الفصل العاشر

الألغاز والمفارقات

إنَّ ظواهر ردِّ الفعل والحدس البشريين لا تتفق معًا عند اجتماعها. عندما لا يروق للناس النتيجة المترتبة على حُجَّة توازنٍ ما، فمِن غير المستغرب إذن أن يخترعوا حُججًا أبسط تؤدِّي إلى استنتاجاتٍ أكثر استساغةً. ومع ذلك، يتمثَّل المبدأ الأول للفكر العقلاني في عدم السماح للتفضيلات الشخصية بالتأثير في المعتقدات.

(١) مغالطات معضلة السجينين

يقال إن حقيقة أن اللاعبَيْن سيكونان في حالٍ أفضل إذا لم يلعبا استراتيجيتَي التوازن الخاصتين بهما في لعبة معضلة السجينين؛ تمثِّل مفارقةً عقلانية تتطلَّب حلًّا.

(١-١) الأمر المطلق

بلغة دارجة، ينصُّ الأمر المطلَق لإيمانويل كانط على أنه من العقلاني أن تفعل ما تتمنَّى أن يفعله كل الناس. وإذا كان ذلك صحيح، فسيكون من العقلاني أن تتعاون في لعبة معضلة السجينين. لكن التفكير القائم على التمنِّي لا يكون تفكيرًا عقلانيًّا أبدًا. ومما يثير دهشتي دائمًا أنه لم يُؤخَذ على كانط قطُّ أنه اقترح مبدأً حول العقلانية دون أن يبدي أيَّ أسباب تُوجِب علينا أن نأخذه مأخذ الجد.

(١-٢) مغالطة التوءمين

إنَّ أيَّ شخصَيْن عقلانيين يواجهان نفس المشكلة سيختاران بالضرورة نفس الإجراء. لذا، فإن كلًّا من أليس وبوب سوف يختار إما «صقر» أو «حمامة» في لعبة معضلة السجينين. ونظرًا لأن أليس تفضِّل النتيجة («حمامة»، «حمامة») على («صقر»، «صقر»)، فعليها إذن أن تختار «حمامة».

إنَّ هذه المغالطة مثيرة للانتباه؛ لأنها ستكون صحيحة لو أن أليس وبوب توءمان متماثلان من الناحية الوراثية، وكنا بصدد الحديث عن السلوك المحدَّد وراثيًّا الذي يعزِّز الصلاحية البيولوجية على أفضل وجه (راجع «انتقاء الأقارب» في الفصل الثامن). لكن اللعبة المناسبة لن تكون وقتها معضلة السجينين، وإنما ستكون لعبة مكوَّنة من لاعب واحد فقط.

كما هو مألوف عند النظر إلى مغالطات معضلة السجينين، يُعرَض علينا تحليلٌ صحيحٌ للُّعبة الخطأ. فمعضلة السجينين لعبة ثنائية يختار فيها كلٌّ من أليس وبوب استراتيجيتيهما على نحو مستقل. وتفترض مغالطة التوءمين خطأً أن بوب سيُقْدِم على نفس الاختيار الذي ستُقدِم عليه أليس أيًّا كانت الاستراتيجية التي تختارها. ولا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا؛ لأن من المفترض أن بوب عقلاني، وأن أحد الاختيارين المتاحين أمامه عقلاني.

يمكن تعديل افتراضات المغالطة بحيث تتزامن استراتيجيات أليس وبوب فقط بشيء من الاحتمالية العالية بالقدر الكافي. وتثير الرواية المقدَّمة لتبرير هذا الترابط في سلوكهم قدرًا كافيًا من الغموض لحجب حقيقة وجود أي ترابط على الإطلاق يشير ضمنًا إلى أن أليس وبوب لا يقومان باختياراتهما باستقلالية. لكن إذا كان كلٌّ منهما يحدِّد اختياره باستقلالية عن الآخر، فإنهما لا يلعبان معضلة السجينين. وحتى إذا كانت معلومات أليس وبوب مترابطة، كما هو مفترض في مفهوم أومان للتوازن المترابط، فلن يلعبا «صقر»؛ لأن الخيار «صقر» يكون مُسيطَرًا عليه بقوةٍ بغض النظر عما قد يعلمه اللاعبان عن أمور أخرى.

(١-٣) أسطورة الصوت الضائع

عادةً ما تُبرَّر نسخة مغالطة التوءمين في وقت الانتخابات، عندما يرى المثقَّفون أن «لكل صوتٍ أهميته» (راجع «توازنات ناش المختلطة»، الفصل الثاني). لو أن صوتًا ضائعًا واحدًا لا يؤثِّر في نتيجة الانتخابات، فإن الوقت الوحيد الذي يمكن فيه أن يكون لصوتك أهميته هو عندما يكون الفاصل بين الفائز والمرشح الآخر الذي لم يحالفه الحظ صوتًا واحدًا فقط. أما إذا كان الفاصل بينهما صوتين أو أكثر، فلن يشكِّل أيُّ تغيير في صوتك فارقًا على الإطلاق فيمن سيجري انتخابه. ومع ذلك، فالانتخاب على مقعد في جمعية وطنية لا يُحسَم أبدًا بهامش صوتٍ واحد فقط.

فيما يلي مثال افتراضي لأحد الانتخابات أقرب في سياقه إلى السباق الفعلي للانتخابات الأمريكية بين بوش وآل جور عام ٢٠٠٠. فوفقًا لاستطلاع رأيٍ موثوق فيه، فإن عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في إحدى الولايات المحورية انقسم إلى ٥١٪ و٤٩٪ لمصلحة بوش. ويُعتبر احتمال أن يذهب صوت أحد الناخبين المتأرجحين الذين لم يحسموا قرارهم بعدُ إلى بوش كافيًا لضمان فوزه على آل جور بفارق ٥٠٠ صوت في المتوسط. تبدو النتيجة متقارِبة، ولهذا تقرِّر أليس التصويت. ما فرص أن يُحدِث صوتها فارقًا؟ وكيف كانت ستختلف النتيجة لو أنها مكثت في منزلها تشاهد التليفزيون؟

مع وجود مليون ناخب لم يقرِّر ٥٪ منهم لمَنْ يدلون بأصواتهم، من المفترض أن يُحدِث صوت أليس فارقًا مرة واحدة فقط كل ٨٠٠٠ عام، حتى لو تكرَّرت نفس الظروف المتقلِّبة كل أربعة أعوام. لكنها لن تتكرَّر. والاحتمالات ضئيلة للغاية في أن تعمل أصوات الناخبين المتأرجحين على موازنة أصوات الناخبين الذين حسموا قرارهم بالفعل وأدلوا بأصواتهم لأحد المرشحين. إذا صوَّت الناخبون المتأرجحون في مثالنا لمصلحة بوش بنفس معدل التكرار الحادث في بقية المجتمع، فسوف يُحدِث صوت أليس فارقًا مرةً واحدة فقط كل ٢٠ مليار مليار عام. ولا عجبَ إذن في أنه ما من ولايةٍ حُسِم القرار فيها بصوت واحد في الانتخابات الرئاسية.

يَتصوَّر البسطاء من الناس أن قبول هذه الحُجَّة هو تعجيل بسقوط الديمقراطية وانهيارها؛ لذا، ستكون مخطئًا إذا حسبت أهمية صوتك وحدك، بل يجب أن تحسب إجمالي الأصوات التي يُدلي بها جميع الأشخاص الآخرين الذين يفكِّرون ويشعرون مثلك تمامًا؛ ومن ثَم فسوف يصوِّتون مثلما تصوِّت. إذا كان لديك ١٠ آلاف شخص يشتركون في نفس المشاعر والاتجاهات والمعتقدات أو «توائم»، فلن يُهدَر صوتك إذن؛ لأن احتمال حسم القرار في أحد الانتخابات بهامش ١٠ آلاف صوت أو أقل يكون غالبًا مرتفعًا للغاية. وهذه الحُجة غير صحيحة للسبب نفسه الذي يعلِّل فشل مغالطة التوءمين في معضلة السجينين. فربما توجد أعداد هائلة من الأشخاص الذين لديهم نفس الأفكار والمشاعر مثلك تمامًا، لكن قراراتهم بشأن الخروج والمشاركة في الانتخابات أو لا لن تتغيَّر إذا آثرتَ البقاء في المنزل ومشاهدة التليفزيون.

يَتهم النقَّاد أحيانًا خبراء نظرية الألعاب بافتقارهم إلى حبِّ العمل للمصلحة العامة من خلال عرضهم لهذه المغالطة، لكنهم مخطئون لو اعتقدوا أن الديمقراطية سوف تنهار إذا لم يُشجَّع الناس على التفكير في حقائق العملية الانتخابية. والتشجيع في مباراةٍ لكرة القدم يقدِّم مثالًا مفيدًا في هذا الصدد. فإذا كان ما يحاول الناس أن يفعلوه بالهتاف هو زيادة مستوى الضوضاء العام داخل الملعب، فلن تعلو إلا قلة من الأصوات. فلا يمكن لصوتٍ واحد أن يُحدِث فرقًا ملحوظًا في مقدار الضوضاء الناتجة عندما تتعالى أصوات حشد من الناس بالهتاف. لكن، لا أحدَ يهتف في مباراةٍ لكرة القدم لرغبته في زيادة مستوى الضوضاء العام. فهم يصيحون في فريقهم بكلمات النصح والحكمة حتى عندما يكونون في منازلهم أمام جهاز التليفزيون.

ينطبق الشيء نفسه على التصويت؛ فإنك تخدع نفسك إذا كنت تصوِّت وأنت تظن أن صوتك يتمتع بفرصة كبيرة في أن يكون محوريًّا وفاصلًا. لكن من المنطقي تمامًا أن تصوِّت للسبب نفسه الذي يوجِّه من أجله مشجِّعو كرة القدم النصيحة لفِرقهم. وكما أن الصياح بالنصيحة أكثر إرضاءً من الصياح بنقدٍ سيئ، فإن الكثير جدًّا من خبراء نظرية الألعاب يرون أنك تحصل على أقصى استفادة عند المشاركة في أحد الانتخابات بالتصويت «كما لو» أنك ستكون الناخب المحوري الفاصِل، على الرغم من أنك تعلم أن احتماليةَ أن يُحدِث صوتٌ واحدٌ أيَّ فرقٍ أصغرُ من أن نفكِّر فيها. وسيفترض أي شخص مؤمن بفلسفة كانط أن للجميع دورًا استراتيجيًّا على الدرجة نفسها من الأهمية، لكنني أُفضِّل استخدام استطلاعات الرأي عند تخمين الطريقة الأكثر ترجيحًا لحدوث التعادل.

على سبيل المثال، كان رالف نادر هو مرشح حزب الخُضر في الانتخابات الرئاسية عندما فاز بوش على آل جور. وعلى الرغم من اهتمامي بشئون السياسة الخضراء، فما كنت لأصوِّت لمصلحة نادر؛ لأنه لو كان قد حدث تعادلٌ، لكان بالتأكيد بين بوش وآل جور. وفي أوروبا، سيؤدِّي هذا التصويت الاستراتيجي أحيانًا إلى أن يذهب تصويتك لمصلحة أحد أحزاب الأقلية. وسيخبرك أيضًا نفس المثقفين — الذين أخبروك سابقًا أن لكل صوت أهميته — أن هذا الصوت الاستراتيجي هو صوت ضائع. لكن، لا يمكن أن يُسمَح لهم بالجمع بين الأمر ونقيضه.

(١-٤) مغالطة شفافية الحالة المزاجية

تتطلَّب هذه المغالطة منا أن نؤمِن بافتراضين مشكوك في صحتهما. يتمثَّل الافتراض الأول في أن الأشخاص العقلانيين يتمتعون بقوة الإرادة التي تجعلهم يُلزِمون أنفسهم مقدَّمًا بممارسة الألعاب بطريقة معينة. ويتمثَّل الافتراض الثاني في أن الآخرين يمكنهم قراءة لغة الجسد لدينا بطريقة جيدة تجعلهم يعرفون الوقت الذي نتحدَّث فيه بصدق. وإذا ادَّعيْنا حقًّا أننا قد عقدنا التزامًا نهائيًّا لا رجعة فيه، فسوف يصدِّقنا الآخرون.

لو كانت هذه الافتراضات صحيحة، لَأصبحَ عالمُنا مختلفًا للغاية بكل تأكيد، ولَكان تشارلز داروين مخطئًا حينئذٍ فيما ذهب إليه في كتابه «التعبير عن العواطف» من إنكار أن عضلات الوجه اللاإرادية تَحُول دون إخفاء حالتنا الشعورية، ولَأصبح الممثِّلون بلا عمل، ولَأصبح رجال السياسة مثالًا للنزاهة وبمنأًى تمامًا عن الفساد، ولَأصبح من المستحيل لعب البوكر، ولَأصبحت العقلانية خط دفاع ضد إدمان المخدرات؛ ومع هذا، كان منطق نظرية الألعاب سيظل ساريًا.

لنأخذْ مثالًا على ذلك اثنتين من الحالات المزاجية العقلية المحتمَلة، يُطلَق عليهما «كلينت» و«جون»؛ الأول عبارة عن استراتيجية انتقام سُمِّيَت باسم الشخصية التي أدَّاها الممثل كلينت إيستوود في أفلام الغرب الأمريكي (راجع «تطور التعاون»، الفصل الثامن)، والثاني يحيي ذكرى فيلم كوميدي شاهدتُه ذات مرة، وفيه أدَّى جون وين دور جنكيز خان. يعني اختيارُ الحالة المزاجية «جون» الإعلانَ أنك قد ألزمتَ نفسك بلعب «صقر» في معضلة السجينين مهما يحدث. ويعني اختيار الحالة المزاجية «كلينت» إعلان أنك قد ألزمتَ نفسك بلعب «حمامة» في معضلة السجينين في حال لو أعلن خصمك نفس الالتزام، وفي هذه الحالة فقط، وإلا، فإنك تلعب «صقر».

fig34
شكل ١٠-١: مغالطة شفافية الحالة المزاجية.
لو كان مسموحًا لأليس وبوب أن يُلزِما نفسيهما بشفافيةٍ بإحدى الحالتين المزاجيتين، فلن يكونا بصدد لعب معضلة السجينين بعد الآن، وإنما سيكونان بصدد لعب لعبة النجم السينمائي في شكل ١٠-١ التي يكون لدى اللاعبَيْن فيها استراتيجيتان؛ هما «كلينت» و«جون». إذا اختار كِلا اللاعبَيْن «كلينت» في لعبة النجم السينمائي، فإنهما ملتزمان إذن بأن يلعبا «حمامة» في معضلة السجينين، وإلا فإنهما يلتزمان بلعب «صقر».

كما يتضح من العوائد المحدَّدة بدائرة، فإن «كلينت» هي استراتيجية مُهيمنة (على نحوٍ ضعيف) في لعبة النجم السينمائي؛ لذا، إذا اختارت أليس وبوب «كلينت»، فسيكونان بصدد لعب أحد أشكال توازن ناش الذي يترتب عليه تعاوُنهما في معضلة السجينين. ويرى مؤيدو مغالطة شفافية الحالة المزاجية أن هذا يشير إلى أن التعاون عقلاني في معضلة السجينين. وكان الأمر سيصبح جيدًا لو أنهم صائبون في أن جميع الألعاب في الحياة الواقعية هي ألعاب نجوم سينمائية من نوعٍ ما، لا سيَّما إذا استطاع المرء أن يختار آدم سميث أو تشارلز داروين بدلًا من جون وين أو كلينت إيستوود. لكن حتى في هذه الحالة، لن تكون النتيجة المترتبة على ذلك أن العقلانية تقتضي التعاون في معضلة السجينين. وتشير هذه الحُجَّة فقط أنه من العقلاني لعب «كلينت» في لعبة النجم السينمائي.

(٢) مفارقة نيوكومب

ثمة صندوقان من المحتمَل أنهما يحتويان على أموال. ولأليس مطلَق الحرية في أن تأخذ الصندوق الأول أو كلا الصندوقين. إذا كانت تهتم بالمال فحسب، فماذا يتعيَّن عليها أن تفعل؟ تبدو هذه مسألة سهلة. إذا كانت «حمامة» تمثِّل أخْذ الصندوق الأول فقط، و«صقر» تمثِّل أخْذ كلا الصندوقين، فعلى أليس إذن أن تختار «صقر»؛ لأنها تحصل عندئذٍ على نفس المبلغ المالي على الأقل الذي كانت ستحصل عليه لو أنها اختارت «حمامة».

مع ذلك، فثمة خدعة في الأمر. يحتوي الصندوق الثاني بالتأكيد على دولار واحد. ويحتوي الصندوق الأول على دولارين أو لا شيء. وبوب هو مَنْ سيتخذ القرار بما إذا كان المال ينبغي أن يكون في الصندوق الأول أو الثاني. ونظرًا لأنه يعرف أليس جيدًا فإنه يستطيع دائمًا أن يتنبَّأ على نحوٍ مثالي بما ستفعله. وكما هو الحال مع أليس، فأمامه اختياران: «حمامة» و«صقر». واختياره المماثل للحمامة أن يضع دولارين في الصندوق الأول. واختياره المماثل للصقر ألَّا يضع شيئًا في الصندوق الأول. ودافِعه هو الإيقاع بأليس وكشفها؛ لذا، فإنه يلعب «حمامة» إذا تنبَّأ أن أليس ستختار «حمامة»، ويلعب «صقر» إذا تنبَّأ أن أليس ستختار «صقر».

لا يبدو اختيار «صقر» بالاختيار الجيد لأليس الآن. إذا اختارت «صقر»، فإن بوب يتنبَّأ باختيارها ولا يضع شيئًا في الصندوق الأول؛ ومن ثَم تحصل أليس على الدولار الواحد في الصندوق الثاني. لكن إذا اختارت أليس «حمامة»، فإن بوب سيتنبَّأ باختيارها ويضع دولارين في الصندوق الأول حتى تأخذهما.

ابتكر الفيلسوف روبرت نوزيك بجامعة هارفرد بدعةً في مجاله المهني (تُوصَف عن جدارة ﺑ «بدعة نيوكومب»)، وذلك بزعم أن مفارقة نيوكومب توضِّح أنك تستطيع أحيانًا تعظيم عائدك بلعب استراتيجية مُهيمنة بقوة. كان في مقدوره أن يزعم أنها تشير إلى أن ٢ + ٢ = ٥؛ لأنه يمكنك استنتاج أي شيء من التناقض. يتمثَّل التناقض في مفارقة نيوكومب في افتراض وجود لعبة فيها:
  • (١)

    تتحرك أليس بعد بوب.

  • (٢)

    يعلم بوب اختيار أليس.

  • (٣)

    لدى أليس أكثر من اختيار واحد.

fig35
شكل ١٠-٢: يحاول اللاعبان تحقيق متطلبات نيوكومب. تشير مجموعة المعلومات في اللعبة على الجانب الأيمن إلى أن أليس لا تعلم تنبؤ بوب. ويمثل جدولَا العوائد أسفل شجرة كل لعبةٍ النماذجَ الاستراتيجية ذات الصلة.
يعرض شكل ١٠-٢ محاولتين لابتكار لعبة كهذه دون أن نكون محددين بشأن عوائد بوب؛ تُخفق اللعبة على الجانب الأيسر في تحقيق العنصر الأول في القائمة، وتُخفق اللعبة على الجانب الأيمن في تحقيق العنصر الثاني. ويمكننا تحقيق العنصرين الأول والثاني بأن نعرض على أليس اختيارًا واحدًا فقط في اللعبة على الجانب الأيمن، ولكننا سنخفق حينئذٍ في تحقيق العنصر الثالث.

عندما نرى أنَّ على أليس أن تلعب «حمامة» لتعظيم عائدها، يفترض نوزيك أن بوب سيلعب «ح‏ ص» في اللعب على الجانب الأيسر؛ أي إن بوب سيتنبَّأ ﺑ «ح» عندما تلعب أليس «ح»، و«ص» عندما تلعب أليس «ص». ومع ذلك، فاستراتيجية «ح» لأليس ليست مهيمنة في اللعبة على الجانب الأيسر. وكي نزعم أن استراتيجية «ح» لأليس مهيمنة علينا اللجوء إلى اللعبة على الجانب الأيمن. لكن، ليس ثمة تناقض في احتمال أن تختلف استراتيجية أليس في اللعب من لعبة لأخرى.

يمكن للمرء أن يزيد الأمر تعقيدًا بالتنازل عن المطلب الذي يقتضي أن بوب يستطيع التنبؤ بسلوك أليس على نحوٍ مثالي. ويمكننا عندئذٍ تصميم لعبة تتحقَّق فيها المتطلبات الثلاثة لمفارقة نيوكومب عن طريق استحداث حركاتٍ احتماليةٍ في اللعبة على الجانب الأيمن تلغي فرصة أليس في اختيار استراتيجية مختلفة عن استراتيجية بوب لبعض الوقت. ولن يؤدِّي أي تلاعب بالمعايير إلى جعل اللعب باستراتيجية مهيمنة بقوةٍ أمرًا مثاليًّا.

(٣) مفارقة الاختبار المفاجئ

ذكرنا مراتٍ عديدة مزاد شركة الاتصالات البريطانية الذي جمع ٣٥ مليار دولار. واندهش الجميع لهذا المبلغ الهائل، فيما عدا خبراء الإعلام، الذين خمَّنوا رقمًا قريبًا بعض الشيء؛ حيث كانوا يَتنبَّئون برقم أكبر في كل مرة تدحض فيها المناقصةُ داخل المزاد تنبُّؤَهم السابق. وفي إمكان الجميع أن يرى الخداع الذي يمارسه خبراء الإعلام على العامة في هذه الرواية، لكن لا يُكتشَف الخداع بسهولة عندما يظهر في إحدى النسخ العديدة لمفارقة الاختبار النهائي، التي فيها يتعلَّم معظم الناس للمرة الأولى معنى الاستنتاج العكسي.

ألِيس معلِّمة تخبر تلاميذ فصلها أنها ستُجري لهم اختبارًا في أحد أيام الأسبوع القادم، لكن اليوم الذي سيُجرى فيه الاختبار سيكون مفاجئًا. وبوب تلميذ يحاول أن يستنتج اليوم الذي سيجرى فيه الاختبار من خلال المرور على أيام الأسبوع القادم بطريقةٍ عكسية ودراسة احتمالية أن يكون اليوم هو يوم الاختبار. إذا لم تُجرِ أليس الاختبار حتى انتهاء الوقت الدراسي يوم الخميس، فإن بوب يعتبر أنها لن يكون لديها خيار سوى أن تجري الاختبار يوم الجمعة؛ لأنه اليوم الأخير في الأسبوع الدراسي؛ لذا، إذا أُجري الاختبار يوم الجمعة، فلن يفاجأ بوب به. ويستنتج بوب بذلك أن أليس لا يمكن أن تعتزم إجراء الاختبار يوم الجمعة. لكنَّ هذا يعني أن الاختبار يجب أن يُجرى يوم الإثنين أو الثلاثاء أو الأربعاء أو الخميس. وبالوصول إلى هذا الاستنتاج، فإن بوب يطبِّق بذلك حُجَّة الاستنتاج العكسي مجدَّدًا لاستبعاد الخميس كأحد الأيام المحتمَلة لإجراء الاختبار. وبمجرد أن يُستبعَد يوم الخميس، يكون بوب في وضع يسمح له باستبعاد الأربعاء. وبمجرد أن يستبعد كل أيام الأسبوع الدراسي بهذه الطريقة، فإنه يتنفس الصعداء ولا يقوم بأي محاولة للمذاكرة خلال عطلة نهاية الأسبوع. لكنَّ أليس تفاجئه بإجراء الاختبار صباح يوم الإثنين.

في الواقع، لا يُعتبر هذا الأمر مفارَقةً على الإطلاق؛ لأن بوب لم يكن عليه أن يتنفس الصعداء بهذه السرعة. وإذا كانت حُجة الاستنتاج العكسي صحيحة، فإن جملتَي أليس غير متوافقتين، ويجب أن تكون إحداهما على الأقل خطأً. لكن لماذا ينبغي على بوب أن يفترض أن الجملة الخطأ هي أنَّ اختبارًا سيُجرى، وليس أن الاختبار سيكون مفاجئًا؟ عادةً ما تُنحَّى هذه الملاحظة جانبًا؛ لأن ما يريد الناس سماعه حقًّا هو ما إذا كانت حُجَّة الاستنتاج العكسي صحيحة أم لا. ولكن عليهم أن يسألوا عما إذا كان الاستنتاج العكسي قد طُبِّق على اللعبة الصحيحة.

في اللعبة التي يتصوَّر الناس أننا بصدد تحليلها، تختار أليس أحد أيام الأسبوع الخمسة التي تعتزم إجراء الاختبار خلالها، ويتنبَّأ بوب باليوم الذي ستختاره أليس من بين هذه الأيام الخمسة. ويتمثَّل حل هذه النسخة من لعبة مطابقة العملات المعدنية في أنَّ أليس وبوب سيختاران كل يوم باحتماليةٍ متساوية. ومن ثَم، يفاجأ بوب أربع مرات من واقع خمسٍ.

ليس هذا هو الاستنتاج الذي توصَّلنا إليه سابقًا؛ لأن مفارقة الاختبار المفاجئ تطبِّق الاستنتاج العكسي على لعبةٍ يكون مسموحًا فيها لبوب دائمًا التنبؤ بأن الاختبار سيكون اليوم، على الرغم من أنه ربما يكون قد أخطأ في تنبُّئه بأن موعد إجراء الاختبار كان أمس. وبناءً على ذلك، فإن الاستراتيجية المُثلى لبوب في هذه اللعبة الغريبة أن يتنبَّأ بالإثنين يوم الإثنين، والثلاثاء يوم الثلاثاء، والأربعاء يوم الأربعاء، والخميس يوم الخميس، والجمعة يوم الجمعة. ولا عجبَ في أن بوب لن يُفاجأ أبدًا بإجراء الاختبار في يوم لم يتنبَّأ به!

انتشرت مفارقة الاختبار المفاجئ منذ ذلك الحين حسبما أذكر. وأحيانًا ما تتناولها الصحف والمجلات من منظور جديد، كما أنها كانت موضوع المقالات العلمية في الدوريات الفلسفية. ومع ذلك، استمرَّ الالتباس لأنَّ الناس لم تطرح الأسئلة الصحيحة. ومن أعظم الميزات التي تَرتَّبت على تبنِّي الشكلية النظامية في نظرية الألعاب أنَّ طرْح الأسئلة الصحيحة يصبح تلقائيًّا. ومن ثَم، لا يُشترط بالضرورة أن تكون عبقريًّا مثل فون نيومان حتى تظل مُصيبًا في تفكيرك. فأسلوبه في التمسُّك بالشكليات يتولَّى التفكير بدلًا منك.

(٤) المعرفة العامة

لماذا نُولِي الكثير من الاهتمام للتواصل البصري؟ أعتقد أن السبب هو أن الشيء لا يصبح معروفًا إلا في حال فهمه ضمنًا من خلال حدثٍ لم يكن ليقع دون أن نَعلم به جميعًا. على سبيل المثال، إذا لاحظَ كلٌّ من أليس وبوب أحدهما الآخر وهو يلاحِظ أن وجه كارول غير نظيف، فإنه يصير معروفًا بين أليس وبوب أنَّ وجه كارول غير نظيف. وبالمثل، عندما ينظر شخصان أحدهما إلى الآخر مباشرةً، فإنه يصبح معروفًا بينهما أنهما مدركان أحدهما للآخر كأفراد.

(٤-١) ثلاث سيدات متقدِّمات في العمر

أليس وبياتريس وكارول ثلاث سيدات جليلات يَحضرن معرضًا في إحدى المقاطعات في وسط غرب البلاد. تبدو وجوههن جميعًا غير نظيفة، لكنْ لا تشعر أيٌّ منهنَّ بالخجل، على الرغم من أن أيَّ سيدة جليلة تُدرك أنها تظهر في الأوساط العامة ووجهُها غير نظيف كانت ستخجل بالتأكيد. وبناءً على ذلك، فلا تعلم أيُّ سيدة منهن أن وجهها غير نظيف، على الرغم من أن كلًّا منهن تستطيع أن ترى بوضوح الوجهين غير النظيفين للسيدتين الأخريين.

من المعروف أن رجال الدين يقولون الحقيقة دائمًا؛ ومن ثَم تنتبه السيدات كثيرًا عندما يشير قَسٌّ محلي إلى أن إحدى السيدات وجهها غير نظيف. وبعد تصريحه هذا، تشعر إحدى السيدات بالخجل وتعلو وجهَها الحُمرةُ. كيف ذلك؟ ألم يخبر القس السيدات بشيءٍ هنَّ على دراية به من قبل؟

لفهم ما أضافه القس إلى ما كانت تعلمه السيدات سابقًا، علينا أن ننظر إلى سلسلة التفكير التي تؤدِّي إلى استنتاج أن واحدة من هذه السيدات على الأقل يجب أن تشعر بالخجل وتعلو وجهها الحمرةُ. إذا لم تشعر بياتريس أو كارول بالخجل، فستفكر أليس كما يلي:

أليس : بفرض أن وجهِي نظيف، فستفكر بياتريس كما يلي:
بياتريس : أرى أن وجه أليس نظيف. بفرض أن وجهي أيضًا نظيف، فستفكر كارول كما يلي:
كارول : أرى أن وجهَي أليس وبياتريس نظيفان. إذا كان وجهي نظيفًا، فلن يكون وجه أيٍّ منهما غير نظيف. لكن ما أَعْرَبَ عنه القس يثبت عكس ذلك؛ ومن ثَم، فإن وجهِي غير نظيف، وعليَّ أن أشعر بالخجل لذلك.
بياتريس : بما أن كارول لم تشعر بالخجل، فإن وجهي غير نظيف؛ لذا، يجب أن أشعر بالخجل.
أليس : بما أن بياتريس لم تشعر بالخجل، فإن وجهي غير نظيف؛ لذا، يجب أن أشعر بالخجل.
fig36
شكل ١٠-٣: ثلاث سيداتٍ من وسط غرب البلاد.

إذن، ما الذي أضافه القس إلى ما كانت تعلمه هؤلاء السيدات من قبل؟ لكي تنجح الطريقة التي فكَّرت بها أليس، كان عليها أن تعلم أن بياتريس تعرف أن كارول تعرف أن أليس وبياتريس تعرفان أن إحداهما وجهُها غير نظيف. ولا تصبح هذه المعلومات ممكنة إلا بعد أن يؤدِّي تصريح القس إلى نشر خبر عدم نظافة وجه إحداهن وجعْله أمرًا معروفًا. ومن ثَم، لن يكون صحيحًا فقط أن أليس وبياتريس وكارول يعلمْنَ أن إحداهن وجهها غير نظيف، بل إنهن جميعًا يعلمن أنهن جميعًا على دراية بذلك.

(٤-٢) مفارقة التنسيق

هل اللحية الكبيرة ضرورية لإحراز تقدُّم في مجال المعرفة التفاعلية؟ الدليل الوحيد الذي أستطيع أن أقدِّمه هو أن الفيلسوف الملتحي ديفيد لويز من جامعة برينستون يتقاسم الفضل مع بوب أومان الملتحي في الإقرار بأهمية المعرفة العامة في نظرية الألعاب. لكنْ ما الذي علينا أن نفعله بما زعمه لويز من أن أيَّ شيءٍ متعارَف عليه لا يُؤخَذ به إلا إذا كان معلومًا للَّاعبين الذي ينوون استخدامه؟

لكي يصبح شيءٌ ما معلومًا ومعروفًا للجميع، فإننا نحتاج إلى نظيرٍ مكافئٍ لرجل الدين الذي تُعْوِزه اللباقة في رواية السيدات الثلاث المتقدِّمات في العمر. لكننا لن نعثر عادةً على رجل دين من هذا القبيل. وبناءً على ذلك، فإن جميع الأمور المتعارَف عليها التي نستخدمها في حياتنا اليومية تفشل في اختبار لويز. فكيف يمكنها إذن تحقيق نجاح جيد؟

يشرح علماء الكمبيوتر الذين يساورهم القلق حيال تداعيات النُّظم الموزعة المسألةَ بسرد رواية عن جنرالين بيزنطيين يحاولان تنسيق هجوم على جيش مُعادٍ يقبع في وادٍ يفصل بينهما، لكنني أفضِّل تقديم مثال أقل دراميةً.

يريد كلٌّ من أليس وبوب أن يتقابلا غدًا في نيويورك. تبعث أليس برسالة بريد إلكتروني إلى بوب تقترح عليه فيها أن يتقابلا وقت الظهيرة في محطة جراند سنترال. ويرسل إليها بوب رسالة تأكيد على الموعد بالبريد الإلكتروني. ستكون هذه الرسائل المتبادَلة كافية بالنسبة إلى معظمنا، لكن لويز سيعترض بأن الاتفاق غير معروف؛ لأن بوب لا يعلم أن أليس تسلَّمت الرسالة التي بعث بها إليها للتأكيد على الموعد الذي اقترحته؛ لذا، على أليس أن تبعث برسالة بريد إلكتروني إلى بوب لتأكيد استلامها لتلك الرسالة، وهكذا. وبما أنه يوجد دائمًا احتمال صغير بعدم استلام إحدى رسائل البريد الإلكتروني هذه، فإن محاولتهما للاتفاق على عُرفٍ معين لن تصبح أمرًا معلومًا لهما.

لكن لماذا ينبغي أن يكون العُرف معلومًا حتى يُطبَّق؟ درسَ آرييل روبنشتاين هذا السؤال عن طريق تحليل لعبة مراسلات بريد إلكتروني جديدة تحلُّ فيها لعبة اصطياد الظبي من الفصل الرابع محلَّ لعبةِ مقابلة أليس وبوب. ويتمثَّل الأمر المبدئي المتعارَف عليه أن على أليس وبوب أن يلعبا «حمامة» في لعبة اصطياد الظبي، لكن مسمَّيات استراتيجياتهما تُعكَس كل فترة وأخرى؛ بحيث سيؤدِّي اختيار «حمامة» إلى لعب «صقر» في واقع الأمر. وتلاحظ أليس وحدها هذا الأمر عند حدوثه. وترسل رسالة بريد إلكتروني إلى بوب تقول إن عليهما أن يلعبا «صقر» في هذه الحالة بدلًا من «حمامة». ويرسل بوب تلقائيًّا تأكيدًا على استلام الرسالة. ثم ترسل أليس تلقائيًّا تأكيدًا على استلام تأكيد بوب، وهكذا.

تشير إحدى الاستراتيجيات في لعبة مراسلات البريد الإلكتروني إلى ما إذا كان يجب أن تُلعب استراتيجية «حمامة» أو «صقر» بناءً على عدد الرسائل التي تسلَّمها كل لاعب. ويمكننا عندئذٍ أن نختصر السؤال المعلوم عمومًا بالسؤال عما إذا كان ثمة شكل من توازن ناش في لعبة مراسلات البريد الإلكتروني ينجح فيه كلٌّ من أليس وبوب دائمًا في تنسيق التوازن الذي يفضِّله كلاهما في لعبة اصطياد الظبي. ويقتضي توازن ناش الوحيد في «حمامة» عندما لا تُرسَل أي رسالة أن يلعبا دائمًا لعبة مراسلات البريد الإلكتروني التي يلعب فيها كلٌّ من أليس وبوب دائمًا «حمامة» بصرف النظر عن عدد الرسائل التي ربما يتسلَّمانها.

مع ذلك، تتغيَّر الصورة عندما نسمح لأليس وبوب بأن يختارا ما إذا كانا سيرسلان رسائل ويتسلَّمانها أم لا. وبذلك، تحتوي النسخة المعدَّلة من لعبة مراسلات البريد الإلكتروني على العديد من توازنات ناش، التي يقتضي أبرزها أن يلعب كلا اللاعبَيْن «صقر» كلما اقترحت أليس أن تختار ذلك ويوافقها بوب، كالحال عندما يتفق الأصدقاء على أن يتقابلوا في مقهًى. لكن، ثمة توازنات ناش أخرى يستقر فيها اللاعبان على «صقر» فقط بعد تبادل العديد من المراسلات لتأكيد تأكيداتٍ كثيرة. يعاني مضيفو حفلات العشاء الراقية من هذه التوازنات عندما يبدأ ضيوفهم في التحرك ببطءٍ شديدٍ نحو الباب في نهاية الحفل، متوقفين كل بوصة أو نحو ذلك حتى يستطيع المضيف والضيف أن يؤكِّد كلٌّ منهما للآخر مرارًا وتكرارًا أن مغادرة الحفل في هذا الوقت مقبولة اجتماعيًّا من الجانبين.

إنَّ الاستنتاج البديهي إذن أن الأعراف لا يلزم بالضرورة أن تكون أمرًا معلومًا حتى تُجدي نفعًا. تتأسَّس معظم الأعراف بفِعل التطور الثقافي، وتتيح اعتبارات الثبات التطوري أحيانًا الإمكانية لاستبعاد بعض توازنات ناش؛ ففي النسخة المعدَّلة من لعبة مراسلات البريد الإلكتروني، قد يأمل المرء أن تؤدِّي هذه الاعتبارات في النهاية إلى استبعاد التوازنات التي ينشأ عنها «طول فترات الوداع» بعد حفلات العشاء، لكن هذا التوقع غير جيد؛ فمن سخرية القدر أنَّ توازن روبنشتاين فقط، الذي يلعب فيه كلٌّ من أليس وبوب «حمامة» بصرف النظر عما يَحدث، يفشل في اجتياز أيٍّ من اختبارات الثبات التطوري المناسِبة.

(٥) مسألة مونتي هول

ألِيس متسابقةٌ في برنامج مسابقات قديم يقدِّمه مونتي هول. ويجب أن تختار صندوقًا من ثلاثة صناديق؛ حيث يحتوي صندوق واحد منها على جائزة. يَعرف مونتي الصندوق الذي يحتوي على الجائزة، لكن أليس لا تعرف. وبعد أن تختار أليس الصندوق رقم ٢، يفتح مونتي أحد الصندوقين الآخرَين الذي يعلم أنه فارغ. وتكون لدى أليس إذن الفرصة لتغيير رأيها بشأن الصندوق الذي اختارته. فماذا عليها أن تفعل؟

عادةً ما يرى الناس أنه لا فرقَ بين أن تختار أليس الصندوق رقم ٢ أو ٣. ويعتقدون أن احتمال فوز أليس عندما اختارت الصندوق رقم ٢ هو ١ / ٣؛ نظرًا لوجود احتمال متساوٍ في أن تكون الجائزة في أيٍّ من الصناديق الثلاثة. وبعدما اتضح أن أحد الصناديق فارغٌ، فإن احتمال أن يحتوي الصندوق رقم ٢ على الجائزة يرتفع إلى ١ / ٢؛ لأنه يوجد الآن احتمال متساوٍ بأنْ تكون الجائزة في أحد الصندوقين اللذين لم يُفتحا بعد. وإذا بادَلَت أليس الصندوقين، فسيظل احتمال فوزها هو ١ / ‏٢. فلماذا إذن تزعج نفسها بالتغيير؟

من الواضح أن ماريلين فوس سافان هي صاحبة أعلى نسبة ذكاء سُجِّلت على الدوام. وعندما شرحت في مجلة «باريد» أنه على أليس أن تبدِّل الصندوقين، سخر منها من يزعمون أنهم عباقرة في الرياضيات سخريةً واستهزاءً، لكنها كانت محقَّة.

fig37
شكل ١٠-٤: لعبة مونتي هول. يوضح الشكل عوائد أليس فقط، وتُعرَض الحركة الاحتمالية على هيئة مربع. يتضح من مجموعة معلومات أليس أنها لا تعرف أيُّ الصندوقين يحتوي على الجائزة، لكنها تعرف بالفعل الصندوق الذي سيفتحه مونتي. وتظهر مواضع تبديل اختيارها مظلَّلة. يوضح الشكل أنه أيًّا كانت الاستراتيجية التي يختارها مونتي، فإن احتمال فوز أليس يكون ٢ / ٣ إذا قررت تبديل الصندوقين.

إنَّ احتمال أن تكون الجائزة في الصندوق رقم ١ أو الصندوق رقم ٢ هو ٢ / ٣. وبناءً على ذلك، إذا بَدَّلت أليس إلى أيٍّ من الصندوقين اللذين لم يُفتحا بعد، فسيكون احتمال فوزها هو ٢ / ٣.

إنَّ هذه الحُجة بسيطة على نحوٍ خادع. فحتى جهابذة الرياضيات لا يتوصلون أحيانًا إلى معرفة السبب الذي على أساسه يقدِّم تصرف مونتي كل هذا القدر الكبير من المعلومات إلى أليس. وعلى الرغم من ذلك كله، فما كان ليقدِّم أي معلومات مفيدة على الإطلاق لو أنه فتح صندوقًا بطريقة عشوائية وتبيَّن أنه فارغ فحسب، لكنه اختار صندوقًا بعينه عن قصد وكان يعلم أنه فارغ.

مع ذلك، فإنك لا تحتاج إلى أن تسجل أعلى نسبة ذكاء على الإطلاق للتوصل إلى الإجابة الصحيحة إذا كنت على استعداد لأن تَدَع لفون نيومان التفكير بالنيابة عنك. يوضح شكل ١٠-٤ اللعبةَ التي تضم كلًّا من أليس وبوب كلاعبَين. ليس من المهم معرفة العائد الذي يحقِّقه مونتي، لكن من الجائز أن نفترض أيضًا أنه يريد لأليس الخسارة. تُنفَّذ حركة احتمالية في البداية لوضع الجائزة في أحد الصناديق الثلاثة. ويقرِّر مونتي بعد ذلك فتح الصندوق رقم ١ أو الصندوق رقم ٣ (ويكون لديه خيار حقيقي واحد فقط عندما تكون الجائزة بالفعل في الصندوق رقم ٢)، وتختار أليس بعد ذلك أن تظل ثابتةً على اختيارها للصندوق رقم ٢ أو تبدِّل به الصندوق رقم ١ أو الصندوق رقم ٣ أيَّهما كان الصندوق الذي لم يفتحه مونتي.

لا داعي الآن للتفكير على الإطلاق. إذا قرَّرت أليس دائمًا مبادلة الصندوقين، فإنه يستحيل بناءً على الشكل ألا ندرك أنها ستفوز عندما تكون الجائزة في الصندوق رقم ١ أو الصندوق رقم ٣، وتخسر عندما تكون الجائزة في الصندوق رقم ٢. ومن ثَم، يكون احتمال فوزها هو ٢ / ٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤