الفصل الأول

كيف صار دستور إنكلترة من عناصر الحرية في الوقت الحاضر

دستور إنكلترة الذي لم تقدِّره فرنسا حق قدره في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، شهرته وأهميته في القرن الثامن عشر – مونتسكيو – دولولم – بلاكستون – الثورة الفرنسوية والإمبراطورية الأولى – المبدأ الإنكليزي أيام إعادة الملكية وثورة سنة ١٨٤٨ والإمبراطورية الثانية – نهضة المذهب الإنكليزي – أهم المؤلفات في الدستور الإنكليزي.

داوم الدستور الإنكليزي — ووجهته الحرية — على نشوئه قرونًا كثيرة من غير أن يستوقف نظر بقية أوربة، ولا يعني ذلك أنه ظل مجهولًا خارج إنكلترة، بل كان له نظريون يشرحون قواعده ويبينون فوائده باللاتينية التي كانت لغة العلم في عصرهم؛ ومن هؤلاء: فورتسكو1 في القرن الخامس عشر وتوماس سميث2 في القرن السادس عشر، وقد قُرِئت مؤلفاتهما ومؤلفات علماء آخرين في فرنسا، وكان كُتَّاب فرنسا من كاثوليك وبروتستان يجيدون معرفة حقوق إنكلترة السياسية عندما سعوا في النصف الثاني من القرن السادس عشر في إقامة مبادئ الحرية السياسية في فرنسا، فكانوا يستشهدون بها ويودُّون أن تصبح حقوق الأمم النصرانية العامة، غير أن بودان3 انتقص الدستور الإنكليزي — الذي كان يعرفه أحسن من كل رجل — في كتابه العجيب الذي وضع فيه نظرية السيادة التامة المُطلَقة، وبيَّن أنها مثل علم السياسة الأسمى، وذكر أنَّ الدول والحكومات المركَّبة جميعها كناية عن أشكال فضولية منافية للمبادئ، وقد ساد هذا المذهب الذي كان يلائم روح الجمهور أكثر من قرن، وبعد بودان ظهر تلميذه لوازو4 فاهتمَّ بالنظم الإنكليزية واستشهد بتوماس سميث، ولكنه أيَّد في الوقت نفسه مذهب أستاذه فعدَّ الملكية المُطلقة متمِّمة لعلم السياسة.
ومما لا ريب فيه أن الحرية الإنكليزية كانت — أيام أظهر بودان مذهبه — سائرة إلى الفناء في نظام ملكي مطلق، وما كانت اليقظة الشديدة التي أظهرتها في القرن السابع عشر وأوجبت حدوث ثورتين لتبدوَ لعيون مُعاصري لويس الرابع عشر سوى ضلال مبين، ولكن الأمر تبدَّل في القرن الثامن عشر؛ فالروح الفلسفية — وقد عُنيت إذ ذاك بسعادة البشر وعلم السياسة — لم تناجِ نور العقل وأوليات العدل فقط، بل أخذت تبحث في الدول القديمة والحديثة وحكوماتها التي ظهرت في الغرب والشرق، وعلى ما أدى إليه هذا البحث من وقوف ناقص على المعارف التاريخية — وذلك لمقارنته نظمًا متفاوتةً نشأت في بيئات مختلفة — ظهر الرجل العبقري مونتسكيو الذي هو بحقٍّ واضع تاريخ الحقوق وعلم الاجتماع؛ فاستخرج — بثاقب نظره — فكرة لم تلبث أن رضي الكل بها؛ وهي أن الدستور الإنكليزي أفضل دعامة للسياسة، وأن الحكمة تقضي على أمم الغرب بأن تقلِّده بقدر ما تسمح به أخلاقها القومية، وقد بدا لآخرين يرون النظم الإنكليزية ناقصةً أن يحكِّموا العقل وأن يبحثوا عن نماذج في مواضع أخرى، ولا سيما في جمهوريات روما واليونان القديمة، ومن هؤلاء: جان جاك روسُّو الذي كان يعرف النظُم الإنكليزية معرفة جيدة — ومنهم مابلي —5 إلا أن تأثير إنكلترة هو الذي ساد المذهب السياسي في نهاية الأمر.
والذين عرَّفوا الدستور الإنكليزي فرنسا وأوربة في القرن الثامن عشر ثلاثة؛ أولهم: مونتسكيو الذي اتخذ الأنظمة الإنكليزية مدارًا للبحث في كتابه الذي نشره سنة ١٧٤٨ وسمَّاه «روح القوانين»، ولقد كان للفصل الذي خصَّصه للدستور الإنكليزي تأثير كبير في حقوق الغرب الدستورية. والثاني: جنفواد ولولم6 الذي نشر سنة ١٧٧١ رسالته في الدستور الإنكليزي، وعلى ما تضمَّنته تلك الرسالة الواضحة الدقيقة من تشويه للحقوق الإنكليزية نالت حظوة عظيمة. والثالث: بلاكستون7 الإنجليزي، الذي نشر سنة ١٧٦٥ كتاب «شرح القوانين الإنكليزية»، وقد نُقِلَ كتاب هذا الفقيه — الذي هو تلميذ مونتسكيو — إلى اللغة الفرنسوية لإبرازه مبادئ بلاده الدستورية على شكل يسيغه الفرنسويون.

وقد أصاب حقوق إنكلترة الدستورية في تلك الأثناء تحريف ظاهر؛ إذ رأى الخارج فيها عناصر لم تكن فيها؛ كمبدأ توزيع السلطات توزيعًا تامًّا، ولم يَستبِنْ فيها عناصر أخرى كانت فيها؛ كمبدأ الحكومة البرلمانية. ولا شيء في ذلك يقضي بالعجب عند النظر إلى النصوص الاشتراعية والأمثال التقليدية التي كانت شائعة في إنكلترة، ولم يبدُ ذلك التحريف في المؤلَّفات الفرنسوية التي ظهرت في القرن الثامن عشر فقط، بل تسرَّبت في رسالة بلاكستون الإنكليزي أيضًا.

وقد ابتعدت الروح الفرنسوية أيام الثورة الكبرى من المبادئ الإنكليزية الدستورية بالتدريج، وأصبح ابتعادها منها جليًّا في الدور القنصلي والإمبراطورية الأولى؛ حيث أصاب الحرية في فرنسا ما أصابها.

وعندما انتبه الرأي العام في فرنسا اقتضى رجوعًا إلى الأنظمة الإنكليزية، فإلى هذه الأنظمة استند مرسوم دساتير الإمبراطورية الإضافي ودستور سنة ١٨١٤ ودستور سنة ١٨٣٠، وقد جدَّت الملكية — التي استمرت منذ سنة ١٨١٤ حتى سنة ١٨٤٨ — في تقليد الحكومة البرلمانية الإنكليزية، ويتصف هذا الدور بسير الحكومة على الطريقة الإنكليزية ما دامت حال الأحزاب تسمح بذلك، وباستمرار الإدارة على النهج الذي رسمته الإمبراطورية الأولى، وبدرس حقوق إنكلترة الدستورية ونشرها بهمة ونشاط من قِبَل كثير من العلماء كبنيامين كنستان8 وغيزو9 وروسي10 على الخصوص.
ثم حدثت ثورة سنة ١٨٤٨ في فرنسا، فكان بها لحقوق فرنسا الدستورية اتجاه جديد؛ إذ ساد المجلس التأسيسي إذ ذاك مبادئ عقليةٌ مجردة طبعت طابعها على الدستور الذي وضعه، ولما أُسْقِطَ المجلس النيابي سنة ١٨٥١ عادت الأنظمة القنصلية إلى البلاد، وهذا لم يمنع الدستور الإنكليزي من أن يكون له في فرنسا أشياع وأنصار بين أعضاء البرلمان في ملكية سنة ١٨٣٠، وأن يُبحث فيه ويُستحسَن في المجلات والكتب، ونعُدُّ دوفرجيه دوهوران11 والدوك دوبروغلي12 وبريفوست باردول13 من أولئك الأنصار؛ فبتأثير هؤلاء وبانتباه الرأي العام وبالنزوع إلى الحرية السياسية استردَّت مبادئ إنكلترة البرلمانية حظوتها السابقة في فرنسا، ودخلت في دستور ٢١ مايو سنة ١٨٧٠ الذي سَنَّته الإمبراطورية الحرة.

وقد اشتدَّ ذلك الجريان في الجمهورية الثالثة، فطبَّق المجلس الوطني — منذ سنة ١٨٧١ حتى سنة ١٨٧٥ — النظام البرلماني الإنكليزي، وهذا النظام هو الذي قام عليه دستور سنة ١٨٧٥.

وعن طريق الولايات المتحدة وفرنسا انتقلت مبادئ الحقوق الدستورية الإنكليزية إلى الأمم الغربية الأخرى؛ فقد قلدت أمم أميركا جميعها الولايات المتحدة، وبدلًا من أن تتخذ الأمم الأوربية مبادئ الإنكليز الدستورية رأسًا أقبلت عليها وهي لابسة في الغالب حُلَّة فرنسوية، وقد يكون سبب ذلك كون المبادئ الإنكليزية المذكورة الناشئة عن العادات والتقاليد لم تُسْكَب في قالب قانوني، مع أنها صيغت في فرنسا في نصوص معينة، ومهما يكن الأمر فإن هنالك حادثًا بارزًا يجدر اتخاذه بجانب الحقوق الرومانية السائدة للعالم المتمدن مثالًا على انتشار النظم بفعل التقليد.

وفي أثناء ذلك التطور كانت الحقوق الدستورية الإنكليزية تسير في طريقها الخاص، وقد ظلَّت جديرة بأن تُلقي دروسًا على العالم في كثير من الأمور، والآن يُبحث في نموها التاريخي أيضًا؛ أي كما يُسعى في استنباط المبادئ الظاهرة منها يُسعى أيضًا في الاطلاع على العوامل الخفية التي تديرها؛ وأعني بهذه العوامل تقاليد المجالس البرلمانية، وأخلاق الأمة، والعلاقات بين طبقات المجتمع المختلفة، ومقومات الحرية المحلية. ومن بين المؤلفات الكثيرة التي بحثت في ذلك كله أذكر كُتُب تود14 وباجوت15 وديسي16 وأنسن17 وليونارد كورتني18 وجنكس19 وسيدني لو20 ولول21 في إنكلترة، وغينست22 في ألمانيا، وغلاسون23 وبوتمي24 وفرنكفيل25 في فرنسا.

هوامش

(1) Fortescue.
(2) Thomas Smith.
(3) Bodin.
(4) Loyseau.
(5) Mably.
(6) Genevois de Lolme.
(7) Blackstone.
(8) Benjain Constant.
(9) Guizot.
(10) Rossi.
(11) Duvergier de Hauranne.
(12) Due de Broglie.
(13) Prevost Paradol.
(14) Todd.
(15) Bagehot.
(16) Dicey.
(17) Anson.
(18) Leonard Courtney.
(19) Jenks
(20) Sidney Low.
(21) Lowell.
(22) Gneist.
(23) Glasson.
(24) Boutmy.
(25) Franqueville.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤