الفصل الحادي عشر

حلَّ يوم الإثنين.

لم نرَ أي أثر لتوبي في طريقنا إلى المدرسة أنا والولدان. كانت السماء تمطر رذاذًا خفيفًا، وتنذر بالمزيد، وكانت الرياح تهب باردة، ولكن ظلَّ لديَّ أمل في أن أراه على قمة تلٍّ ما، لمجرد أن أتيقن من أنه لم يرحل.

ربما أذهب إلى كوخه بعد المدرسة. لا أريد إزعاجه، بل سأحاول رؤيته خلسة وهو يحتمي هناك من المطر. مع أنه كان يتمشى خارجًا في كل أحوال الطقس وكل فصول السنة، وربما يفعل ذلك في هذا اليوم أيضًا.

لكني قررت الذهاب إلى المدرسة أولًا. فأبي وأمي دائمًا ما كانا يقولان لي إن المدرسة هي وظيفتي الأهم. كنتُ أعرف في ظل وجود شقيقَين لديَّ أنني لن أعمل أبدًا في زراعة هذه الأرض، وأردتُ أن أكبَرَ وأنا امرأة متعلِّمة، بل كان ذلك لزامًا عليَّ.

لا شك أنني كنت سأتعلم في ذلك اليوم بعض الحساب وبعض عواصم الولايات، والسبب وراء الحروب التي خضناها، والتصرف الخاطئ التالي الذي ستتصرفه آن بطلة رواية «جرين جيبلز»، والسبب في أنني ينبغي ألَّا أخلط المُبيِّض بالأمونيا. لكن المهمة الأولى لديَّ هي معرفة ما سيقوله آندي عمَّا حدث.

لقد أمرني والداي بأن أبقى بعيدة عن بيتي، لكنهما لم يأمراني بتجنُّب آندي. صحيح أنَّه كان شخصًا مؤذيًا، لكني كنت أنوي سؤاله عن برج الجرس والسلك الذي كان مشدودًا عبر الممشى.

كان توبي قد قال: «أحدَثا خدوشًا على «حجر السلحفاة»»، وتساءلتُ عمَّا إن كان يقصد بيتي وآندي … عمَّا إنْ كان ذلك هو المكان الذي شحذا عنده السلك الذي جرح جيمس. تصوَّرتُ آندي واقفًا على أحد جانبَي صخرة «حجر السلحفاة» وبيتي واقفة على الجانب الآخَر، وتخيلتُ كلًّا منهما ممسكًا بعصًا ملفوف عليها أحد طرفَي السلك؛ ليتسنَّى لهما تحريكه جيئة وذهابًا على الصخرة ليشحذاه، كما لو كانا ممسكَين بمنشارٍ ذي مقبضَين يحتاج إلى شخصَين لحمله.

لكني لم أستطِع فهم كيف خطرت تلك الفكرة ببالهما. أو لماذا قد فعلا ذلك أصلًا. فحتى الذئب لديه أسباب لما يفعله. حتى الثعبان يكون لديه مبرِّر منطقي حين يأكل إحدى بيوض العصافير.

بحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى المدرسة، كانت السماء تمطر بغزارة. كنا نحن الثلاثة نرتدي عباءات من القماش المشمع، وكلٌّ منا قد اعتمر قلنسوته، وانتعل حذاءً طويل الرقبة؛ لذا كنا جافِّين ودافئين جدًّا، لكنَّ العديد من الطلاب الآخَرين جاءوا منقوعين من شدة البلل ومرتجفين من شدة البرد. وللمرَّة الأولى في ذلك الموسم، أشعلت السيدة تايلور نيرانًا في الموقد الموجود في مقدمة الغرفة، وأتاحت فرصةً لأشد الطلاب بللًا ليجفُّوا قبل بَدْء الدروس.

سألَت جيمس وهي تنحني لتنظر إلى الضمادة المربوطة على جبينه: «يا إلهي، ماذا حدث لك؟»

وهنا رمقني جيمس بنظرةٍ خاطفة، فهززتُ رأسي لأنهاه عن قول ما حدث. فقال: «القراصنة.»

أومأَت السيدة تايلور برأسها. وقالت: «هذا ما ظننته.» ثم عادت إلى مقدمة الغرفة.

نادت قائلة: «أولئك الذين ليسوا مبلَّلين جدًّا، تعالوا هنا»؛ ولذا تقدمتُ أنا وشقيقاي وبضعة طلاب آخَرون، وتساءلتُ عمَّا تعتزم فعله بهذه المجموعة المختلطة من الطلاب.

اتضح أنها لن تعطينا درسًا عن عواصم الولايات.

قالت وهي تُلقي نظرةً خاطفةً نحو الباب: «أريد أن أحدِّثكم عمَّا حدث لروث.» فالتفتُّ لأنظر لكن الباب كان مغلقًا، ولم يدخل منه أحد. فأدركت عندئذٍ أنَّ آندي وبيتي كانا غائبَين مجددًا.

لم أتفاجأ بغياب آندي. فمن المرجَّح أنه سيُعفى في مثل هذا اليوم المطير من أداء العديد من مهامه المنزلية، فلماذا إذَن قد يتكبَّد عناء المجيء إلى المدرسة؟ أما بيتي، فتخيلتُ أنها في تلك اللحظة ربما تتزعَّم محاولات إقناع الآخَرين بأنَّ توبي مُذنب. تصورتُها تتظاهَر بالخجل والاحتشام والصلاح، لتظهر بمظهر البريئة، وبذلك قد تنجح في إقناع مَن لا يعرفونها.

الْتَفتُّ مجددًا إلى السيدة تايلور حين نادَتني قائلة: «أنابل!» وكان الأطفال الآخرون ينظرون إليَّ. أضافت: «سألتكِ عن حالك. من المؤكَّد أنَّ رؤيةَ روث تتعرَّض لهذه الإصابة لم تكُن سهلة.»

فقلت: «لا لم تكُن سهلة. لكني بخير.»

تحدَّثَت قليلًا عن أهمية الثقة في الناس، وإخبارهم بما يضايقنا.

قالت: «إذا رأى أيٌّ منكم توبي على جانب ذلك التل، أو أي أحد آخَر أيضًا، أو أي شيء غريب في ذلك اليوم، فينبغي أن تخبروا أحدًا ما. يمكنكم أن تخبروني أو تخبروا والديكم أو القس كينل. أخبروا شخصًا ما يستطيع مساعدتكم لفعل الصواب.»

رفعتُ يدي. وقلت لها: «مَن أخبركِ بأنَّ توبي كان على جانب التل؟»

فقالت: «سمعتُ ذلك في الكنيسة يوم أمس. من آل جلينجاري.»

فكرَّت في ذلك لحظة. وقلت: «تعرفين إذَن أنَّ بيتي هي مَن تقول إنَّ توبي رمى ذلك الحجر؟»

أومأت السيدة تايلور بالإيجاب. وقالت: «أجل، سمعتُ ذلك.»

«إذَن، هل تأذنين لي من فضلكِ بالصعود إلى برج الجرس؛ لأستطيع أن أرى المنظر خارج تلك النافذة؟»

قالت السيدة تايلور وهي في حيرةٍ واضحةٍ من هذا الطلب: «لماذا تريدين ذلك؟»

«لأنَّ بيتي قالت إنها كانت في برج الجرس مع آندي في فترة الاستراحة، حين رأت توبي من خلال تلك النافذة على جانب التل.»

فقالت السيدة تايلور بنبرة متأنِّية جدًّا: «بيتي تزعم أنهما كانا في الأعلى هناك يومَ أُصيبَت روث؟»

أومأتُ بالإيجاب. وكان الأطفال الآخَرون يُنصتون إلى كل ذلك باهتمامٍ أشد ممَّا أنصتوا به إلى كل دروسهم من قبل.

وقفت السيدة تايلور، وذهبَت إلى بابٍ في مؤخرة الغرفة. لم يُفتَح حين حاولت فتحه. عادت إلينا بعد ذلك، مُستغرِقةً في تفكيرٍ عميق.

قالت: «حسنًا. عودوا إلى مقاعدكم واقرءوا الواجبات التي كتبتها على السبورة.»

انضممتُ إلى الأطفال الذين كانوا يجفون حول الموقد. واستطعتُ من مكتبي أن أسمعَها تطلب منهم أن يثقوا في الناس. وأن يقولوا الصدق.

•••

بينما كنت أقرأ عن الحرب الإسبانية الأمريكية، أرهفتُ السمع ترقُّبًا لفتح الباب. ترقبًا لمجيء بيتي. لكنها لم تأتِ.

كانت السماء ما تزال تمطر في أثناء الاستراحة؛ لذا بقينا في الداخل ولعبنا بِكُرات البِلْي الزجاجية، وشكَّلنا أشكالًا مختلفةً بالشرائط البلاستيكية المرنة بين أصابعنا. وقبل أن تطلب منا السيدة تايلور معاودة الاهتمام بدروسنا، جعلتنا نمارس سلسلةً طويلةً من تمارين القفز. قالت: «هذا لتصبحوا أقوياء»، لكني كنت أعرف أنها تحاول أن تفرغ قليلًا من طاقة الأطفال، وخصوصًا الصبيان، قبل فترة ما بعد الظهيرة لكيلا يرهقوها بطاقتهم المفرطة.

وبينما كنا نعود إلى مكاتبنا، فُتح الباب أخيرًا، لكنَّ الوافد كان آندي، وليس بيتي.

خلع قلنسوته، وكان يهتز بكل جسده كالكلب وهو ينظر في أرجاء قاعة الدرس. قال: «أين بيتي؟» وعندما لم يُجبه أحد، قال بصوتٍ أعلى: «يا سيدة تايلور. أين بيتي؟»

التفتت إليه من السبورة. وقالت: «لا أعرف يا آندي. لم تأتِ إلى المدرسة صباح اليوم. ربما كانت مريضة.»

أعاد آندي ارتداء قلنسوته على رأسه. وغادر دون كلمة أخرى.

ظلَّت السيدة تايلور واقفة في مكانها. ونظرت نظرة مطولة إلى المكان الذي كان واقفًا فيه.

وأخيرًا قالت: «ليهدأ الجميع. حان وقت الدروس.»

•••

وفي نهاية اليوم الدراسي، وبينما كان شقيقاي ينتعلان حذاءَيهما المخصصين للوقاية من المطر، أخذتني السيدة تايلور جانبًا، وقالت: «أريد أن آتي وأزور والديكِ بعد وقت العشاء يا أنابل. هل ترين أن هذا سيكون مناسبًا؟»

شعرت برعب شديد من مجرد التفكير في ذلك. قلت لها: «هل ارتكبتُ أي خطأ؟ أنا أو شقيقاي؟»

«كلا يا أنابل، إطلاقًا. الأمر ليس هكذا. كل ما أريده أن أحادث والديكِ بضع دقائق.»

فقلت: «إذَن، لا بأس بذلك بالطبع.»

لم أرِد أن أكون وقحة، لكني كنت أشعر بالفضول، فقلت لها: «هل لديكِ هاتف في منزلك يا سيدة تايلور؟»

«أجل. لماذا؟»

فقلت لها: «لأننا أيضًا لدينا. يُمكنك أن تهاتفيهما، إن شئت.» وكنت أرجو ألَّا أبدو وقِحة.

ابتسمت لي السيدة تايلور ابتسامة طفيفة. وقالت: «يُمكنني. لكن …» سكتت لتنتقي كلماتها. وتابعت: «حسنًا، أنا متيقنة من أنكِ تعرفين أنَّ السيدة جريبل أحيانًا ما تكون … فضوليةً … قليلًا … حين توصِّل المكالمات الهاتفية.»

هكذا إذَن.

كانت آني جريبل تعيش في منزلٍ صغيرٍ يقع في طريقنا إلى السوق. لم أذهب إلى هناك سوى مرَّة واحدة فقط؛ وذلك لإفراغ حمولة وعاء من الخوخ في أثناء موسم التعليب، لكنها دعتنا آنذاك لندخل منزلها ونشرب كوبًا من عصير الليمون أنا وأبي، وبُهِرتُ حينئذٍ بلوحة مفاتيح التحويل الكهربائية التي هيمنت على غرفتها الأمامية، كأنها نول مليء بثعابين سوداء نحيفة.

كانت تجلس هناك طَوال اليوم، توصل المكالمات فيما بين العائلات التي صار لديها هواتف في تلالنا. وعندما كنا نريد استخدامَ هاتفنا لإجراء مكالمةٍ ما، كان يتوجَّب علينا الاتصال هاتفيًّا بآني وإخبارها بهُوية مَن نريد مكالمته. وعادةً ما كانت تتنصَّت على المكالمات؛ لتسمع آخِر المستجدات التي كانت ترى أنَّ الآخَرين يجب أن يعرفوها.

أصبحنا متأقلمين مع تلك الفكرة. ولم يكُن أحدٌ يجرؤ على البوح بأي سرٍّ عبر الهاتف، خوفًا من أن تكون آني متنصتةً على مكالمته. لكن آني كانت تستغل حتى الأشياء البسيطة؛ لذا تعلمنا أن نبدأ المحادثات بأكثر الأخبار إثارة للملل، على أمل أن يتشتت انتباهُها عن مكالمتنا بسهولةٍ، ويتجه إلى عميلٍ آخَر يتصل من أجل توصيل مكالمته بمَن يريد.

وأيًّا كان ما تريد السيدة تايلور التحدُّث عنه عندئذٍ، لم يكُن من المفترض أن تسمعه آني.

قلت لها: «هل تريدين مني أن أخبرهما بأنَّكِ آتية؟»

فقالت السيدة تايلور: «سأكون ممتنةً لكِ على ذلك.»

انتعلتُ حذائي الطويل الرقبة، وحاولت ربط أربطة قلنسوة جيمس تحت ذقنه، لكنه رفع رأسه فجأةً كالمُهر، وركضَ خارجًا من المدرسة في المطر قبل أن أربطها كما ينبغي. تبعه هنري، ورقص كلاهما في الطين عبر فناء المدرسة الموحل قبل أن يصلا إلى أرضٍ أكثر جفافًا في الأحراج.

لم أكُن راغبةً في السير إلى المنزل وحدي، وسط كل هذا البرد والبلل، لكني لم أجِد بديلًا حتى نادَتْني السيدة تايلور مجددًا. قالت لي: «يُمكنني المجيء لزيارتكم الآن إذا رأيتِ ذلك مناسبًا، ويُمكنكِ أن تركبي معي.»

نادرًا ما كنت أحظى بفرصةٍ لركوب سيارةٍ جميلةٍ كسيارتها. والأهم من ذلك أنَّ الجو في السيارة سيكون دافئًا وجافًّا.

قلت: «أتصور أن أبي سيكون موجودًا في المنزل أو قريبًا منه في يوم كهذا. وأنا متيقنة من أن أمي ستكون هناك. لذا فالوقت الآن سيكون مناسبًا، على ما أظن.»

تبعتها إلى السيارة وصعدتُ إلى المقعد الخلفي، وشعرتُ بأنني أشبه قليلًا بالملكة، حتى أدركت أنَّني أجلس حيث كانت روث جالسة.

سرنا ببطء وحذر إلى المزرعة؛ لأنَّ الطرق كانت مغمورة بالمياه عند بعض الأماكن، لكننا وصلنا إلى هناك دون حوادث.

قالت السيدة تايلور: «ادخلي وتيقني من أنَّ الوقت مناسب للزيارة. سأنتظر هنا.»

ففعلتُ ذلك، فهرعت أمِّي من جانبي بسرعة لتفتح الباب، وأشارت للسيدة تايلور بالدخول.

قالت أمي وما تزال نبرة يوم الأحد الرسمية بادية في صوتها: «تفضَّلي بالدخول يا سيدة تايلور.» كانت تنادي معظم الناس بأسمائهم الشخصية، باستثناء القس والطبيب والعريف والمعلمة.

قالت السيدة تايلور: «شكرًا لك»، وكانت في أثناء ذلك تحاول إفراغ قلنسوتها من أكبر كمية ممكنة من مياه الأمطار قبل أن تدخل المنزل.

فقالت والدتي: «لا عليكِ، لا تشغلي بالك بذلك. فكلهم قد دخلوا دون أن يفعلوا ذلك.» وقالت لي قبل أن أخلع عباءتي: «يا أنابل، اركضي إلى الحظيرة وأحضري والدك.»

لذا خرجتُ مجددًا، وضحكتُ عاليًا عندما رأيتُ شقيقيَّ يتوقفان فجأةً حين رأياني، وهما يمشيان بخُطًى منزلقةٍ على الزقاق الموحل. صحتُ قائلةً لهما: «السيدة تايلور أقلَّتني في سيارتها!» وتوجهتُ إلى الحظيرة وأنا ما أزال أضحك.

•••

علمتني حظيرتنا القديمة أحد أهم الدروس التي تعلمتها على الإطلاق؛ وهو أنَّ الاستثنائية يُمكن أن تكمن في أبسط الأشياء.

فكل فصلٍ من فصول السنة كان يعني ابتداع عالَمٍ جديد داخل حجيرات الحظيرة ومخازنها.

ففي الشتاء، كانت تصير بمثابة جيوب مُفعَمة بالدفء، حيث تكون الأبقار الحلوبة وخيول الجر كالأفران التي تُحفَظ حرارتها بفضلِ ما نعدُّه من فُرُش القش والروث الجديد.

وفي الربيع، كانت طيور السنونو تكتسي بالريش وتَكبر إلى أن تطيرَ من أعشاشٍ موحلةٍ محشورةٍ في شقوقٍ في السقف، فيما كانت الهرر الصغيرة اللينة تمشي مترنِّحة بين الحيوانات ذات الحوافر، وتهاجم أطراف حبال الروافع المتدلية من أوتاد حجيرات الخيل والماشية.

وعندما يحل الصيف، تُعشِّش الدبابير الصفراء في القش، ويُنبِت الشوفان القديم براعم جديدة تشق ألواح الأرضية، وتضع الدجاجات المراوِغة البيضَ في أماكن غريبة حيث يمكن أن ينتج كتاكيت، وتنتشر خطوط أشعَّة الشمس المتربة عبر الهواء كأنها جسور إلى مكان آخَر.

لكني كنت أحب الحظيرة في الخريف، لا سيما عندما كنت أجد والدي هناك في أغلب الأحيان يصلح عجلات العربة، ويزيِّت وصلات أجزاء العربة، أو يأخذ قيلولة في علية التبن وهو يشخر بهدوء في الضوء الأزرق الخافت، وقد وجدته على هذه الحال بالفعل في ذلك اليوم من نوفمبر.

همستُ في أذنه بهدوء، بينما كان المطر يتساقط بإيقاع ثابت على السقف الصفيحي فوق رأسَينا مباشرة، وكان الحصانان ينبشان الأرض بحوافرهما في انتظار الشوفان ليأكلاه، وقلت له: «السيدة تايلور هنا لتلقاك. استيقظ.»

استيقظ والدي فجأةً من سباتٍ عميق. ونصَب ظهره في التبن، قائلًا: «ماذا؟»

فكررتُ قائلة: «السيدة تايلور هنا لتلقاك.» ثم جلست مستندةً على عقبيَّ. وقلت له: «لديك قشة في شعرك.»

نفضها بعيدًا بيده، وانتزعتُ أنا قطعة قشٍّ عنيدة من التبن، ونهضنا معًا ونزلنا سلم علية التبن، فيما كان والدي يتنحنح لتصفية حَلقه ويهز رأسه ليستفيق.

وبينما كنا نهبط الدرجات الخافتة الإضاءة جنبًا إلى جنب، لننزل إلى حظيرة الخيل والماشية، قال: «كنت أستريح قليلًا فحسب.» مرَّر يدَيه خلال شَعره. وأضاف: «تقولين السيدة تايلور؟»

«تريد التحدث إليك أنت وأمي.»

نظر إليَّ بحدة. وقال: «ماذا فعل جيمس؟»

«لا شيء. ولا هنري أيضًا. لا أعرف الموضوع الذي تودُّ الحديث عنه، لكني أظن أنَّ له علاقة ببيتي.»

تنهَّد والدي وهو يلبس قلنسوته على رأسه. وقال: «لقد سئمتُ كل هذا.» وخرج مباشرةً وسط المطر الغزير.

وبحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى البيت وخلعنا أحذيتنا وعلَّقنا عباءاتنا المبتلَّة، كانت والدتي قد أعدَّت القهوة ووضعت بعضًا من بسكويت الشوفان على طبق. كانت السيدة تايلور تنتظرنا في الغرفة الأمامية، جالسةً على حافة كرسيٍّ ويداها متشابكتَان، كما لو كُنَّا سنبلغها بخبرٍ سيئ.

لكني كنت أخشى أن تكون هي التي تحمل خبرًا سيئًا لنا.

قالت بتردُّد عندما جلسنا كلنا: «أظن أنَّ أنابل يُستحسن ألَّا تكون مشاركةً في هذه المحادثة.»

فقالت أمي: «حسنًا، لا أعرف موضوع «هذه المحادثة»، لكن إنْ كان لها أي علاقة بما حدث لروث، يجب أن تسمعها أنابل بكل تأكيد. لأنها كانَت وسط غمار هذه الورطة منذ البداية.»

أومأت السيدة تايلور بالموافقة. وقالت: «حسنًا، إنْ كنتِ ترَين هذا مناسبًا.» خيَّم عليها الهدوء وشردت بعينَيها لحظةً، ثم رفعتهما وقالت: «فهمتُ أنَّ بيتي تدَّعي أنها كانت في برج الجرس تنظر من خلال النافذة، عندما رأت توبي يرمي الحجر الذي أصاب روث.»

أومأ أبي برأسه. وقال: «هذا ما تقوله.»

تنهَّدت السيدة تايلور قائلة: «لكن هذا لا يُمكن أن يكون صحيحًا. فقبل بضعة أيام من إصابة روث، ضبطتُ بيتي وآندي في الأعلى في برج الجرس خلال فترة الاستراحة. فأشرتُ لهما بالخروج ثم أوصدتُ الباب المؤدِّي إلى درج برج الجرس. وكان ما يزال موصدًا اليوم حين حاولت فتحه. علمًا بأنني أحمل المفتاح الوحيد هنا.» ووضعت يدها على محفظة جيبها.

فقالت أمي بهدوء: «كذبة أخرى.»

فقلتُ: «كذبة كبيرة أخرى»، وعندئذٍ نظر الجميع إليَّ فخفضتُ نبرة صوتي. وأضفت: «ماذا؟ إنها الحقيقة. بيتي لم ترَ توبي يفعل شيئًا. بيتي مؤذية. إنها غاضبةٌ منه فقط لأنه أمرها بأن تدعني وشأني.»

أمسك والدي بيدي. وقال: «لا بأس يا أنابل. لستِ مخطئة. لقد كانَت هذه الكذبة جاهزةً لدى بيتي بالفعل؛ لأنها صعدَت إلى برج الجرس من قبلُ وكانت تعرف ما ستقوله بالضبط.»

تنهَّدَت السيدة تايلور. وقالت: «يبدو هذا صائبًا.»

فقلت لها: «هلا تتفضلين بالذهاب إلى العريف أولسكا وإخباره بذلك؟»

أومأت بالموافقة. وقالت: «سأفعل ذلك. لكني أردتُ أن آتيَ لألقاكم أولًا. فالسيد جلينجاري وزوجته صديقاي، ولم أُرِد توجيه اتهامٍ قبل مناقشة المسألة.»

فقال والدي: «هذا الكلام لا يحمل اتهامًا. إنما تخبريننا بمعلومةٍ فحسب. وسيفعل بها العريف ما يستطيع فعله.»

كنت أشعر آنذاك طَوال تلك الأيام بأنني مشدودة كوترٍ في الجيتار، أئنُّ كلما وقعَتْ مشكلة على رأسي مثلما يرن الوتر كلما نُقِر عليه، لكني أيضًا كنتُ أحظى مثله بلحظاتٍ من الراحة في بعض الأحيان، كهذه اللحظة. فربما بدأ الناس أخيرًا يفهمون حقيقة بيتي.

وقفت السيدة تايلور ووقفنا معها. قالت: «لم تأتِ بيتي إلى المدرسة اليوم. أتصوَّر أنها مريضة في المنزل. ربما يجب أن أذهب وأتحدث إلى آل جلينجاري أولًا قبل أن أذهب إلى العريف.»

هزَّت أمي رأسها لتُبدي اعتراضها. وقالت: «كنا في نفس موقفك عمَّا قريب. لن يُجدي هذا الاقتراح أي نفع. فهما مُصمِّمان على أنَّ بيتي لم ترتكب أي خطأ.»

أومأت السيدة تايلور لتُبدي موافقتها. وقالت: «أظنُّ أنكِ محقة في ذلك. فبيتي فتاة … غريبة الأطوار، لكنها حفيدتهما.»

لم نتحدَّث عن البقية: عن الأذى البالغ الذي كانت تُلحقه بي، عن شكوكي في أنها هي وآندي قد جرحا جيمس. لكنَّ غطاء الإناء قد فُتِح، وقريبًا سينضح بما فيه من أسرار قذرة.

لا أستطيع القول إنني كنت سعيدة حرفيًّا، لكني لم أكُن آسفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤