهما قُرب أواخر حياته المهنية، ويحدُث فيهما جمع شمل العائلات في النهاية بفعل سِحرٍ مسرحي استثنائي. يبدأ تحليل مسرحية «حكاية الشتاء» بعرضها في البلاط الملكي في عام ١٦١١ أمام الزوجَين الملكيَّين، اللذَين عَرفا، بألمٍ بالغ، شعور فقدان الأطفال، واللذَين نُشِر ما بينهما من خلافاتٍ زوجية حول تربية طفلهما الأكبر ووريثهما في خمسينيَّات القرن السادس عشر بفعل النشرات الإخبارية. تلعب الأخبار والأحداث الجارية دورًا مُهمًّا أيضًا في مسرحية «العاصفة». وفي حين يُنظَر إلى هاتَين المسرحيَّتَين تقليديًّا على أنهما نظرةٌ استرجاعية لشكسبير على حياته المهنية في المسرح، فمِن المُهم أيضًا أنه كان، حتى في أعماله الأخيرة، لا يزال مُراعيًا للأمور ذات الأهمية المباشرة لنفسه ولجمهوره. ويُركِّز القسم الأخير على مسرحية «العاصفة» (التي أصبح من المعروف الآن أنه تلاها عملُه المشترك مع جون فليتشر)، ويتحدَّث عن الحقيقة المُذهلة إلى حدٍّ ما أن شكسبير نفسه، على الرغم من نقله لجمهوره إلى أجواءٍ غريبةٍ وأجنبية، على الأرجح لم يترك إنجلترا قَط.

•••

إذن ما سنتعرَّض له في الفصل التالي هو الحديث عن معرفة شكسبير بالقراءة والكتابة، وهو مُوجَّه لِلقُرَّاء النَّهِمِين لمعرفة معلوماتٍ عن حياة شكسبير. ويُقصَد بهذا العرض تقديمُ دليلٍ واضحٍ لشكسبير وأعماله، وتعميقُ معرفة القُرَّاء بإنجازات شكسبير الأدبية وفترته التاريخية. فأنا أهدف طَوالَ الكتاب إلى جعل هُوية شكسبير الشخصية والاجتماعية والأدبية أكثر وضوحًا. وعند حدوث هذا، آمُل أيضًا أن أُوضِّح كيف دمَجَ شكسبير الحياة من حوله في مسرحياته، وكيف تُظهِر أعمالُه أنَّ هذه العملية بدَورها يُمكنها تغيير الواقع، الذي صاغها في البداية، أو تحويله أو إدهاشه.

هوامش

(1) Samuel Schoenbaum, Shakespeare’s Lives (Oxford: Clarendon Press, 1991), p. 338.
(2) Schoenbaum, Shakespeare’s Lives, p. 338; James Walter, Shakespeare’s True Life (London, 1889); David Piper, “O Sweet Mr Shakespeare: I’ll Have His Picture” (London: National Portrait Gallery, 1964), p. 36.
(3) Quoted in Samuel Schoenbaum, William Shakespeare: A Documentary Life (New York: Oxford University Press, 1975), p. 254.
(4) A.H. Wall, Shakespeare’s Face: A Monologue On the Various Portraits of Shakespeare in Comparison with the Death Mask Now Preserved as Shakespeare’s in the Grand Ducal Museum at Darmstadt (As read before the Melbourne Shakespeare Society, in Australia) (Herald Printing Office: Stratford-Upon-Avon, 1890), p. 4.
(5) Quoted in Schoenbaum, Shakespeare’s Lives, p. 338.
(6) Piper, “O Sweet Mr Shakespeare” p. 36; Nigel Llewellyn, Art of Death: Visual Culture in the English Death Ritual, c.1500–c.1800 (London: Reaktion), p. 54.
(7) Quoted in Roy C. Strong, English Icon: Elizabethan and Jacobean Portraiture (New Haven: Yale University Press, 1970), p. 29.
(8) Schoenbaum, Documentary Life, p. 185
(9) See Susan Sontag, On Photography (New York: Picador 1977, 1st edn 1973), p. 154
(10) Sontag, p. 154.
(11) See Jonathan Gil Harris, “Shakespeare’s Hair: Staging the Object of Material Culture,” Shakespeare Quarterly 52 (2001): 479–91.
(12) Walter, Shakespeare’s True Life, p. 266.
(13) Schoenbaum, Documentary Life, p. 256.
(14) Schoenbaum, Documentary Life, p. 255.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤