الفصل التاسع عشر

كان الرجال يغادرون المنزل للتو تزامنًا مع عودتي بالضبط.

قال لي والدي: «أين كنتِ يا أنابل؟ أمكِ تحتاج إليكِ في الداخل.»

«ذهبتُ لأُدخل الحيوانات حجيراتها.»

شغَّل جدي محرِّك شاحنتنا، بينما تكدَّس الرجال الآخَرون في المقطورة المُسطَّحة، ومعهم مجموعةٌ من الكلاب الهجينة المجهولة السلالة.

قال والدي وهو يستدير لينصرف: «حسنًا، جيد. الآن ادخلي وساعدي أمك.»

فقلت وأنا أتبعه عبر الزقاق: «انتظر. يا أبي، انتظر دقيقة.»

فقال وهو يفتح باب مقصورة الشاحنة: «يجب أن نذهبَ الآن يا أنابل. الضوء على وشك الزوال، والكلاب البوليسية في الخارج عند الكنيسة متأهبة للذهاب.»

«أبي، أظن أنني أعرف مكان بيتي.»

فتوقَّف تمامًا فجأةً. أغلق باب الشاحنة.

وقال ناظرًا إليَّ بارتيابٍ لم أستطِع أن ألومَه عليه: «تعرفين مكانها؟ هكذا فجأةً بهذه السهولة؟»

قلت: «كنتُ أملأ دلاء الحصانَين عند الصهريج، وتذكَّرتُ شيئًا ما.» بدا الكذب هنا تافهًا جدًّا مقارنة بأي شيء آخَر. وأضفت: «قال آندي للضابط إن بيتي كانَت تنوي النزول إلى كوخ توبي، وإحداثَ بعض الضرر هناك. لذا خمَّنتُ أنها ربما نزلَت إلى هناك وحدها عندما لم تجِد آندي عند «حجر السلحفاة».»

هزَّ والدي رأسَه بنفاد صبر.

وقال: «أنابل، لقد نزل العريف أولسكا إلى هناك بحثًا عن توبي. وبيتي لم تكُن هناك. ونزل الضابط بنفسِه إلى هناك وتفقَّد المكان. لم تكُن موجودةً هناك. إنها ليست هناك يا أنابل.»

«لكنهم كانوا يبحثون عن توبي. لم يكونوا يبحثون عن بيتي في الحقيقة؛ لأنَّ ذلك كان قبل أن يعرفوا أنها ربما تكون قد ذهبت إلى هناك. لتضايقه.»

فتحَ والدي باب الشاحنة مجددًا. وقال: «لا أفهم ما الذي تقصدينه يا أنابل. هذا الكوخ حجرة واحدة فقط. لا قبو فيه. ولا علية. ولا خزانة. ولم تكُن توجد أي إشارةٍ على أنها موجودة هناك.»

«عدا ذلك السلك.»

«أنابل …»

«إنها لم ترَ أي شيء من برج الجرس يا أبي. توبي لم يقترف أي جُرم.»

صعدَ والدي إلى داخل الشاحنة. وقال: «عليَّ أن أذهب يا أنابل.»

فقلت: «أبي، إنها في البئر.»

هزَّ رأسه. وقال: «لا توجد بئرٌ عند كوخ توبي.» وبدأ يغلق باب الشاحنة.

فقلت وأنا أمسك ذراعه: «بل توجد بئر. توجد بئر في الخلف وسط الأشجار عند بيت كوب القديم.»

نادَتْني أمي من مدخل البيت: «يا أنابل.»

لكني واصلتُ التحدُّث إلى أبي: «إنها محض حفرة في الأرض. قد يمشي المرء بجوارها مباشرةً دون أن يلحظها.»

خيَّم سكونٌ تامٌّ على أبي. وقال: «أنا متيقِّن من أنَّ أحدهم قد فتَّش كلَّ شبر هناك.»

ذكَّرتُه قائلة: «قالت بيتي إنها كانت خائفةً من توبي. لم يخطر ببال أحدٍ أنها قد تكون موجودةً في أي مكانٍ بالقرب من الكوخ. آندي هو الوحيد الذي كان يعرف أنها كانت تعتزم النزول إلى هناك في ذلك اليوم.»

لم أستطع إخبارَه بالأصوات الغريبة التي كنت قد سمعتُها سَلَفًا في الظلام. تلك التي كانت تُشبه صوت حيوانٍ مذعور.

نادَتْني أمي مجددًا: «يا أنابل!»

رددتُ عليها قائلةً: «أنا ذاهبة مع أبي.»

قال لي: «ادخلي البيت. ونحن سنتفقَّد البئر.»

فتوسلتُ إليه قائلة: «أرجوك أن تدعني آتي معكم. لن أعترض عملكم. أعدُك.»

ظلَّ يتأملني لحظة، ثم لوَّح لأمي بأنه يوافق على ذهابي.

صعدتُ إلى داخل الشاحنة، وجلست بينه وبين جدي الذي، حمدًا للرب، كان سائقًا بطيئًا وحذرًا.

بحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى الكنيسة، من المفترض أنَّ توبي كان يقترب آنذاك من مُنخفَض «كوب هولو».

وبحلول الوقت الذي طلب فيه أبي من سائسي الكلاب ألَّا يُطلقوا سراحها إلى أن يحين الوقت المناسب، من المفترض أنَّ توبي كان متجهًا حينها إلى أسفل المنحدر نحو الكوخ الذي يسكنه.

وبحلول الوقت الذي طلبَ فيه أبي من العريف أن يتبعنا إلى مُنخفَض «كوب هولو»، من المفترض أن توبي آنذاك كان منتظرًا إيانا في الأحراج حيث خيَّم الليل علينا بسرعة.

وبحلول الوقت الذي وجدنا فيه البئر، من المفترض أنَّ توبي كان مستعدًّا حينها للانضمام إلينا، باعتباره رجلًا غريبًا آخَر جاء للمساعدة، فيمتزج وسطنا كالحرباء دون أن يلاحظه أحد.

بينما كنا نسير بالسيارة نحو أسفل الزقاق إلى مُنخفَض «كوب هولو»، تذكَّرتُ مجددًا ذلك الصوت الذي سمعته سلفًا. الصوت الذي كنت أظنه صوت قنفذ.

تخيَّلتُ بيتي عالقةً في عمق هذه البئر الباردة منذ يومَين، والمطر ينهال فوقها، ورأيتُ أنها ربما لا تحتاج إلى مزيد من العقاب على كلِّ ما فعلته. لكني كنت أعرف أنَّ روث ربما تختلف معي في هذا الرأي.

•••

أوقفَ جدي الشاحنة عند أسفل زقاق كوب، ورَكَنها بجوار الكوخ الذي يسكنه توبي. وتوقَّفَت وراءه شاحنة أخرى يقودها العريف، ومُحمَّلة بخمسة رجالٍ آخَرين.

تَرجَّلنا كلنا من الشاحنتَين بسرعة، وتجمَّعنا في الأرض الخالية من الأشجار.

صاح أبي قائلًا: «توجد بئر وسط هذه الأشجار، عودوا إلى الخلف قليلًا بمحاذاة الزقاق، ثم انعطفوا إلى اليسار. انتبهوا إلى خطواتكم أثناء مشيكم.»

أمسكَ بكُمي. وقال لي: «فلتبقي ملاصقة لي يا أنابل، مفهوم؟»

أطعتُه. «أردتُ» فعلًا أن أكون معه. فأنا لم أكُن أعرف ما سأفعله إذا لم تكُن بيتي موجودةً في تلك البئر، وتبيَّن أن تخميني كان خاطئًا. ثم إنَّ توبي كان موجودًا في مكانٍ قريب، يترقَّب ما سيحدث. كان عليَّ أن أكونَ قريبةً منه. كان عليَّ أن أكون أنا مَن يساعده إنْ لزم الأمر. وكنت أريدُ أن يكون أبي معي.

انتشر الرجال وانطلقوا وسط الأشجار. كان المكان مظلمًا جدًّا لدرجة أنَّ الرجال بدءوا يُضيئون مصابيحهم واحدًا تلو الآخَر، ويحركونها يمينًا ويسارًا وإلى أعلى وأسفل لترشدنا نحو الأمام.

كان العثور على الأساسات المحترقة لمنزل كوب القديم سهلًا، لكنَّ اكتشاف مكان البئر نفسها استغرق وقتًا أطول؛ لأنها لم تكُن سوى بقعة داكنة على الأرض، فيما كانت الحجارة المسطحة المحيطة بها مدفونةً منذ أمدٍ بعيد، تحت بعض الطحالب والعفن.

ومن المنطقي أن تكون فتحة البئر أيضًا قد صارت مغطَّاةً بأوراق الشجر. وكنت أعرف، دون أن أنظر في الداخل، أنها كانت كذلك بالفعل. وأنَّ بيتي قد داستها، دون قصد، فسقطت وأزال جسدها تلك الأوراق، وبذلك صارت الفتحة مكشوفة لنا لنجدها.

تراجعتُ بينما اقتربَ الرجال من فتحة البئر. يا للفظاعة. يا للفظاعة. ما أفظع أن تكون بيتي موجودة هناك. ما أفظع أن يكون أي شخصٍ موجودًا هناك.

لم يخطر ذلك ببالي من قبل. إطلاقًا. وإلَّا كنتُ صرختُ بما أعرف وركضتُ لأعثر عليها.

تقدَّم العريف إلى حافة فتحة البئر، وسلَّط ضوءَ مصباحه نحو أسفلها مباشرة.

قال: «لا أستطيع رؤية أي شيء. جون!»

فانضم إليه والدي ورجلان آخَران، ووقفوا دائرةً حول البئر، وسلَّطوا أضواء مصابيحهم معًا إلى أسفل الحفرة.

قال العريف: «يا رباه، إنها موجودة في الأسفل. بيتي!»

سادت حالةٌ من الهرج والمرج، بينما كان الرجال يتدافعون إلى الشاحنتَين لإحضار مشكاواتٍ وحبالٍ ومجارف.

وقفتُ بعيدًا عنهم، مستندةً بظهري إلى إحدى الأشجار.

شاهدتُ توبي وهو يخرج من وسط الظلام، وينخرط وسط هذه الحالة الفوضوية دون أن يتفوَّه بأيِّ كلمة. لم يلاحظ أحد أيَّ شيء، لكنهم حظوا بمساعدة شخصٍ إضافيٍّ في سَحْب بيتي لإخراجها من تلك البئر.

كان يرتدي قفازَ جدي القديم.

كان يبدو مزارعًا. مثل أبي. ومثل ما سيُصبح عليه هنري أو جيمس يومًا ما.

•••

في النهاية، استغرقَ إخراجُ بيتي بعضَ الوقت.

كانت بئرًا محفورة، أي إنها كانت واسعةً في الماضي بما يكفي لتحويَ رجلًا بمجرفته، لكنها ضاقَت بعدئذٍ بالحجر الذي وضعه ذاك الرجل لتبطينها. كانت بيتي قابعة على عمق حوالي عشرين قدمًا فقط، وكان الجزء الأمامي من عباءتها عالقًا في أنبوب قديم صدئ. وهكذا كانت تبدو كأنها طفلة رضيعة محمولة في لفافة متدلية من منقار أحد طيور اللَّقْلَق، وكان واضحًا أنَّ هذا الأنبوب أنقذها من السقوط إلى قاع البئر، لكنَّ ساقَيها كانتا متدليتَين إلى الأسفل ومُختفيتَين وسط ظلمات البئر، وتساءلنا جميعًا عمَّا إذا كانتا معلقتَين في مياه نوفمبر الباردة.

كان الرجال قَلِقين من أن يُزيحوها من موضعها بالخطأ، فيدفعوها إلى عمق أكبر، أو يُلحقوا بها أذًى أسوأ، أو حتى يغرقوها. لكنهم كانوا يعلمون أنهم يجب أن يُخرجوها من هناك بأسرع ما يُمكن.

نادوها مرارًا وتكرارًا، لكنها لم تُبدِ أيَّ استجابةٍ حين أنزلوا إليها حبلًا، وبذلك كان من المستحيل أن تستطيعَ رَبْطه حول نفسها بأيِّ حالٍ من الأحوال.

كنت واقفةً على أحد جانبَي البئر مع أبي، وكان توبي والآخَرون واقفين على الجانب الآخَر يشاهدون. التقت عيناي بعينَيه عبر تلك الحفرة البشعة. ورأيت أنه، في ضوء المشكاوات، كان يبدو أصغر سنًّا لكن أكثر جدية مما كان يبدو في أي وقتٍ مضى، حين كان ملتحيًا ومرتديًا المعطف الأسود والقبعة.

قال أبي: «يجب أن ينزل شخصٌ ما إلى هناك ويُخرجها.»

فقال العريف: «هذا صحيح، ولكن يجب أن نستخدم حاملًا ثلاثي القوائم ورافعة. فإن حاولنا أن نفعل ذلك بطريقة خاطئة، فقد يسقط معها الرجل الذي سنُنزله في البئر في نهاية المطاف.»

قال أبي: «هل تريد الانتظار ريثما يذهب شخصٌ ويُحضر رافعة؟»

قال العريف: «لا. لا أريد هذا بالطبع. وأنا متيقِّن من أنَّ بيتي لا تريد البقاء في الأسفل هناك ولو دقيقة أخرى.»

تذكرتُ الساعات التي قضيتُها وأنا أقطفُ قرون الصقلاب، وأقصُّ شعر توبي. تذكرتُ حديثي مع الحصانَين وأنا أعطيهما الشوفان. تذكرتُ سعادتي بأنَّ جدي كان يقود الشاحنة ببطء وحذر. تذكرتُ ذلك وشعرتُ بالغثيان.

بالقرب من البئر، كانت توجد شجرة بلوط يتفرَّع منها غصن متين يمتد فوق البئر. تراجعنا كلنا بينما ربط أبي عُقدة سميكة عند أحد طرفَي الحبل، وألقاه من فوق الغصن إلى العريف، الذي شدَّه إلى أسفل ولفَّه بسرعةٍ ليصنع منه حمَّالةً يُمكن ارتداؤها حول الجسد.

قال أبي وهو يفكُّ أزرار معطفه: «سأنزل أنا.»

لكنَّ توبي الذي كان يقف بجوار العريف، أخذ الحبل من يدَيه. وقال: «دَعني أنزل أنا. أنا نحيف، لكني قوي.» ظلَّ مرتديًا قفازه، لكنه خلع معطف جدي تاركًا إياه يسقط على الأرض.

قال له العريف: «لا أعرفُك»، لكنه بدا فضوليًّا فحسب.

فقال توبي: «لستُ من هنا. لكني جئتُ لأقدِّم المساعدة، وسأكون ممتنًّا إذا تركتني أساعدكم.»

بدأتُ أتنفَّس مجددًا، مع أنني أدركت أنَّ يديَّ كانتا مقبوضتَين، في حين كان أبي والعريف يلفَّان الحمَّالة حول توبي ويضبطانها لتلائم جسده، تاركَين طَرفًا طويلًا متدلِّيًا منها ليستطيع أن يربط بيتي به.

سأله العريف: «أأنت متيقِّن من ذلك؟ إنها تُشكِّل حِملًا على الحائط عند الموضع الذي عَلِقَت عنده. لسنا واثقين من تماسُك الحائط، فقد ينهار ويأخذك معه.»

كان الرجال الآخَرون مُلتفين حول البئر. واستطعت أن أرى من خلالهم. رأيتُ توبي يضبط الحمَّالة. رأيته ينظر إلى العريف، ويومئ بالإيجاب.

قال العريف: «خُذ مصباحي. فلو سلَّطنا الأضواء من هنا، لَحجبها جسدُك وأنت تنزل ولن ترى شيئًا، لكني لا أعرف كيف ستربط الفتاة وتظل ممسكًا بالمصباح دون أن تكون لك يدٌ أخرى أو يدان.»

قال توبي: «سأتدبَّر الأمر.» ثم مدَّ يده في جيبه وأعطى أبي مطواته. وقال له: «هلا تحمل هذه عني؟ فأنا سأنزلُ ورأسي للأسفل، ولذا …»

«ألديك محفظة؟ مفاتيح؟»

سكتَ توبي لحظة. ثم قال: «في معطفي.»

وبينما جثا توبي على ركبتَيه عند حافة البئر، قال له أبي: «لم أعرف اسمك.»

التفتَ توبي برأسه إلى الوراء. وقال: «جوردان.» وبدا أنَّه كان يقول الصدق.

كان شخصٌ ما قد أحضر آل جلينجاري إلى المكان منذ قليل، وقد وصلوا في حالة من الذعر والهلع، وبدا مظهر أم بيتي مفاجئًا للجميع بطراز ثيابها الرائج في المُدُن، ولفات شعرها الحلزونية المُثبَّتة بدبابيس. بَكَت قليلًا بينما اصطفَّ الرجال كلُّهم بطول الحبل، وأنزلوا توبي برأسه أولًا إلى داخل البئر رويدًا رويدًا. انحنى فرعُ شجرة البلوط قليلًا، لكنه ظلَّ صامدًا، وكان الحبل سميكًا بما يكفي ليتحمَّل بعض الاهتراء من الاحتكاك القوي باللحاء بفعلِ وزن توبي.

أنزلوه بإفلات الحبل من أياديهم تدريجيًّا، حتى صاح توبي بصوتٍ مكتوم من غياهب البئر قائلًا: «مهلًا!»، فردَّدها العريف، رافعًا يده في الهواء. وصاح قائلًا: «لقد وصل إليها. توقفوا وأمسكوه بثبات.»

انتظرنا بينما كان الحبل يهتز بشدة. تخيلتُ توبي يدس المصباح تحت ذقنه وهو يلف الحبل حول بيتي.

سمعتُه يصيح بشيءٍ آخَر.

قال العريف: «إنه لا يستطيع إيصال الحبل إلى تحت ذراعيها. فهي ملفوفة بتلك العباءة بإحكام. ولكن إذا حاول زحزحة العباءة، فقد تنفصل عن ذلك الأنبوب وتسقط.»

كان أبي موجِّهًا مصباحه إلى أسفل البئر، وحاملًا المشكاة عاليًا في يده الثانية. قال: «سيضطر إلى إمساكها وإخراجها بنفسه.»

صاحَ العريف نحو أسفل البئر قائلًا: «هل تستطيع وضع ذراعَيك حولها؟»

خيَّم سكوتٌ طويل. واشتد اهتزاز الحبل. وانحنى الرجال الذين يُمسكونه إلى الوراء ليقاوموا انسحابه نحو الأسفل.

وحينها عرفنا مدى جسامة إصابة بيتي.

فقد صرخت صرخة مدوية من أعماق البئر.

لم تكُن صرختُها كأيِّ شيء سمعتُه من قبل.

ظلَّت جدة بيتي تدور حول نفسها، مُنكِّسة رأسها، وواضعة قبضتَي يدَيها على فمها.

دعوتُ الرب، ولم أصدِّق أنني انتظرتُ، ولو ثانيةً واحدةً، قبل أن أخبرَ والدي بما استخلصتُه من تلك الهمسة الخافتة التي راودَتْني: «إنَّ الصوت الذي سمعتِه لم يكُن صوت قُنفذ.»

وفهمتُ حينها، على نحو غامض وطفيف، السببَ في حمل توبي لتلك البنادق معه أينما ذهب.

ازداد شدُّ الحبل وأحدث أزيزًا مستمرًّا فوق البئر. فصاحَ العريف مجددًا: «أمسكوا بثبات!» ثم جثا على ركبتَيه وانحنى بجسده إلى داخل البئر. كان توبي يصيح قائلًا شيئًا ما، لكني لم أسمع كلمة مما قاله.

قال العريف وهو يرفع ناظرَيه نحو أبي: «الفتاة عالقة. عندما عَلقت عباءتها في ذلك الأنبوب، لا بد أنَّها اصطدمت بقوة بالجانب الآخَر من البئر. يوجد أنبوب ثانٍ بارز من هناك بالضبط خلفها، وهي عالقة فيه.»

انحنى أبي بجسده مقتربًا من الفتحة. وقال: «ماذا تقصد بأنها عالقة فيه؟»

فقال العريف: «لقد اخترقَ جسدها. إنه مغروزٌ في كتفها.»

أغمضتُ عينيَّ. وشعرتُ آنذاك، في تلك اللحظة، بأنني لن أهتم أبدًا بأي هراء تافه مرَّة أخرى.

وصرخت بيتي. وظلَّت تصرخ.

قال العريف: «إنه ينزع جسدها من الأنبوب»، وصاحَ قائلًا للرجال الممُسكين بالحبل: «استعدوا! ها هو سيحمل وزنها.»

لكنهم مع ذلك جفلوا فجأةً معًا، حين حاول الحبل أن يحمل العبء الجديد، وانحنى الفرع من فوق البئر، وصاحَ العريف قائلًا: «الآن ارفعوا، ولكن ببطء!» ثم وقفَ مجددًا وظلَّ يشير لهم بذراعه ليرفعوا، ويرفعوا، ويرفعوا، حتى خرجت قدما توبي ثم ساقاه ثم باقي جسده كله من فتحة البئر إلى ضوء المشكاوات، وكانت بِيتي ملتصقةً بصدره ورقبته، كأنها صرَّةٌ من خرقٍ مبللةٍ وشَعر مُلبَّد وشفتَين زرقاوَين، فيما كانت الدماءُ تنساب من عباءتها، وكانت ساقاها منقوعتَين وواهنتَين، ووجهُها شديد البياض لدرجة أنني لم أفهم كيف أمكن أن تكون حية.

•••

وضعوا بيتي برفق على عُشٍّ من المعاطف في المقطورة المسطحة الموصولة بشاحنة العريف. كانت واعية، لكن بدرجة طفيفة للغاية. وعندما بدأت أسنانها تصطك، ذهلتُ لأنني وجدتُ نفسي مجددًا أتخيَّل حيوانًا بريًّا. فأسنان جرذان الأرض كانت تصطكُّ على هذا النحو عندما كانت الكلاب تحاصرها.

قرصتُ نفسي بقوة عند الجلد اللين تحت ذقني مباشرة.

وبينما كان جَدُّ بيتي يغطِّيها بمعطفه، لاحظتُ أنها كانت ترتدي عباءتها بالمقلوب؛ أي إنَّ البطانة الداكنة كانت في الخارج، واللون الأصفر كان مدفونًا في الداخل. وتصوَّرتها وهي تتسلل عبر مُنخفَض «كوب هولو»، إلى داخل الكوخ الذي يسكنه توبي، وتدس السلك الملفوف تحت أغطية فراشه.

قرصتُ نفسي مجددًا وأشحتُ بوجهي بعيدًا.

•••

كان من المستحيل معرفة مدى جسامة إصابة بيتي، لكننا كنا نعلم أنها تحتاج إلى أن تُنقل إلى مُستشفى بسرعة. فلحمها كان أخضر ومتورمًا بالفعل عند الموضع الذي اخترق فيه الأنبوب جسدها. وصحيحٌ أنها كانت تستطيع هز أصابعها، لكنها بدَت عاجزةً عن تحريك ساقَيها.

قال والدي: «لقد ظلَّت باردةً وساكنةً فترة طويلة. ربما تحتاج إلى تدفئةٍ فقط.»

صعدت والدة بيتي إلى مقدمة شاحنة العريف، بينما جلسَ جدُّها وجدتها ورجلان ممَّن كانوا يُمسكون الحبل في الخلف لإبقاء بِيتي ثابتة.

وعندما عرضَ رجل آخَر أن يحل محل السيدة جلينجاري، لوَّحت له رافضة مساعدته. وقالت: «شكرًا. لكن لا.»

إذا كان يُمكن لأحدٍ أن يُسرِع ببطء، فهذا بالضبط هو ما فعله العريف، عندما شغل محرك الشاحنة وراحَ يتحرَّك ببيتي بعيدًا.

وبهذا ظلَّ بقيتُنا واقفين في بِركة من ضوء المشكاوات، مُحدِّقين بعضنا إلى بعض، بينما كنا نلتقط أنفاسنا ونحاول أن نهدأ قليلًا.

قال أحدُ الرجال وهو يمدُّ يده إلى يد توبي حتى أمسكها: «أنا جِد هُوبكنز. ما فعلتَه كان رائعًا حقًّا.»

وقال رجلٌ آخَر وهو يمدُّ يده ليصافح توبي ويُعرِّفه بنفسه: «هذا صحيح»، ثم شكره كلاهما على ما فعله، واحد تلو الآخَر.

قال له والدي: «لقد حَمَيتنا كلنا من بضعة كوابيس بشعة يا جوردان، وإنْ كنتُ أخشى أن تطاردك هذه الكوابيس بدلًا منَّا. أنا جون ماكبرايد. وهذه ابنتي أنابل.»

فقال توبي: «تُسعدني معرفتكما أنتما الاثنين.» وكان حريصًا على ألَّا ينظر إلى عينيَّ مباشرة.

ظللنا بضع دقائق نلفُّ الحبل، ونغطِّي البئر بالأغصان حتى صارت مُغطاةً كما ينبغي.

ثم قال أبي: «أظن أننا يُمكن أن نعود إلى البيت.»

رددتُ قائلة وأنا أنظر حولي بحثًا عن توبي: «أجل.» رأيتُه واقفًا بالقرب من الكوخ، معطيًا ظهره لي.

قال أبي للآخَرين: «اسمعوني كلكم. سأوصلكم بالشاحنة إلى شاحناتكم، ويُمكنكم أن تعودوا إلى بيوتكم من هناك.»

فهمستُ وأنا أومئ برأسي نحو توبي: «وماذا عنه؟»

قال أبي: «جوردان؟ الغريب الذي طلب منا إنزاله إلى داخل بئر لينقذ فتاة لم يقابلها من قبل؟ سيأتي إلى البيت معنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤