الفصل السابع

الإنزيمات وميكانيك الكَم

Enzymes and Quantum Mechanics
تُوجد الموادُّ في الطبيعة بشكلِ عناصرَ بهيئتها الذَّرية أو الجُزيئية، أو بشكل مركَّباتٍ تتألَّف من عنصرَين أو أكثر بهيئة جُزيئات. وتكون الموادُّ بشكل غازاتٍ أو سوائلَ أو موادَّ صلبة. وفي الغالب تكون العناصر والمركَّبات المختلفة مختلطة؛ كما في الهواء الذي يتألَّف من غازات النتروجين والأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون وغيرها، أو في المياه حيث تُوجد إلى جانب جُزيئات الماء العديد من الأملاح، وفي التربة يُوجد الكثير من أكاسيد المعادن ومركَّبات الكاربون والكبريت وغيرها. معظم المواد الكيميائية في البيئة تكون مستقرةً وغير فعالة؛ فهي لا تتحلَّل ولا تتفاعل تلقائيًّا مع غيرها، وهذا يفسِّر شيوعها في الوقت الحاضر. إن هذا يعود إلى قوة الأواصر الكيميائية التي تربط الذَّرات في هذه المواد؛ حيث لا تكفي الاهتزازات والاضطرابات الجُزيئية لتكسير هذه الأواصر (McFadden & Al-Khalili, 2014). لكن وبسبب زيادة حركة واهتزازات وتصادُم الذَّرات والجُزيئات ووجود فروقات في الطاقة الحرة بوجود مصادرِ طاقةٍ خارجية، تمكَّن من تجاوز عتبة طاقية تحصل التفاعُلات الكيميائية. تتضمَّن التفاعُلات الكيميائية تكوينَ أو تفكيكَ أواصرَ تربط الذَّرات ضمن الجُزيئات. وبالتالي يمكن أن تكون التفاعُلات بين عناصر و/أو مركَّباتٍ بسيطةٍ لتكوين مركَّباتٍ معقَّدة، أو تفكيك مركَّباتٍ معقدةٍ إلى مكوِّناتها من العناصر أو المركَّبات البسيطة. تختلف سرعة التفاعُلات الكيميائية باختلاف المواد المتفاعلة والمواد الناتجة وتراكيزها والعوامل البيئية المؤثِّرة؛ فهناك تفاعلاتٌ تلقائيةٌ عندما تكون الطاقة الحرة للمواد المتفاعلة أعلى من الطاقة الحرة للمواد الناتجة؛ أي إن فرق الطاقة الحرة (-ΔG) للتفاعل يكون سالبًا، وتكون مبدِّدة للطاقة. بينما لا تحصل التفاعُلات الأخرى تلقائيًّا عندما يكون فرق الطاقة الحُرة للتفاعُل موجبًا (+ΔG) وتكون ماصَّةً للطاقة، ولكي تحصل يجب توافُر مصدرٍ خارجيٍّ للطاقة. كما يمكن أن يحصل تفاعلٌ كهذا من خلال ربطه مع تفاعلٍ آخر ذي ΔG سالبة، بحيث تكون محصلة فرق الطاقة للتفاعلَين سالبة. وبصورةٍ عامةٍ زيادة الطاقة الحركية للمواد المتفاعلة، تزيد من سرعة التفاعُلات الكيميائية. ولكي يحصل التفاعل الكيميائي غير التلقائي لا بد من وصول المواد المتفاعلة إلى طاقة التنشيط اللازمة لتحقيق التفاعل. كما يمكن أن تزداد سرعة التفاعلات الكيميائية بوجود محفِّزات (Catalysts) تخفض طاقة التنشيط اللازمة للتفاعُل دون أن تتغير كيميائيًّا أو تُستهلَك هي خلال التفاعُل. وهذه المحفِّزات يمكن أن تكون متجانسةً حيث يكون المحفِّز من نفس الحالة الفيزيائية للمواد المتفاعلة؛ كأن تكون كلها غازية أو كلها سائلة، أو غير متجانسة حيث يكون المحفِّز في حالةٍ فيزيائيةٍ مختلفة عن الحالة الفيزيائية للمواد المتفاعلة؛ كأن يكون المحفِّز مادة صلبة والمواد المتفاعلة غازية أو سائلة. ويمكن أن يكون المحفِّز أحيائيًّا بشكل إنزيم.
لقد تعامل الإنسان مع الإنزيمات منذ أقدم العصور؛ حيث تُشير الآثار إلى أن السومريين والبابليين كانوا يصنعون الألبان والأجبان والخمور منذ أكثر من ٤٠٠٠ سنة (Elander & Lowe, 1994)، كما أن عمل الخبز المعتمد على الخميرة، طريقةٌ قديمة جدًّا. وهذه الأنشطة التحويلية اعتمدَت على الأحياء الدقيقة؛ كالخمائر التي وُجدَت كملوثاتٍ طبيعيةٍ للحليب والفواكه والحبوب، والتي تستخدم الإنزيمات أثناء نُموها. غير أن الأهمية التحفيزية للإنزيمات في عمليات التخمُّر لم تُعرف علميًّا إلا سنة ١٨٣٧م، من قِبَل الكيميائي السويدي Jon Jakob Berzelius. وفي خمسينيات القرن التاسع عشر بين العالِم الفرنسي المعروف Louis Pasteur أن التخمُّر يحصل بواسطة الأحياء الدقيقة، ومنها الخميرة. ثم ظهَر مصطلح الإنزيمات مشتقًّا من اللاتينية «في الخميرة enzymos». وفي سنة ١٨٩٧م عزل Edward Buchner من الخميرة الإنزيمات المخمِّرة للسكَّريات إلى كحول. في سنة ١٩٢٦م عزل James Sumner إنزيم Urease بشكلٍ بلوري من الفاصوليا وبين طبيعته البروتينية. ثم تأكَّدَت الطبيعة البروتينية للإنزيمات عند تنقية إنزيمات Pepsin وTrypsin من قِبَل John Northrop ومساعديه سنة ١٩٣٠م (Bhatia, 2018).
الإنزيمات جُزيئاتٌ ضخمةٌ بروتينية في الغالب تُنتج من قِبَل الخلايا الحية، تحفِّز واحدًا أو أكثر من التفاعُلات البيولوجية الخصوصية دون أن تتغيَّر هي كيميائيًّا أو تُستهلَك عند اكتمال التفاعل. الجُزيئات التي تعمل عليها الإنزيمات وتجري عليها التحوُّلات تُسمَّى المواد الأساس (Substrates) لهذه الإنزيمات. عمل الإنزيمات على المادة الأساس يؤدي إلى تحويلها إلى واحدٍ أو أكثر من المواد الناتجة (Products) من خلال تكوينِ تراكيبَ وسطيةٍ غير مستقرة، تُعرف بالحالات الانتقالية (Transition states) (شكل ٧-١) من خلال ارتباطها مع المواقع الفعالة في الإنزيم، ومن ثَم تكوين وانفصال المنتج عن الإنزيم. الموضوع الأساس في عمل الإنزيمات هو تخفيض طاقة التنشيط اللازمة لتحقيقِ التفاعل (شكل ٧-٢).
fig88
شكل ٧-١: مراحل التفاعُل الإنزيمي.
fig89
شكل ٧-٢: المنحنيات الطاقيَّة للتفاعُل الإنزيمي وتفاعُل المحلول (اللاإنزيمي). محوَّر عن: [[en:User:|]] at the English language Wikipedia [GFDL (http://www.gnu.org/copyleft/fdl.html) or CC-BY-SA-3.0 (http://creativecommons.org/licenses/by-sa/3.0/)], via Wikimedia Commons.
يتراوح الوزن الجُزيئي للإنزيمات بين ١٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠٠ دالتون. تُسرِّع الإنزيمات التفاعُلات الحيوية بدرجةٍ فائقةٍ بما لا يقل عن ١٠٦ ويمكن أن يصل إلى ١٠٢٥ مرة أو أكثر (Klinman & Kohen, 2013; Murray et al., 2009).
علاوة على كفاءتها الفائقة كمحفِّزات للتفاعُلات الكيميائية في الخلية، فإن الإنزيمات غاية في الخصوصية لنوعية التفاعُل وللمادة الأساس، أو لمجموعة قليلة من المواد الأساس المترابطة كيميائيًّا. والمعروف أن الإنزيمات محفِّزات تفاعُل خصوصية الهيئة الفراغية للمواد الأساس؛ فهي تحفِّز نوعًا واحدًا فقط من الآيزوميرات الفراغية لمركَّبٍ معيَّن حيث تعمل على الشكل D- وليس L- من السكريات والشكل L- وليس D- من الأحماض الأمينية. هذه الخصوصية العالية جدًّا للإنزيمات تجعل الخلية مسرحًا لحصول التفاعُلات الإنزيمية المتنوِّعة في نفس الوقت، رغم صِغَر حجمها واكتظاظه بالجُزيئات المختلفة ووجود مئات وآلاف الإنزيمات. وحسَب Popp (1999) فإن ١٠٠٠٠٠ تفاعُلٍ كيميائيٍّ يحصُل في الخلية في الثانية الواحدة.

ومع أن الكثير من التفاعُلات الكيميائية تحصل في درجاتِ حرارة عاليةٍ جدًّا، ومستوياتِ حموضةٍ متطرِّفة، فإن الإنزيمات تمكِّن من حصول مثل هذه التفاعُلات الكيميائية ضمن درجة الحرارة والحموضة الفسلجية للكائنات الحية.

ومع التأكيد على الأهمية العظيمة للإنزيمات في أيضِ المنظومات الحية، إلا أننا يجب ألا ننسى الفعل التحفيزي للتفاعُلات غير الإنزيمية، والتي ربما تكون سبقَت نُشوء الإنزيمات، وهي موجودة حتى الوقت الحاضر إلى جانب الإنزيمات. هذه التفاعُلات تضُم تفاعلاتٍ غيرَ خصوصية، وتفاعلاتٍ خصوصية إما حصرية لا يشاركها فيه إنزيم مثل تكوين فيتامين D3 بتحفيز الأشعة فوق البنفسجية، أو تفاعُلات يشاركها فيها إنزيمات (Keller et al., 2015).
تحتاج العديد من الإنزيمات إلى مركَّباتٍ أخرى؛ هي العوامل المساعدة (Cofactors) من أجل إنجاز عملها. وهنا يكون الجزء البروتيني من الإنزيم هو الأبوإنزيم (Apoenzyme) والجزء غير البروتيني والذي يمكن أن يكون مرافقًا إنزيميًّا (Coenzyme) أو مجموعةً ملحقة (Prosthetic group) أو أيونًا معدنيًّا منشِّطًا. التركيب الكامل للإنزيم؛ أي الجزء البروتيني مع الجزء غير البروتيني، يُسمَّى الإنزيم الكلي أو الهولوإنزيم (Holoenzyme). المرافق الإنزيمي يكون مادةً عضويةً غير بروتينية قابلةً للديلزة وثابتةً حراريًّا، وغير مُحكَمة الاتصال بالجزء البروتيني من الإنزيم. المجموعة الملحقة هي مادةٌ عضويةٌ قابلةٌ للديلزة، وثابتةٌ حراريًّا، لكنها مُحكَمة الارتباط بالجزء البروتيني من الإنزيم. أما الأيون المعدني المنشِّط فيشمل أيونات K+ وFe++ وFe+++ وCu++ وCo++ وZn++ وMn++ وMg++ وCa++ وMo+++
تُقسَّم الإنزيمات إلى ستة أصنافٍ رئيسةٍ على أساس نوعِ التفاعُل الكيميائي، وهي إنزيمات الأكسدة-اختزال (Oxidoreductases) وإنزيمات النقل (Transferases) وإنزيمات التميؤ (Hydrolases) وإنزيمات الفصل (Lyases) وإنزيمات الآيزوميريز (Isomerases) وإنزيمات الربط (Ligases).
إنزيمات Oxidoreductases تقوم بنقل الإلكترونات من المادة الأساس إلى أخرى، فتُؤكسِد الأولى وتختزل الثانية، ومنها إنزيماتُ Oxidases وPeroxidases وHydrases وDehydrogenases.
إنزيمات Transferases تقوم بنقل مجموعةٍ كيميائيةٍ من مادةٍ أساسٍ إلى أخرى؛ كنقل مجاميع الفوسفات أو الأمين وغيرها، وتشمل إنزيمات Phosphorylases وTransaminases وTransmethylases.
إنزيمات Hydrolases تقوم بتفاعلات التحلُّل المائي، والتي تتضمن تكسير بعض الأواصر مثل الأواصر الكلايكوسيدية والأسترية والببتيدية وغيرها، بإضافة جزيئات الماء. تشمل هذه المجموعة إنزيمات Sucrase وAmylases وProteases.
إنزيمات Lyases تقوم بنزع مجموعةٍ كيميائيةٍ من المادة الأساس، وإحلال رابطةٍ مزدوجةٍ بدلها دون إضافة جُزيئات ماء. تشمل هذه المجموعة إنزيمات Decarboxylases وDeaminases وAldolases.
إنزيمات Isomerases تعمل على تحويل المادة الأساس إلى آيزومير آخر، وتشمل Cis-Transferases وTransisomerases Intramolecular.
إنزيمات Ligases تعمل على ربط جُزيئتَين كبيرتَين بتكوين آصرةٍ جديدة؛ فهذه الإنزيمات تعمل على تكوينِ أواصرِ C-O وC-S وC-N وغيرها. من هذه الإنزيمات DNA ligase وRNA ligase.

(١) آلية عمل الإنزيمات Mechanism of Enzyme Action

تعتمد آلية عمل الإنزيم على التفاعُل الكيميائي الذي يكون عالي الخصوصية، وفيه يرتبط الإنزيم بالمادة الأساس مُكوِّنًا معقد الإنزيم-المادة الأساس. يحصُل التفاعُل في منطقة صغيرة من الإنزيم تُسمَّى بالموقع الفعَّال (Active site) (شكل ٧-٣) والتي ستُحدِّد خصوصية الإنزيم.

يتكون الموقع الفعال من عددٍ من الأحماض الأمينية المتفرقة على السلسلة الببتيدية، والتي تتقارب مع بعضها عن طريق الطيَّات التي تحصُل خلال التركيب الثانوي والثالثي للإنزيم. في الموقع الفعال للإنزيم، تُوفِّر السلاسل الجانبية للأحماض الأمينية مجاميعَ ترتبط بمجاميعَ خصوصيةٍ للمادة الأساس، وتكوِّن أواصرَ مع الأحماض الأمينية في حقل الارتباط للموقع الفعَّال. عملية الارتباط هذه تحفِّز تفاعُلًا بنيويًّا في الموقع الفعال، ويتكون معقد الحالة الانتقالية بين الإنزيم والمادة الأساس ثم بين الإنزيم وناتج التفاعُل. بعدها ينفصل ناتج التفاعُل ويعود الإنزيم إلى حالته الطبيعية.

ثمَّة نموذجان تقليديان لآلية عمل الإنزيمات:
  • (١)
    نموذج القفل والمفتاح (Lock and key model)

    يفترض هذا النموذج وجود توافُقٍ فراغي بين المادة الأساس وموقع التفاعُل في الإنزيم؛ مثل حالة القفل والمفتاح. هذا النموذج يفترض أن يكون موقع التفاعل مُشكَّلًا أصلًا ليستقبل المادة الأساس. غير أن هذا النموذج لا يفسِّر تغيير تركيب الإنزيم بوجود تكيفاتٍ فراغيةٍ في المواقع الفعَّالة.

  • (٢)
    نموذج التوافُق المستحث (Induced fit model)

    حسب هذا النموذج فإن موقع التفاعل يكون مرنًا؛ حيث تحثُّ المادة الأساس تغيراتٍ فراغيةً في موقع التفاعُل للإنزيم بحيث تستقبل المادة الأساس فيه بالطريقة المناسبة لحصول التفاعُل. ويفسِّر هذا النموذج التثبيط التنافُسي والتحكُّم الفراغي وتثبيط الإنزيم عند مسخه.

fig90
شكل ٧-٣: الإنزيم -chymotrypsin يُظهِر الأحماض الأمينية المؤشرة التي تكوِّن الموقع الفعال. عن: en:Image:Chymotrypsin.png Jcwhizz.
لنتابع عمل الإنزيم Collagenase في تحليل البروتين كولاجين حسَب ما عرضه McFadden & Al-Khalili (2014) كنموذجٍ لفهم آلية عمل الإنزيمات.
fig91
شكل ٧-٤: تتألَّف البروتينات (a) من سلاسلَ من الأحماض الأمينية مكوَّنة من ذرات الكاربون (C) والنتروجين (N) والأوكسجين (O) والهيدروجين (H) مرتبطة بأواصرَ ببتيدية ممثلة بالشكل كخطٍّ سميك. يمكن أن تُكسر الآصرة الببتيدية (c) بالتحلُّل المائي بواسطة جُزيئة الماء لكن يجب أن تمُر قبل ذلك بحالةٍ انتقاليةٍ غير مستقرة، تتألَّف من تركيبَين مختلفَين على الأقل قابلَين للتحوُّل بعضهما لبعض (b). مُحوَّر عن McFadden & Al-Khalili (2014).
من المعروف أن البروتينات تتألف من سلاسل من الأحماض الأمينية، التي ترتبط مع بعضها من خلال الأواصر الببتيدية. الآصرة الببتيدية آصرةٌ قويةٌ جدًّا؛ فهي من الأواصر التساهمية حيث تشترك ذرة كاربون مجموعة الكاربوكسيل من حامضٍ أمينيٍّ مع ذرة نتروجين مجموعة الأمين من حامضٍ أمينيٍّ مجاور بزوج من الإلكترونات. هذان الإلكترونان السالبا الشحنة، سيجذبان نواتَي الذرتَين المتجاورتَين نحو بعضهما. كسر هذه الآصرة يمُر عَبْر تفاعُل التحلُّل المائي (Hydrolysis). وفي هذا النوع من التفاعُل بدون اشتراك الإنزيم، ينبغي اقتراب جُزيئة ماء من الآصرة لدرجة تمكِّن هذه الجُزيئة من منح أحد إلكتروناتها لذرة الكاربون المكوِّنة للآصرة مكونةً آصرةً ضعيفة، جديدة، تضمن بقاءَها في المكان، والمتمثِّل بخطوطٍ متقطعة في الشكل ٧-٤. هذه تمثِّل حالةً انتقاليةً ينبغي أن تعبُر مستوًى طاقيًّا عاليًا لكسر الآصرة. ويُلاحَظ من الشكل أن الإلكترون الممنوح من ذرة هيدروجين في جُزيئة الماء يجعل هذه الجزيئة موجبة الشحنة؛ حيث تتبقى نواة الهيدروجين (أي بروتون موجب الشحنة) ويصل إلى ذرة الأوكسجين المشتركة في الآصرة، والتي ستكتسب شحنةً سالبةً في الحالة الانتقالية. البروتون في جُزيئة الماء سيكون متغير الموضع بالمفهوم الكمومي؛ فهو يبقى في جُزيئة الماء معظم الوقت (التركيب في يسار الشكل ٧-٤) وأحيانًا يمكن أن يقترب من ذرة النتروجين (التركيب في يمين الشكل ٧-٤) في الجهة الأخرى من الآصرة الببتيدية. في هذا الموقع، البروتون الجوال سيلتقط أحد إلكترونات الآصرة الببتيدية من موقعه، ويكسر الآصرة. لكن هذا لا يحدث عادةً حيث إن الحالة الانتقالية قصيرةٌ جدًّا، وقلقةٌ جدًّا لدرجة أن أية قلقلةٍ بسيطةٍ يمكن أن تُنهيها؛ فالإلكترون الممنوح من ذرة الهيدروجين في جُزيئة الماء يمكن أن يُستعاد بسهولة إلى موقعه الأصلي، كما موضَّح بالسهم السميك في الشكل. هذا السيناريو (بقاء الآصرة) هو المرجَّح بقوة، مقارنةً بتقدُّم التفاعُل نحو كسر الآصرة؛ ولهذا لا تكسر الآصرة الببتيدية عادة، ففي المحلول المُتعادِل يكون الزمن اللازم لتكسر ٥٠٪ من الأواصر الببتيدية هو أكثر من ٥٠٠ سنة. دور الإنزيم بتسريع مثل هذا التفاعُل سيكون بزيادة استقرار الحالة الانتقالية، وبالتالي زيادة فرص تكوينِ ناتج التفاعُل؛ أي تكسير الأواصر الببتيدية. ذلك يمكن أن يتم من خلال وجود ذرة فلزٍّ موجبةٍ في مركز التفاعل للإنزيم قرب الآصرة الببتيدية تُعادِل ذرة الأوكسجين السالبة في الحالة الانتقالية لتثبيتها وعدم رجوع الإلكترون إلى جُزيئة الماء؛ وبالتالي تخفض طاقة التنشيط اللازمة للتفاعل؛ فالمادة الأساس تُمسك بواسطة الأواصر الكيميائية الضعيفة المؤشرة بخطوطٍ متقطعة؛ وهي إلكتروناتٌ مشتركة بين المادة الأساس والإنزيم، موفرة الترتيب المناسب لفعل القضم بواسطة الإنزيم. يقوم الأيون الموجب بنزع إلكترون من ذرة الأوكسجين في المادة الأساس لتثبيت الحالة الانتقالية، وخفض طاقة التنشيط، ثم يقوم الحامض الأميني كلوتامات في الإنزيم بتعليق ذرة الأوكسجين السالبة له على الآصرة الببتيدية، ونزع البروتون الموجب الشحنة من جُزيئة الماء، ثم ينقل هذا البروتون إلى ذرة النتروجين على إحدى نهايات الآصرة الببتيدية. وبذلك يسحب الإلكترونات من الآصرة. وكما ذكر سابقًا فإن سحب الإلكترونات بمثابة سحب الرابط الذي يحقِّق الآصرة، وبذلك تضعُف أو تُكسَر الآصرة. تكرار هذه العملية يؤدي إلى تحليل هذا البروتين خلال عددٍ من النانوثانية، في حين يستغرق ملايين السنين بدون عمل الإنزيم.

(٢) دَور ميكانيك الكَم Role of Quantum Mechanics

دَور ذَرة الزنك في الموقع الفعَّال للإنزيم (شكل ٧-٥) هو دَورٌ تحفيزيٌّ تقليدي يعتمد على الحركة الجُزيئية العشوائية.
كما أن الآليات التقليدية في تفسير عمل الإنزيم، كالاعتماد فقط على الحالة الانتقالية، يمكن أن تُسرِع التفاعُل بحدود مليون مرة، غير أن السرعة الفائقة الحاصلة في الواقع والسلوك الغريب لها في درجات الحرارة لا يمكن تفسيرها على أساس الآليات التقليدية، ونظرية الحالة الانتقالية تحتاج إلى تفسيرٍ آخر (Brookes, 2017). هذا التفسير يمكن أن ينسجم مع ما ذهب إليه شرودنجر في أن «النظام ينشأ من النظام»؛ فعملُ الإنزيم منظَّم، يؤدِّي إلى منتوجٍ متماثلٍ في كل مرة، والإنزيم تركيبٌ عضويٌّ عالي التنظيم، وأي تغيُّرٍ بسيطٍ في تركيبه كتغيُّر أحد الأحماض الأمينية البعيدة عن موقع التفاعُل، له تأثيرٌ مهم في عمله، ما يجعل الاعتماد على العشوائية والحالة الانتقالية وحدها غير كافٍ لتفسير عمل الإنزيم. كما لم تنجح محاولاتُ تكوينِ إنزيمٍ اصطناعيٍّ اعتمادًا على مبدأ الحالة الانتقالية، وما نعرفه من آليات عمل الإنزيم، ما يعني أننا هنا لم نفهم آلية عمل الإنزيم جيدًا؛ فعلى قول رتشارد فينمان: «الشيء الذي لا أتمكَّن من تكوينه يعني أنني لم أفهمه.» ما يقوم به الإنزيم هو التلاعُب بالذرات والبروتونات والإلكترونات المفردة ضمن وبين الجُزيئات. وهذا يرتبط بميكانيك الكَم الذي يعتمد على حالة التماسُك التي تُظهِر أمورًا غير عادية كالتراكُب والاختراق الكمومي وغيرها، والتي تتلاشى بفك التماسُك.
fig92
شكل ٧-٥: كسر الآصرة الببتيدية (بالخط العريض) للكولاجين في الموقع الفعَّال لإنزيم كولاجينيز. الحالة الانتقالية للمادة الأساس، موضَّحة بالخطوط المتقطِّعة. الكرة وسط أسفل الشكل تمثِّل أيون الزنك الموجب. مجموعة الكاربوكسيل (COO) في أعلى الشكل هي من الحامض الأميني كلوتامات في الموقع الفعَّال للإنزيم. مع ملاحظة أن الأبعاد الجُزيئية لا تعبِّر عن الأبعاد الحقيقية. عن McFadden & Al-Khalili (2014).

التفاعُلات الكيميائية التي تتضمَّن انتقال الإلكترونات تحدُث في تفاعُلات الأكسدة؛ فعملية حرق الفحم في الهواء مثلًا هي عملية أكسدة، يتم فيها تسخين الفحم حيث ترفع طاقة الإلكترونات، ليتم انتقالها من الفحم (كاربون) إلى ذرات الأوكسجين، لتتكوَّن أواصرُ منخفضةُ الطاقة في جُزيئات ثاني أوكسيد الكاربون، وفرق الطاقة يتحوَّل إلى حرارة. في الخلايا الحية تحصُل تفاعُلات الأكسدة بواسطة إنزيمات الأكسدة-الاختزال خلال عملية التنفُّس وغيرها.

fig93
شكل ٧-٦: مسار التحلُّل السكَّري. يبدأ بجُزيئة كلوكوز سداسية الكاربون وينتهي بالبايروفات الثلاثية الكاربون.
fig94
شكل ٧-٧: دورة كريبز. تبدأ بالبايروفات، وتؤدِّي إلى تفكيكها وتكوين ٣ جُزيئات CO2 وتكوين عددٍ من المساعدات الإنزيمية NADH وFADH2.
fig95
شكل ٧-٨: سلسلة نقل الإلكترون في الميتاكوندريا. مُحوَّر عن Gary E. Kaiser (1998).
fig96
شكل ٧-٩: توضيح مسار الاختراق والمسار التقليدي لعبور الجُسيمات الذرية مثل الإلكترون لحاجز الطاقة.
عملية التنفُّس تحصُل في جميع الخلايا الحية والغرض منها الحصول على الطاقة التي تنتُج من تفاعُلات الأكسدة للاستفادة منها في النمو، وتسيير الفعاليات الحيوية. المواد الأساس التي تعمل عليها هذه الإنزيمات، هي المواد الغذائية خاصة السكَّريات والدهون التي تختزن الطاقة أصلًا في الأواصر التي تربط الهيدروجين بالكاربون وذرات الكاربون مع بعضها. هذه الأواصر كما مَرَّ ذِكره هي إلكتروناتٌ مشتركةٌ بين ذرتَين ضمن نفس الجُزيئة. عملية التنفس تشبه من حيث المبدأ عملية حرق الكاربون، لكنها لا تتم بتفاعُلٍ واحد، وإنما بسلسلة من التفاعُلات المتتالية، التي تُحفِّز بواسطة إنزيمات وتؤدِّي إلى انتقالٍ تدريجيٍّ للإلكترونات من مستوياتٍ طاقيَّةٍ عالية إلى مستوياتٍ طاقيَّة منخفضة؛ حيث تُستقبل من قِبَل إنزيمات. والفروق الطاقيَّة تُستغَل في تكوين مركَّباتٍ خازنة للطاقة؛ هي جُزيئات Adenosine triphosphate (ATP). كما يترافَق انتقال الإلكترونات مع انتقال البروتونات بواسطة المساعدات الإنزيمية المختزلة، ويكون لها دَورٌ مُهمٌّ في تكوين الجُزيئات الخازنة للطاقة.
ثمَّة عددٌ من المسارات التنفُّسية المختلفة، والتي تعمل بشكلٍ متزامنٍ من أجل الاستفادة القُصوى من الطاقة المتحرِّرة. المسار الأول ويُعرف بمسار التحلُّل السكَّري (Glycolysis) (شكل ٧-٦) ويتم في السايتوبلازم، تكون فيه المادة الأساس جُزيئات الكلوكوز؛ وهي سكَّرياتٌ بسيطةٌ سداسية الكاربون تنشط بربطها بجُزيئات فوسفات من جُزيئتَي ATP وتمُر بسلسلة تفاعُلاتٍ بضمنها تفاعلاتُ أكسدة اختزال لتنتهي بتكوين جُزيئتَي بايروفات ثلاثية الكاربون، وتكوين أربعة جُزيئات ATP فتكون المحصلةَ جزيئتا ATP وجُزيئتا NADH مختزلة. التفاعُلات المتسلسلة تسير بواسطة إنزيم في كل خطوة، وهي تحصُل بوجود أو عدم وجود الأوكسجين حيث لا يشترك في التفاعُل. لكن ناتج التفاعُل وهي جُزيئات البايروفات ستدخل مسارًا تنفسيًّا آخر؛ هو دورة كريبز (Krebs cycle) (شكل ٧-٧).
قبل الدخول في دورة كريبز، يتم إزالة ذرة كاربون من المركَّب الثلاثي الكاربون البايروفات، وتتم إزالة ذرَّتَي الكاربون الأخريَين في دورة كريبز. سلسلة التفاعلات التي تسرع كلٌّ منها بواسطة إنزيم تؤدي إلى تكوين جُزيئتَي Guanosine triphosphate (GTP) وهي مُكافِئة لجُزيئات ATP وعدد من جُزيئات NADH وFADH2 المختزلة والتي ستدخل المسار التنفُّسي الثالث وهو سلسلة نقل الإلكترون (شكل ٧-٨) حيث تحصُل تفاعُلات الأكسدة-الاختزال وفيها تنقل هذه المساعدات الإنزيمية المختزلة البروتونات والإلكترونات من إنزيمٍ إلى آخر على الغشاء الداخلي للميتاكوندريا. تقوم طاقة الإلكترونات بضخ البروتونات عَبْر الغشاء إلى الخارج. تدفُّق هذه البروتونات المتراكمة عَبْر الغشاء إلى داخل الخلية من خلال معقد ATP synthase الموجود على الغشاء، سيُوفِّر الطاقة اللازمة لتكوين جُزيئات ATP من جُزيئات ADP ومجاميع الفوسفات. هذه الحالة مُشابهة لإنتاج الطاقة الكهربائية بواسطة توربينات السدود. وفي آخر المسار، يتحدُ زوجٌ من البروتونات وزوج من الإلكترونات ونصف جُزيئة أوكسجين لتكوين جُزيئة ماء. وهكذا فإن معظم الطاقة الناتجة من عملية التنفُّس تنتُج في مسار سلسلة نقل الإلكترون.
حسب McFadden & Al-Khalili (2014) فإن عملية انتقال الإلكترون بين جُزيئة إنزيم وجُزيئة إنزيم مجاور على الغشاء الداخلي للميتاكوندريا تتطلَّب قطعَ مسافة بضعِ عشراتٍ من الأنكسترومات (أي بطول عدة ذراتٍ حيث إن قُطر الذرة يتراوح بين ١ إلى ٥ أنكستروم). وهي مسافةٌ أكبر بكثير من أن تُفسَّر على أساس القفز الحراري الاعتيادي للإلكترون.
بقي تفسير هذه الظاهرة غامضًا لعدة عقود. لاحظ Britton Chance أن الضوء يُشجِّع نقل الإلكترونات من إنزيم السايتوكروم إلى الأوكسجين في سلسلة نقل الإلكترون. واكتشف هذا الباحث مع باحثٍ آخر هو Mitsuo Nishimura أن هذه العملية تحدُث في البكتيريا Chromatium vinosum حتى لو بردَت بالنتروجين السائل إلى −١٩٠مº. ثم قام DeVault وChance بتعريض البكتيريا إلى ومضة ضوءٍ أحمرَ بَرَّاقٍ من ليزر ياقوت، ولمدةٍ قصيرةٍ جدًّا هي ٣٠ نانوثانية، ووجدا أن معدل نقل الإلكترون في هذه البكتيريا يستمرُّ بالانخفاض حتى حوالي −١٧٣مº ليصل إلى ١٠٠٠ مرة أقل، مقارنةً بمعدَّله في درجة حرارة الغرفة. وهذه نتيجةٌ منطقيةٌ متوقَّعة إذا كانت عملية نقل الإلكترونات تسير أساسًا بالطاقة الحرارية. لكن المفاجأة حدثَت حين خفض الباحثان درجة الحرارة إلى أقل من −١٧٣مº حيث ارتفع معدَّل نقل الإلكترون ووصل إلى قمةٍ معينة، وبقي ثابتًا رغم الاستمرار في تخفيض درجة الحرارة إلى −٢٣٨مº. هذه النتيجة تُبيِّن أن آلية نقل الإلكترون في الإنزيم لا يمكن إرجاعُها فقط إلى عملية قفز الإلكترون التقليدية، ويمكن أن تعتمد على ميكانيك الكَم وخاصة ظاهرة التسرُّب الكمومي؛ فالتسرُّب يمكِّن الجُسَيمات الذَّرية من عبور أو اختراق حاجز طاقةٍ عالٍ (شكل ٧-٩) أو مادةٍ عازلةٍ ضيقة بين جانبَي موصلَين كهربائيَّين، أو كما في حالتنا التي نُناقِشها، فضاء بين إنزيمَين في السلسلة التنفُّسية. الشكل ٧-٩ يُظهِر الحالة التقليدية لعبور الإلكترون مثلًا حاجز الطاقة من خلال اكتسابه مزيدًا من الطاقة، لكن ثمَّة إمكانية وإن كانت باحتمالٍ صغير، أن يسلُك الإلكترون كموجةٍ ويخترق حاجز الطاقة وهو في مستوًى طاقيٍّ منخفض نسبيًّا. لكن التسرُّب كأي ظاهرةٍ كمومية، يتطلَّب أن يكون السلوك الموجي للجُسيم متماسكًا؛ أي إنه يكون في حالةِ تناغُم حيث تكون الموجات متطابقة. وفور فقدان الموجات لحالة التناغُم هذه يحصُل فك التماسُك، ويسلُك الجُسيم سلوكًا تقليديًّا كما في حالات القياس أو المراقبة أو الاتصال بالبيئة (Zurek, 2002). وهنا تبرز مشكلةٌ تتطلَّب حلًا؛ فالتفاعلات الإنزيمية تحصُل عادةً في أوضاع تعجُّ بالجُزيئات المختلفة، المتحرِّكة حركاتٍ عشوائيةً سواء داخل الخلية أو خارجها. هذه الحالة تفرض حصولًا سريعًا جدًّا لفك التماسُك مما لا يُبقي وقتًا كافيًا للتماسُك لتحقيق انتقال الجُسيمات. الحل إذن يمكن أن يكمُن في الإنزيم نفسه؛ فداخل الإنزيم تنهمك الجسيمات بحركاتٍ متوافقةٍ وليست عشوائية. كما أن الإلكترونات خفيفةٌ جدًّا مما يسمح لها أكثر من غيرها بالاختراق، وهي بحركتها الموجية تخترق هذه الحواجز مثلما يخترق الصوت جدران الغرف، مع الفارق في آلية اختراق الصوت للجدار. وحسَب Knapp & Klinman (2002) فإن التأثيرات الكمومية في نقل الإلكترون في التفاعُلات البيولوجية، أمرٌ مُقَر منذ مدةٍ طويلةٍ بسبب عدم الدقة العالية في موقع الإلكترون. كما أن الطبيعة الكمومية لنقل الإلكترون تطلَّبَت نماذج تفاعلاتٍ جديدة تتعدَّى نظرية الحالة الانتقالية.
وأظهَرَت التجارب الحديثة أنْ ليس الإلكترونات فقط تتمكَّن من الاختراق، بل البروتونات أيضًا، وهي أثقل كثيرًا من الإلكترونات (البروتون أثقل حوالي ٢٠٠٠ مرة من الإلكترون) بل وحتى الذرات تتمكَّن من الاختراق في التفاعُلات الإنزيمية. ثمَّة سلسلةٌ من الحركات الحرارية المتوازنة التي تُسيطِر على المسافة بين مانح الهيدروجين ومستقبل الهيدروجين والكهربائية المستقرة للمركز الفعَّال في الإنزيم؛ مما يوفِّر تكيُّفاتٍ بنيويةً مناسبة لاختراق البروتون (Klinman & Kohen, 2013; Bandaria et al., 2009).
وكما هو معروفٌ فإن الجُسيمات الصغيرة تتمكَّن من الاختراق بسهولة، لكن الجُسيمات الكبيرة تجد مقاومةً أكثر للاختراق ما لم تكن المسافة التي عليها اختراقُها قصيرةً جدًّا. وكما موضَّح في الشكل ٧-٥، فإن الإنزيمات ومنها إنزيم كولاجينيز تحرِّك البروتونات لتكسر الأواصر الببتيدية. لكن تفسير هذه الحركات وهي شائعة في الإنزيمات وفي درجات الحرارة التي تعمل فيها الإنزيمات في الخلايا الحية تُعتبَر عالية (بمقاييس ميكانيك الكَم) ما يمكِّنها من تحريك البروتونات على أساس الحركة العشوائية الحرارية، والتي لا تستدعي الاختراق لتفسيرها. كما أن انتقال البروتونات في معظم التفاعلات الإنزيمية في درجات حرارة عالية كهذه يتم من خلال القفز الحراري غير الكمومي بين الُجزيئات. لكن اختراق البروتونات يحصُل في عددٍ قليلٍ من التفاعُلات التي لا تكون معدَّلاتها متأثرةً بفروق درجات الحرارة كما ذُكر سابقًا.
ومن أجل إثبات اختراق البروتون في التفاعُلات الإنزيمية استخدم Cha et al., (1989) التأثير الحركي للنظائر (Kinetic isotope effect) (KIE). إن KIE هي تقنية في الكيمياء الفيزيائية العضوية تعتمد على التغيُّر في معدَّل التفاعل الكيميائي نتيجة استبدال ذرة في المواد المتفاعلة بإحدى نظيراتها (Isotopes). ويتم إيجاد KIE كنسبة في ثوابت التفاعُل بين المادة الخفيفة kL والنظير الثقيل kH:
التغيُّر في معدل التفاعل هو تأثيرٌ كمومي ينتُج عن أن للنظير الأثقل تردُّداتٍ اهتزازية أقل من المادة الأخف. هذا يؤدي إلى الحاجة إلى طاقةٍ أكبر لوصول النظير الأثقل إلى الحالة الانتقالية، وبالتالي انخفاض معدَّل التفاعل. وهكذا يمكن استخدام هذه التقنية لاختبار اختراق البروتون من خلال مقارنة معدَّل التفاعُل له مع معدَّل التفاعُل المماثل باستخدام نظيرٍ أثقل؛ فذرة الهيدروجين مثلًا تتألَّف من بروتونٍ واحد في النواة وإلكترونٍ واحد، وهكذا فهي يمكن أن تكوِّن أيون هيدروجين H+ متمثلًا بالنواة دون الإلكترون. ويُوجد نظيران ثقيلان للهيدروجين أقل شيوعًا هما الديتيريوم D حيث تتألَّف نواته من بروتونٍ واحد ونيترونٍ واحد، كذلك التريتيوم T حيث تتألف نواته من بروتون بالإضافة إلى اثنَين من النيوترونات. من المعروف أن النظائر تتشابه في السلوك الكيميائي؛ حيث إن مَن يلعب الدور الرئيس في التفاعُلات الكيميائية هي الإلكترونات والتي يكون عددها متماثلَا في جميع نظائر العنصر. وكما ذُكر سابقًا، فإن فرص الاختراق الكمومي تقل كلما كان الجسيم أثقل؛ وبالتالي تُستخدم KIE لإثبات انتقال البروتون مثلًا إذا أظهرت نتائج التجربة أن استخدام النظائر الثقيلة مثل الديتيريوم تخفض سرعة التفاعل. ولتعزيز النتائج ينبغي إثبات أن اختراق البروتون يحصل في درجات الحرارة المنخفضة حيث يحتفظ بقمةٍ معيَّنةٍ كما سبق الإشارة إليه. وهذا ما حصل عليه Cha et al., (1989) باستخدام الإنزيم Alcohol dehydrogenase في نقله للبروتون من الكحول إلى NAD+، لينتج NADH. وعزَّز باحثون آخرون هذه النتائج (Kohen et al., 1999; Sen & Kohen, 2010). كما توضَّحَت هذه الآلية في عددٍ من الإنزيمات الأخرى مثل Methane monooxygenase (Nesheim & Lipscomb, 1996) وGalactose oxidase (Whittaker et al., 1998) و(Basran et al., 1999) Methylamine dehydrogenase و(Harris et al., 2000) Sarcosine oxidase وDihydrofolate reductase وFormate dehydrogenase (Sen & Kohen, 2010).
إن مؤشرات تفاعلات C-H عن طريق نقل ذرات الهيدروجين قد تبدو منسجمة مع نموذجَي «تخطي الحاجز» التقليدي أو «تصحيح اختراق شكل الجرس». غير أن كلا النموذجَين لا يتمكَّنان من تفسيرِ قيمِ فرق طاقة التنشيط ΔEa في درجات الحرارة القريبة من الصفر المطلَق في العديد من الإنزيمات؛ والتي تزداد بفعل الاضطرابات الداخلية أو الخارجية المصدر. بينما يطرح نموذج الاختراق الكمومي التام كتفسيرٍ لاعتماد KIE على درجات الحرارة، والذي يُبرِز أهمية المسافة بين مانح الهيدروجين ومستقبل الهيدروجين لعمل تطابُق دالَّة الموجة والذي تؤكِّده تجاربُ تحديد ΔEa (Klinman & Offenbacher, 2018).
لقد تمكَّن فريق من الباحثين من تطويرِ وسيلةِ اتصالٍ بيولوجيٍّ كمومي لاختراق الإلكترون Quantum Biological Electron Tunnelling (QBET) واستخدامها في الزمن الحقيقي لكشف الاختراق الكمومي للإلكترون في سايتوكروم C للميتاكوندريا خلال حياة وموت الخلية. وبيَّنَت طريقة QBET عملية الاختراق عَبْر الجُزيئات المعيقة على مسافاتٍ مختلفةٍ لتقدِّم إثباتًا تجريبيًّا لعملية الاختراق الكمومي، وتفتح المجال لتطبيقاتٍ مهمةٍ مختلفة (Xin et al., 2019).
ثمَّة طرقٌ كموميةٌ أخرى؛ كالتشابُك يمكن أن تفسِّر عمل إنزيماتٍ أخرى، كما في حالة إنزيم type II restriction endonucleases (Kurian et al., 2016).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤