الفصل الثاني والعشرون

كنت أحتاج إلى بعض الوقت لأترك فكرتي الجديدة تختمر في رأسي، قبل أن أفعلَ أي شيءٍ حيالها.

فقد ظللت طوال الأيام الماضية أتقافز من مشكلة إلى أخرى، كأني حبة فشار في حلة. وقد تعبت من ذلك.

كنت قبل بضعة أسابيع فقط قد بدأتُ أتلهَّف لتغييرٍ ما، وأشعر بالسأم من حياتي، رغم أنني كنت أحبها. ويبدو أنَّ الإثارة كانت تنتظرني آنذاك في مكانٍ ما، ككعكة سليمة تنتظر أن آكلها.

أمَّا في تلك اللحظة، فلم أكُن أريد سوى أن أبقى ساكنةً وهادئةً، وأمعن في التفكير لقليلٍ من الوقت فحسب.

لم يكُن «حجر السلحفاة» بعيدًا عن مبنى المدرسة. وكانت الغزلان التي اعتادت أن تسلك الممشى للخروج من مُنخفَض «حفرة الذئاب»؛ قد نحَتَت في الأرض ممراتٍ ضيقة أخرى مؤديةٍ إلى رُقَع السرخس التي كانت تُحبها.

سلكتُ أول هذه الممرات، وشعرت بالامتنان مجددًا؛ لأنَّ بيتي لم تكُن متربِّصةً بي. تساءلتُ عمَّا إذا كان يُفترض أن أشعر بالذنب تجاه ما حدث لها، لكني لم أشعر بذلك. صحيح أنني ربما تباطأت في الإسراع للعثور عليها، لكني لم أرمِها في تلك البئر. بل هي التي أوقعت نفسها في كل ذلك.

كنتُ وحدي تمامًا آنذاك. فشقيقاي قد رحلا منذ وقت طويل. وكانت كل الطيور والحيوانات الصغيرة قابعةً في مخابئ مرئية، في انتظار أن تعرف نياتي.

لكني لم أكُن أحمل أي نية.

كان «حجر السلحفاة» قائمًا وسط الأرض الفضاء الخالية من الشجيرات، كأنه قمرٌ كبير وسط مجرةٍ من نجوم أوراق القَيْقَب الصفراء. كان منظره جميلًا وقد امتدت عروق الكوارتز عميقةً واضحة عبر قوقعته الصلبة المائلة إلى الاحمرار. لطالما كنا نتساءل عن ذلك الحجر؛ عن مصدره، وعن السبب في عدم وجود سواه في هذه التلال.

كنتُ قد شعرت بالغضب من قبل؛ بسبب الكثير من تصرُّفات بيتي الخسيسة، ولكن عندما رأيت الندوب التي أحدثتها على الحجر وتذكرتُ سببها، اجتاحني حنقٌ حقيقي.

مرَّرتُ يدي على الحجر، متوقعة أن أجد إيحاءً ما بالنعومة. لكن بدلًا من ذلك، أخبرني الحجر نفسه ببضعة أشياء عن العمر والصمود في وجه الزمن، وبدا أنَّ الأشجار الواقفة على حافة الأرض الفضاء وافقته الرأي بهدوء.

قلت لنفسي مَن أنا لأقلقَ على حجرٍ موجودٍ هنا منذ أمدٍ بعيدٍ، قبل ميلاد أيٍّ منا أصلًا، وسيبقى هنا فترةً طويلةً بعد رحيلنا كلنا؟

كنت قد جئتُ إلى هنا لأفكر في مسائل جادة، وفي الكيفية التي يُمكن أن أسهم بها في مجريات الأحداث. أحداث مهمة. لكني، بدلًا من ذلك، وجدتُ الحجر يجعلني أدرك للمرة الأولى أنَّ حياتي، مهما طالت، لن تساويَ أكثر من ومضةٍ عابرة. لا، ولا حتى ذلك. ولا حتى ومضة عابرة. ولا حتى تنهيدة.

وفي طريق عودتي عبر الأحراج، فكرتُ في الرجال الذين حفروا الحفر القريبة من هنا. وربما كان معهم صبيان أيضًا، صبيان ليسوا أكبر كثيرًا من عمري الآن.

تخيَّلتُ تلك الحفر، والذئاب محصورة فيها تزمجر وتئن لإطلاق سراحها. تخيلتُ العظام التي خلَّفَتها وراءها. وأجنة الجراء الصغيرة التي لم تولَد، وآذانها التي تشبه بَتَلات الورد.

فكَّرتُ في بيتي ووالدها «الغائب»، والسبب في أنها كانت تعتزم إلحاقَ ذلك الأذى بتوبي.

فكرتُ في القصص البشعة التي أخبرني بها، وملمس ندوبه الناعم الفظيع.

وارتأيتُ أنَّ ثمة أشياء قد لا أفهمها أبدًا، مهما حاولتُ جاهدة. لكني سأحاول.

وأنَّ ثمة أناسًا قد لا يسمعون صوتي الصغير الوحيد أبدًا، مهما كان ما أريد قوله.

وحينئذٍ خطرت ببالي فكرة أفضل، وكان هذا هو ما خرجتُ به في ذلك اليوم: إذا كان مُقدَّرًا لحياتي أن تكون مجرد نغمة واحدة في مقطوعة لا نهاية لها، فكيف لا أصدح بها لأطول وقت ممكن وبأعلى صوت مُستطاع؟

•••

عندما عدت إلى البيت، وجدتُ أمي وجَدَّتي في غرفة الجلوس، حيث كان حِجرُ كلٍّ منهما مليئًا بثيابٍ تعملان على إصلاحها.

ألقيتُ التحية وسألت: «أين الولدان؟»

فقالت أمي وهي ترمقني بنظرةٍ ذات مغزًى: «في الخارج، في علية التبن مع جوردان.»

قلتُ: «مع …» لكني كبحتُ التعبير عن ذهولي.

فقالت جدتي وهي مُنكبة بوجهها على عملها: «جوردان. يا له من رجل لطيف لأنه مكث ليساعد والدكِ في إصلاح كسور الحظيرة.»

فسألتُ: «هل لي أن أذهب وأساعد أنا أيضًا؟»

قالت أمي: «لوقتٍ قصير. وأعيدي شقيقَيكِ معك وأنتِ عائدة.»

«هل أعطيتم جوردان غداءً ما؟»

فرفعت أمي عينَيها نحوي وهي تبتسم. وقالت: «لا يا أنابل. والدُكِ طلب منه أن يساعده في العلية طوال النهار، لكننا لم ندعُه للمجيء في وقت الغداء.»

ضحكت جدتي ضحكة مكتومة.

قلت: «كنت أسأل فحسب.»

فقالت أمي: «وأنا كنتُ أجيبُ فحسب. والآن اذهبي إلى هناك وعودي بسرعةٍ لمساعدتنا في إعداد العشاء.»

•••

تبعتُ صوت الطَّرق بالمطرقة وصياح الأولاد من البيت حتى الحظيرة. وعند أبواب الجُرن العلوية الكبيرة، وجدتُ والدي وتوبي يُصلحان جدارًا منقوصًا من بعض الألواح، بينما كان شقيقاي يتأرجحان جيئةً وذهابًا على حبلٍ معقود.

راودني آنذاك شعورٌ ما، وأظن أنه كان شعورًا بالغيرة من أنهم يمارسون حياتهم بأفضل نحو، وبكل سهولةٍ من دوني.

قال لي والدي: «ما الذي أخَّركِ؟ الولدان هنا منذ نصف ساعة أو أكثر.»

فقلت: «أمضيتُ بعض الوقت عند «حجر السلحفاة».»

نظر والدي وتوبي إليَّ، مثلما نظر إليَّ الحصانان عندما قاطعتُ انهماكهما في تناول العشب.

قلت: «المكان هناك هادئ.» وبدا هذا الرد مُقنعًا لكليهما.

الْتَفتُّ بناظريَّ إلى الولدين اللذين كانا أشدَّ صخبًا من الغربان حين ترى صقرًا. وسألتُ والدي قائلة: «هل أخفيتم الأشياء التي كانت موجودة في العلية؟»

فأومأ والدي بالإيجاب. وقال: «دفنتُ الشَّعر في الأحراج. ولففنا البنادق بمعطف توبي ودسسناها تحت حزمة من التبن. وأخفينا الملاءات وأغطية النوم أيضًا. الكاميرا في قبعته، خلف حزم التبن. وقد أمرتُ الولدَين بأن يبقيا خارج العلية.»

كانت هذه الجملة الأخيرة هي الأكثر إثارة للقلق، من بين كلِّ ما كان يُمكن أن يقوله. فإخبار الولدَين بعدم فعل شيءٍ ما هو أشدُّ ما يغريهما بفعله، كأن تعطيَ الكلب شريحة لحم وتأمره بألَّا يأكلها.

قلت: «عندي فكرة.»

ذهلت عندما توقَّف هذان الرجلان البالغان عن الطَّرق، ووضعا مطرقتَيهما جانبًا حين سمعا هاتَين الكلمتَين البسيطتَين منِّي.

قال والدي: «دعونا نخرج.» تبعتُه أنا وتوبي إلى الخارج من البابَين الجانبيَّين الكبيرَين. ثم قال: «ما الفكرة؟»

فكرتُ بُرهةً في الخيط الذي قد تبعته وأنا في المدرسة. والقرار الذي اتخذته عند «حجر السلحفاة»، وأن أستخدم ذلك الخيط لإصلاح ما يُمكن إصلاحه.

قلت: «أظن أنني أعرف طريقةً لنجعل آندي يعترف ببراءتك يا توبي.»

انتظرا مُترقِّبَين سماع المزيد.

فأضفتُ: «رآك آندي وبيتي فوقهما على تلك التلَّة في ذلك اليوم. رأياك هناك في الأعلى ممسكًا كاميرا.»

«إذَن؟»

«إذَن سنقول لآندي إنك التقطتَ صورةً لبيتي وهي ترمي الحجر.»

هزَّ توبي رأسه بالنفي. وقال: «لكني لم أفعل ذلك. لقد حدث الأمر بسرعة كبيرة. وغاصا بعد ذلك وسط الأدغال. وكلُّ ما استطعتُ تصويره كان لقطة للطريق في الأسفل. إنها تُظهركِ أنتِ. وروث وهي مصابة.»

قال والدي: «نعرف ذلك يا توبي. رأينا الصورة. إنها جعلتك تبدو مذنبًا. لكن آندي لا يعرف ذلك. كل ما يعرفه أنك كنت هناك على التلة ومعك كاميرا. سنقول له إنَّ الصور قد عادت وإنَّ إحداها تُظهِر بيتي وهي ترمي الحجر. وإذا انطلى ذلك عليه وظنَّ أنَّ كذبته الكُبرى قد اكتُشفت، فلن يكون لديه سببٌ للكذب بشأن بقية ما حدث.»

قلت لتوبي: «وأنت لم يكُن لديك سببٌ يجعلك ترمي بيتي في تلك البئر.»

ثم قلت لوالدي: «علينا أن نذهب ونتحدَّث إلى آندي في أسرع وقت ممكن. هاتِ العريف معنا ليسمعَ بنفسِه حقيقة ما حدث.»

وفي هذه اللحظة، بعثرَ الولدان مخططاتنا المُحكَمة كأنها حفنة من الحبوب.

استدرنا كلنا وهُما يخرجان مُسرعَين من الحظيرة، ويتسابقان نحونا.

صاحَا قائلَين: «انظروا ماذا وجدنا!»

كان جيمس رافعًا قبعة سوداء عاليًا في قبضته.

وكان هنري ممسكًا بكاميرا.

حدَّقنا إليهما، ونحن عاجزون تمامًا عن الكلام.

قال هنري: «توبي كان في حظيرتنا. ربما ما يزال موجودًا هنا، مختبئًا.» خفضَ صوته فجأة. وقال: «ربما ما يزال موجودًا في الحظيرة في مكانٍ ما. يا أبي، هل تظن أنه ما يزال في الحظيرة؟»

ماذا كان يُفترض أن نقول؟

لم نستطع إخبارهما بأنَّ توبي كان واقفًا أمامهما مباشرة. ذلك أنهما كانا ثرثارَين.

ولم نستطِع أن نطلب منهما ألَّا يقولا أيَّ شيءٍ عمَّا اكتشفاه. فما كانا ليريا أي مبررٍ إطلاقًا لإخفاء معلوماتٍ كهذه عن الشرطة، في ظل وجود بحثٍ جارٍ عن رجل، سواءٌ أكانا يحبان توبي أم لا.

سألهما والدي: «أين وجدتما هذه الأشياء؟»

قال جيمس وهو يتراقص في مكانه: «في العلية. خلف بعض حزم التبن.»

وقال هنري: «لماذا يترك توبي قبعته وكاميرته في علية حظيرتنا؟ هذا ليس مفهومًا. إلا إذا كان ما يزال موجودًا هنا في مكان ما.»

فقال والدي وهو يأخذ الكاميرا من يدي هنري: «ما رأيكما أن نترك العريف يهتم بذلك؟ الآن عودا إلى المنزل واغتسلا.»

«لكن …»

قال وهو يأخذ القبعة من جيمس: «هيا اذهبا. سنلحق بكما في غضون دقيقة.»

لوى جيمس قسمات وجهه من الضِّيق والاستياء. وقال: «ولماذا لا تذهب هي أيضًا؟»

«ستلحق بكما مباشرةً. والآن هيا.»

شاهدنا الولدَين وهما يمشيان نحو آخِر الزقاق بخُطًى متثاقلة، تعبيرًا عن غضبهما. خلع توبي قفازَيه وفرك يده المصابة.

قال والدي: «هذا ليس جيدًا.»

وقال توبي: «ينبغي أن أرحل.»

قلت: «علينا الذهاب إلى آل وودبيري بسرعة.»

فقال والدي: «بدأ الموقف يتعقَّد للغاية يا أنابل. أظنُّ أننا ينبغي أن نُخبر العريف بكل شيء، ونتركه يتصرَّف مع آندي.»

«وإذا لم يُفلح ذلك؟»

ظللنا نفكر لحظة.

قال والدي: «أظن أنك يُمكن أن تبقى مختبئًا يا توبي ريثما نحاول. وإذا لم يعترف آندي، فيُمكنك أن تهرب.»

فقلت: «ويسير بقدمَيه إليهم مباشرةً وهُم يبحثون عنه؟»

هز توبي كتفَيه. وقال: «سأرحل بهدوء.»

قال والدي: «لن ترحل إلى أي مكان الآن.»

قلت: «أي ضرر قد يقع إذا تحدثنا إلى آندي؟ يُمكن أن نذهب إليه الآن فورًا، ونخبره بأننا وجدنا صورةً له هو وبيتي على التلة حينما أُصيبَت روث، ونرى ما سيقوله.»

قال توبي: «وهذا سيوقعكِ في ورطةٍ إذا لم يعترف. سيتبيَّن أنكِ تكذبين لتجبريه على قول الحقيقة. وسيتساءل الناس عن السبب الذي دفعكِ إلى ذلك.»

قال والدي: «دعهم يتساءلوا. فنحن نُدافع عنك منذ البداية. ولن يُثقِلَنا أن يظن الناس أننا لم نزَل نحاول مساعدتك للخروج من هذه الورطة.»

قال توبي ببطء: «وهذا يثير سؤالًا مهمًّا. لماذا تدافعون عني منذ البداية؟»

رفع والدي رأسه مندهشًا. وقال: «لأنك لم ترتكب أي جُرم.»

فكَّر توبي في ذلك بُرهة طويلة، وهو يفرك ندوبه، وسمعتُ قصصه تحاول الخروج من صناديقها المحفوظة فيها.

ثم انتصبَ توبي أخيرًا وأخذ القبعة من بين يدي والدي، وعندئذٍ عرفتُ ما سيحدث.

قال وهو يوجِّه كلامه إليَّ مع أنه كان يتحاشى النظر إلى عينيَّ: «شكرًا على كلِّ ما فعلتِه. لكنَّ هذه لعبة لا أريد مواصلة لعبها بعد الآن.»

اعتمر القبعة.

وهكذا تلاشت شخصية جوردان فورًا.

قلت وأنا أتبعه إلى داخل الحظيرة: «ما الذي تنوي فعله؟»

لكنه لم يردَّ عليَّ. ولم يردَّ على والدي، الذي طلب منه البقاء إلى أن نتمكن من توضيح الأمور. بدا أنه لم يكُن يسمعنا بينما كان يصعد السلم إلى العلية.

قلت: «هذا الرجل عنيد جدًّا لدرجة تؤهله إلى أن يكون فردًا من العائلة.»

فقال والدي: «من طرف أمك.»

وقفنا نشاهد بينما نزل توبي مرَّة أخرى مرتديًا معطفه الأسود الطويل، ومُعلِّقًا بنادقه على ظهره مجددًا.

قلت: «توبي، لا يمكن أن ترحل هكذا بهذه البساطة. إنها ليست لعبة.»

لكنه اكتفى بالتوقف لحظة ليُعطيني معطف جدي، ويُعطي والدي القفاز الذي كان يرتديه.

سألتُه: «هل أنت راحلٌ حقًّا؟ هكذا بهذه البساطة؟»

لكنه لم يردَّ.

كان من الصعب عليَّ أن أصدِّق ما يحدث، بعد كل المحاولات التي بذلناها، لكني أدركت أنه كان عازمًا حقًّا على الرحيل.

قال والدي وهو يمد الكاميرا إلى توبي: «كاميرتك»، لكنه رفضها بإشارة من يده. ولم يكُن ما استطعتُ رؤيته من وجهه آنذاك سوى شحوبٍ لم أرَ مثله من قبلُ.

استدار بعد ذلك وغادر الحظيرة، وخرج عبر المرعى الخلفي، واختفى وسط غياهب الأدغال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤