الفصل السادس

الأوبئة والأعطال

(١) المنطقة الحارة

قد يكون من الإنصاف القول إن احتمال ظهور الأوبئة الفتاكة لا يقضُّ مضاجع أغلبنا، وربما يرجع ذلك إلى أن معظمنا لم يقرأ كتاب «المنطقة الحارة»، وهو قصة حقيقية بقلم ريتشارد بريستون عن فيروس إيبولا القاتل الذي يهلك ضحاياه وسط فيض من نزيف دموي شديد الضراوة لا تُحدِثه سوى الطبيعة. ظهر هذا الفيروس لأول مرة من مكمنه بالأدغال في عام ١٩٧٦، وقد سُمي بهذا الاسم نسبةً إلى نهر إيبولا الذي يجري في المناطق الشمالية من جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي كانت تُعرَف في السابق باسم «زائير»، وقد ظهر في السودان أولًا، ثم بعد شهرين في زائير حيث انتشر في خمس وخمسين قرية في وقت واحد تقريبًا، حاصدًا نحو سبعمائة روح في ذلك العام وحده.

على الرغم من عدم معرفة الكثير عن فيروس إيبولا، وهو الأمر الذي يدعو إلى الدهشة، فمن المُعتقَد أنه انتقل، شأنه في ذلك شأن فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، من القِرَدَة إلى البشر، وله ثلاث سلالات على الأقل ذات معدلات متزايدة من القدرة على الفتك. تفشى مؤخرًا فيروس إيبولا في أوغندا وكان من سلالة السودان، وهي السلالة التي تتسم بمعدل إماتة يبلغ ٥٠ بالمائة فقط، ومن ثم تُعَد أضعف من السلالتين الأخريين (يحصد فيروس إيبولا زائير ٩٠ بالمائة من أرواح ضحاياه)، ومع ذلك، فقد توفي ١٧٣ شخصًا في مقاطعة جولو في الفترة ما بين أكتوبر من عام ٢٠٠٠ إلى يناير ٢٠٠١ قبل أن ينتهي التفشي نهايته الطبيعية. أدت حالات التفشي الأخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية إلى مقتل أعداد مماثلة من البشر في ظل ظروف مشابهة إلى حد ما، في قرى صغيرة معزولة ذات مرافق رعاية صحية متدهورة. إن قصص الرعب المتعلقة بتفشي هذا الوباء عديدة: الضحايا يذهبون إلى طبيب محلي وهم يشكون من أعراض شبيهة بالإنفلونزا؛ الانهيار والنزيف بعد عدة أيام في أقرب عيادة طبية؛ الإدراك المفزع، والمتأخر عادةً، لتفشي فيروس إيبولا؛ انخفاض عدد المختصين الطبيين الأبطال الموجودين في خط الدفاع الأول؛ انتشار الذعر؛ اكتشاف العشرات من الأجساد الدامية في أكواخ مهجورة؛ خراب القرى وهجرانها؛ ترويع مناطق كاملة. إن فيروس إيبولا وحش ضارٍ بحق، إنه قطعة من الجحيم.

من قبيل المفارقة أن البأس الشديد لفيروس إيبولا هو نفسه نقطة ضعفه الوحيدة: فهو شرس لدرجة تضر به نفسه؛ فعلى عكس فيروس نقص المناعة البشرية الساكن الغادر، يكشف إيبولا عن طبيعته الحقيقية المدمرة في غضون أيام، ويفتك بالمرضى بعد إصابتهم به بقليل، إلى جانب ذلك، ما إن تظهر الأعراض حتى يصبح الضحايا عاجزين تمامًا ويبلغ بهم السقم مبلغه، فيواجهون صعوبة في السفر، ويكون من الممكن حجرهم صحيًّا بسهولة نسبية، ومن ثم الحد من قدرة الفيروس على الانتشار إلى عائلين جدد. نتيجة لذلك، تم احتواء معظم حالات التفشي في المناطق النائية الواقعة بالقرب من الغابات المطيرة وبعيدًا عن المراكز السكانية الرئيسية.

مرة واحدة فقط، أثناء حالة التفشي الثانية في عام ١٩٧٦، تمكن فيروس إيبولا من الوصول إلى مدينة كبيرة، وذلك عندما قضت ممرضة شابة تُدعى ماينجا إن — كانت مصابة بسلالة زائير من هذا الفيروس — أحد الأيام متجولة بأرجاء مدينة كينشاسا، عاصمة الكونغو وأكبر مدنها، ولحسن الحظ، أدت سمة أخرى للفيروس إلى تجنب وقوع كارثة: ففيروس إيبولا — على الأقل في مراحله الأولى — ليس معديًا على الإطلاق، بل حتى عندما يكون المريض في مرحلة متأخرة من المرض، وجسمه ينزف داخليًّا ويسعل مخاطًا مليئًا بالدماء في الهواء، من المعتقد بوجه عام أن الفيروس لا يمكنه الوصول للمضيفين الجدد سوى عبر شقٍّ في الجلد أو غشاء مُنفِّذ مثل أغشية الأنف أو العين. وبوصول الممرضة ماينجا إلى هذه المرحلة، كانت قد أدركت بالفعل مصيرها ووُضِعت تحت الحجر الصحي في المستشفى.

بقراءة ذلك، قد تعتقد أن إيبولا ليس سوى عنصر آخر بسلسلة الأهوال اللانهائية المبتلاة بها البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. وأفريقيا، القارة الأكثر غرابة وتوحشًا، بعيدة بالطبع عن أمريكا بما يكفي بحيث لا يكون للوباء التالي — إذا حدث ومتى حدث — تأثير على سكان أمريكا أكثر من الشعور بالضيق بين الحين والآخر أثناء تصفح الجريدة الصباحية، لكن إذا كان ثمة شيء واحد يمكن تعلمه من كتاب «المنطقة الحارة»، فسيكون أنه ينبغي التوقف عن الاسترخاء الآن. يمثل فيروس إيبولا مشكلة ليس فقط لأفريقيا، لكن للعالم أجمع؛ فمن الممكن أن تحرر سلسلة صحيحة من الأحداث فيروس إيبولا من قيوده، مثلما زحف فيروس نقص المناعة البشرية عبر طريق كينشاسا السريع من مكان ميلاده في الأدغال، وعثر بشكل ما، ربما في إحدى المدن الساحلية، على جايتان دوجاس — المضيف الجوي الكندي الشهير بالمريض صفر — الذي جلب الفيروس إلى الحمامات العامة بسان فرانسيسكو وأدخل مرض الإيدز إلى العالم الغربي.

إن الجانب الأكثر إزعاجًا في قصة بريستون ليس الوصف الحي لحالات الوفاة الناتجة عن فيروس إيبولا، بل احتمالية انتشار الفيروس على مستوى العالم؛ فعلى مدار القرن الماضي لم نتدخل نحن البشر تدخلًا سافرًا فحسب في النظم البيئية القديمة للغابات المطيرة الأفريقية، حيث تكمن أكثر الفيروسات فتكًا، لكننا أنشأنا أيضًا نظامًا دوليًّا لشبكات نقل يمكن أن تنقل مرضًا معديًا إلى مراكز القوة والعواصم العالمية في غضون بضعة أيام؛ أي في فترة تقل عن طور حضانة الإيبولا. ويصف بريستون أحد الأشخاص المحكوم عليهم بالهلاك في قصته، وهو يجلس في طائرة صغيرة متوجهة إلى نيروبي ويتقيأ كميات كبيرة من الدم الأسود، قائلًا: «لقد دخل كلٌّ من شارل موناي والكائن الموجود بداخله إلى الشبكة.»

إن إمكانية ظهور مرض إيبولا في مركز تجاري محلي أبشع مما يمكن تصوره، لكن بعد قراءة كتاب «المنطقة الحارة»، سيُذهلك أنه ليس أمرًا مستبعدًا بهذا القدر. في الواقع، تصف حبكة الأحداث الفرعية في الكتاب تفشي سلالة ثالثة من فيروس إيبولا بين مجموعة من القِردة في أحد معامل أبحاث الجيش الأمريكي في ريستون بولاية فيرجينيا، بالقرب من واشنطن العاصمة؛ لقد اكْتُشِف أن الفيروس، المعروف الآن باسم إيبولا ريستون، لا يضر بالبشر، لكنه مهلك بشكل مذهل للقِردة المسكينة التي مات جميعها، لكن فيروس إيبولا ريستون كان شديد الشبه بإيبولا زائير، فلم تتمكن أيٌّ من الاختبارات التقليدية آنذاك من التفريق بينهما، وظل العلماء ومدربو الحيوانات، الذين تعرضوا له، يظنون أنه إيبولا زائير لبضعة أيام من القلق الشديد، وإن كان الأمر كذلك بالفعل — ولحسن الحظ أنه لم يكن — لكان جميعنا قد عرف عن إيبولا أكثر مما نعرفه الآن.

(٢) فيروسات الإنترنت

ليست الفيروسات البيولوجية المصدر الوحيد المحتمل للأوبئة في العصر الحالي، وهذا ما اكتشفتْه كلير سواير لحظها التعس قبل أعياد رأس السنة لعام ٢٠٠٠. كلير سواير شابة إنجليزية من الواضح أنها أقامت علاقة لفترة قصيرة قبل أعياد رأس السنة ببضعة أيام مع شاب إنجليزي يُدعَى برادلي تشايت، ونظرًا لكونها سيدة معاصرة، أرسلت إليه رسالة بالبريد الإلكتروني تطري عليه فيها، وراقت هذه الرسالة لتشايت كثيرًا، فقرر مشاركتها مع أصدقائه؛ أصدقائه المقربين فقط، وعددهم ستة أفراد، لكن من الواضح أنهم استمتعوا بدورهم برسالة الإطراء، فأعادوا توجيهها للعديد من أقرب معارفهم وأعزهم، الذين شعر الكثيرون منهم بالشعور ذاته، وهكذا، دارت تلك الرسالة البريدية البسيطة، مع إضافة بسيطة من تشايت: «إطراء لطيف من إحدى عشيقاتي» في العالم ليستمتع بها نحو ٧ ملايين قارئ في غضون أيام. سبعة ملايين! تحتم على كلير المسكينة الاختباء لتجنب السعار الصحفي الناجم عن تلك الفضيحة، وتعرَّض تشايت لإجراء تأديبي من شركة المحاماة التي يعمل بها بسبب استخدامه غير المصرح به لحساب البريد الإلكتروني الخاص به (كما لو أن الناس لا يرسلون رسائل شخصية عبر البريد الإلكتروني الخاص بالعمل طوال الوقت!) قد تكون قصة سخيفة، لكنها مثال جيد على قوة التزايد الأسِّي، خاصةً عند اقترانه بنقل المعلومات غير المكلِّف الذي يقدمه الإنترنت. وحول هذا الموضوع، هناك العديد من الأمور الخطيرة التي يجب التحدث عنها.

تُجري الفيروسات، سواء التي تصيب البشر أو الحاسبات، بشكل أساسي نوعًا مما أطلقنا عليه «البحث واسع الانتشار» بجميع أنحاء الشبكة، وتمثل الأبحاث واسعة الانتشار — كما ناقشنا في الفصل الخامس — أكثر الطرق فعالية للبدء من أي نقطة تلاقٍ، والعثور على كل نقطة تلاقٍ أخرى عن طريق التفرع على نحو منتظم من كل نقطة تلاقٍ جديدة إلى كلٍّ من النقط غير المستكشفة المجاورة لها، لكن عندما يبدأ مرض ما «بحثًا»، فإنه لا يبحث عن شيء معين، بل يسعى ببساطة لنشر نفسه إلى أقصى مدى ممكن، ومن ثم فإن «كفاءة» كيان معدٍ كالفيروس تحمل بين طياتها دلالات للقدرة على الإيذاء، وكلما كان الفيروس أكثر نقلًا للعدوى، زادت كفاءته في البحث، ومن ثم يعد فيروس إيبولا أكثر كفاءة من فيروس نقص المناعة البشرية من حيث نقله للعدوى (لا يتقيأ المرضى المصابون بنقص المناعة البشرية دمًا في غرفة الطوارئ)، لكنه أقل كفاءة من حيث إنه يؤدي إلى الوفاة سريعًا للغاية. وكلٌّ من فيروس نقص المناعة البشرية وإيبولا أقل كفاءة بكثير من فيروس الإنفلونزا، الذي لا يبقي على مضيفيه أحياء فترة أطول فحسب، بل هو قادر أيضًا على الانتشار عبر الجسيمات التي يحملها الهواء. ولإدراك أهمية كفاءة الأمراض على النحو الصحيح، نقول إنه لو كانت عدوى إيبولا تنتقل عبر الهواء، لكان قد قُضي على الحضارة الحديثة في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
على الرغم من وجوب القلق بشأن احتمال ظهور وباء جُحاف بين البشر، فإن فيروسات الكمبيوتر — من حيث الكفاءة فحسب — أكثر إثارةً للقلق من الفيروسات البشرية. يمكن النظر لأي فيروس — سواء أكان يصيب البشر أم أجهزة الكمبيوتر — على أنه ليس أكثر من مجموعة من التعليمات للتوالد باستخدام مواد من المضيف كوحدات بناء. في البشر، يحجب جهاز المناعة مجموعات التعليمات الغريبة، التي من المحتمل أن تنطوي على خطرٍ ما، لكن أجهزة الكمبيوتر لا تمتلك أجهزة مناعة بوجه عام. تتمثل وظيفة الكمبيوتر، أساسًا، في تنفيذ التعليمات بأكبر قدر من الكفاءة، بصرف النظر عن مصدر هذه التعليمات؛ لذا فإنه أكثر عرضة للتأثر بالأكواد الخبيثة مقارنةً بتعرض البشر للفيروسات، ومع أن وباءً عالميًّا يصيب أجهزة الكمبيوتر قد لا ينذر بنهاية الحضارة البشرية، فلا يزال بإمكانه إحداث ضرر اقتصادي جسيم. لم يسبق حدوث ذلك من قبل، لكننا واجهنا بالفعل بعض الاضطرابات المزعجة؛ ففي السنوات القليلة الأخيرة من القرن العشرين، حتى قبل أن تصبح مشكلة عام ٢٠٠٠، التي يُرمَز إليها بالرمز Y2K، خاتمة مخيبة للآمال للألفية، أحدثت سلسلة من فيروسات الكمبيوتر قدرًا هائلًا من الإرباك والإزعاج لمئات الآلاف من المستخدمين بجميع أنحاء العالم، وبدأت الهيئات الحكومية والشركات الكبيرة، وحتى عامة الناس المتضاربة آراؤهم عادةً، في التأهب والانتباه.

لقد تعايشنا مع فيروسات الكمبيوتر لعقود من الزمان، فلماذا لم نبدأ في مواجهتها على مستوى عالمي إلا مؤخرًا؟ الإجابة عن هذا السؤال هي نفسها الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين: الإنترنت. قبل ظهور الإنترنت، انتشرت الفيروسات، وكان مستخدمو الكمبيوتر يواجهون صعوبات بين الحين والآخر، لكن، آنذاك، كان السبيل الوحيد لنقل فيروس من جهاز لآخر هو القرص المرن، الذي يجب أن يوضع داخل الجهاز. بالطبع، كان من الممكن للقرص المُحمَّل بالفيروس أن ينتشر بين الكثير من أجهزة الكمبيوتر، وعندما يصاب أحدها به، تؤدي محاولة إنقاذ الملفات ذات الصلة بنقلها إلى قرص غير مُحمَّل بالفيروس إلى انتقال الفيروس إلى هذا القرص أيضًا، ومن ثم كانت إمكانية النمو المتسارع موجودة بالفعل، لكن طبيعة الانتشار الملموسة إلى حدٍّ بعيد — مثل حاجة فيروس إيبولا لشقٍّ في الجلد لينتشر — قللت بوجه عام من كفاءة الفيروسات إلى الحد الذي أصبح معه الظهور البسيط للفيروسات لا يتحول إلى أوبئة متفشية.

جاءت شبكة الإنترنت، وخاصة البريد الإلكتروني، لتغيِّر ذلك كله، وهذا ما بدأ العالم في إدراكه بحلول شهر مارس من عام ١٩٩٩ بظهور الفيروس ميليسا، ومع أنه كان يُشار بوجه عام إلى ميليسا على أنه فيروس (أو خطأ برمجي)، فقد كان يتشابه في العديد من الأوجه مع نوع آخر من الأكواد الضارة تُعرَف باسم ديدان الكمبيوتر، لا تسبب هذه الديدان الضرر لأجهزة الكمبيوتر الفردية بقدر ما تحدثه للشبكات؛ فهي تنسخ نفسها وتنتقل في أعداد كبيرة من جهاز لآخر دون تنشيط من جانب المستخدم. ظهر فيروس ميليسا، الذي كان آنذاك أسرع الفيروسات التي رآها الإنسان انتشارًا، في صورة رسالة بريد إلكتروني تحمل العنوان التالي: «رسالة هامة من (اسم)»، بحيث يشير «اسم» إلى المستخدم المُرسِل للرسالة، أما متن الرسالة، فهو: «إليك بالوثيقة التي طلبتها … لا تطلع أحدًا آخر عليها ؛-)» ومرفق بها مستند وورد يحمل اسم list.doc، وفي حال فتح المستند المرفق، يرسل ماكرو ميليسا نسخًا منه تلقائيًّا إلى أول خمسين عنوانًا في قائمة عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بالمستخدم، وفي حال كان أحد هذه العناوين قائمة بريدية، فسيصل الفيروس إلى كل من تضمهم هذه القائمة.

كانت العواقب وخيمة؛ فعند اكتشاف الفيروس للمرة الأولى يوم الجمعة، ٢٦ مارس، كان قد انتشر بجميع أرجاء المعمورة في غضون ساعات، وبحلول صباح يوم الاثنين كان قد أصاب ما يزيد عن مائة ألف جهاز كمبيوتر في ثلاثمائة مؤسسة قاصفًا بعض المواقع بعدد هائل من الرسائل (وصل في إحدى الحالات إلى اثنين وثلاثين ألف رسالة خلال خمس وأربعين دقيقة!) الأمر الذي أجبر تلك المؤسسات على قطع اتصال نظمها البريدية عن الإنترنت. مع ذلك، كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك بكثير. كان فيروس ميليسا غير خطير نسبيًّا — إذ كان أسوأ أثر له هو إدراج مرجع غير ضار لمسلسل «عائلة سيمبسون» في مستند مفتوح عندما تتوافق الدقيقة في الساعة مع تاريخ اليوم — ولم يكن بإمكانه أيضًا الانتشار إلا عن طريق برنامج البريد مايكروسوفت أوتلوك. ظل وصول الفيروس إلى من لا يستخدمون برنامج أوتلوك ممكنًا، لكن مع عدم إمكانية انتقاله إلى آخرين. هذا هو الفارق الذي له عواقب مهمة (ربما لشركة مايكروسوفت نفسها) تتعلق باحتمالية أن يصبح الفيروس فيروسًا عالميًّا مدمرًا حقًّا كما سنوضح لاحقًا، لكن، أولًا، علينا أن نعرف بعض المعلومات عن الرياضيات المتعلقة بأي مرض معدٍ، وعلينا أن نفهم، على وجه الخصوص، الظروف التي يصبح فيها ظهور مرض بسيط وبائيًّا.

fig30
شكل ٦-١: الحالات الثلاث للنموذج SIR. يمكن لكل عضو بمجموعة الأفراد أن يكون قابلًا للإصابة أو مُعديًا أو مُبعَدًا، ويمكن أن يصاب الأفراد القابلون للإصابة بالعدوى عن طريق التفاعل مع الناقلين لها، ويمكن أن يُشفَى الناقلون للعدوى أو توافيهم المنية، ومن ثم يتوقف دورهم في هذه الديناميكية، وفي حال شفائهم، قد يصبحون قابلين للإصابة ثانيةً من خلال فقد المناعة.

(٣) رياضيات الأوبئة

ظهر علم الأوبئة الرياضي الحديث لأول مرة منذ ما يزيد عن سبعين عامًا بظهور النموذج SIR، الذي صاغه عالما الرياضيات: ويليام كيرماك وإيه جي ماكندريك، ولا يزال يمثل إطار العمل الرئيسي الذي تُبنى عليه معظم نماذج الأمراض المعدية. تشير الأحرف المكونة للاختصار إلى الحالات الثلاث الرئيسية (الموضحة في الشكل ٦-١) التي يمكن أن يكون عليها أي فرد فيما يخص أي مرض بعينه، وهي: susceptible (قابل للإصابة)؛ وتعني أن الفرد يكون عرضة للإصابة سريعًا بالعدوى لكن لم يُصَب بها بعد، وinfectious (معدٍ)؛ وتعني أن الفرد لا يكون مصابًا بالعدوى فحسب، بل بإمكانه أيضًا نقلها للآخرين؛ وremoved (مُبعَد)؛ وتشير إلى أن الفرد إما شُفي أو لم يعد يمثل أي تهديد آخر (ربما بوفاته). ولا يمكن أن تحدث حالات عدوى جديدة إلا عندما يتصل شخص مصاب، يُوصَف عادةً بالمُعدي، اتصالًا مباشرًا بشخص قابل للإصابة، عندئذٍ يصبح الشخص سريع التأثر معديًا، مع إمكانية لنقل العدوى تعتمد على قدرة المرض على الانتقال وسمات الشخص القابل للإصابة (من الواضح أن بعض الناس أكثر قابلية للإصابة من آخرين).
من الجلي أن هوية الأفراد الذين يتصل بعضهم ببعض تعتمد على شبكة المعارف في أي مجموعة؛ لذا، ولاستكمال النموذج، يلزم وضع بعض الافتراضات بشأن الشبكة؛ تفترض النسخة القياسية للنموذج — على سبيل المثال — أن التفاعلات بين أعضاء المجموعات الثلاث تحدث على نحو عشوائي تمامًا، كما لو أنهم مُزجوا في وعاء كبير، كالموضح في الشكل ٦-٢. إن العشوائية التامة، كما هو موضح في الشكل ٦-٢، ليست تمثيلًا مثاليًّا للتفاعلات البشرية، لكنها تبسط التحليل بالتأكيد على نحو كبير. في النموذج SIR، يشير افتراض العشوائية إلى أن احتمال مقابلة شخص معدٍ لآخر قابل للإصابة لا يحدده سوى عدد الأفراد الناقلين للعدوى والقابلين للإصابة، ففي الوعاء لا توجد بنية للمجموعة البشرية يمكن التحدث عنها. لا تزال المشكلة غير هينة، لكن على الأقل يمكن الآن تسجيل مجموعة من المعادلات لا تعتمد حلولها إلا على حجم الظهور الأول للمرض وبعض المعايير الخاصة بالمرض نفسه؛ كإمكانية العدوى ومعدل الشفاء.
fig31
شكل ٦-٢: في الصورة التقليدية للنموذج SIR، يُفترَض أن تكون التفاعلات عشوائية تمامًا. يمكن التفكير في التفاعلات العشوائية كما لو أن الأفراد يُمزَجون معًا في وعاء كبير. تتمثل النتيجة الرئيسية لافتراض المزج العشوائي في أن احتمالات التفاعل تعتمد على أحجام مجموعات الأفراد النسبية فحسب، وهي السمة التي تبسط التحليل بشكل كبير.
وفقًا للنموذج، عند تفشي وباء ما، لا بد أن يتبع مسارًا يمكن التنبؤ به يعرفه علماء الرياضيات باسم «النمو اللوجيستي». كما يشير الشكل ٦-٣ على نحو تخطيطي، تتطلب كل عدوى مشاركة شخص ناقل للعدوى وآخر قابل للإصابة، ومن ثم يعتمد المعدل الذي يمكن أن تظهر به حالات العدوى الجديدة على حجم مجموعتي الأفراد كلتيهما. عندما يكون المرض في مراحله المبكرة، تكون مجموعة الناقلين للعدوى صغيرة، ومن ثم يكون أيضًا معدل حالات العدوى الجديدة صغيرًا؛ وكما يوضح الرسم العلوي بالشكل ٦-٣، لا يوجد عدد كافٍ من ناقلي العدوى لإحداث ضرر كبير. تعد مرحلة النمو البطيء هذه أكثر المراحل فعالية لإعاقة وباء ما؛ إذ يمكن لعدد صغير من حالات العدوى يتم تلافيها أن تعود بالمرض إلى مرحلة السكون، ومع الأسف، يمكن أن يصعب تمييز وباء ما في مرحلته المبكرة من خلال مجموعة عشوائية من الحالات غير المرتبطة ببعضها، خاصةً إذا اتسمت هيئات الصحة العامة بسوء التنسيق أو أبَت الاعتراف بأن لديها مشكلة ما.
fig32
شكل ٦-٣: في النمو اللوجيستي، يعتمد معدل نمو حالات العدوى الجديدة على حجم مجموعتَي الأفراد الناقلين للعدوى والقابلين للإصابة. عندما تكون أيٌّ منهما صغيرة (الرسمان العلوي والسفلي بالشكل)، تندر حالات العدوى الجديدة، لكن عندما تكون المجموعتان متوسطتَي الحجم (الرسم الأوسط)، تصل معدلات العدوى إلى أقصى حد ممكن لها.
عندما تزيد كثافة الناقلين للعدوى على نحو يصبح معه من الصعب إغفالها أو تجاهلها، يدخل الوباء عادة «مرحلة الانفجار» في عملية النمو اللوجيستي (الرسم الأوسط بالشكل ٦-٣). يوجد الآن الكثير من الأفراد الناقلين للعدوى والأفراد القابلين للإصابة، ومن ثم يصل معدل حدوث حالات عدوى جديدة إلى أقصى حد له. من المستحيل عمليًّا إيقاف الأوبئة في مرحلة النمو المتفجر، وهذا ما واجهه المزارعون البريطانيون في عام ٢٠٠١ عندما تفشى مرض الحمى القلاعية على مدى نصف عام بجميع أرجاء إنجلترا وبعض أجزاء من اسكتلندا. عند اكتشاف الوباء في منتصف شهر فبراير؛ أي بعد ثلاثة أسابيع فقط من إصابة الحالات الأولى، كان المرض قد تفشى بالفعل في ثلاث وأربعين مزرعة؛ قد يبدو ذلك عددًا كبيرًا من المزارع، لكن الوباء كان لا يزال في مرحلة النمو البطيء الأولية، وبحلول شهر سبتمبر، زاد عدد المزارع المشتبه في إصابتها إلى ما يزيد عن تسعة آلاف، بالرغم من الذبح الوقائي لما يقرب من ٤ ملايين رأس من الماشية والغنم.
لكن، في النهاية، حتى أكثر الأوبئة صعوبة في السيطرة عليها تصل إلى نهاية، حتى لو كان السبب هو استنفاد نفسها، ونظرًا لأن عدد الأشخاص (أو الماشية، في حالة الحمى القلاعية) الذين يمكن إصابتهم بالعدوى كبير للغاية، تزداد صعوبة الوصول إلى الأفراد القابلين للإصابة وتهدأ حدة المرض ثانيةً. هذه هي مرحلة الخمود في النمو اللوجيستي. في وباء الحمى القلاعية، برزت عملية التحجيم الذاتي هذه من خلال الحجر الصحي الفعال للأراضي الزراعية والإبادة الفعالة للماشية (حوالي ألفي حالة فعلية من المرض اكْتُشِفَت، وهي نسبة ضئيلة من أعداد الماشية التي قُتلت). وهكذا يعكس مسار الوباء، من البداية إلى النهاية، منحنى على شكل حرف S، كما هو موضح في الشكل ٦-٤. إن إمكانية تفسير السمات الأساسية لهذا المسار — النمو البطيء والانفجار والخمود — في إطار نموذج النمو اللوجيستي يشير إلى أن القوى التي تحكم وباء ما، عندما يحدث، بسيطة للغاية.
fig33
شكل ٦-٤: النمو اللوجيستي، الذي يوضح مرحلة النمو البطيء ومرحلة الانفجار ومرحلة الخمود.
لكن الأوبئة لا تحدث طوال الوقت. في الواقع يُحْتَوى أغلب الأمراض من خلال التدخل البشري، أو (في أحيان أكثر) تستنفد نفسها قبل أن تصيب نسبة بسيطة للغاية من السكان. على سبيل المثال، مع ما أثاره تفشي فيروس إيبولا عام ٢٠٠٠ من رعب، فلم يحمل ما يؤهله لأن يكون وباءً حقيقيًّا، ومع أن ١٧٣ ضحية عدد كبير في المطلق، ظل تفشي المرض محصورًا في مجموعة محددة جغرافيًّا من القرى، دون أن يفرض تهديدًا على مجموعات الأفراد المعرضين للإصابة بالمرض، على النقيض من ذلك، أصاب وباء الحمى القلاعية عام ٢٠٠١ الدولة بأكملها تقريبًا، وفي إطار النموذج SIR، يكون إيقاف أحد الأوبئة مساويًا تقريبًا لمنعه من الوصول إلى مرحلة الانفجار في النمو الموضحة في الشكل ٦-٤، الأمر الذي لا يشير إلى التركيز على حجم الظهور المبدئي، بل على «معدل نمو» هذا الحجم. يتمثل المقياس الرئيسي لأحد الأمراض من هذا المنطلق في «معدل التزايد»؛ أي متوسط عدد حالات العدوى الجديدة التي يؤدي إليها كل فرد مصاب حاليًّا بالعدوى.

يتمثل الشرط الرياضي للوباء في ضرورة أن يكون معدل تزايد المرض أكبر من واحد؛ ففي حال بقاء معدل التزايد عند درجة أقل من واحد، يُبعَد الناقلون للعدوى من مجموعة الأفراد بمعدل أسرع من ظهور ناقلين جدد، وسيبلغ المرض نهايته دون أن يصير وباءً، أما إذا زاد معدل التزايد عن واحد، فلن يزيد المرض من انتشاره فحسب، بل سيزيد أيضًا من السرعة التي سيواصل الانتشار بها، ويصير من الحتمي حدوث النمو المتفجر. والوضع الحرج بين هاتين الحالتين، حيث يمرر مضيف واحد المرض لمضيف جديد واحد بالتحديد، يُعرف ﺑ «حد» الوباء. والوقاية من الوباء تعني إبقاء معدل التزايد أقل من هذا الحد.

في النموذج SIR التقليدي، حيث يُغَض الطرف عن بنية مجموعة الأفراد، يُحدَّد معدل التزايد، ومن ثم حد الوباء، بالكامل عن طريق سمات المرض نفسه (قدرته على العدوى، وسرعة شفاء ناقليه أو وفاتهم)، وحجم مجموعة الأفراد المعرضين للإصابة الذي يمكن لحاملي المرض التفاعل من خلاله، ومن ثم أدت ممارسات الجنس الآمن إلى الحد من وباء فيروس نقص المناعة البشرية في بعض مناطق العالم عن طريق استهداف معدل العدوى، في حين أدت الإبادة واسعة الانتشار للحيوانات في بريطانيا أثناء وباء الحمى القلاعية إلى التقليل من حدته عن طريق الحد من الحجم الفعلي للحيوانات المعرضة للإصابة.
يُعَد مفهوم مساواة معدل تزايد الحد في النموذج التقليدي للرقم واحد بالضبط إحدى نقاط التقارب العميقة التي تجعل من الرياضيات أمرًا مثيرًا للغاية. في الواقع، يماثل حد الوباء بالضبط النقطة الحرجة التي يظهر عندها مكون ضخم في شبكة عشوائية (انظر الفصل الثاني)، حيث يكون معدل التزايد مساويًا من الناحية الرياضية لمتوسط عدد الجيران على الشبكة، ويكون حجم مجموعة الأفراد الناقلين للعدوى، باعتباره دالة لمعدل التزايد (الشكل ٦-٥)، مساويًا بالضبط لحجم المكون الضخم في الشكل ٢-٢. وبعبارة أخرى، يظهر الوباء عندما يمر المرض بالتحول الطوري نفسه بالضبط الذي اكتشفه إيردوس وريني في مسألة شبكات الاتصالات التي تناولاها بالبحث، والتي تبدو غير ذات صلة بالأوبئة، لكن هذا التشابه الجدير بالملاحظة يشير أيضًا إلى نقد واضح؛ فإذا رفضنا اعتبار نماذج رسوم بيانية عشوائية تمثيلات واقعية لشبكات العالم الفعلي، سواء أكانت اجتماعية أم غيرها، أليس من المفترض أيضًا رفض أي استنتاجات بشأن الأوبئة تعتمد على الافتراضات ذاتها؟ إن اعتماد معدل التزايد على حجم مجموعة الأفراد المعرضين للإصابة فحسب — على سبيل المثال — لا يفسر أيًّا من سمات البنية الاجتماعية أو بنية الشبكات التي يمكن أن تكون مفيدة في مقاومة الأوبئة، وكما سنرى، تظل بعض الدروس المتعلقة بالنموذج التقليدي قائمة، حتى في عالم الشبكات المعقد، لكن هناك دروسًا أخرى مبنية على الشبكات يجدر تعلمها أيضًا.
fig34
شكل ٦-٥: التحول الطوري في النموذج SIR. عندما يتجاوز معدل تزايد المرض (م) واحدًا (حد الوباء)، يحدث الوباء.

(٤) الأوبئة في عالم صغير

انصب اهتمامي أنا وستيف في البداية — كما يذكر القارئ — على الديناميكيات، لكن انتهى بنا الحال بالعمل على الشبكات؛ لأننا كنا مهتمين بديناميكيات المذبذبات المترابطة؛ صراصير الليل؛ لذا عندما أصبح لدينا بعض نماذج الشبكات التي يمكننا استخدامها، أخذنا نفكر بطبيعة الحال كيف ستعمل النظم الديناميكية المختلفة بهذه الشبكات، وكان أول نظام حاولنا فهمه هو نموذج مذبذبات كوراموتو (الموضح في الفصل الأول من هذا الكتاب) الذي تناوله ستيف بالبحث المكثف في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية، لكن للأسف، مع ما يتسم به نموذج كوراموتو من بساطة، فإن سلوكه بشبكات العالم الصغير ظل معقدًا لدرجة حالت دون فهمنا له (وهو ما استمر عليه الحال سنوات عديدة لاحقة)، من ثم بدأنا في البحث عن نوع أبسط من الديناميكيات، ومجددًا كانت اهتمامات ستيف البيولوجية ذات فائدة. قال ستيف ذات مرة في مكتبه: «يتعلق النموذج SIR بأبسط نوع يمكنني التفكير فيه على الإطلاق من الديناميكيات غير الخطية، وأنا على يقين تام بأنه ما من أحد فكر جديًّا في عمل النموذج SIR على إحدى الشبكات؛ على الأقل ليس على شبكة كهذه. لماذا إذن لا نحاول فعل ذلك؟»
وفعلنا، لكن هذه المرة أجريتُ بعض التحضير المسبق، وكما هو متوقع، ومع تعميم نموذج SIR الأساسي بطرق عديدة ليتضمن الخصائص المميزة لأمراض معينة، والصور المختلفة لسرعة التأثر لدى مجموعات سكانية مختلفة، لم يظهر ما يشبه شبكات العالم الصغير في الدراسات الموضوعة عن هذا الأمر. كان هذا وحده مشجعًا، تمامًا مثل التساوي العميق بين النموذج SIR التقليدي والاتصال في الرسم البياني العشوائي؛ فأيًّا كان سلوك المرض في شبكة عالم صغير عامة، يمكن أن نوقن بأنه يشبه سلوك النموذج SIR التقليدي في حدود كل الصلات التي أعيد الربط بينها عشوائيًّا (كما هو موضح في الجزء الأيمن من الشكل ٣-٦). ومن ثم، ليس لدينا نموذج شبكة فحسب، وهو الذي استوعبناه جيدًا بالوصول إلى هذه المرحلة، بل لدينا أيضًا مقياس راسخ للمقارنة بين النتائج التي نتوصل إليها.
أول مقارنة كان من الطبيعي أن نجريها من حيث الحد العشوائي، كانت المقارنة بمرض ينتشر بشبيكة أحادية البعد؛ الحد المنظم لسلسلة العالم الصغير، والمبينة في الجانب الأيسر بالشكل ٣-٦. في الشبيكات — كما تناولنا في الفصل الثالث — تكون الروابط بين نقاط التلاقي شديدة التكتل، مما يشير إلى أن الشبكة تدفع بالمرض المنتشر باستمرار إلى مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى بالفعل، وكما هو موضح في الشكل ٦-٦، في شبيكة أحادية البعد، يحتوي بالفعل تكتل متنامٍ من الناقلين للعدوى على نوعين من نقاط التلاقي؛ تلك الموجودة داخل التكتل (التي لا يمكن أن تصيب أي شخص جديد) والموجودة على الحد، أو «جبهة المرض». وبصرف النظر عن كبر حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى، يظل حجم جبهة المرض ثابتًا، ومن ثم ينخفض معدل نمو مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى «لكل شخص» حتميًّا مع انتشار العدوى. من ثم تمثل الشبيكة سياقًا للوباء مختلفًا تمامًا عن افتراض المزج العشوائي الموضح أعلاه، إلى جانب أنها تجعل من الصعب حساب معدل التزايد، لذا قررنا المقارنة بين نتائج شبكاتنا المختلفة مباشرة وفق القدرة على نقل العدوى، وكان الفارق مذهلًا؛ فكما هو موضح في الشكل ٦-٧، يصيب المرض ذاته، المنتشر في شبيكة، عددًا من الناس أقل بكثير مما يصيبه في الرسم البياني العشوائي، ولا يكون هناك أي حد واضح بعد ذلك، والرسالة هنا هي أنه عندما يكون انتشار الأمراض قاصرًا على عدد محدد فقط من الأبعاد — وليكن، مثلًا، جغرافيا الأرض ثنائية البعد — لا يتطور إلى أوبئة حقيقية سوى أكثر الأمراض تسببًا في العدوى، وحتى عندئذٍ ستكون أوبئة بطيئة زاحفة، وليست متفجرة، مما يمنح هيئات الصحة العامة الوقت الكافي للاستجابة، ومنطقة محددة للتركيز عليها.
fig35
شكل ٦-٦: في الشبيكة الحلقية، تكون جبهة المرض (حيث يتفاعل الناقلون للعدوى مع المعرضين للإصابة بالمرض) ثابتة، ومع زيادة حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى، يزيد عدد الناقلين للعدوى في الداخل، في حين لا يمكنهم الوصول إلى أشخاص جدد، ومن ثم تنتشر الأمراض ببطء في الشبيكات.
fig36
شكل ٦-٧: الجزء المصاب بالعدوى في مقابل القدرة على نقل العدوى لحد الرسم البياني العشوائي (β = ١) وحد الشبيكة (β = ٠) وفق النموذج بيتا الموضح في الفصل الثالث. إن قيمة حد نقل العدوى تمثل القدرة اللازمة لإصابة نصف مجموعة الأفراد بالعدوى.
من أمثلة هذه الأوبئة الزاحفة الطاعون الأسود الذي تفشى بجميع أنحاء أوروبا في القرن الرابع عشر ليبيد نحو ربع سكانها، ومع أن هذه الإحصائية قد تبدو مذهلة، فإن وباء مثل الطاعون من المرجح ألا يحدث في العصر الحالي؛ على الأقل ليس في العالم الصناعي. كما تشير الخريطة في الشكل ٦-٨، بدأ الطاعون في مدينة واحدة بجنوب إيطاليا (حيث يُعتقد أنه وصل إليها عن طريق سفينة تحمل العدوى من الصين)، ثم انتشر في موجات أشبه بتموجات على سطح بِركة ألقي بها حجر، ونظرًا لانتقال المرض في الغالب عن طريق جرذان مصابة ببراغيث محملة بالطاعون (طاعون دَبليّ)، استغرق الأمر ثلاث سنوات، من ١٣٤٧ إلى ١٣٥٠، ليجتاح المرض أوروبا. لم يكن باستطاعة الطب أو خدمات الصحة العامة آنذاك الحيلولة دون اجتياح الطاعون، عديم الهوادة، الأرجاء، ومن ثم لم تحدث سرعته البطيئة نسبيًّا فارقًا كبيرًا في النهاية، لكن في العالم المعاصر يمكن التعرف على أي مرض يُجبَر على الانتقال بهذه الطرق البطيئة المفتقرة للكفاءة واحتواؤه.
fig37
شكل ٦-٨: خريطة توضح تفشي الطاعون (الموت الأسود) في أوروبا في الفترة ما بين ١٣٤٧ و١٣٥٠.
مع الأسف، تمتلك الأمراض في عصرنا الحالي آليات انتقال أفضل بكثير من الجرذان المهرولة، وما إن نسمح بجزء صغير من الروابط العشوائية بدخول نماذج الشبكات حتى يتحطم الاستقرار النسبي لنموذج الشبيكة. لرؤية هذا التأثير، انظر الخط الأفقي المرسوم في منتصف الجزء العلوي من الشكل ٦-٧؛ تمثل النقطتان اللتان يتقاطع عندهما منحنيا العدوى مع الخط قِيَم القدرة على العدوى بالمرض، التي يصاب عندها هذا الجزء من مجموعة الأفراد بالعدوى (في هذا الشكل يمثل الجزء النصف، لكن يمكن أن نختار قيمة أخرى). سمِّ هذه القيمة «حد نقل العدوى» (تذكَّر أنه لم يعد بإمكاننا استخدام معدل التزايد لتحديد الحد الخاص بالوباء، لذلك نحن نستخدم جزءًا ثابتًا من مجموعة الأفراد بدلًا من ذلك)، ثم تساءل كيف تختلف هذه القيمة باختلاف جزء الطرق المختصرة العشوائية في الشبكة. كما سنرى في الشكل ٦-٩، يبدأ حد نقل العدوى عاليًا — يجب أن يكون المرض ذا قدرة عالية على نقل العدوى لكي يصيب عددًا كبيرًا من الأفراد — لكنه ينخفض سريعًا بعد ذلك، والأهم من ذلك أنه يقترب من أسوأ سيناريو له متمثلًا في شبكة عشوائية تمامًا في حين تظل الشبكة نفسها بعيدة تمامًا عن العشوائية.

قد تساعد هذه الملاحظة في تفسير لماذا تتمكن الأوبئة، كالحمى القلاعية في بريطانيا، من التفجر سريعًا للغاية؛ نظرًا لأن مرض الحمى القلاعية ينتشر بين الحيوانات، إما عن طريق الاتصال المباشر أو بصورة غير مباشرة من خلال القطرات المتطايرة بفعل الرياح، الآتية من الحيوانات التي تظهر عليها الأعراض وفي التربة المشبعة بالفيروس، ربما يتوقع المرء أن ينتشر الظهور الأول للوباء في مساحة جغرافية ثنائية الأبعاد بالريف الإنجليزي فحسب، كما فعل الطاعون منذ سبعمائة عام مضت، لكنَّ كلًّا من وسائل النقل الحديثة، وأسواق الماشية الحديثة (التي تشهد تبادلًا للحيوانات التي تنتمي لمناطق جغرافية مختلفة)، والمسافرين تنزهًا على الأقدام حاملين في أحذيتهم التربة الملوثة بالفيروس، أدت جميعها إلى كسر القيود الجغرافية؛ نتيجة لذلك، تتصل مزارع الماشية والأغنام البريطانية بواسطة شبكة من نظم المواصلات يمكن أن تنقل الحيوانات (والأفراد) المصابة بالعدوى إلى أي مكان في الدولة بين عشية وضحاها، ونظرًا لأن هذه الروابط، بكل المقاييس العملية، عشوائية، لم يكن على الفيروس سوى أن يعثر على عدد قليل من هذه الروابط لكي ينطلق إلى منطقة جديدة. تتمثل إحدى المشكلات المبكرة الهامة — على سبيل المثال — فيما يتعلق بالقضاء على الوباء، في أن المزارع الثلاث والأربعين التي اكْتُشِف فيها مرض الحمى القلاعية لأول مرة لم تكن متجاورة، ومن ثم وجب مقاومة الفيروس على جبهات كثيرة في آنٍ واحد، مع تزايد الجبهات كل يوم.

fig38
شكل ٦-٩: يتراجع حد نقل العدوى اللازم لحدوث وباء تراجعًا كبيرًا مع الكميات الصغيرة من العشوائية في الشبكة.

إن سهولة تكرار نتائج نموذج المزج العشوائي، وإن كان ذلك في الشبكات شديدة التكتل، ليست في مصلحة العالم؛ فإذا كانت الأمراض تنتشر بالفعل في شبكات العالم الصغير، يبدو أننا سنواجه دائمًا أسوأ سيناريو ممكن، والأكثر إزعاجًا هو أنه نظرًا لأن أغلب الناس لا يعرفون ما هو أكثر من المعلومات المحلية عن شبكاتهم، فقد يكون من الصعوبة بمكان لهيئات الصحة العامة أن تجعل الأفراد يدركون الطبيعة الفورية لتهديد ما قد يبدو بعيدًا، ومن ثم تغيير سلوكهم. يُعَد الإيدز مثالًا جيدًا على هذه المشكلة؛ فلأكثر من عقد من الزمان بعد التعرف على وباء الإيدز للمرة الأولى، نُظِر إلى نقص المناعة البشرية بوجه عام على أنه قاصر على عدد قليل فحسب من الجماعات المحددة تحديدًا دقيقًا؛ المثليين والعاهرات ومتعاطي المخدرات عن طريق الحقن في الوريد؛ لذا إذا لم يعاشر الشخص (س) أحدًا ينتمي إلى هذه الفئات الثلاث جنسيًّا، ولم يفعل أيٌّ ممن عاشرهم جنسيًّا ذلك أيضًا، فمعنى ذلك أن الشخص (س) آمن، أليس كذلك؟ خطأ! لقد اتضح لنا من رؤية الفيروس وهو يصيب دولًا بأكملها تقريبًا في جنوب أفريقيا أنه في العالم الصغير للشبكات الجنسية، حتى الخطر الذي قد يبدو بعيدًا يجب أن يؤخذ على محمل الجد. والأمر المزعج حقًّا هو فكرة أن فيروس نقص المناعة البشرية تمكن من اختراق حدوده الأولية بسبب اعتقادنا بعدم قدرته على ذلك.

من ثم فإن أفضل موضع لتطبيق عبارة «فكر عالميًّا، وتصرف محليًّا» هو الوقاية من الأوبئة. تذكر أن الأمراض المعدية، على عكس مشكلات البحث الموضحة في الفصل السابق، تنتشر من خلال ما أطلقنا عليه الأبحاث واسعة الانتشار. لذا إذا كان هناك مسار قصير في شبكة معارف ما بين ناقل العدوى والشخص المعرض للإصابة، فلا يهم إذا كان أيٌّ منهما يعلم بوجود هذا المسار، أو حتى قدرتهما على العثور عليه إذا أرادا ذلك، فإذا لم يوقَف المرض بصورة ما، فسيعثر على المسار؛ لأنه يستكشف الشبكة عبر كل مسار ممكن، وعلى عكس مستخدمي موقع نيوتيلا أو فصل السيدة فورست بالصف السادس في الفصل السابق، من الرائع هنا الإفراط في تحميل الشبكة الكاملة بنسخ من نفسها؛ فهذا ما تفعله الأمراض المعدية. وما يبعث على القلق الشديد هو أن إدراكنا للخطر الناتج عن مرض معدٍ، سواء أكان نقص المناعة البشرية أو إيبولا أو حتى فيروس غرب النيل، لا يتناسب مع الطريقة الحقيقية التي ينتقل بها المرض.

ومع ذلك، فالصورة ليست على هذا القدر من القتامة؛ فكما أوضحنا من قبل، ليس من المعتاد أن تتحول الأمراض إلى أوبئة، وهنا تخبرنا شبكات العالم الصغير بشيء مشجع؛ ففي شبكات العالم الصغير، يكون العنصر الرئيسي للنمو المتفجر لمرض ما هو الطرق المختصرة. لا تنتشر الأمراض بفعالية كبيرة في الشبيكات، ومع أن شبكات العالم الصغير تعكس بعض السمات الهامة للرسوم البيانية العشوائية، فتظل هناك سمة مشتركة بينها وبين الشبيكات، وهي أنه على المستوى المحلي يتسم أغلب المعارف بالتكتل الشديد؛ لذا، محليًّا، يتشابه نمو أحد الأمراض كثيرًا مع نموه بالشبيكة؛ يتفاعل الأفراد المصابون بالعدوى في أغلب الأحيان مع غيرهم من الأفراد المصابين بالعدوى بالفعل، مما يمنع المرض من الانتشار سريعًا بين الأفراد المعرضين للإصابة، ولا يبدأ المرض في عرض أسوأ مظاهر سلوك المزج العشوائي إلا عندما يصل إلى أحد الطرق المختصرة؛ سواء أكان ذلك عن طريق صعود أحد المصابين بفيروس إيبولا على متن طائرة ما، أو شاحنة محملة بالماشية المصابة بالحمى القلاعية تسير على أحد الطرق السريعة؛ لذا، على عكس الأوبئة على الرسم البياني العشوائي، يكون على الأوبئة في شبكات العالم الصغير أن تنجو أولًا من مرحلة النمو البطيء التي تكون فيها في أشد درجات ضعفها، وكلما انخفضت كثافة الطرق المختصرة، طالت مدة هذه المرحلة من النمو البطيء.

بناء على ذلك، لن تعمد الاستراتيجية القائمة على الشبكات والهادفة للوقاية من الأوبئة إلى خفض معدلات العدوى بوجه عام فحسب، بل ستركز بوجه خاص أيضًا على المصادر المحتملة للطرق المختصرة. المثير للاهتمام حقًّا أن برنامج تبادل الحقن، الذي اتسم بالفعالية في الحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين متعاطي المخدرات بالحقن في الوريد، يعكس هاتين السمتين. إن الحيلولة دون انتشار الإبر الملوثة يقضي على إحدى الآليات التي يمكن من خلالها انتشار فيروس نقص المناعة البشرية، ومن ثم الحد من المعدل الكلي للعدوى، لكنه ينجح أيضًا بفضل صور العدوى المحددة التي يقي منها. تتم مشاركة الإبر الملوثة ليس فقط بين الأصدقاء، بل أيضًا بين الأغراب تمامًا الذين قد يلتقطون إبرة ما مهملة ويعيدون استخدامها. بعبارة أخرى، تعد الإبر المعاد استخدامها مصدرًا للاتصالات العشوائية في شبكة الأمراض، ومثلما أدى الحظر المفروض على حركة الحيوانات وإغلاق ممرات المشاة بالقرى بجميع أرجاء إنجلترا في عام ٢٠٠١ إلى الحد من إمكانات الطرق المختصرة طويلة المدى، أغلق إبعاد الإبر من النظام أحد طرق الهروب من مرحلة النمو البطيء الخاصة بالوباء، مما أتاح للجهات الصحية فرصة أفضل لملاحقة المرض.

إن التفكير في بنية الشبكات قد يفسر أيضًا بعض الجوانب الدقيقة الأخرى لانتشار مرض، ما كانت لتظهر في غياب أسلوب تفكير قائم على الشبكات. أشار مؤخرًا الفيزيائي الإسباني، روموالدو باستور-ساتوراس، والفيزيائي الإيطالي، أليساندرو فيسبيناني، إلى سمة من سمات فيروسات «الكمبيوتر» في العالم الواقعي واجهت النماذج SIR التقليدية صعوبة في تفسيرها. بعد دراسة بيانات الانتشار المتوافرة بإحدى نشرات الفيروسات الشهيرة على الإنترنت، توصل هذان العالمان إلى نتيجة معينة، وهي أن أغلب الفيروسات تعكس مزيجًا مميزًا من الاستمرارية طويلة المدى ومنخفضة المستوى «في البرية»، وهذا المزيج مميز؛ لأنه وفقًا للنموذج SIR القياسي، يجب أن يؤدي كل فيروس إما إلى إحداث وباء ما (تصاب به في هذه الحالة مجموعة ليست بالصغيرة من الأفراد)، أو القضاء على نفسه سريعًا. بعبارة أخرى، إما أن ينفجر أو لا. لكن إذا لم يكن معدل تزايده يساوي واحدًا بالضبط — النقطة الحرجة في التحول الطوري الموضح بالشكل ٦-٥ — فلا بد أن يفعل أيًّا من الأمرين. على النقيض من ذلك، انتهج الكثير من الفيروسات البالغ عددها ٨١٤ وسُجلَت خطوطها الزمنية بنشرة الفيروسات هذا النهج بالضبط، وقد ظل بعضها ينتشر على مدار أعوام، مع توافر برامج مكافحة الفيروسات عادة في غضون أيام أو أسابيع بعد اكتشافها المبدئي.
اقترح باستور-ساتوراس وأليساندرو فيسبيناني تفسيرًا تضمن بوضوح سمات لشبكة البريد الإلكتروني، ثم توصلا من خلاله إلى افتراض لكيفية انتشار الفيروسات؛ فمن خلال الاعتماد على نموذج الشبكات عديمة المعيار لباراباسي وألبرت كتمثيل لبنية شبكات البريد الإلكتروني — وهو الافتراض الذي دعمه (وإن لم يكن على نحو حاسم) بعد عام تقريرٌ لفريق ألماني من الفيزيائيين — أوضح عالما الفيزياء أنه عند انتشار الفيروسات في الشبكات عديمة المعيار، لا تعكس الفيروسات السلوك الحدي ذاته الذي تعكسه في النموذج القياسي، بدلًا من ذلك — كما هو واضح في الشكل ٦-١٠ — يزيد حجم مجموعة الأفراد المصابين بالعدوى باستمرار من الصفر مع زيادة قدرة المرض على العدوى. وفي شبكات البريد الإلكتروني عديمة المعيار، لا يكون لدى معظم نقاط التلاقي سوى بعض الروابط فحسب؛ بمعنى أن معظم الناس يرسلون رسائل بريد إلكتروني لعدد قليل من الآخرين بصورة منتظمة، لكن عددًا صغيرًا فحسب من مستخدمي البريد الإلكتروني لديهم قوائم عناوين بريد إلكتروني ضخمة تحوي ألف اسم أو أكثر، ولديهم من الاجتهاد الواضح ما يجعلهم على اتصال بكل هؤلاء! إنها هذه الأقلية التي افترض باستور-ساتوراس وفيسبيناني أنها مسئولة بصورة أو أخرى عن استمرارية الفيروسات على المدى الطويل؛ إذ لا نحتاج سوى إصابة أحدهم فحسب بالفيروس بين الحين والآخر كي تستمر هذه العدوى في الانتشار بمستويات قابلة للقياس بين مجموعة الأفراد ككل.
fig39
شكل ٦-١٠: مقارنة لمنحنيات العدوى في الشبكات العشوائية العادية والشبكات عديمة المعيار. لا تُظهر الشبكات عديمة المعيار أي نقطة حرجة يبدأ عندها الوباء في الظهور على نحو مفاجئ.
بناءً عليه، من الواضح أنه حتى أكثر خصائص شبكات العالم الحقيقي بساطةً، مثل التكتل المحلي وتوزيعات الدرجات عديمة المعيار، يمكن أن يكون لها تبعات هامة تتعلق بانتشار المرض، والأهم بالظروف الحاكمة للأوبئة؛ لذلك، تعد دراسة نماذج الأمراض مجالًا فرعيًّا مهمًّا في علم الشبكات الجديد؛ ففي عالم مصاب فيه عدة ملايين من البشر بفيروس نقص المناعة، وحيث يتنوع الانتشار، حتى داخل أفريقيا، ما بين أقل من ٢ بالمائة وأكثر من ثلث سكان الدولة، يكون فهم انتشار الأمراض المعدية في الشبكات أمرًا بالغ الأهمية. لا يزال هناك الكثير لفعله، لكن هناك بعض التوجيهات الواعدة بالفعل في المؤلفات التي تتناول موضوع الشبكات، وفي حين يظل النموذج SIR مركزيًّا في هذا الصدد، بدأ علماء الفيزياء، كعادتهم، في تناول المشكلة بأسلوبهم الخاص، وقد قدموا لدراسة الأوبئة مجموعةً من التقنيات التي تندرج تحت المسمى العام «نظرية التخلل».

(٥) نماذج التخلل للأمراض

تاريخيًّا، تعود نظرية التخلل إلى الحرب العالمية الثانية، عندما استخدمها بول فلوري ومعاونه والتر ستوكماير لوصف عملية «تَهَلُّم» البوليمرات. من سبق له سلق البيض سيكون على معرفة ببعض مظاهر تهلُّم البوليمر؛ فعند تسخين البيضة، تتصل البوليمرات الموجودة فيها وتتحد بعضها مع بعض، كل زوج على حدة، وبعد ذلك، في إحدى النقاط الحرجة، يتعرض الزلال لتحول مفاجئ قد يبدو تلقائيًّا يُعرف باسم «التهلُّم»، وهو التحول الذي يتحد فيه عدد ضخم من البوليمرات المتفرعة فجأة معًا في تكتل واحد متماسك يشمل البيضة بأكملها. بالنظر للبيضة كإفطار، قبل التهلُّم كانت البيضة سائلة، وبعد التهلُّم صارت مادة صلبة. تمثَّل النجاح الأول لنظرية التخلل في تفسير فلوري وستوكماير لكيفية حدوث هذا التحول بشكل آني تقريبًا، وليس ببطء وعلى نحو متراكم كما قد يتوقع البعض. مع أن نظرية التخلل قد وُضعت في الأساس للإجابة عن تساؤلات في مجال الكيمياء العضوية، فقد اتضح بعد ذلك أنها وسيلة نافعة للتفكير في كل صور المشكلات، بدءًا من أحجام حرائق الغابات، مرورًا بإنتاجية حقول البترول الموجودة تحت الأرض، وصولًا إلى قابلية المواد المركبة لتوصيل الكهرباء، وحديثًا اسْتُخْدِمَت أيضًا هذه النظرية للتفكير في انتشار الأمراض.

في نهاية عام ١٩٩٨، وبعد وصولي إلى معهد سانتا في بفترة ليست طويلة، بدأت في التحدث مع مارك بشأن العمل المتعلق بانتشار الأمراض الذي أجريته مع ستيف في العام السابق، تمكنت أنا وستيف، بالاعتماد على نموذج SIR بسيط، من الوصول إلى بعض النتائج بشأن اعتماد حد الوباء على كثافة الطرق المختصرة، لكننا لم نتمكن من فهم كيف تعمل الآلية بالضبط، أو كيف يختلف تأثير الطرق المختصرة العشوائية باختلاف كثافة الشبكة، ومنذ ذلك الحين علَّمت نفسي بعض أساسيات نظرية التخلل، التي بدت وسيلة طبيعية لطرح الكثير من الأسئلة ذاتها، وكان من الواضح أن مارك هو الشخص الذي يمكن طرح الأسئلة عليه؛ لكونه خبيرًا في الفيزياء الإحصائية. وما عرفته سريعًا عن طبيعة مارك أنه ما إن تُثِر مسألةٌ ما اهتمامه حتى يتوصل إلى نتائج بعد فترة قصيرة للغاية.
تخيل مجموعة ضخمة من الأفراد (أو «المواقع» بمفردات نظرية التخلل) تصل بينهم شبكة من الروابط (الصلات) يمكن أن ينتقل من خلالها مرض ما، وإما أن يكون كل موقع في الشبكة قابلًا للإصابة أو لا، مع شيء من الاحتمالية تُعرَف باسم «احتمالية الإشغال»، وإما أن تكون كل صلة «مفتوحة» أو «مغلقة» باحتمالية مساوية لقدرة المرض على العدوى. تكون النتيجة مشابهة للرسوم الموضحة في الشكل ٦-١١ (وإن كانت لشبكات أكبر بكثير)، حيث يمكن النظر للمرض كما لو كان سائلًا خياليًّا ينبع من مصدر ما. وبالبدء من هذا المصدر، سوف «يتدفق» المرض عبر أي روابط مفتوحة تظهر في طريقه، لينتشر من موقع قابل للإصابة إلى آخر، حتى لا يصبح هناك أي روابط أخرى مفتوحة يمكن الوصول من خلالها إلى مواقع جديدة سريعة التأثر. تُعرف مجموعة المواقع التي يمكن الوصول إليها على هذا النحو من نقطة بدء مختارة عشوائيًّا باسم «التكتل»، حيث يشير بالضرورة دخول مرض ما في تكتل ما إلى أن جميع المواقع في هذا التكتل ستصاب أيضًا بالعدوى.
في الرسم الأيسر بالشكل ٦-١١، تكون احتمالية الإشغال عالية والكثير من الروابط مفتوحة، مما يشير ضمنًا إلى مرض ذي قدرة عالية على العدوى يصاب به سريعًا أغلب مجموعة الأفراد، وفي هذه الحالة يشمل التكتل الأكبر الشبكة بأكملها تقريبًا، ومن ثم يشير إلى توقع تفشي المرض بموقع عشوائي في الشبكة على نطاق واسع. على العكس من ذلك، في الرسمين الآخرين، تكون إما القابلية للعدوى (الرسم الأوسط) أو احتمالية الإشغال (الرسم الأيمن) منخفضة، مما يشير إلى أن ظهور الأمراض سيكون على نطاق ضيق ومحدد مكانيًّا، مهما يكن مكان ظهوره. وما بين هذين الحدين تقع سلسلة متصلة معقدة من الاحتمالات يمكن أن توجد بها تكتلات من جميع الأحجام في آنٍ واحد، ويتحدد مدى انتشار المرض من خلال حجم التكتل المحدد الذي نشأ فيه. تتمثل الأهداف الرئيسية لنظرية التخلل في وصف هذا التوزيع لأحجام التكتلات وتحديد كيف يعتمد على العناصر المختلفة في المشكلة.
fig40
شكل ٦-١١: التخلل بإحدى الشبكات. تعبر الدوائر (الروابط) المصمتة عن المواضع (الصلات) المشغولة (المفتوحة)، وتشير الظلال إلى التكتلات المتصلة.
بلغة الفيزيائيين، تعتمد احتمالية ظهور وباء ما على وجود ما يُعرف باسم «التكتل المتخلل»، وهو تكتل واحد من المواضع القابلة للإصابة (تتصل ببعضها عن طريق روابط مفتوحة) التي تتغلغل في مجموعة الأفراد الكاملة، وفي حال عدم وجود تكتل متخلل، سيظل من الممكن ظهور الأمراض، لكن سيكون ذلك على نطاق ضيق ومحدد مكانيًّا. مع ذلك، فإن المرض الذي يبدأ في مكان ما بتكتل متخلل، سينتشر في جميع أرجاء الشبكة — حتى لو كانت شبكة ضخمة — بدلًا من أن يتلاشى تدريجيًّا، والنقطة التي يظهر عندها التكتل المتخلل، ويشار إليها عادةً بالتخلل، تبدو مماثلة تمامًا لمفهوم تهلُّم البوليمرات الذي تناوله فلوري وستوكماير بالدراسة، وهي أيضًا مساوية لحد الوباء في النماذج SIR؛ حيث يتجاوز معدل تزايد المرض الرقم «١» أولًا (ومن ثم، بالتبعية، تتحول الاتصالية للرسم البياني العشوائي)، وكما يوضح الشكل ٦-١٢، فإنه تحت الحد، يكون حجم التكتل الأكبر عند النظر إليه كجزء من مجموعة الأفراد الكاملة، كمًّا مهملًا، لكن عند الوصول إلى النقطة الحرجة، نلاحظ الظهور المفاجئ والمثير للتكتل المتخلل — من حيث لا ندري — الذي ينتشر من خلاله المرض دون رادع.
fig41
شكل ٦-١٢: أكبر تكتل قابل للعدوى في إحدى الشبكات. يشغل التكتل الأكبر، فوق حد التخلل، جزءًا محددًا من الشبكة، مما يشير إلى أن ظهور المرض يمكن أن يصير وباءً.
تساوي المسافة التي ينتشر المرض عبرها داخل الشبكة في المعتاد قبل أن يتلاشى، ما يطلق عليه الفيزيائيون «طول الارتباط»، وهو المصطلح الذي تناولناه في الفصل الثاني من هذا الكتاب في سياق الحديث عن التنسيق العام، في تلك المسألة، أشار انحراف طول الارتباط إلى أن النظام قد دخل حالة حرجة يمكن أن تنتشر فيها الاضطرابات، حتى المحلية منها، على نطاق عام. تنطبق النتيجة نفسها إلى حد بعيد في نماذج تخلل انتشار المرض. وعند تحول التخلل يصبح طول الارتباط لانهائيًّا، مما يشير إلى أنه حتى أكثر نقاط التلاقي بُعدًا يمكن أن يصيب بعضها بعضًا بالعدوى، وما توصلتُ إليه أنا ومارك، في حالة شبكات العالم الصغير، هو كيف اعتمد طول الارتباط على جزء الطرق المختصرة العشوائية، وبما يتفق مع النتائج الأولية التي توصلتُ إليها أنا وستيف قبل ذلك الوقت بنحو عامين، أوضحت أنا ومارك أن جزءًا صغيرًا من الطرق المختصرة العشوائية يمكن أن يحدث تغييرًا كبيرًا في طول الارتباط، لكن الآن، من خلال الحل في ظل الشروط التي ينحرف في ظلها طول الارتباط، يمكننا تحديد موضع تحول التخلل — ومن ثم حد الوباء — بدقة.

(٦) الشبكات والفيروسات ومايكروسوفت

شكلت هذه النتيجة بداية واعدة، وأوضحت أنه في حالة بعض المشكلات على الأقل، يمكن فهم الأوبئة بشكل أفضل من خلال استخدام أسلوب التخلل بدلًا من النموذج SIR القياسي. مع الأسف، يكون التخلل بالشبكات الواقعية مشكلة صعبة (ويتعذر حلها)، وقد يكون من الصعب إحراز أي تقدم إضافي. على سبيل المثال، للحفاظ على التحليل قابلًا للإدارة، تفترض معظم نماذج التخلل إما أن كل المواقع بالشبكة قابلة للإصابة، وتركز على الروابط (يُعرَف ذلك بتخلل الروابط)، أو أن جميع الروابط مفتوحة، وتركز على المواقع (تخلل المواقع). تنجح الأساليب نفسها تقريبًا مع نوعَي التخلل كليهما، ويكون سلوكها مشابهًا من عدة نواحٍ. على سبيل المثال، درست أنا ومارك تخلل المواقع، لكن بعد فترة قصيرة، مد كلٌّ من مارك وعالم فيزياء آخر بمعهد سانتا في يُدعَى كريس موور، النتائج إلى تخلل الروابط، لكن يختلف تخلل المواقع عن تخلل الروابط، في بعض الجوانب، اختلافًا كبيرًا، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تنبؤات مختلفة تمامًا حول احتمالية ظهور وباء ما.

لذا، قبل التسرع في التحليل، يجب التفكير بشأن أي النوعين — تخلل الروابط أم تخلل المواقع — يعكس أفضل صورة لطبيعة المرض محل الدراسة. في حالة فيروس مثل إيبولا، مثلًا، يبدو مقبولًا افتراض أن جميع الناس قابلون للإصابة، والتركيز على المدى الذي يمكن أن يصيبوا به بعضهم بعضًا بالعدوى، ومن ثم تكون الصيغة المناسبة لمسألة التخلل المرتبطة بفيروس إيبولا هي تخلل الروابط، لكن فيروسات الكمبيوتر، مثل ميليسا، تمر عادة بين أي كمبيوتر قابل للإصابة وأي كمبيوتر آخر (تكون جميع الروابط مفتوحة فعليًّا)، لكن لا تكون جميع أجهزة الكمبيوتر قابلة للإصابة؛ لذا فإن نموذج التخلل الخاص بأحد فيروسات الكمبيوتر يجب على الأرجح أن يكون من نوع تخلل المواقع. إذا أخذنا فيروس ميليسا مثالًا، نجد أن جزءًا محددًا فحسب من أجهزة الكمبيوتر في العالم يكون قابلًا للإصابة بالفيروس؛ لأنه ينتشر فقط من خلال برنامج البريد الإلكتروني أوتلوك من مايكروسوفت، ولا يستخدم الجميع هذا البرنامج.

لسوء حظ مستخدمي برامج مايكروسوفت، يعمل برنامج أوتلوك على عدد كبير من أجهزة الكمبيوتر، الأمر الذي يؤدي بالتأكيد إلى تخلل أكبر التكتلات المتصلة لهذه الأجهزة. في الواقع، إذا لم يكن هذا التخلل موجودًا، فما كنا لنرى انتشارًا عامًّا لفيروسات مثل ميليسا، وتابعيه مثل فيروس «الخطاب الغرامي» وفيروس «آنَّا كورنيكوفا». يعود التوافق العام بين البرامج ببعض الفوائد الهامة على المستخدمين الأفراد، لكن من منظور ضعف الأنظمة، عندما يكون لدى الجميع البرنامج ذاته، يعاني الجميع أيضًا نقاط الضعف نفسها، وكل برنامج له نقاط ضعفه، خاصةً نظم التشغيل الكبيرة المعقدة، كنظم تشغيل مايكروسوفت. وبطريقة ما، الأمر الوحيد المدهش بشأن ظهور فيروسات مثل فيروس ميليسا هو أنها لا تحدث كثيرًا، وإذا بدأت في الظهور أكثر — إذا صارت برامج مايكروسوفت شهيرة بقابلية إصابتها دائمًا — قد تبدأ الشركات الكبيرة، بل الأفراد أيضًا الذين لا يمكنهم تحمل توقف أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم عن العمل، في البحث عن بدائل.

ما الذي يجب أن تفعله شركة مايكروسوفت؟ يتمثل المنهج الواضح في جعل منتجاتها مرنة قدر الإمكان في مواجهة هجوم أي فيروس يشبه ديدان الكمبيوتر، وجعل برنامج مكافحة الفيروسات متاحًا في أسرع وقت ممكن في حال ظهور أي فيروس. تؤدي هذه الإجراءات إلى خفض احتمالية إشغال الشبكة، ومن ثم تقليص حجم التكتل المتخلل، بل ربما محوه أيضًا، لكن إذا أرادت الشركات الكبرى، مثل مايكروسوفت، التي تعد أهدافًا طبيعية لأي متسلل يرغب في الشهرة والمجد، حماية عملائها وحصتها في السوق، فقد يتحتم عليها التفكير بسرعة أكبر إلى حد ما، وقد يتمثل أحد الحلول في التحويل من خط منتجات واحد متكامل إلى العديد من المنتجات المختلفة التي تُطوَّر على نحو منفصل، وتُصمم بحيث لا تكون متوافقة توافقًا تامًّا.

من وجهة النظر البرمجية التقليدية، التي تؤكد على التوافق واقتصاديات الحجم الكبير، قد يبدو تفتيت خط الإنتاج عن عمد فكرة مجنونة، لكن على المدى الطويل (الذي قد لا يكون طويلًا للغاية)، يؤدي تكاثر المنتجات غير المتماثلة إلى تقليل عدد أجهزة الكمبيوتر التي تتأثر سريعًا بأي فيروس، الأمر الذي يجعل النظام ككل أقل تأثرًا بشكل كبير لأكثر الفيروسات انتشارًا، ولا يعني ذلك أن منتجات مايكروسوفت لن تظل معرضة لهجمات الفيروسات، لكنها على الأقل لن تكون أكثر تعرضًا لها بكثير من منافسيها. من قبيل المفارقة هنا أن خط الإنتاج المجزأ هو في الغالب المصير الذي يبدو أن مايكروسوفت قد تجنبته مؤخرًا في معركتها ضد الاحتكار مع وزارة العدل. يومًا ما، قد يُنظَر إلى شركة مايكروسوفت على أنها أسوأ أعداء نفسها.

إن إمكانية ترجمة هذه الاختلافات الدقيقة في كيفية انتشار الأمراض إلى صور متمايزة من إطار التخلل العام — وهو ما قد يكون له نتائج مختلفة تمام الاختلاف — تشير إلى وجوب توخي قدر معين من الحرص عند تطبيق أساليب الفيزياء على مشكلة الأوبئة. في الواقع، سنرى في الفصل التالي أنه يجب إجراء بعض عمليات التمييز الأخرى إذا كنا نرغب في فهم الاختلاف بين مشكلات العدوى البيولوجية والاجتماعية، كانتشار أحد الابتكارات التكنولوجية، وهي العمليات التي لها تأثير مهم على ظواهر العالم الحقيقي التي نرغب في فهمها، لكن نماذج التخلل تُطبَّق على نحو طبيعي تمامًا على الشبكات، مما يجعلها تستمر في لعب دور مهم في دراسة الأوبئة التي تنتشر عبر الشبكات، وسريعًا ما أدركت أنا ومارك أن التخلل مثير للاهتمام لأسباب أخرى أيضًا، لكن، مرة أخرى، كان لازلو باراباسي وريكا ألبرت متقدمَيْن عنا قليلًا.

(٧) الأعطال والقوة

إن الاتصال العام، شأنه شأن أغلب سمات النظم المعقدة، ليس من الواضح وضوحًا مطلقًا هل هو سمة جيدة أم سيئة. في سياق الأمراض المعدية وفيروسات الكمبيوتر، يشير وجود تكتل متخلل في الشبكة إلى وباء محتمل، لكن في سياق شبكات الاتصالات، كالإنترنت، حيث قد نرغب في ضمان وصول حزم البيانات إلى وجهتها في فترة زمنية معقولة، فإن التكتل المتخلل سيبدو ضرورة حتمية؛ لذا، من منظور حماية البنية التحتية، بدءًا من الإنترنت ووصولًا إلى شبكات الخطوط الجوية، تكون «قوة» اتصال الشبكة، في مقابل الأعطال العرضية أو الهجمات المتعمدة، هي التي نرغب في الإبقاء عليها، ومن وجهة النظر هذه أيضًا، يمكن أن تكون نماذج التخلل مفيدة للغاية أيضًا.

بعد أن أوضح ألبرت وباراباسي أن عددًا من الشبكات الحقيقية، كالإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية، يمثل ما يسمى بالشبكات «عديمة المعيار»، بدآ يتساءلان هل الشبكات عديمة المعيار تحمل أي سمات تنافسية مقارنةً بالتنويعات التقليدية. ويجدر التذكر هنا أنه في الشبكات عديمة المعيار، يتحكم قانون قوة، لا توزيع بواسون ذو القمة المدببة الذي نجده في الرسوم البيانية العشوائية الموحدة، في توزيع الدرجات؛ وهو الاختلاف الذي يُترجَم، عمليًّا، إلى مجموعة صغيرة من نقاط التلاقي «الغنية» التي لها عدد ضخم من الروابط، والكثير من نقاط التلاقي «الفقيرة» الأخرى التي ليس لها أي روابط تقريبًا على الإطلاق. أصبح الآن ألبرت وباراباسي مهتمَّين بالسؤال الآتي: إلى أي مدى ستحافظ شبكتان، إحداهما شبكة عشوائية متسقة والأخرى عديمة المعيار، على جودة الاتصال داخلهما حين تبدأ نقاط التلاقي الفردية داخلهما في التعطل.

إن التفكير في قوة الشبكة كأمر مؤثر على الاتصال جعل المشكلة مشكلة معنية بتخلل المواقع، لكن في هذا التطبيق، لعبت احتمالية الإشغال دورًا مناقضًا لدورها في نشر الأمراض؛ ففي حين اهتممت أنا ومارك بالأساس بتأثير المواقع المشغولة (القابلة للإصابة)، انصب اهتمام ألبرت وباراباسي على المواقع غير المشغولة؛ بلغة الشبكات، نقاط التلاقي التي تعطلت. من منظور القوة، كلما قلَّ تأثير كل موقع غير مشغول على اتصال الشبكة، كان ذلك أفضل. كانت نظرة ألبرت وباراباسي للاتصال مختلفة عن نظرتي أنا ومارك؛ ففي حين لم نهتم إلا بما إذا كان هناك تكتل متخلل أم لا، أراد ألبرت وباراباسي معرفة عدد الخطوات بالضبط التي ستلزم لتَعبُر رسالة ما من أحد جانبي التكتل إلى الجانب الآخر. لا يمثل أيٌّ من هذين التعريفين السبيل الوحيد الصحيح للتفكير في القوة، لكن تعريفهما كان مناسبًا بوضوح لنظم كالإنترنت؛ حيث تؤدي الزيادة في العدد النموذجي للقفزات التي تقفزها رسالة ما إلى زيادة كلٍّ من الوقت المتوقع لإيصالها واحتمال عدم وصولها.

كان أول ما أوضحه ألبرت وباراباسي أن الشبكات عديمة المعيار أكثر مقاومة لحالات الفشل «العشوائية» مقارنةً بالشبكات العشوائية العادية، والسبب ببساطة هو أن خصائص الشبكات عديمة المعيار يسيطر عليها جزء صغير من نقاط التلاقي «المركزية» قوية الاتصال، ونظرًا لندرة هذه المراكز، فإنها أقل عرضة لأن تفشل بالصدفة العشوائية مقارنةً بنظرائها الأقل اتصالاً والأكثر عددًا منها بكثير، ومثل غياب مطار محلي صغير من شبكة الخطوط الجوية الأمريكية، يكون فقدان نقطة تلاقٍ «فقيرة» غير ملحوظ إلى حدٍّ بعيد خارج المنطقة المجاورة لها مباشرةً، وعلى النقيض من ذلك، في الشبكات العشوائية العادية، لا تكون نقاط التلاقي الأكثر اتصالًا بمثل هذه الأهمية الشديدة، ولا تكون النقاط الأقل قوة في اتصالها غير مهمة تمامًا، ونتيجة لذلك، فإن كل نقطة تلاقٍ مفقودة سيكون لها اعتبارها، وقد لا يكون ذلك بالحدث الجلل، لكنه أكثر أهمية مما لو حدث في الشبكات عديمة المعيار. وفي ضوء الأدلة الحديثة التي تؤكد أن الإنترنت هي في الواقع شبكة عديمة المعيار، تابع ألبرت وباراباسي عملهما لطرح نموذجهما كتفسير لكيفية عمل الإنترنت على هذا النحو الموثوق، على الرغم من تعطل المحولات الفردية طوال الوقت.

لكن هناك جانبًا آخر للقوة أشار إليه ألبرت وباراباسي أيضًا؛ فمع أنه في بعض الشبكات، كالإنترنت، تحدث أعطال المحولات بالفعل عشوائيًّا، فإن الأعطال يمكن أن تكون أيضًا نتيجة للهجمات المتعمدة التي قد لا تكون عشوائية على الإطلاق. وفي الإنترنت أيضًا، تستهدف هجمات قطع الخدمة، مثلًا، نقط التلاقي قوية الاتصال، وفي أمثلة أخرى، بدءًا من شبكات الخطوط الجوية ووصولًا لشبكات الاتصالات، من الواضح أن المراكز تكون هي الأهداف الرئيسية لأي مخرب محتمل. وما أوضحه ألبرت وباراباسي هو أنه نظرًا لأن نقاط التلاقي الأقوى اتصالًا في الشبكة تكون الأولى في التعطل، فإن الشبكات عديمة المعيار تكون «أضعف» بالفعل من الشبكات المتسقة، ومن قبيل المفارقة أن سرعة تأثر الشبكات عديمة المعيار بالهجمات يرجع إلى السمة ذاتها التي تعزى إليها قوتها الظاهرية؛ في الشبكات عديمة المعيار، تكون نقاط التلاقي الأقوى اتصالًا أهم بكثير لعمل الشبكة بأكملها مقارنةً بنظيراتها في الشبكات المتسقة، ومن ثم فإن الرسالة العامة هنا مبهمة: تعتمد قوة الشبكة اعتمادًا كبيرًا على الطبيعة المحددة للأعطال، فيكون للأعطال العشوائية والمستهدِفة نتائج متناقضة تمامًا.

مع أنه من المهم وضع كلا نوعي الأعطال في الاعتبار، فيبدو عطل المراكز الأكثر تأثيرًا ذا أهمية خاصة؛ لأنه لا يجب أن يحدث بالضرورة على نحو متعمد أو لغرض الإيذاء؛ ففي كثير من شبكات البنية التحتية التي تعتمد على نحو غير متناسب على جزء صغير من نقاط التلاقي قوية الاتصال، قد تكون معدلات فشل هذه النقاط، التي تتجاوز المتوسط، نتيجة حتمية بالفعل لاتصالها. على سبيل المثال، في شبكة الخطوط الجوية، يؤدي القدر الهائل لحركة الطيران التي تمر بالمراكز الرئيسية إلى زيادة احتمالية تعرضها للأعطال، وهي الظاهرة التي اعتاد عليها المسافرون جوًّا في نيويورك بشكل مؤلم؛ ففي مطار لاجارديا في كوينز، تكون مواعيد الرحلات القادمة والمغادرة متقاربة للغاية بعضها من بعض، مما يعني أن سلسلة بسيطة من التأخيرات، التي من الممكن في أي مطار صغير استيعابها في الفترات الزمنية العادية الفاصلة بين رحلات الطيران، يمكن أن تتراكم لتبقي الطائرات على الأرض لساعات، حتى في الأيام التي قد تبدو مثالية. في الواقع، كان مطار لاجارديا في عام ٢٠٠٠ مصدر ١٢٧ رحلة من إجمالي ١٢٩ رحلة طيران متأخرة في البلاد! لا تمثل التأخيرات بالمراكز الرئيسية كمطار لاجارديا مشكلةً للمسافرين المحليين فحسب، بل إن كل رحلة متأخرة بمركز رئيسي تؤدي إلى تأخيرات متتالية أيضًا بالمطار المتوجهة إليه، ومن ثم كلما زاد عدد رحلات الطيران بالمركز الرئيسي، زاد احتمال تعرضه لحالات تأخير، وزادت فرصة انعكاس تأثير هذه التأخيرات على النظام ككل.

ومن ثم يؤدي اعتماد شبكات الخطوط الجوية الحديثة على شبكة فرعية من المراكز الرئيسية اعتمادًا كبيرًا إلى جعلها سريعة التأثر بالتأخيرات واسعة الانتشار التي تحدث بين الحين والآخر، لكن هذا يطرح أيضًا حلًّا؛ فبدلًا من التركيز على نظام تتحمل فيه المراكز الرئيسية عبء توصيل الناس من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، يمكن أن تحول الخطوط الجوية بعض الروابط من المراكز الرئيسية الكبرى الأكثر تعرضًا للأعطال إلى المطارات الإقليمية الأصغر التي تحدث التأخيرات فيها بشكل رئيسي نتيجة لمشكلات يكون مصدرها المراكز الرئيسية. في ظل هذا التنظيم، تكون المطارات في ألباكيركي وسيراكيوز — على سبيل المثال — متصلة مباشرةً، بدلًا من الحاجة لتوجيه الرحلات عبر شيكاغو أو سانت لويس. والمطارات الصغيرة للغاية، كالموجودة في إيثاكا أو سانتا في، تظل أفرع لهذه المراكز الرئيسية، ومن خلال خفض درجة فعالية المراكز الرئيسية، تحتفظ الشبكة ككل بقدر كبير من الفعالية التي تستمدها من حجمها الكبير، لكنها تقلل من احتمالية فشل النقاط الفردية، وفي حال فشل أحد المراكز الرئيسية بالفعل، سيتأثر عدد أقل من رحلات الطيران، مما يؤدي إلى الحد من معاناة النظام ككل.

مع ما يبدو عليه الأمر من وضوح، بالنظر إليه من منظورنا اليوم، فالنتيجة التي توصل إليها ألبرت وباراباسي كانت أنيقة تمامًا، وعند ظهور بحثهما عن «هجمات الشبكات وفشلها» على غلاف مجلة «نيتشر»، أحدث عاصفة صغيرة من الاهتمام الإعلامي، وعاتبنا أنفسنا ثانيةً للتغافل عن مشكلة واضحة، ثم بمساعدة طالب آخر من طلاب ستيف — دانكن كالاواي — انطلقنا للحاق بألبرت وباراباسي. في الواقع، نجح دانكن في حل مشكلة أصعب بكثير من تلك التي تناولتها مجموعة باراباسي، وباستخدام الأساليب التي طورتُها أنا وستيف ومارك لدراسة الاتصال بالشبكات العشوائية، تمكن دانكن من حساب تحولات التخلل المختلفة بالضبط، بدلًا من استخدام أساليب المحاكاة بالكمبيوتر، وتمكن كذلك من حل مشكلة أعطال الروابط ونقاط التلاقي، وأوضح كيف يمكن تطبيق النموذج ليس فقط على الشبكات عديمة المعيار، بل أيضًا على الشبكات العشوائية بأي درجة توزيع على الإطلاق. لقد كان مجهودًا مذهلًا بوجه عام، وتمكنا نحن الأربعة من التوصل إلى بحث رائع نتيجة له، لكنه في النهاية لم يحدث اختلافًا كبيرًا، وكانت النتائج التي توصلنا إليها، إلى حد ما، مشابهة لنتائج ألبرت وباراباسي، ولزم علينا الاعتراف بأن الأسبقية كانت لهما في التفكير فيها.

لحسن حظنا، فإن تطبيق أساليب التخلل على مشكلات العالم الواقعي عمل دقيق إلى حد ما، ومن ثم ظل هناك الكثير من المشكلات المثيرة. لا تعد الشبكات الواقعية أكثر تعقيدًا فحسب من أي نموذج عشوائي — سواء أكان عديم المعيار أم لا — لكن عادة ما تُمثَّل طبيعة العملية نفسها تمثيلًا سيئًا من خلال الافتراضات النموذجية لنظرية التخلل. على سبيل المثال، تفترض نماذج التخلل على نحو قياسي أن جميع نقاط التلاقي لديها الاحتمالية ذاتها لسرعة التأثر، لكن على أرض الواقع، يمثل التغاير سمة مهمة للجماعات البشرية والكثير من الجماعات غير البشرية، وفي أمور أيضًا كانتشار الأمراض، يمكن أن يختلف الأفراد اختلافًا كبيرًا في سرعة تأثرهم الفطرية أو قدرتهم على إصابة الآخرين بالعدوى، وعند وضع العوامل السلوكية والبيئية في الاعتبار، يمكن أن تكون الاختلافات بين أفراد أي مجموعة معقدة؛ وذلك نتيجة وجود علاقات متبادلة قوية. على سبيل المثال، في حالة الأمراض المنقولة جنسيًّا، يكون الأفراد ذوو معدل الخطر المرتفع أكثر احتمالًا للتفاعل بعضهم مع بعض، وهي السمة السلوكية التي قد يكون لها أصول اجتماعية، لكن من الواضح أن نتائجها وبائية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن الربط بين حالات الأفراد، ليس فقط وفقًا لسماتهم الجوهرية، بل أيضًا ديناميكيًّا؛ ومثال جيد على ذلك العطلُ المتعاقب في شبكة نقل الطاقة الكهربائية الذي تناولناه في الفصل الأول، إذا كنت ستعزو احتمالات التعطل لنقاط التلاقي على نحو عشوائي، حتى لو وضعت في الاعتبار الاختلافات الفردية بين نقاط التلاقي هذه، فستغفل عن جزء رئيسي من المشكلة: دور المصادفة. كما أشرنا من قبل، لم يكن العطل الكبير الذي حدث يوم ١٠ أغسطس من عام ١٩٩٦ نتيجة لأعطال مستقلة متعددة، بل سلسلة متعاقبة من الأعطال، جعل كلٌّ منها الأعطال التالية عليه أكثر احتمالًا. وتكون السلاسل المتتالية للأعطال الطارئة التي يعتمد بعضها على بعض أكثر تعقيدًا، فلا يمكن وضعها في نموذج، مقارنةً بمشكلات التخلل التي تناولناها حتى الآن، لكنها تحدث دائمًا، وليس فقط في النظم الهندسية كشبكة الطاقة الكهربائية. في الواقع، إن أكثر مجموعة من مشكلات السلاسل انتشارًا وإثارةً تكمن في دوائر صنع القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وهذه المشكلات المهمة والمذهلة وشديدة الغموض هي التي سنتحول إليها الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤