الفصل الرابع

الأعراف والقواعد المُتفق عليها

ليس ثَمَّةَ مسألةٌ يمكن النظر في ضوئها إلى توازنات ناش باعتبارها حلًّا منطقيًّا للُعبة مجموعٍ صفريٍّ ثنائية؛ لأن أيَّ زوجٍ من استراتيجيات أقصى الأدنى يكون دائمًا عبارةً عن توازن ناش يحصل فيه اللاعبون على عوائدهم حسب معيار أقصى الأدنى. لكن الأمور يمكن أن تختلف تمامًا في الألعاب خلاف ألعاب المجموع الصفري.

على سبيل المثال، في لعبة الصراع بين الجنسين، عائد أقصى الأدنى لكلا اللاعبَيْن هو الثُّلثان. وهذا هو العائد نفسه الذي يحصلان عليه في التوازن المختلط للُّعبة، لكن استراتيجيات أقصى الأدنى لكلٍّ منهما ليست استراتيجياتِ توازُن. بالإضافة إلى ذلك، عوائد أليس وبوب في حالتَي التوازنات الخالصة للُّعبة تكون أكبر بكثيرٍ من عوائدهما المستندة إلى معيار أقصى الأدنى. إذن، ما الذي ينبغي عليهما فعله؟

يتَّضح في لعبة القيادة أنه لا فائدة مطلقًا من البحث عن إجابةٍ عقلانيةٍ على نحوٍ صارم. فأي حُجة من المحتمَل أن تكون في مصلحة مَنْ يقود على الجانب الأيسر؛ ستكون ملائمةً بالقدر نفسه لمَنْ يقود على الجانب الأيمن. يقول الناس أحيانًا إنَّ الحل العقلاني يجب أن يكون هو التوازنَ المختلطَ الذي يقرِّر فيه كلُّ شخص بطريقةٍ عشوائيةٍ إنْ كان سيقود على الجانب الأيسر أو الأيمن، لكن هذا العرض قلَّما يحظى بكثيرٍ من الدعم.

لحل لعبة القيادة، نحتاج إلى قاعدةٍ عامةٍ مُتفَق عليها، أو «عُرْفٍ» عام، حول ما إذا كان علينا الْتزام الجانب الأيسر أم الأيمن عند القيادة. وفي الواقع، فإن هذا العُرف قد يكون اعتباطيًّا تمامًا، وهو ما يتَّضح في حقيقة أن بعض الدول تطبق قاعدة القيادة على الجانب الأيسر، وبعضها الآخر يطبق قاعدة القيادة على الجانب الأيمن.

(١) النقاط البؤرية

تختار المجتمعاتُ أحيانًا الأعرافَ والقواعدَ المُتفق عليها بتأنٍّ وعن سابق دراسة وفهم، مثلما حدث مع السويد عندما غيَّرت أسلوب القيادة من الجانب الأيسر إلى الأيمن في الساعات الأولى من يوم ١ سبتمبر ١٩٦٧. لكن، يمكن أن نفكِّر في مسألة السويد في هذا الصدد باعتبارها نسخةً متعددةَ اللاعبين من لعبة الصراع بين الجنسين، يفضِّل فيها بعض اللاعبين التوازن التقليدي، في حين يفضِّل البعض الآخر التوازن المستخدَم من قِبل بقية دول أوروبا. لا يمكن للعقلانية وحدها أن تحل مثل هذه الاختلافات المتعلقة بكيفية حل مسائل اختيار التوازن، ولكنَّ العُرف في السويد هو اتِّباع توجيهات الحكومة المُنتخَبة ديمقراطيًّا. وعلى الجانب الآخر، من الضروري ملاحظة الفوضى في إشارات المرور في مدينة نابولي لإدراك أن توجيهات الحكومة المُنتخَبة ديمقراطيًّا ليست كافية لضمان احترام العُرف والقواعد العامة للبلاد.

(١-١) توم شيلينج

ماذا يحدث عندما لا يوجد عُرف واضح؟ أجرى توماس شيلينج عدة تجارِب في خمسينيات القرن العشرين يتَّضح منها أننا لسنا عاجزين كما قد يتصوَّر المرء للوهلة الأولى؛ فيقول إنَّ الأعراف التي يبتكرها الناس عندما يطرحون أسئلةً كالتي سَيَلِي ذكرُها هي نقاط بؤرية؛ أيْ إنها محاورُ رئيسية في الحديث. ويُفاجأ معظم الناس لنجاحهم في تحديد النقاط البؤرية، وكذلك للطبيعة الاعتباطية للإشارات السياقية ‬التي يجدون أنفسهم منجذبين إليها. وأحد الدروس المهمة أنَّ السياق الذي تظهر فيه الألعاب — أيِ الطريقة التي «تُصاغ» بها لعبةٌ ما — يمكن أن يُحدِث فرقًا كبيرًا في كيفية لعب الناس لها في الحياة الواقعية.‬
  • (١)

    يوجد لاعبان، والمطلوب أن يقول كلٌّ منهما على حدةٍ «صورة» أو «كتابة». ويُشترط لفوزهما أن يقولا الكلمة نفسها، وهي الحالة التي يفوز فيها كلٌّ منهما بمبلغ ١٠٠ دولار. فماذا ستقول لو كنت أحد هذين اللاعبَيْن؟

  • (٢)

    ستُقابل شخصًا في نيويورك، لكن لم تُتخَذ أيُّ ترتيباتٍ بشأن مكان اللقاء أو موعده. أين ستذهب؟ ومتى؟

  • (٣)

    على أليس وبوب وكارول أن يكتب كلٌّ منهم على حدةٍ الأحرف «أ» و«ب» و«ك» بترتيبٍ ما. وحصولهم على أي عائدٍ مشروطٌ باختيار نفس الترتيب. وفي حال اتفاقهم جميعًا في نفس الترتيب، يحصل اللاعب الذي يأتي الحرف الأول من اسمه في الترتيب الأول على ٣٠٠ دولار، واللاعب الذي يأتي الحرف الأول من اسمه في الترتيب الثاني على ٢٠٠ دولار، واللاعب الذي يأتي الحرف الأول من اسمه في الترتيب الثالث على ١٠٠ دولار. ماذا تفعل لو كنت كارول؟

  • (٤)

    أُعطيَتْ بطاقةٌ لكلٍّ من أليس وبوب؛ إحدى البطاقتين فارغة والأخرى عليها علامة (×). وأمام كل لاعبٍ خياران: إمَّا أن يضع علامة (×) على البطاقة الأولى وإما أن يمسح علامة (×) من البطاقة الثانية. ولا يفوز أيٌّ منهما إلا في حالة وجود علامة (×) واحدة فقط على البطاقتين عند تسليمهما. وفي هذه الحالة، يفوز اللاعب الذي يسلِّم البطاقة التي تحمل علامة (×) بمبلغ ٢٠٠ دولار، في حين يفوز اللاعب الذي يسلِّم البطاقة فارغةً بمبلغ ١٠٠ دولار. ماذا تفعل لو أُعطيتَ البطاقة الفارغة؟

  • (٥)

    يتبرَّع فاعل خيرٍ بمبلغ ١٠٠ دولار لأليس وبوب شريطة أن يتفقا على طريقة تقسيم المبلغ. والمطلوب هو أن يحدِّد كلُّ لاعبٍ نسبته على حدة. فإذا كان مجموع نصيبهما أكبر من ١٠٠ دولار، لا يحصل أيٌّ منهما على شيء. وفيما عدا ذلك، يحصل كلٌّ منهما على المبلغ الذي طلبه. فما المبلغ الذي كنت ستطلبه؟

  • (٦)

    ضاع من أليس مبلغ ١٠٠ دولار وعَثر عليه بوب. يتَّصف بوب بالأمانة الشديدة، حتى إنه يأبى التصرُّف في المبلغ، لكنه لا يرغب في إعادته إلا بعد الحصول على مكافأةٍ مناسِبة. ما المكافأة التي تعرضها على بوب لو كنتَ مكان أليس؟ ما المكافأة التي ستعرضها إذا علمتَ أن بوب رفض مِن قَبل مبلغ ٢٠ دولارًا؟ وما المكافأة التي ستعرضها إذا علمتَ أن أليس وبوب قد شاهدا برنامجًا تليفزيونيًّا الليلة الماضية وأعلن فيه شخصٌ مختصٌّ أن القسمة العادلة في هذه الظروف أن يحصل بوب على مكافأةٍ قيمتُها ثُلث المبلغ الكلي؟

يقول معظم الناس في السؤال الأول «صورة»؛ لأنَّ العُرف هو أن تقول «صورة» قبل «كتابة» عندما يُذكَر الاثنان. وتعتمد مدى صحة الإجابة التي يُقدِّمها الناس في السؤال الثاني على مدى معرفتهم بمدينة نيويورك. ولقد طرح شيلينج هذا السؤال على سكان نيو إنجلاند، ففضَّلوا بشدةٍ محطة جراند سنترال في وقت الظهيرة. وفي السؤال الثالث، تعلم كارول أن الترتيب الأبجدي بؤري؛ لذلك عليها أن تقول «أ، ب، ك»، على الرغم من أنها ستحصل في هذه الحالة على أقل عائد بين اللاعبين الثلاثة. وفي السؤال الرابع، «الوضع الحالي» بؤري؛ لذلك يختار معظم الناس عدم اتخاذ أي إجراء. وفي السؤال الخامس، يلجأ الناس عمومًا إلى اقتسام المبلغ بينهم بالتساوي. أما السؤال السادس، فهو الأكثر صعوبة؛ فالناس لا ينجحون عادةً في التنسيق بفاعليةٍ إلا بعد الاستماع لرأي خبير، وغالبًا ما يأخذون بنصيحته في هذه الحالة.

(٢) إلى أي مدًى يتعلق الأمر بالأعراف السائدة؟

تنطوي الحياة اليومية إلى حدٍّ بعيدٍ على لعب مجموعةٍ كبيرةٍ من ألعاب التنسيق مع مَن حولنا. وعندما يتعلَّم الصغار كيف يلعبون ألعاب التنسيق هذه بمحاكاة اللاعبين الناجحين في بيئتهم المحيطة، فإنهم لا يلاحظون عادةً أنهم بصدد لَعِبِ لعبةٍ على الإطلاق؛ فهُم يتعلَّمون العُرف السائد في مجتمعهم دون أن يعبَئُوا بأن هذا العُرف لن يستمر طويلًا إلا إذا اتَّسق مع السلوك ووصلا معًا إلى حالة توازن. وبما أن العُرف قد تطوَّر منذ زمنٍ بعيدٍ حتى إن أصوله قد طَوَتها السنون، فمن الممكن أيضًا أن يصير العُرف هو أن ننكر كون العُرف عُرفًا؛ ومن ثَمَّ، يستحيل أن ندرك أن المجتمعات الأخرى ربما تكون بصدد لَعِبِ اللعبة نفسها التي نلعبها، لكنَّ تاريخهم الاجتماعي المختلف قد أدَّى إلى توازنٍ مختلفٍ للُّعبة؛ مما جعلها بؤرية.

كان ديفيد هيوم أول فيلسوف يعلن صراحةً أن الكثير من قواعد السلوك الاجتماعي لدينا لا يستند إلى أكثر مِن مجرد العُرف الذي نستخدمه في تحديد أحد التوازنات في لعبة القيادة؛ ففي كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية» الصادر عام ١٧٣٩، قال عبارته المشهورة:

إنَّ رجلين يجذِّفان، يؤديان هذا الفعل بالاتفاق أو بالعُرف، على الرغم من أن أحدهما لم يَعِدِ الآخر بذلك. وليست القاعدة الخاصة باستقرار الملكيات أقلَّ اشتقاقًا من الأعراف الإنسانية، التي تنشأ تدريجيًّا، وتكتسب قوةً من خلال حالةٍ من التطوُّر البطيء … وبالمثل، تترسَّخ اللغات تدريجيًّا من خلال الأعراف الإنسانية من دون أي وعود. وبالمثل، يصبح الذهب والفضة هما مقاييس التبادل العامة، ويُقدَّران بأكثر من قيمتهما الحقيقية مائة مرة.

fig16
شكل ٤-١: ديفيد هيوم.

لا يجد معظم الناس صعوبةً في تقبُّل الطبيعة المتعارَف عليها للُّغة أو المال، لكن يرفضون تجاوُز النقطة التي يقترح فيها فلاسفةٌ مثل هيوم أنَّ الأمر نفسه ينطبق على موضوعاتٍ حسَّاسة مثل الأخلاق أو الدين. وأحيانًا ما يكون اعتراضهم على مذهب الأخلاق النسبية أو علم الأحياء التطوُّري قويًّا للغاية، لدرجة أنهم يشعرون أنه يتعيَّن عليهم رفض نظرية الألعاب كذلك. لكن، أيًّا كان رأيك في أفكار هيوم، فإن نظرية الألعاب تستحق أن تتبنَّاها وتؤمن بها في هذا الصدد.

لا يمكن أبدًا لنظرية الألعاب أن تمثل تهديدًا لأي نظامٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ متسق؛ لأنها تنطوي على مضمونٍ جوهريٍّ أكثر من الحساب والمنطق. وكلُّ ما تذهب إليه هو أن بعض الافتراضات لا تكون متسقةً منطقيًّا مع عددٍ من الافتراضات الأخرى؛ ومن ثَمَّ، يمكن استخدامها — مثل الحساب والمنطق — لدعم أي جانبٍ من جانبَي أي حُجة.

إنَّ الكثير من خبراء نظرية الألعاب على درجةٍ كبيرةٍ من التديُّن، ونخصُّ بالذكر هنا بوب أومان الذي تقاسم جائزة نوبل مع توم شيلينج عام ٢٠٠٦. ولقد ألَّف ستيف برامز أيضًا كتابًا عن استخدام نظرية الألعاب لإثبات نقاطٍ دينية. ويقبل كتابي «العدالة الطبيعية» بفكرة أن بعض مبادئ العدالة عامةٌ في الجنس البشري، على الرغم من أنني كثير الشك في هذا الأمر. باختصار، لا يَخشى من استخدام نظرية الألعاب سوى الأشخاص الذين لديهم معتقداتٌ تفتقر إلى الاتساق المنطقي.

(٣) الأعراف السيئة

إنَّ التوازن المختلط في لعبة القيادة ليس فعَّالًا على الإطلاق؛ لأن اللاعبين الذين يستخدمونه ستنتهي بهم الحال إلى حالةِ توقُّفٍ تامٍّ لنِصف الوقت. لكنه توازنٌ على الرغم من ذلك؛ ومن ثَمَّ فإنه يتاح كأحد الأعراف الممكنة. وقد اعتدتُ أن أقول إنه عُرْف لم ينشأْ فعليًّا في أي مكانٍ في العالم، حتى صحَّحه بعض الأتراك، الذين لاحظوا أنني لم أَزُرْ تركيا قَط. لكنني زُرتها الآن، وأفهم جيدًا ما يعنون.

إنَّ لعبة سوليتير لشيلينج نموذج محاكاةٍ جيد، وهدفها هو توضيح إلى أي مدًى يمكن للتطوُّر الثقافي أن يؤديَ بسهولةٍ إلى مثل هذه الأعراف غير المرغوب فيها اجتماعيًّا من دون الحاجة إلى عبقريٍّ شريرٍ يحيك الدسائس لإسقاط المجتمع. تُلعب اللعبة على طاولة شطرنج مع فيشات بيضاء وسوداء. كل فيشةٍ تمثل ربَّ بيتٍ، والمربع الذي فيه الفيشة يمثل البيت، والمربعات المحيطة (وهي ثمانية) تمثل جيران صاحب البيت؛ لذا، تمثِّل الفيشة في أيٍّ من هذه المربعات جارًا.

تتأثر كل فيشةٍ بألوان الفيشات المجاورة؛ فيأمل اللاعب صاحب الفيشة البيضاء أن يكون نصف الفيشات المجاورة له أو أكثر بيضاء، ويأمل اللاعب صاحب الفيشة السوداء أن يكون ثُلث الفيشات المجاورة له أو أكثر سوداء. ويتمثل دورك في إدارة هذه العملية التطوُّرية وتنظيمها عن طريق تحريك الفيشات غير المتوافقة إلى مربعات تكون فيها متوافقةً حتى لا توجد أي مربعات فارغة يمكن الانتقال إليها. وينصح شيلينج بالبدء بوضع فيشاتٍ سوداء في كل المربعات السوداء على طاولة الشطرنج، وفيشاتٍ بيضاء في كل المربعات البيضاء. ويكون عليك بعد ذلك إزالة بعض هذه الفيشات عشوائيًّا ثم بدء العملية. في شكل ٤-٢، أُزيلت ١٢ فيشة من الطاولة.
fig17
شكل ٤-٢: لعبة سوليتير لشيلينج.
إنَّ الهيئتين الموضحتين في شكل ٤-٢ هما نتاج اللعبة في حالة التوازن، وهما مختلفتان نظرًا لوجود بعض العشوائية في الهيئة المبدئية وفي اختيارك للفيشات غير المتوافقة التي ستبدأ بتحريكها أولًا. لكنَّ التوازن الذي ينشأ غالبًا ما يجعل الفيشات السوداء تشغل أماكن متباعدة وغير متجاورة؛ ومن ثَمَّ، يُفضَّل لعب لعبة سوليتير لشيلينج بضع مراتٍ حتى تعرف مدى صعوبة عملية الفَصْل. فمن المفترض أن الجميع في هذا النموذج يرحب بالعيش في أماكنَ متجاورةٍ ومختلطة، لكن الأمر ينتهي بهم إلى عُرفٍ يقضي بفصلهم.

(٤) معضلات اجتماعية

توضح لعبة سوليتير لشيلينج كيف يمكن بسهولةٍ إرساء عُرفٍ ما على الرغم من عدم استحسان الناس له. وعلى نهج عالِم الاجتماع فيلفريدو باريتو، يقول علماء الاقتصاد إن النتائج لا تكون فعَّالة عندما توجد نتائج أخرى تنال قدرًا أكبر من الاستحسان لدى الناس. ولكن إذا كنا ندرك أننا بصدد إرساء عُرفٍ غير فعَّال، أفليس من غير العقلاني عمومًا عدم الانتقال إلى عُرفٍ فعَّال؟

ربما يكون أهم دورٍ لنظرية الألعاب هو الإصرار على أن أي إصلاحٍ يتطلَّب تنسيق السلوك في شكل توازنٍ ما إذا كنا نريد له الاستمرار على المدى الطويل. وإذا لم يكن ثَمَّةَ توازنٌ مُرضٍ يمكننا التحرُّك نحوه، كما في لعبة سوليتير لشيلينج، فإن ابتكار نوعٍ جديدٍ من العقلانية يؤدِّي بشكلٍ أو بآخر إلى إخفاء أوجُه التناقض والتضارب في السلوك الفردي التي يُستدَل عليها ضمنًا من اللعب خارج حالة التوازن؛ لن يزيد الأمور إلا سوءًا وتفاقمًا. وعلى المرء أن ينظر في التاريخ الطويل للمدن الفاضلة التي باءت بالفشل كي يدرك السبب.

كارل ماركس مذنِب رئيسي في هذا الصدد. عندما تعامل ماركس مع مفهوم رأس المال والعمل على أنهما لاعبان موحَّدان ومتكاملان في لعبةٍ مهمةٍ وخطيرة، لم يدرك أنَّ ترابُط أي ائتلافٍ إنما يعتمد على مدى نجاحه في تلبية طموحات أعضائه الأفراد وتطلُّعاتهم. وينطبق الأمر نفسه عندما نتعامل مع مجتمعٍ بأكمله كما لو كان فردًا. لا يعني هذا أن نُنكر أن التضامُن الجماعي يمكن أن يتغلَّب أحيانًا وبصفةٍ مؤقتةٍ على الدوافع الفردية، حتى عندما لا يوجد أي احتمال لمعاقبة مُفسِدي الإضراب من قِبل زملائهم الذين يُبلغون عنهم. ولا يعني أيضًا أن ننكر أننا سنكون أفضل حالًا — كما يُزعَم — إذا طبقنا مفهوم الصالح العام في كثيرٍ من الأحيان؛ فهذا السلوك بكل تأكيدٍ سلوكٌ غيريٌّ، أو حتى مثالي، لكننا نخدع أنفسنا إذا أصرَرْنا على أن نعتبر السلوك الأناني ضربًا من اللاعقلانية.

مثلما أوضحَ الفيلسوفُ الكثيرُ التَّشَكِّي توماس هوبز منذ زمنٍ بعيد:

يعيش النحل أو النمل في جماعاتٍ جنبًا إلى جنب …؛ ولذا، ربما يرغب البعض في معرفة السبب في أن البشر لا يستطيعون فعل الشيء نفسه. وعن هذا أُجيب بأنَّ مفهوم الصالح العام بين هذه الكائنات لا يختلف عن مفهوم الخاص.

باستخدام مصطلحات نظرية الألعاب، يقول هوبز إنَّ الألعاب التي تلعبها الحشرات الاجتماعية بعضها مع بعض تعد ألعاب تنسيقٍ خالص، لكنني أخمن أن معظم الناس قد يتفقون معي أن هذا الأمر قلَّما ينطبق على البشر.

إنَّ الأخطاء التي أشيرُ إليها هنا هي بالضبط الأخطاء التي يقع فيها المفكرون اليساريون، لكنَّ مفكري اليمين ليسوا في حاجةٍ إلى التفاخُر بأنفسهم؛ فهم عادةً ما يقعون في الخطأ المكمِّل بالتغاضي عن احتمال وجود توازناتٍ أكثر فاعليةً من التوازن الذي نحن بصدد إدارته حاليًّا.

إنَّ ما يمكن أن تسهم به نظرية الألعاب في مثل هذه المناقشات هو إطار عملٍ يمكن للمرء من خلاله أن يناقش بواقعيةٍ ما هو ممكن أو غير ممكنٍ للمجتمع. فما هي التوازنات المتاحة في اللعبة التي نلعبها؟ هل يوجد توازن نفضِّله جميعًا عن التوازن الذي نلعبه الآن؟ وإذا لم يعجبنا أيٌّ من التوازنات المتاحة، فهل يمكننا تغيير قواعد اللعبة أو تغيير تفضيلات اللاعبين بطريقةٍ ما؟

(٤-١) وماذا لو افترضنا حتى أن الناسَ كلَّهم يتصرفون على هذا النحو؟

يقول علماء النفس الاجتماعي إنَّ الموقف الذي يتعارض فيه تحقيق نتيجةٍ فعَّالةٍ مع دوافع الأفراد داخل الجماعة يشكِّل مأزقًا اجتماعيًّا. وتُعدُّ لعبة معضلة السجينين المثالَ النموذجيَّ على ذلك.

يمكنك عادةً أن تدرك أنك في مأزقٍ اجتماعيٍّ بالنظر إلى الموقف الذي تُسجِّل فيه والدتُك اعتراضَها على أي رغبةٍ متشددةٍ من جانبك بالقول: «وماذا لو افترضنا حتى أن الناس كلهم يتصرفون على هذا النحو؟» يشار أحيانًا إلى إيمانويل كانط باعتباره الفيلسوف الأعظم دائمًا، لكنه أيضًا كان يرى أنه من غير العقلاني الإتيان بفعلٍ ما إذا كان هذا الفعل سيكون سيئًا في حال قيام كل الناس به. ومثلما يقول في عبارته المشهورة: «على المرء أن يقوم فقط بالعمل الذي يرى أنه يمكن أن يكون قانونًا عالميًّا وقاعدةً تُطبق في كل زمانٍ ومكان.»

على سبيل المثال، عند الانتظار عند سير تسلُّم الحقائب في المطار، سيكون الأفضل لنا جميعًا أن نرجع إلى الوراء حتى نتمكَّن من رؤية الحقائب أثناء قدومها على السير. لكن إذا فعل الجميع ذلك، فسوف يرى كل فردٍ أنه من الأفضل له أن يتقدَّم إلى الأمام قليلًا، وينتهي الأمر إلى أن نشبَّ جميعًا على أقدامنا لنرى أمامنا جدارًا من الأشخاص الذين يقفون وظُهورهم تِجاهنا.

بالمثل، سنستفيد جميعًا إذا أطفأنا أجهزة التكييف عند وجود احتمالٍ لحدوث انخفاضٍ في التيار الكهربائي، أو إذا لم نستخدم رشاشات العُشب أثناء الجفاف. وينطبق الأمر نفسه عندما يقف الجمهور أثناء مشاهدة مباراةٍ لكرة القدم، أو عندما يباشر الناسُ أعمالهم ببطءٍ بعد بلوغ هدفٍ طويل المدى.

عندما تلعب أعدادٌ كبيرة من الناس غير المعروفين هذه المعضلات الاجتماعية، فإن كانط ووالدتك محقَّان إذن في التنبُّؤ بأن الأمور ستسوء إذا استجاب الجميع لدوافعهم الفردية. لكنَّ حثَّ الناس على التصرُّف بأسلوبٍ أفضل في مثل هذه المواقف نادرًا ما يكون فعَّالًا. لماذا عليك أن تخسر بالاكتراث لكلام والدتك، في حين يتجاهل الجميع نصائح أمهاتهم ولا يكترثون بها؟

(٤-٢) مأساة المشاع

إنَّ المعضلات الاجتماعية اليومية التي أوردناها أعلاه مثيرةٌ للغضب، لكن بعض المعضلات الاجتماعية تكون مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة إلى مَنْ يلعبونها. وثَمَّةَ مثال في هذا الصدد يُطلِق عليه خبراء العلوم السياسية «مأساة المشاع».

ثَمَّةَ مائة عائلةٍ تقريبًا ترعى أغنامًا تعيش على أكل العُشب في أرضٍ مشتركة. ويلزم ألف رأس من الأغنام إجمالًا لزيادة الإنتاج الإجمالي من اللبن. كم رأسًا من الأغنام ينبغي أن يكون لدى كل عائلةٍ لزيادة إنتاجها من اللبن؟

يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة هي عشرة، لكنه ليس توازنًا أن ترعى كل عائلة عشرة رءوس من الأغنام؛ فلو أن كل العائلات الأخرى لديها عشرة رءوس من الأغنام، فستكون الاستراتيجية المثلى لعائلتك هي عدمَ رعْي أي أغنام على الإطلاق. لكن، الأفضل لك أن تضيف رأسًا آخر إلى قطيعك؛ لأن عائلتك ستستفيد من هذا الرأس الزائد، في حين سيتقاسم المجتمع بأكمله تكلفته من حيث كمية العُشب الأقل التي ستتغذى عليها الأغنام الأخرى؛ لذلك، ستَستمر العائلات في إضافة أغنامٍ إلى قطيعها حتى تتحوَّل الأرض المشتركة إلى صحراء. لكن هذه نتيجة غير فعَّالةٍ تمامًا في حقيقة الأمر.

تُمثِّل مأساة المشاع مجموعةً كاملةً من الكوارث البيئية التي جلبناها على أنفسنا؛ فالصحراء الكبرى تمتد بضراوةٍ نحو الجنوب، ويرجع السبب جزئيًّا إلى السكان الرعويين الذين يعيشون على حدودها ويصرُّون على تجريف الأراضي العُشبية الموجودة على حوافِّها. كما أننا نطلق ثانيَ أكسيد الكربون في الغلاف الجوي كما لو أنه لا يوجد غدٌ قادم، ونسمِّم أنهارنا، ونتسبَّب في حدوث تكدُّسٍ مروريٍّ بسياراتنا، ونزيل الغابات المطيرة، ونستنزف الثروة السمكية؛ حتى إن مخزون بعض الأسماك قد وصل إلى مستوًى خطيرٍ لا يمكن التعافي منه مرةً أخرى.

تعرَّض خبراء نظرية الألعاب لانتقادٍ غير مبرَّرٍ لرفضهم فكرة أن السلوك الفردي الذي يؤدِّي إلى مثل هذه الكوارث هو سلوك غير عقلاني. وتساءل النقَّاد كيف يكون من العقلاني أن يخطِّط مجتمع لتدمير نفسه. أليس بوسعنا أن نفهم أن الأفضل حالًا للجميع أن نُرشِّد استهلاكنا للموارد المشتركة؟ والخطأ في هذا التفكير بسيط وجوهري؛ فاللاعب في لعبة الحياة البشرية ليس كيانًا مجردًا يُطلَق عليه «الجميع»؛ فكلنا أفرادٌ مستقلُّون، ولكلٍّ منا أهدافه وأغراضه. وحتى عندما تدفعنا طاقة الحب التي داخلنا إلى تقديم تضحياتٍ للآخرين، فإن كلًّا منَّا يفعل ذلك بأسلوبه الخاص ولأسبابه الخاصة. وإذا تظاهرْنا بعكس ذلك، فلن يكون لدينا أيُّ أملٍ في فهم مأساة المشاع.

(٥) لعبة اصطياد الظبي

أيَّد جان جاك روسو، مُلهِم الثورة الفرنسية، الفكرةَ القائلة بأن الألعاب السياسية نادرًا ما تكون ألعابَ تنسيقٍ خالصة. والحل الذي اقترحه أن تُحوَّل هذه الألعاب إلى ألعاب تنسيقٍ خالصةٍ بتغيير تفضيلاتنا: «لو تحقَّقتْ لديك الإرادة العامة، فاعمل على التوفيق بينها وبين جميع الإرادات الفردية.»

يتغاضى خبراء نظرية الألعاب عن عدم قابلية هذا البرنامج الراديكالي للتطبيق، ويركِّزون على حكايته الرمزية المتمثِّلة في مطاردة ظبيٍ واصطياده. اتفقت أليس وبوب على التعاون في اصطياد ظبي، لكنهما عندما ينفصلان لتنفيذ خطتهما، ربما يتعرَّض كلٌّ منهما لإغراءاتٍ تدفعه إلى التخلي عن الخطة المشتركة واصطياد أرنبٍ وحشيٍّ بدلًا من ذلك.

يلزم إجراء تغييراتٍ طفيفةٍ على عوائد نسخة الأخذ والعطاء في لعبة معضلة السجينين في شكل ١-٧ للحصول على لعبة اصطياد الظبي في شكل ٤-٣، لكن هذه التغييرات كافية لتحويل اللعبة إلى حالةٍ من توازن ناش يقرِّر فيها كلا اللاعبَيْن الأخذ بخيار «حمامة» أثناء اللعب.

تبدو لعبة اصطياد الظبي من ثَمَّ كما لو كانت لعبةً لا تؤدِّي إلى حدوث مأزقٍ اجتماعي. وإذا وجدنا أننا بصدد تطبيق توازن ناش غير الفعَّال الذي فيه يلعب كلٌّ من أليس وبوب «صقر»، فإننا نستطيع أن نتحول إلى توازن ناش الفعَّال الذي فيه يلعب كلا اللاعبَيْن «حمامة». ومع ذلك، فقد اخْتِيرت العوائد في لعبة اصطياد الظبي بتأنٍّ؛ مما يجعل مثل هذا التحوُّل صعبًا.

يكون حوض التجاذب كبيرًا في حالة التوازن غير الفعَّال، وصغيرًا في حالة التوازن الفعَّال؛ لذا، من الصعب أن يُخرجنا التطوُّر من حوض التجاذب الخاص بالتوازن غير الفعَّال ويدخلنا في حوض التجاذب الخاص بالتوازن الفعَّال. صحيحٌ أننا لسنا حيواناتٍ تنتظر القوى البطيئة للتطوُّر لإرساء عُرفٍ جديد، ويمكننا التحدُّث بعضنا مع بعضٍ والاتفاق على تغيير طريقة إدارتنا للأمور. لكن، هل في وسعنا الوثوق في أن يلتزم كلٌّ منا بالاتفاق الذي ربما نُبرمه؟

fig18
شكل ٤-٣: لعبة اصطياد الظبي. يتضح من الرسم التخطيطي على الجانب الأيسر أن حوض التجاذب لتوازن ناش المتمثِّل في الزوج («حمامة»، «حمامة») أصغر كثيرًا عن حوض التجاذب بالنسبة إلى توازن ناش المتمثِّل في الزوج («صقر»، «صقر»). أما حوض التجاذب الخاص بتوازن ناش المختلط الذي يتقرَّر فيه الأخذ بخيار «حمامة» لثُلثي الوقت، فيمثله الخط المتقطع.

يستخدم الخبراء في مجال العلاقات الدولية أشكالًا مختلفة من لعبة اصطياد الظبي تحت اسم «مأزق الأمن» أو «لعبة الثقة»؛ لجذب الانتباه إلى المشكلات التي يمكن أن تنشأ حتى عندما يكون اللاعبون عقلانيين.

افترض أن العُرف الحالي هو لعب «صقر»، لكنَّ أليس تسعى إلى إقناع بوب بأنها تعتزم لعب «حمامة» في المستقبل؛ ومن ثَمَّ عليه أن يحذوَ حذوها. هل سيقتنع بوب؟ يعتقد خبراء نظرية الألعاب أنه لن يقتنع. والسبب أن أيًّا كان ما تعتزمه أليس، فمن مصلحتها أن تقنع بوب أن يلعب «حمامة». وإذا نجحت في إقناعه، فسوف تحصل على ٥ بدلًا من صفر في حال كانت تعتزم أن تلعب «حمامة»، و٤ بدلًا من ٢ في حال كانت تعتزم أن تلعب «صقر». ولا يستطيع بوب بالعقلانية وحدها أن يستنتج أي شيءٍ عن الخطة التي تعتزم أليس تنفيذَها؛ لأنها ستقنعه بالشيء نفسه أيًّا كانت خطتها الحقيقية. وربما تعتقد أليس في حقيقة الأمر أن مِن المستبعد أن يقتنع بوب بالتحويل من «صقر»؛ ومن ثَمَّ تُخطِّط هي للعب «صقر»، ومع ذلك فلا تزال تقنعه بلعب «حمامة».

(٥-١) هل هي أزمة الثقة؟

توضح هذه الرواية الميكيافيللية أن نَسَبَ العقلانية إلى اللاعبين ليس كافيًا لحل مسألة اختيار التوازن، حتى في حالةٍ تتمتع فيما يبدو بالشفافية مثل لعبة اصطياد الظبي. وردُّ الفعل التقليدي هو أن نسأل عن سبب إصرار خبراء نظرية الألعاب على أنه من غير العقلاني أن يثق الناس بعضهم في بعض. أَلَيس من الأفضل لكلٍّ مِن أليس وبوب أن لو كان كلٌّ منهما يثق في أمانة الآخر؟

لا أحدَ ينكر أن أليس وبوب سيكونان أفضل حالًا إذا وثق كلٌّ منهما في الآخر. ولا يقول خبراء نظرية الألعاب إن الثقة ضربٌ من اللاعقلانية؛ فهم يقولون فقط إنه من غير العقلاني أن تثق في الناس من دون سببٍ وجيه؛ فالثقة لا تُبنى على الثقة. على سبيل المثال، لن تجد أحدًا من سكان نابولي يثق في أن رفقاءه ممن يقودون سياراتهم في نابولي سيشرعون في احترام إشارات المرور لمجرد أن شخصًا صاحب سلطةٍ أخبرهم أنه يتعيَّن عليهم ذلك.

إذن، كيف يمكننا الانتقال من توازنٍ لآخر؟ تُقدِّم واقعة انهيار الإمبراطورية السوفييتية دراسة حالةٍ رائعةً في هذا الصدد. نجحت بعض دول شرق أوروبا في أن تحذوَ حذوَ النموذج السويدي في لعبة القيادة من خلال تحوُّلها بطريقةٍ أو بأخرى من الاقتصاد الموجَّه إلى اقتصاد السوق بين ليلةٍ وضحاها؛ ومن ثَمَّ، قلَّلت من فرصة خروج الأمور عن نطاق السيطرة — كما في روسيا أثناء حكم جورباتشوف — حيث كان النظام خارج التوازن أثناء فترة تنظيم الحكومة.

لكن، سيكون من الخطأ أن نستنتج من لعبة اصطياد الظبي أن الانتقالاتِ الفرعيةَ بين الأعراف غير ممكنةٍ على الإطلاق، بقدر ما هو خطأٌ أن نستنتج من لعبة معضلة السجينين أن الأمر نفسه ينطبق على التعاون العقلاني. فلا تصلح أي لعبةٍ من اللعبتين أن تكون مثالًا لآلية عمل مجتمعاتٍ بأسرها؛ فهي مجرد ألعابٍ فقط، ابتُكِرتْ لتحقيق غاية معينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤