الفصل الثالث

الوقت

(١) الألعاب ذات المعلومات الكاملة

يرى الناسُ أحيانًا أنَّ من العبث أن نتحدث عن المشكلات الاجتماعية للبشر كما لو أنها مجرد ألعابٍ يتسلَّون بها في غرف الجلوس. والميزة في اعتبارها ألعابًا أن الجميع تقريبًا يمكنه التفكير دون تحيُّز في القضايا الاستراتيجية التي تنشأ في ألعاب مثل الشطرنج أو البوكر، دون أن يرفض تلقائيًّا النتيجة لو تبيَّن في النهاية أنها نتيجة غير مرحَّب بها. لكن، يظل المنطق واحدًا أينما طُبِّق.

(١-١) ألعاب غرفة الجلوس

لا يبدو، للوهلة الأولى، أن لُعبتا الشطرنج والبوكر يمكن أن تُمثَّلا بجداول العوائد؛ لأن الوقت يلعب دورًا كذلك. فلم يَعُد من المهم فقط مَنْ يفعل ماذا، وإنما من المهم أيضًا متى يفعله.

إنَّ بعض أوجُه الاختلاف تكون مضلِّلة. وبصفةٍ عامة، فالاستراتيجية الخالصة هي خطة عملٍ تخبر اللاعب بما يتعيَّن فعله في ظل كل الاحتمالات الممكنة التي يمكن أن تنشأ في اللعبة. ويمكن تخيُّل اللاعبين كما لو أنهم يختارون استراتيجية مرةً واحدة فقط في بداية اللعب، ثم يفوِّضون لعب اللعبة إلى روبوت. ويكون «الشكل الاستراتيجي» الناتج للشطرنج مماثلًا تمامًا لِلُعبة ضبط الأعصاب أو لعبة الصراع بين الجنسين، باستثناء أن جدول العوائد سيكون ذا مجموعٍ صفري، وسيتضمَّن عددًا أكبر بكثيرٍ من الصفوف والأعمدة.

رأى فون نيومان أن أول شيءٍ يجب أن يفعله المرء في أي لعبة هو أن يختزلها إلى صيغتها الاستراتيجية، وهو ما أُطِلق عليه الصيغة العادية لهذا السبب. ولكن، يتَّضح من مثال لعبة الشطرنج أن هذا الأمر لا يكون دائمًا اقتراحًا عمليًّا؛ لأنه يتضمَّن عددًا هائلًا للغاية من الاستراتيجيات الخالصة. وحتى إذا لم تكن الصيغة الاستراتيجية غير عملية على هذا النحو الميئوس منه، فمن الأيسر غالبًا أن نلتزم بالصيغة الشاملة للعبة.

يشير خبراء نظرية الألعاب إلى نموذج تمثيل اللعبة بالصيغة الشاملة باسم «الشجرة»؛ حيث تُمثَّل كل خطوة بنقطةٍ يُطلق عليها «عقدة القرار» تتفرع عندها الشجرة. يمثل جذر الشجرة الخطوة الأولى في اللعبة، وتمثل الفروع عند كل عقدةٍ الاختيارات التي يمكن اتخاذها عند هذه الخطوة. وتقابل أوراق الشجرة النتائج النهائية للُّعبة؛ ومن ثَمَّ يجب أن نحدد اللاعب الفائز والعائد الذي فاز به عند كل ورقة. ويجب أيضًا أن نحدد اللاعب الذي يتحرك عند كل عقدة قرار، وما يعرفه هذا اللاعب عما حدث في اللعبة حتى الآن عندما اتخذ هذه الخطوة.

في البوكر، أول خطوة يقوم بها لاعب خيالي اسمه «تشانس»، وهو يخلط الورق ويوزعه على اللاعبين الحقيقيين. ما يعلمه اللاعبون عن هذه الخطوة مهم للغاية في لعبة البوكر؛ لأن اللعبة ستفقد متعتها لو أن الجميع علموا ما يعلمه الآخرون عن توزيع البطاقات. لكننا سنُرجئ الحديث عن هذه الألعاب ذات المعلومات الناقصة إلى الفصل القادم؛ لذا، ستكون كل الألعاب في الفصل الحالي كاملة المعلومات؛ حيث يكون اللاعبون على علمٍ بكل ما حدث في اللعبة حتى الآن عندما يتخذون خطوةً ما. ولن نتطرَّق أيضًا إلى الألعاب ذات المعلومات الكاملة مثل لعبة المبارزة التي تتضمَّن خطواتٍ جزافيةً تُتخذ بمحض المصادفة؛ لذلك، فإن لعبة الشطرنج هي المثال الأساسي في هذا الفصل.

(٢) الاستنتاج العكسي

يعد الاستنتاج العكسي موضوعًا جدليًّا، لكنَّ الجميع يوافق على أننا نستطيع استخدامه دائمًا لإيجاد قيمِ أقصى الأدنى للاعبين في لعبةٍ متناهيةٍ كاملةِ المعلومات، إذا كان لدينا كمبيوتر كبير بما يكفي ووقتٌ كافٍ. وعلى نحوٍ مماثلٍ كان أرشميدس محقًّا عندما قال إنه يستطيع تحريك العالم لو أنه مُنح رافِعةً كبيرةً بالقدر الكافي ومكانًا لوضع هذه الرافعة فيه. ويوضح تطبيق الاستنتاج العكسي على لعبة الشطرنج كلًّا من ميزاته النظرية وعيوبه العملية.

(٢-١) الشطرنج

اكتب عند كل ورقةٍ من شجرة اللعبة للُعبة الشطرنج الكلمات التالية: فوز أو خسارة أو تعادل، اعتمادًا على النتيجة للَّاعب الأبيض. والآن، اختر أيَّ عقدة تكون قبل الأخيرة (حيث يؤدِّي كل اختيار مباشرةً إلى ورقةٍ من الشجرة). أوجِد أفضل اختيار للَّاعب الذي يتحرك عند هذه العقدة، وضَعْ عند هذه العقدة قبل الأخيرة نفس الكلمة الموجودة عند الورقة التي تؤدِّي إلى هذا الاختيار. وفي النهاية، اقطع كل الشجرة التي تلي العقدة قبل الأخيرة هذه، لتصبح ورقة لشجرةٍ أصغر؛ حيث لا يمكن تغيير قيمِ أقصى الأدنى الخاصة باللاعب.

والآن، افعل ذلك مرةً تلو الأخرى حتى يصبح كلُّ ما لديك هو كلمةً موضوعةً على جذر الشجرة الأصلية. وهذه الكلمة هي نتيجة أقصى الأدنى للَّاعب الأبيض.

مهما ازداد حجم أجهزة الكمبيوتر التي نصمِّمها أو سرعتها، فلن تستطيع أبدًا أن تُنهي هذا البرنامج للعبة الشطرنج؛ لأن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا للغاية؛ لذا، فمن المحتمَل ألا نعرف أبدًا حل الشطرنج. لكننا على الأقل قد جَزَمْنا بوجود حل حقًّا للشطرنج، على خلاف ذي القدم الكبرى أو وحش بُحيرة لوخ نيس.

إذا كانت نتيجة أقصى الأدنى للَّاعب الأبيض هي «فوز»، فإنَّ اللاعب الأبيض لديه إذن استراتيجية خالصة تضمن له الانتصار في مواجهة أي دفاعٍ من قِبل اللاعب الأسود. وإذا كانت نتيجة أقصى الأدنى للَّاعب الأبيض هي «خسارة»، تكون لدى اللاعب الأسود استراتيجية خالصة تضمن له الانتصار في مواجهة أي دفاعٍ من قِبل اللاعب الأبيض. ومع ذلك، يخمِّن معظم الخبراء أن نتيجة أقصى الأدنى للَّاعب الأبيض هي «تعادل»؛ وهو ما يعني أن كلا اللاعبَيْن الأبيض والأسود لديهما استراتيجيات خالصة تضمن لهما التعادل في مواجهة أي دفاع.

إذا كان هؤلاء الخبراء على حق، تكون الصيغة الاستراتيجية للشطرنج إذن عبارة عن صفٍّ فيه كل النتائج «فوز» أو «تعادل»، وعمود فيه كل العوائد «خسارة» أو «تعادل» كما في شكل ٣-١. ولا أظن أن هذه الحقيقة كانت ستتضح على الإطلاق من دون حُجة الاستنتاج العكسي.

(٢-٢) لعبة هكس

اخترع بيت هاين هذه اللعبة عام ١٩٤٢، وأعاد ناش اختراعها عام ١٩٤٨. ويقال إنَّ الفكرة جاءته أثناء تأمُّله السطح المقرمد السداسي الشكل في مرحاض قسم الرياضيات بجامعة برينستون. كانت توجد بالفعل وحدات قرميد سداسية الشكل، لكنَّ ناش أبلغني أنه لم يجدها ملهمةً على الإطلاق.

تُلعب لعبة هكس بين الجانبين الأسود والأبيض على لوحةٍ من الأشكال السداسية المرتبة على هيئة متوازي أضلاع، كما في شكل ٣-١. في بداية اللعبة، تحتوي ناحية كل لاعب على جانبين متقابلين من اللوحة. ويتخذ كل لاعب دوره في الحركة بالتبادل، على أن يبدأ الجانب الأبيض. وتتم الحركة من خلال وضع أحد الفيشات في حيزٍ سداسي الشكل خالٍ. ويكون الفائز هو مَن يُوصِل جانبي اللوحة أولًا؛ لذلك في شكل ٣-١ الأسود هو الفائز.
fig10
شكل ٣-١: لعبتان من ألعاب الألواح.

كما في لعبة الشطرنج، يمكن نظريًّا أن نحسب عائد أقصى الأدنى للَّاعب باستخدام الاستنتاج العكسي، لكن هذه الطريقة لا تكون عملية عندما تكون اللوحة كبيرة. مع ذلك، نعلم أن عائد أقصى الأدنى للأبيض هو «فوز»؛ أي إن أول لاعب يتحرَّك تكون لديه استراتيجية تضمن له الانتصار في مواجهة أيِّ إجراءٍ دفاعيٍّ من قِبل اللاعب الثاني. فكيف نعلم ذلك؟

لاحِظ أولًا أن لعبة هكس لا يمكن أن تنتهيَ بالتعادل. ولفهم ذلك، فكِّرْ في الفيشات السوداء كما لو كانت ماءً، والفيشات البيضاء كما لو كانت أرضًا. عندما تكون كل الأشكال السداسية مشغولة، فإما أن يتدفق الماء بين البُحيرتين اللتين يمتلكهما في الأصل الجانبُ الأسودُ وإما أن القناة بينهما ستكون سدًّا. ويفوز الأسود في الحالة الأولى، والأبيض في الحالة الثانية. إذن، توجد استراتيجية فوزٍ لدى الأسود أو الأبيض.

اخترع ناش حُجة سرقة الاستراتيجية لتوضيح أن الفائز يجب أن يكون الأبيض. ويكون إثبات الحُجة بنقيضها. إذا لعب الأسود استراتيجية فوز، فإن الأبيض يمكن أن يسرقها باستخدام القواعد التالية:
  • (١)

    ضَعْ أول فيشة في أي مكان.

  • (٢)

    في الخطوات اللاحقة، تَظاهرْ أولًا بأن آخر فيشة لعبتَها ليست على اللوحة. ثم تظاهرْ أن كل الفيشات البيضاء المتبقية سوداء، وكل الفيشات السوداء لونها أبيض.

  • (٣)

    ‬الآن قُمْ بالخطوة التي كان سيقوم بها الأسود في هذا الموقع عندما يستخدم ‬‬استراتيجية الفوز الخاصة به. إذا كانت لديك فيشة في هذا الموقع، فكل ما عليك هو أن تتحرك في أي مكان.

تضمن لك هذه الاستراتيجيةُ الفوز؛ لأنك تفعل ببساطةٍ ما يُفترض أنه يضمن الفوز للأسود، لكن بسابق خطوة واحدة. يمكن أن يؤديَ وجود فيشة بيضاء زائدة على اللوحة إلى إحرازك الفوز قبل الأسود، لكنني أظن أنك لن تشتكيَ من هذا!

بما أن كلا اللاعبَيْن لا يمكن أن يفوزا معًا، فإنَّ افتراضنا أن الأسود لديه استراتيجية فوزٍ لا بد أن يكون خطأً. الفائز إذن هو الأبيض، على الرغم من أن معرفته بذلك لن تساعده كثيرًا عند لَعِبِ لُعبة هكس على لوحةٍ كبيرة؛ لأن إيجاد استراتيجية الفوز للأبيض مسألة غير محلولةٍ في الحالة العامة.

لاحِظ أن حُجة سرقة الاستراتيجية لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن استراتيجية الفوز «الفعلية» للأبيض. فلا يستطيع الأبيض بالتأكيد أن يضمن الفوز بعد وضع أول فيشة في أي مكان وحسب. وإذا وضع أول فيشةٍ لديه في ركنٍ حادٍّ من اللوحة، فمن المحتمَل أنك ستفهم السبب في أن للأسود استراتيجيةَ فوزٍ في بقية اللعبة.

قد يكون من المُسلي أيضًا أن تختبر مهاراتك الفكرية في نسخة لعبة هكس التي من المفترض أن علماء الرياضيات في جامعة برينستون قد استخدموها لممازحة زوَّارهم. يضاف في هذه النسخة صفٌّ من الأشكال السداسية إلى اللوحة بحيث يصبح جانبَا اللوحة للأبيض أكثر تباعدًا أحدهما عن الآخر مقارنةً بجانبي اللوحة للأسود. وفي اللعبة الجديدة، لا يتوقف الأمر فقط عند وجود استراتيجية فوزٍ للأسود، لكن يكون باستطاعتنا أيضًا كتابة استراتيجية الفوز الخاصة به. مع ذلك، عندما لعب الزائرون كأبيض ضد كمبيوتر، ظهرت اللوحة من منظور معين على الشاشة لإخفاء عدم تماثلها. ومن ثَمَّ، اعتقد الزائرون أنهم يلعبون لعبة هكس عادية، لكن لخيبة أملهم وإحباطهم، كان الكمبيوتر دائمًا ما يفوز بطريقةٍ أو بأخرى.

(٣) إزالة الاستراتيجيات المُهيمنة

كل مرة تزيلُ مجموعةً من الاختيارات عند إحدى العُقَد أثناء القيام بعملية الاستنتاج العكسي، فإنك تتخلص في المقابل من مجموعةٍ مكافئةٍ من الاستراتيجيات الخالصة. ووفقًا للصيغة الاستراتيجية للُّعبة التي وصلت إليها حتى هذه المرحلة، فإنَّ أي استراتيجية تتخلص منها تكون «مُسيطَرًا عليها» من قِبل استراتيجيةٍ مماثلةٍ تمامًا، فيما عدا أنها تتطلَّب أن يتم أفضل اختيارٍ عند العقدة المعنية.

إذا استبعدنا الحالة التي تعطي فيها كلتا الاستراتيجيتين دائمًا نفس العائد، فإن إحدى الاستراتيجيتين تكون مُسيطَرًا عليها من الأخرى إذا لم تعطِ مطلقًا عائدًا أفضل، بصرف النظر عن الاستراتيجيات التي يستخدمها اللاعبون الآخرون. إذن «صقر» تسيطر على «حمامة» في لعبة معضلة السجينين (ولكن ليس في لعبة اصطياد الظبي، حسبما يتضح من شكل ٤-٣).

نستطيع بذلك أن نحاكيَ الاستنتاج العكسي في أي لعبةٍ بإزالة الاستراتيجيات المُهيمِنة واحدةً تلو الأخرى في صيغتها الاستراتيجية. ويمكننا أحيانًا أن نختزل صيغةً استراتيجيةً إلى نتيجةٍ واحدةٍ فقط بهذه الطريقة حتى عندما لا نحاكي الاستنتاج العكسي. وسيكون الناتج دائمًا نتيجة أقصى الأدنى في لعبةٍ تتكوَّن من شخصين ومجموعها صفري. لكن ماذا عن الألعاب عمومًا؟

إنَّ أيَّ توازن ناش للُعبةٍ ما تحصل عليه بعد إزالة الاستراتيجيات المُهيمنة من لعبةٍ أكبر، يجب أيضًا أن يكون توازن ناش للُّعبة الأكبر. والسبب هو أن إضافة استراتيجية مُهيمنة إلى خياراتك في لعبةٍ ما لا يمكن أن تزيد من سوء الردود المثلى الحالية. وقد تفقد أحيانًا توازنات ناش أثناء إزالة الاستراتيجيات المُهيمنة (ما لم تكن كل الاستراتيجيات المُهيمنة دقيقة)، لكن لا يمكنك أبدًا إزالة «كل» توازنات ناش من اللعبة الأصلية.

(٣-١) ألعاب التخمين

إذا كانت أليس تتعامل في البورصة، فإنها تتمنى أن تزيد قيمة الأسهم التي تشتريها. ونظرًا لأن القيمة المستقبلية تعتمد على ما يراه الآخرون وما يعتقدونه حيالها، فإنَّ مستثمرين مثل أليس يستثمرون حقيقةً على أساس اعتقاداتهم عمَّا يعتقده الآخرون. وإذا كان بوب يخطِّط لاستغلال مستثمرين مثل أليس، فسيتعيَّن عليه أن يأخذ في اعتباره اعتقاده عمَّا تعتقده أليس فيما يعتقده الناس. وإذا أردنا أن نستغل بوب، فسيتعيَّن علينا طرحُ سؤالٍ عما نعتقده حيال ما يعتقده بوب عما تعتقده أليس عن اعتقاد الآخرين.

من المعروف أنَّ جون مينارد كينز استخدم مسابقات الجمال التي تُديرها الصحف في عصره لتوضيح كيف أن هذه السلاسل من الاعتقادات عن الاعتقادات تطول وتطول كلما أنعم المرء التفكيرَ في المسألة. كان الهدف في هذه المسابقات هو اختيارَ الفتاة التي يقع عليها اختيار معظم الأشخاص الآخرين. ويفضِّل خبراء نظرية الألعاب لعبة تخمينٍ أبسط؛ حيث يكون الفائزون هم اللاعبين الذين يختارون عددًا أقرب إلى ثلثي متوسط كل الأعداد المختارة.

إذا كان اللاعبون مقيَّدين بالأعداد الصحيحة المحصورة بين ١ و١٠، بما فيها كلا العددين، فإن إحدى الاستراتيجيات المهيمنة هي أن تختار عددًا أكبر من ٧؛ لأن المتوسط يمكن أن يكون ١٠ على أقصى تقدير، و ؛ ومن ثَمَّ، يمكنك دائمًا تحسين فرصك للفوز بلعب ٧ بدلًا من ٨ أو ٩ أو ١٠. لكن إذا علم الجميع ذلك، فلن يلعب أحد أبدًا استراتيجية مهيمنة؛ ومن ثَمَّ نكون بصدد لعبة يختار فيها اللاعبون عددًا محصورًا بين ١ و٧، بما فيها كلا العددين. والمتوسط في هذه اللعبة يمكن أن يكون ٧ على أقصى تقدير، و ؛ إذن، فالاستراتيجية المهيمنة هي أن تختار عددًا أكبر من ٥.

من الواضح إلى أين تذهب بنا هذه الحُجة؛ فإذا كان معلومًا أن لا أحد من اللاعبين سيلجأ إلى استخدام استراتيجية مهيمنة، فسوف يتعيَّن إذن على كل اللاعبين أن يختاروا العدد ١.

(٣-٢) المعرفة العامة

يقال عن شيءٍ إنه معرفةٌ عامة إذا كان الجميع يعرفونه؛ أي إذا كان الجميع يعرفون أن الجميع يعرفونه، والجميع يعرفون أن الجميع يعرفون أن الجميع يعرفونه، وهكذا. وإذا لم يُقَلْ شيءٌ يناقض التحليل العقلاني لِلُعبةٍ ما، فإنه يُفترض ضمنيًّا ودائمًا أن كلًّا من اللعبة وعقلانية اللاعبين معرفةٌ عامة. وإلَّا فما كان يحق لنا أن نستخدم فكرة تقسيم توازن ناش إلى سلسلةٍ من الانحدارات اللانهائية على النحو التالي: «ألِيس تعتقد أن بوب يعتقد أن أليس تعتقد أن بوب يعتقد …»

شاهدتُ ذات مرة برنامج مسابقات اسمه «ذا برايس إز رايت» (أي: السعر صحيح)، وفيه يخمِّن ثلاثة متسابقين قيمة تحفةٍ ما. والشخص الذي يقترب من السعر الصحيح يكون هو الفائز. وإذا كان المتسابق الأخير يعتقد أن القيمة أكبر من التخمينين الآخرين، فمن الواضح أن عليه ألَّا يزيد التخمين الأعلى بأكثر من دولارٍ واحد. ولكن بما أن ذلك لا يحدث، فسيكون من السفه أن نحاول تطبيق نظرية الألعاب على برامج المسابقات على افتراض أن عقلانية المتسابقين أمرٌ معروف بداهةً؛ لذلك، من حسن الحظ أن التفسير التطوُّري لنظرية الألعاب لا يتطلب مثل هذه الفرضيات الصارمة.

(٤) تمام اللعبة الفرعية

يُشتهَر دانيال إلسبرج بأنه الشخص الذي وَشَى بإدارة حكومة نيكسون للحرب في فيتنام عندما سرَّب وثائق البنتاجون إلى جريدة «نيويورك تايمز» عام ١٩٧١. وفي روايةٍ سابقة، اقترح لعبة الاختطاف.

(٤-١) لعبة الاختطاف

اختطفت أليسُ بوب. ودُفِعت الفدية، والسؤال الآن هو: هل يتعيَّن عليها إطلاق سراحه أم قتله؟ تُفضل أليس أن تُطلِق سراح بوب إذا استطاعت أن تتأكَّد أنه لن يكشف عن هويتها. وتعهَّد بوب أن يَلتزم الصمت، لكن هل تستطيع أليس الوثوق في وعده؟

يوضح شكل ٣-٢ شجرة لعبة الاختطاف مع جدول عوائد مقابِل. وبوضع دائرةٍ حول الردود المُثلى، يتَّضح وجود توازن ناش واحدٍ فقط، وفيه تَقتل أليس بوب لأنها تتوقع أنه سوف يتكلم إذا أطلقت سراحه.

تؤدِّي إزالة الاستراتيجيات المُهيمنة إلى نفس توازن ناش. وتتساوى دائمًا استراتيجية بوب في «البَوح» مع استراتيجية «الْتزام الصمت» من حيث درجة الملاءمة؛ لذلك، سنبدأ بإزالة استراتيجية «الْتزام الصمت». وفي الجزء المتبقِّي من اللعبة، تتساوى دائمًا استراتيجية أليس في «القتل» مع استراتيجية «إطلاق السراح» (لأن الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن أن يلعب بها في اللعبة المختزلة هي «البوح»)؛ لذلك، لا يبقى أمامنا سوى توازن ناش («القتل»، «البوح»).

fig11
شكل ٣-٢: لعبة الاختطاف.

إنَّ إزالة الاستراتيجيات المُهيمنة بهذه الطريقة تعادل استخدام الاستنتاج العكسي في شجرة اللعبة. أولًا، ظلِّل في شجرة اللعبة الفرعَ الذي يمثل أفضل اختيارٍ لبوب، وهو «البوح». والآن، انْسَ وجود اختيار أدنى لدى بوب على الإطلاق، وظلِّل الفرعَ الذي يمثل أفضل اختيار لأليس، وهو «القتل». في الجزء المتبقِّي من اللعبة. يمكننا الآن أن نرى مسار التوازن الذي سيجري اتِّباعه عندما يلعب كلٌّ من أليس وبوب توازن ناش («القتل»، «البوح»). في هذه الحالة، يربط الفرع الوحيد المظلَّل جذرَ الشجرة بورقة؛ وفي لعبةٍ أكبر، سيكون مسار التوازن عبارة عن تسلسلٍ كاملٍ من الفروع المظلَّلة التي تربط الجذر بورقة.

في الألعاب ذات المعلومات الكاملة، مثل الاختطاف، يؤدِّي دائمًا الاستنتاج العكسي إلى استراتيجياتٍ لا تمثل فقط توازن ناش في اللعبة ككلٍّ، ولكن أيضًا في كل الألعاب الفرعية، سواءٌ أكانت تقع في المسار المتوازن أم لا. اقتسَم راينهارد زلتن جائزة نوبل مع جون ناش، وكان ذلك يرجع جزئيًّا إلى تقديمه هذه الفئةَ من التوازنات. وقد أَطلَق عليها في البداية توازناتٍ تامة، لكنه غيَّر رأيه عما يعنيه مفهوم التمام؛ لذلك، أصبحنا نطلق عليها حاليًّا «الألعاب الفرعية التامة».

(٤-٢) الأحداث المناقِضة للواقع

يحب السياسيون التظاهر بأن الأسئلة الافتراضية لا قيمة لها. وقد قال جورج بوش الأب عند الإجابة عن السؤال العقلاني تمامًا عن إعانة البطالة عام ١٩٩٢: «لو أن الضفدع له أجنحة، لما ارتطم ذيله بالأرض.» لكن لعبة الاختطاف توضح السبب في أن الأسئلة الافتراضية هي قوام الحياة في نظرية الألعاب؛ مثلما يجب أن تكون قوام الحياة في السياسة.

يلتزم اللاعبون العقلانيون باستراتيجياتهم المتوازنة؛ نظرًا لما يتنبَّئون بأنه «قد» يحدث لو «حدث» أن انحرفوا عن المسار المرسوم. ويرجع السبب في استخدام الصيغة الشرطية في هذه الجملة إلى أننا نتحدث عن حدثٍ مناقِضٍ للواقع، ولن يحدث؛ فهذه الأحداث المناقِضة للواقع بعيدة كلَّ البُعد عن أيِّ حدثٍ واقعي، ودائمًا ما تنشأ عند اتخاذ قرارٍ عقلاني. لماذا لا تقفز أليس أمام سيارةٍ عند عبورها الطريق؟ لأنها تتوقع أنها إذا فعلت، فسوف تدهسها السيارة. ولماذا تَقتل أليسُ بوب في لعبة الاختطاف؟ لأنها تعتقد أنه سوف يبوح بهويتها إذا لم تقتله.

من ثَمَّ، فإن المهم هو النتيجة المُفترَض حدوثها في الألعاب الفرعية التي لن تتحقَّق أبدًا. ويُعزى السبب في عدم تحقُّق هذه النتيجة مطلقًا إلى الأحداث المتوقَّع وقوعها في حال تحقُّقها!

(٤-٣) هل يقتضي الأمر تغيير اللعبة؟

ينصح خبراء علم النفس ضحايا الاختطاف أن يحاولوا بناء علاقةٍ إنسانيةٍ مع مختطفيهم. إذا استطاع بوب أن يقنع أليس أنه مهتم بها بالقدر الكافي، لدرجة أن عوائده لالتزام الصمت أو البوح ستصير معكوسة، نكون عندئذٍ إزاء لعبةٍ مختلفة، يمكن أن نطلق عليها «الاختطاف المريح».

يوضح شكل ٣-٣ أن الاختطاف المريح يتضمَّن حالتين من توازن ناش في الاستراتيجيات الخالصة: («القتل»، «البوح») و(«إطلاق سراح»، «الْتزام الصمت»). لم يعد التوازن («القتل»، «البوح») لعبةً فرعيةً تامة؛ نظرًا لأنه يدفع بوب إلى الاختيار الأدنى، وهو «البوح»، في اللعبة الفرعية التي لا نصل إليها في التوازنات؛ لأن أليس فعليًّا تختار «القتل»، ولكن يمكن الوصول إليها إذا ما اختارت أليس «إطلاق السراح» كحلٍّ بديل.

مع ذلك، التوازنُ الجديد («إطلاق السراح»، «الْتزام الصمت») يكون لعبةً فرعيةً تامة؛ لذلك هذا هو التوازن الذي سيلعب، على افتراض أن أليس عقلانية وتعرف أن بوب عقلاني. وإذا كانت العوائد مختارة وفقًا لنظرية التفضيل الموضَّح، فسيكون ضربًا من الحشو والتكرار أن يلعب بوب «الْتزام الصمت» بدلًا من «البوح» إذا كانت أليس ستلعب «إطلاق السراح»؛ ومن ثَمَّ، ستلعب أليس «إطلاق السراح»؛ لأنها تعلم أن ذلك سيحقِّق لها عائدًا أكبر عما لو اختارت «قتل».

الفكرة أن العقلانية تخبرنا أحيانًا بما هو أكثر من مجرد الجزم بأن أليس وبوب يجب أن يحقِّقَا توازن ناش في اللعبة.

fig12
شكل ٣-٣: لعبة الاختطاف المريح.

(٥) لعبة الإنذار النهائي

يتمتع راينهارد زلتن بحسٍّ فكاهيٍّ مشاغب، ويبدو أنه يستمتع بالجدل الذي أثاره بمفهومه عن توازن لعبةٍ فرعيةٍ تامة. وقد زاد من احتدام الموقف عندما اقترح على تلميذه فيرنر جوت أن يُجريَ تجربة معملية حول هذا الموضوع. وكانت التجربة تهدف إلى معرفة ما إذا كان الناس في الحياة الواقعية سيلعبون توازن اللعبة الفرعية التامة في لعبة الإنذار الأخير أم لا. وتنبَّأ زلتن أنهم لن يفعلوا، وكان محقًّا فيما ذهب إليه.

إنَّ لعبة الإنذار الأخير هي لعبة تفاوضٍ بدائية، وفيها يتبرَّع فاعلُ خيرٍ وهميٌّ بمبلغٍ من المال لأليس وبوب كي يتقاسماه إذا اتفقا على كيفية تقسيمه. ووفقًا لقواعد اللعبة، فإن أليس تبدأ أولًا بتقديم عرضٍ لبوب حول كيفية تقاسُم المال. ويجوز لبوب أن يوافق أو أن يرفض. إذا وافق بوب، يُقرُّ عرض أليس ويصبح مقبولًا. وإذا لم يوافق، تنتهي اللعبة بعدم حصول أيٍّ من اللاعبَيْن على شيء.

من السهل أن نطبِّق الاستنتاج العكسي للُّعبة على افتراض أنَّ كلا اللاعبَيْن يهتم فقط بالحصول على أكبر قدر ممكن من المال. وإذا عرضت أليس على بوب مبلغًا مقنِعًا، فإنه سيقبل العرض؛ لأن أي شيء أفضل من لا شيء؛ ومن ثَمَّ، سيكون أقصى عرض لأليس قرشًا واحدًا فقط. وفي توازن اللعبة الفرعية التامة، تحصل أليس من ثَمَّ على كل المال.

على الرغم من ذلك، تشير التجارب المعملية إلى أن الناس في الحياة الواقعية يلعبون عادةً بإنصاف. وأكثر عرض محتمَل يكون فيه التقاسُم بالتساوي. وتُرفض عروض القسمة غير المنصفة من قبيل ٧٠٪ مقابل ٣٠٪ لأكثر من نصف الوقت، على الرغم من أن المجيب لن يحصل على شيءٍ مطلقًا في هذه الحالة. وهذه هي أكثر النتائج تكرارًا في الاقتصاد التجريبي. وقد توصلتُ إلى النتيجة نفسها بنفسي عدة مرات. ولا تغيب هذه النتيجة في المواقف التي يزداد فيها حجم المكاسب، بل نجدها حتى في البلاد التي تمثِّل فيها العوائد الدولارية جزءًا غير قليل من الدخل السنوي للأفراد. لا يمكن تعميم النتيجة بالكامل، لكن على المرء أن يتبع علماء الأنثروبولوجيا في أماكن بعيدة في العالم للعثور على استثناءات.

تَستخدم مدرسةٌ جديدة من علماء الاقتصاد السلوكي هذه النتيجة كعصًا يضربون بها منافسيهم التقليديين؛ فهُم يقولون إن البيانات تُثبِت بطلان «بديهية الأنانية» لعلم الاقتصاد التقليدي؛ ومن ثَمَّ، فإن اعتراضهم موجَّه لفرضية أن الناس يهتمون فقط بالمال، وليس لمنطق الاستنتاج العكسي.

في الواقع، من غير البديهي في الاقتصاد أن يكون الناس أنانيين باستمرار. وتُمثَّل النظرة التقليدية من خلال نظرية التفضيل الموضَّح؛ فالجميع متفقٌ على أن المال ليس كل شيءٍ، وحتى ميلتون فريدمان كان عطوفًا مع الحيوانات، وكان يتبرَّع بالمال لأعمال الخير. لكن، صحيحٌ أيضًا أن ثَمَّةَ عددًا كبيرًا من التجارب التي تشير إلى أن معظم الأشخاص تنتهي بهم الحال إلى التصرُّف كما لو أنهم مهتمون في المقام الأول بزيادة عوائدهم الدولارية في جميع الألعاب تقريبًا التي أُجريت عليها تجارب معملية؛ ومن ثَمَّ، فإن لعبة معضلة السجينين هي القاعدة وليست الاستثناء. إذن، ما هو وجه الاختلاف في لعبة الإنذار النهائي؟

أظنُّ أن الإجابة تكمن في حقيقة أنَّ الاستفسارات العقلانية والتطوُّرية للتوازن تجنح بعيدًا عند تطبيقها على توازنات اللعبة الفرعية التامة.

(٥-١) لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة

في هذه الصيغة المبسَّطة من لعبة الإنذار النهائي، يتبرَّع فاعل الخير بأربعة دولارات. وتستطيع أليس أن تقدِّم لبوب عرضًا منصفًا أو غير منصف. ويتمثل العرض المنصف في أن يتقاسما المال بينهما بالتساوي. يقبل بوب العرض مباشرة، لكنْ يكون أمامه الخيار بقبول العرض غير المنصف أو رفضه، الذي يحدد لأليس ثلاثة دولارات مقابل دولارٍ واحدٍ فقط لبوب. ويوضح شكل ٣-٤ شجرة اللعبة وجدول العوائد للُعبة الإنذار النهائي المصغَّرة. وتحليلها هو نفسه التحليل المُقدَّم في لعبة الاختطاف المريح، على الرغم من أن منطق الحُجة هنا مثار جدلٍ؛ لأن النقَّاد لا يرضَون عن النتيجة التي يؤدِّي إليها.
fig13
شكل ٣-٤: لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة. تتماثل هذه اللعبة مع لعبة الاختطاف المريح، مع اختلاف تسميات الإجراءات المتاحة وبعض التغييرات غير المهمة في العوائد.

إن توازن اللعبة الفرعية التامة هو («غير منصف»، «نعم»). وعلى غرار لعبة الاختطاف المريح، فثَمَّةَ توازن ناش آخر في هذه اللعبة، وهو («منصف»، «لا»). في الحقيقة، يوجد الكثير من توازنات ناش المحتمَلة للُّعبة في حال اختيار أليس «منصف»؛ لأن بوب يعتزم استخدام استراتيجيةٍ مختلطةٍ يكون فيها احتمال رفضه للعرض غير المنصف مرتفعًا بدرجة كافية.

إنَّ ما يدفعنا إلى القلق بشأن توازنات ناش، التي لا تمثل لعبةً فرعيةً تامة، أنه لا يوجد لدينا أيُّ سببٍ لافتراض أن عمليةً تطوريةً سوف تَئُول بالضرورة إلى توازن اللعبة الفرعية التامة. إذا كان الأفراد يتعلَّمون بأسلوبِ المحاولة والخطأ تحديدَ التوازن الذي يلعبونه، ففي إمكانهم إذن أن يتعلَّموا أن يلعبوا أيًّا من توازنات ناش الخاصة بلعبة الإنذار النهائي المصغَّرة.

يوضح شكل ٣-٥ عمليتين تطوُّريتين مختلفتين في لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة: إحداهما هي ديناميكية الرد الأمثل التي أشرنا إليها سابقًا، والأخرى هي «ديناميكية المكرَّرات» الأكثر تعقيدًا، والتي عادةً ما يُنظر إليها على أنها نموذج محاكاةٍ أعلى لعملية تعديل (راجع «الثبات التطوُّري»، الفصل الثامن).
fig14
شكل ٣-٥: تعديل تطوُّري في لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة. توازُن اللعبة الفرعية التامة هو «ف»، ويكمن توازن ناش الآخر في المجموعة «ن». ويتطلب هذا التوازن الأخير استخدام الاستراتيجية المُهيمنة بدرجةٍ ضعيفةٍ «لا»، لكن لا تزال المجموعة «ن» تمتلك حوض تجاذب كبيرًا في حالة ديناميكية المكرَّرات.
تَئول ديناميكية الرد الأمثل إلى توازُن اللعبة الفرعية التامة، لكن لا ينطبق هذا بالضرورة على ديناميكية المكرَّرات؛ فمجموعة توازنات ناش التي تلعب فيها أليس «منصف» تمتلك حوض تجاذب كبيرًا في شكل ٣-٥.

لا يهتم التطوُّر بأن اختيار بوب ﻟ «لا» مهيمَن عليه بدرجةٍ ضعيفةٍ في كل هذه التوازنات. وصحيحٌ أن «نعم» دائمًا أحسن من «لا» شريطة أن تلعب أليس أحيانًا «غير منصف»، لكن الضغط التطوُّري ضد «غير منصف» يمكن أن يكون شديدًا لدرجة أنه يختفي تمامًا. وبمجرد أن يختفيَ، تستطيع «لا» البقاء؛ لأن بوب يكون في هذه الحالة غير متحيِّزٍ لأيٍّ من «نعم» أو «لا».

(٥-٢) اتفاقيات مُنصِفة

سنشرح الآن البياناتِ التجريبيةَ في لعبة الإنذار الأخير التي لا تتطلب تحديد تفضيلات مختلفة للأفراد عما يكشفون عنه عند لعب معضلة السجينين في المعمل.

في الحياة الواقعية، لن يكون بوب بالغباء الذي يجعله يُذعن عند تقديم عرض غير منصف؛ لأنه لا يستطيع أن يحتمل أن يشاع عنه أنه شخص ليِّن سهلٌ إقناعُه؛ لذلك، ثَمَّةَ قناعة بأن عرض أليس سيُرفَض غالبًا إذا كان غير منصف. يأتي الأفراد حاملين هذه القناعة إلى التجارب المعملية دون أن يُدركوا أنها تُنسِّق السلوك في لعبة الحياة وصولًا إلى حالةٍ من التوازن، أو أن اللعبة التي يُطلب منهم أن يلعبوها في المعمل مختلفة تمامًا عن ألعاب الحياة الواقعية التي عُدِّلت على أساسها هذه القناعة.

عندما يبدأ الأفراد باللعب بإنصافٍ في لعبة معضلة السجينين، فإن دوافع التطوُّر تبدأ مباشرةً في تعديل سلوكهم؛ لأن توازن ناش الوحيد في لعبة معضلة السجينين يعوق أيَّ تعاون. وتختلف لعبة الإنذار الأخير عن معضلة السجينين في وجود العديد من توازنات ناش؛ فأي تقسيم للمال المتوافر — أيًّا كانت نسبته — يقابل حالةً من توازن ناش، للسبب نفسه الذي ينطبق لأجله نفس المفهوم على لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة. وعندما تبدأ أليس وبوب باللعب بإنصافٍ في لعبة الإنذار النهائي، لا تكون ثَمَّةَ دوافع تَطوُّر واضحة تدفعهما نحو توازن اللعبة الفرعية التامة؛ لذلك، لسنا في حاجةٍ إلى اختلاق سببٍ لكونهما لا يتحركان لما هو أبعد قليلًا عن المكان الذي بدآ منه.

يشعر خبراء نظرية الألعاب بالامتنان لخبراء الاقتصاد السلوكي لكونهم يقدِّمون الأسباب التي تنفي بديهية الأنانية. وإلا، فكيف كنا سنفسِّر مشاركة ميلتون فريدمان في الأعمال الخيرية؟ لكنهم يقعون في خطأين عندما يقولون: «نظرية الألعاب تتنبَّأ بتوازُن اللعبة الفرعية التامة في لعبة الإنذار النهائي.» الأول أن نظرية الألعاب تفترض أن اللاعبين بالضرورة يُعظِّمون المال، والثاني أن نظرية الألعاب العقلانية والتطوُّرية دائمًا ما تتنبَّآن بالأمر نفسه.

(٦) تنقيحات

لا يختار التطوُّر دائمًا توازنات اللعبة الفرعية التامة، لكن يظل من العقلاني لأليس أن تحل لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة باستخدام الاستنتاج العكسي عندما تُحدَّد العوائد عن طريق نظرية التفضيل الموضَّح. ويُعَدُّ الافتراض التقليدي بأن أليس تَعْلم أن بوب عقلاني ضروريًّا لهذا الغرض؛ لأن أليس يجب أن تتأكد من أن سلوك بوب سيكون متوافقًا مع العوائد المحدَّدة له.

هل الافتراض التقليدي بأن عقلانية اللاعبين أمرٌ معروف يعني أن يُتبَع أحد توازُنات اللعبة الفرعية التامة في أي لعبة متناهية كاملة المعلومات؟ يرى بوب أومان أن هذا الأمر صحيح، وقد يعتقد المرء أن إجابة أومان تنبع عن معرفةٍ ودرايةٍ؛ لأن من أسباب حصوله على جائزة نوبل أنه جعل المعرفة العامة أداةً تنفيذية. لكنَّ أمثلةً مثل مفارقة سلسلة المتاجر لزلتن تُبقي هذا السؤال غير محسوم ومطروحًا للنقاش.

(٦-١) مفارقة سلسلة المتاجر

يمكن إعادة تفسير لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة بوصفها لعبةً تُهدِّد فيها أليس بفتح متجرٍ في مدينةٍ يدير فيها بوب متجرًا مشابهًا. وكل ما يتعيَّن علينا فعله هو أن نعيد تسمية استراتيجيات أليس لتصبح «خروج» و«دخول»، واستراتيجيات بوب لتصبح «إذعان» و«مقاومة». وتكون المقاومة من خلال بدء حرب أسعار، وهو ما يمثل خيارًا سيئًا بالنسبة إلى كلا اللاعبَيْن. وتنشأ مفارقة زلتن عندما يدير بوب سلسلة متاجر في مائة مدينة؛ لتُواجه أليس بذلك مائة منافِسٍ محتمَلين يهددون بإنشاء متجرٍ منافِسٍ في كل مدينة.

تمامًا كما في لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة، يشير الاستنتاج العكسي في الجولة المائة من اللعبة إلى أن المنافِس المائة سيدخل السوق، وأن بوب سيُذعن للأمر. وما يحدث في الجولة المائة يتقرَّر على نحوٍ مستقلٍّ عما يحدث في الجولات السابقة؛ ومن ثَمَّ تنطبق الحُجة نفسها على الجولة التاسعة والتسعين. وبالاستمرار على هذا النهج، نخلُص إلى النتيجة التالية: سيقرر المنافِس دائمًا دخول السوق، بينما سيذعن بوب دائمًا. لكن، هل سيكون من الأفضل لبوب مواجهة المنافسين الأوائل — وهم قلة — كي يُثبِّط هِمَّة المنافسين عن دخول المدن المتبقية؟

تُقدِّم شجرة اللعبة في شكل ٣-٦ نموذجًا مبسَّطًا يتضمَّن مدينتين فقط، والمنافِس دائمًا هو أليس. إذا دخلت أليس المدينة الأولى، يكون أمام بوب خيار الإذعان أو المقاومة. وإذا دخلت المدينة الثانية لاحقًا، يكون أمامه مجددًا الإذعان أو المقاومة. أما إذا ظلَّت أليس خارج المدينة الأولى، فإننا نُبسِّط اللعبة بافتراض أنها ستظل أيضًا بالضرورة خارج المدينة الثانية. وبالمثل، إذا أذعن بوب في المدينة الأولى، فإن أليس تدخل بالضرورة المدينة الثانية، ويذعن بوب مرةً أخرى.
fig15
شكل ٣-٦: نسخة مبسَّطة من مفارقة سلسلة المتاجر. باختلاف تسميات الإجراءات المتاحة، تتطابق اللعبة الفرعية المتأصِّلة في الحركة الثانية لأليس مع لعبة الإنذار النهائي المصغَّرة.
تُبيِّن الخطوط العريضة في شكل ٣-٦ نتيجة تطبيق الاستنتاج العكسي. وفقًا لنظرية الألعاب التي ستوصي في هذه الحالة باتِّباع مسار توازن اللعبة الفرعية التامة، سيكون من الأفضل لأليس دخول كلتا المدينتين، والأفضل لبوب الإذعان في كل مرة. لكن، هل سيتَّبع كلٌّ من أليس وبوب تلك النصيحة؟ لبحث هذا السؤال، ضَعْ نفسك مكان بوب عند اتِّخاذ خطوته الأولى.

دخلت أليس توًّا المدينة الأولى كما أوصينا، لكن ماذا عساها أن تفعل إذا بلغت خطوتها الثانية؟ تعتمد الإجابة على ما تتوقَّعه من بوب في حال بلوغه خطوتَه الثانية. إذا كانت أليس تعلم أن بوب عقلاني، فسوف تتوقَّع أن يذعن؛ ومن ثَمَّ، يكون عليها الأخذ بخيار الدخول، ويكون على بوب أن يذعن عند خطوته الأولى، حسبما يقتضي الاستنتاج العكسي. لكن، من المفترض أن أليس «لا تعرف» أن بوب عقلاني عند خطوتها الثانية؛ لأن بوب العقلاني لن يرغب في حدوث مقاومة عند خطوته الأولى إذا كانت نظرية الألعاب محقَّةً فيما ذهبت إليه عن مفهوم العقلانية.

بدأت أليس اللعبة معتقدةً أن بوب عقلاني، لكن إذا كان بوب يلعب بطريقةٍ غير متوافقة مع تفضيلاته من خلال أخذ القرار بالمواجهة في المدينة الأولى، فسيؤدي ذلك إلى دحض اعتقادها. ومَنْ يدري ما الذي ربما تعتقده بعد وقوع حدثٍ مناقضٍ للواقع كهذا؟ تفترض الصيغة الأصلية لمفارقة زلتن وجود مائة متجر؛ لأن الإجابة البديهية بعد أن يأخذَ بوب بخيار المواجهة في ٥٠ متجرًا أنه على الأرجح سيَسير على النهج نفسه في المتجر الحادي والخمسين. لكن، ستنهار عندئذٍ حُجة الاستنتاج العكسي.

لا تشكِّك مفارقة زلتن في الاستنتاج العكسي بدعوى أنه وسيلة للحصول على عوائدِ أقصى الأدنى في ألعاب المجموع الصفري الثنائية. كما لا تثير إشكاليةً بشأن عقلانية الاستنتاج العكسي في ألعاب مثل الاختطاف أو الإنذار النهائي. وسيتوالى دحض الاعتقاد المبدئي لدى كلا اللاعبَيْن بأن الجميع عقلانيون إذا حادَ شخص عن مسار التوازن، لكنَّ هذه الحقيقة لا تُسبِّب مشكلةً في هذه الألعاب القصيرة. لكن كيف نستجيب لهذه المفارقة في الألعاب الأطول؟

(٦-٢) الأخطاء المطبعية البسيطة

يقال عن توازنات اللعبة الفرعية التامة إنها «تنقيحٌ» لمفهوم توازن ناش؛ فهي آمنة الاستخدام ما دامت الظروف تقتضي أن من الحكمة أن يواصل اللاعبون التصرُّف كما لو أنه من المعروف عمومًا أنهم جميعًا عقلانيون حتى على الرغم من اتخاذ خطوتين غير عقلانيتين أو أكثر أثناء اللعب. وصِيغَت مجموعةٌ كاملة من تنقيحات أكثر تنقيحًا بغرض استخدامها في الألعاب ذات المعلومات الناقصة. تستند هذه التنقيحات إلى عدة أفكارٍ مختلفةٍ حول الاعتقادات التي ستكون معقولة وذات معنًى حين يقع الحدث غير المتوقَّع المتمثل في تصرُّف لاعبٍ عقلاني بأسلوبٍ لا عقلاني. فلو أن جورج بوش الأب قرأ أبحاث نظرية الألعاب ودراساتها، لأُصيِب وقتها بحالةٍ من التشوش والارتباك! ولحُسن الحظ، انتهت هذه المرحلة من تاريخ نظرية الألعاب بفاعلية، على الرغم من أن علماء الاقتصاد التطبيقي ما زالوا يبحثون عن أي تنقيحٍ في المجموعة من شأنه أن يُقرِّبهم من تأكيد تحيُّزاتهم السابقة.

أما عن رأيي في هذه القضايا، فإنني أرى أن علينا أن نتبع الأسلوب المنطقي لراينهارد زلتن، الذي يستبعد ضرورة تفسير الأحداث المناقِضة للواقع. ويُوصي أن نضع خطواتٍ احتماليةً كافيةً في قواعد ألعابنا لإزالة احتمال أن يجد اللاعبون أنفسهم في موقفٍ يحاولون فيه شرح ما هو غير قابلٍ للشرح. في أبسط هذه النماذج، من المفترض أن يقع اللاعبون في أخطاءٍ من حينٍ لآخر؛ فيرتبكون حين يقتربون من القرار العقلاني ويتَّخذون قرارًا لا عقلانيًّا عن طريق الخطأ. وإذا كانت هذه الأخطاء من قبيل الأخطاء العابرة المستقلة — مثل الأخطاء المطبعية — التي ليست لها أي تبعاتٍ محتمَلةٍ على الأخطاء التي ربما تحدث في المستقبل، فإنَّ توازنات ناش في اللعبة التي تتضمَّن أخطاءً ستقارب توازنات اللعبة الفرعية التامة في اللعبة الخالية من الأخطاء؛ حيث لا نسمح بتكرار الأخطاء إلا في نطاقٍ محدودٍ للغاية.

حاوَل زلتن أن يقلِّل من أهمية توازنات اللعبة الفرعية التامة؛ لأنه قرَّر أن حدود توازنات ناش في ألعاب التوازنات المشوَّشة (أو ما يُعرف أيضًا بتوازنات الأيدي المُرتعشة) هي ما تستحق حقًّا أن يُطلق عليها صفة «تامة». لكنَّ بقية العالم تقرُّ فقط أنَّ مثل هذه التوازنات هي توازنات مشوَّشة تامة.

(٦-٣) أخطاء المنطق غير المدروسة

يمكن إرجاع السبب في عدم إجازة خبراء نظرية الألعاب الآخرين لتعريف زلتن الجديد إلى شكوكٍ حولَ عموميةِ روايته عن التشوُّش والارتباك. وإذا أردنا أن نأتيَ بتحليلٍ عقلانيٍّ للُعبةٍ ما يكون ذا صلةٍ بسلوك الناس في الحياة الواقعية عندما يحاولون التكيُّف بذكاءٍ مع المشكلات المعقَّدة، فعلينا أن نتصدَّى لحقيقة أن أخطاءهم ربما تكون على الأرجح «أخطاءً عقلانية» أكثر منها «أخطاءً مطبعية».

على سبيل المثال، ليس من المقبول تفسير السبب في أنْ يبدأ صاحبُ سلسلة متاجر حربَ أسعار في ٥٠ متجرًا بالتتابع بالقول إنه كان يقصد إبلاغ مديريه أن يُذعِنوا عند دخول منافسٍ ما، بيدَ أنه كان دائمًا ما يرسل الرسالة الخطأ دون قصدٍ؛ فالتفسير الوحيد المقبول هو أنه يطبِّق سياسة مقاومة الدُّخلاء؛ ولذلك من المحتمَل أن يقاوم في المدينة رقم ٥١ سواءٌ كان ذلك ضربًا من الحُمق أو غيره.

عندما تُتخذ الخطوات الاحتمالية التي تسمح بوقوع أخطاء في التفكير من هذا النوع، لا تحتاج توازنات ناش للُعبةٍ ذات أخطاء أن تلتقيَ عند نقطةٍ واحدةٍ مع توازن اللعبة الفرعية التامة للُعبةٍ بدون أخطاء؛ لذا، لا يمكن دائمًا استبعاد توازن ناش للعبةٍ دون أخطاء باعتباره غيرَ ذي صلةٍ بالتحليل العقلاني. لكننا لا نريد أيضًا رفض الاستنتاج العكسي؛ فكلُّ توازنات ناش الخاصة بلعبةٍ ذات أخطاء تتحوَّل تلقائيًّا إلى توازنات لعبةٍ فرعية تامة؛ لأن الأخطاء تضمن الوصول إلى كل لعبةٍ فرعيةٍ باستخدام احتمال موجب؛ لذلك، فالاستنتاج العكسي أداةٌ مفيدة عند تعيين موضع هذه التوازنات.

(٦-٤) ما المغزى؟

الدرس الذي أستنتجُه من الجدل القائم حول هذا التنقيح أن خبراء نظرية الألعاب ضلُّوا طريقهم بأن نَسُوا أنَّ موضوعهم لا يستند إلى مضمونٍ قوي؛ فإذا كنا لا نملك أن نُمليَ على الناس ما يحبونه، فإننا لا نملك أيضًا أن نُمليَ عليهم ما يعتقدونه. وكل ما علينا هو أن نُرشدهم إلى أي احتمالاتٍ من شأنها أن تؤديَ إلى عدم تَوافقٍ في معتقداتهم. وإذا كنا لا نستطيع أن نحلِّل لعبةً ما استنادًا إلى مبادئ التوافق هذه وحدها، فلا بدَّ أن نضيف إلى اللعبة مزيدًا من المعلومات عن اللاعبين وبيئتهم حتى نتمكَّن من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤