الفصل الثاني عشر

الشاهد الجديد

قطع الصمتَ صوتُ القاضي الرخيمُ الخالي من الانفعال وإن لم يخلُ من الاحتجاج. وكان يخاطب الشاهد.

وقال: «أنا متأكد يا سيد إيلمور ألَّا نيةَ للإثقال عليك بأسئلةٍ غيرِ ضرورية. لكننا هنا لنصل إلى الحقيقة وراء موت جون ماربري، ونظرًا إلى أنك الشاهد الوحيد الذي وصلنا إليه الذي يعرفه شخصيًّا …»

التفت إيلمور إلى القاضي بنفاد صبر.

وصاح: «نيتي الخالصة أن أحترم سلطتَك يا سيدي! ولقد أخبرتك بكل ما أعرف عن ماربري وما جرى له عندما التقيتُ به ذلك المساء. لكني أحتجُّ على استجوابي عن شئوني الخاصة التي يرجع تاريخها إلى عشرين عامًا مضت … أحتجُّ على ذلك بشدة! سأجيب عن أي سؤال له صلة حقيقية بالقضية، لكني لن أُجيب عن أسئلةٍ تبدو لي أبعدَ ما يكون عن نطاق التحقيق.»

قام مستشار الخزانة مجددًا. وبدا عليه هدوءٌ بالغ، وأولاه سبارجو كلَّ اهتمامه.

قال المستشار بجفاف: «ربما يمكنني أن أطرح سؤالًا أو اثنين على السيد إيلمور لا يرى فيهما أي إساءة.» والتفت إلى الشاهد من جديد في اهتمامٍ وسأله: «هل يمكنك أن تخبرني عن أي شخصٍ على قيد الحياة كان يعرف ماربري في لندن في المدة قيد المناقَشة … أيْ منذ عشرين إلى اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عامًا؟»

هز إيلمور رأسه نافيًا في غضب.

ورد: «كلا، لا يمكنني.»

قال المستشار: «ومع ذلك من المؤكَّد أنه في ذلك الوقت كان بينكما العديدُ من معارف العمل المشتركين!»

رد إيلمور: «ربما … في ذلك الوقت. لكني عندما عدتُ إلى إنجلترا كان عملي وحياتي في اتجاهٍ مُغايِر لما كانا فيه تلك المدة. لا أعرف أي شخص كان يعرف ماربري في ذلك الحينِ على الإطلاق.»

التفت المستشار إلى كاتبِ محكمةٍ كان يجلس خلفه، وهمس له بشيء، فرأى سبارجو الكاتب يومئ برأسه نحوَ باب القاعة. ثم أعاد المستشار توجيهَ نظره إلى الشاهد.

وقال: «سؤال إضافي: لقد أخبرتَ هيئة المحكمة أنك في المساء السابق لوفاة ماربري، وبعد أن تركتَه في نهاية جسر ووترلو بوقتٍ قصير، في الساعة … الثانية عشرة إلا الربع … أظنك ذكرتَ هذه الساعة.»

قال إيلمور: «في هذا الوقت تقريبًا.»

سأل المستشار: «وفي ذلك المكان؟»

قال إيلمور: «نعم.»

قال المستشار: «هذا ما أريد أن أسألك عنه الآن يا سيد إيلمور.» والتفتَ إلى القاضي وواصَل: «أطلب منك يا سيدي استدعاءَ شاهِدٍ تطوَّعَ للشرطة بدليلٍ هذا الصباح. ولهذا الدليل طبيعةٌ خاصة جدًّا، وأعتقد أن هذه هي المرحلة التي ينبغي فيها أن يُقدَّم الدليل لسيادتك ولهيئة المحلَّفين. أرجو من سيادتك استدعاءَ ديفيد لايل …»

التفت سبارجو غريزيًّا نحو الباب بعد أن رأى الكاتب الذي كان جالسًا خلف مستشار الخِزانة يتوجَّه إليه. قاد الكاتبُ إلى نطاق الرؤية شابًّا تبدو عليه أَمَاراتُ الذكاء والتيقُّظ والثقة بالنفس، اسكتلنديًّا على ما يبدو، وما إن نُودِي اسمُ ديفيد لايل حتى انطلق الشاب متحفزًا ومستعدًّا إلى المكان الذي تركه عضو البرلمان لتوِّه. وأدى القسَمَ على الطريقة الاسكتلندية بالتحفُّز نفسِه والْتَفتَ في سلاسةٍ إلى مستشار الخزانة. جاسَتْ عينا سبارجو المكانَ سريعًا، فلاحَظ أن الترقُّبَ قد عقد الألسنةَ في القاعة فلم تُسمَع فيها نَأْمة، وأن ما كان يترقبه الناس هو أن يُدلِيَ الشاهد الجديد بشيءٍ ذي صلةٍ بشهادة إيلمور.

«اسمك ديفيد لايل؟»

«صحيح، يا سيدي.»

سأل المستشار: «وتسكن في ٢٣ كمبري سايد، كيلمارنوك، اسكتلندا؟»

رد الشاهد: «نعم.»

«وما عملك يا سيد لايل؟»

«مندوب مبيعات يا سيدي، لشركة ستيفنسون وروبرتسون وسوتار للخمور في كيلمارنوك.»

«أظنك تُسافر إلى باريس كجزء من واجِبات عملك في بعض الأحيان، صحيح؟»

«نعم، أسافر إلى باريس مرةً كلَّ ستة أسابيع.»

«وفي مساء الحادي والعشرين من يونيو هل كنتَ في لندن في طريقك إلى باريس؟»

«نعم.»

«أظنك أقمتَ في فندق دي كيزرز، في نهاية الجسر من اتجاه بلاكفرايرز، صحيح؟»

«صحيح؛ فالفندق مناسب للمسافرين على متن القطارات القارية.»

«وذلك المساء، في الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبًا، أو بعد ذلك بقليل، هل تمشَّيتَ محاذِيًا الجسرَ، من جانب تمبل جاردنز؟»

«صحيح سيدي. أنا أنام بصعوبة؛ لذا اعتَدْتُ أن أتمشَّى نصفَ ساعةٍ تقريبًا قبل أن أخلد للنوم.»

«وإلى أين وصلتَ في تمشيتك؟»

«إلى جسر ووترلو.»

«وكنتَ ناحيةَ تمبل طَوالَ الوقت؟»

«نعم سيدي، طوال الوقت على هذا الجانب.»

«جيد جدًّا، وعندما اقتربتَ من جسر ووترلو، هل التقيتَ بأي أحدٍ تعرفه؟»

«نعم، السيد إيلمور، عضو البرلمان.»

لم يَقْوَ سبارجو على منْعِ نفسه من اختلاسِ نظرةٍ إلى الأختَين، كانت كُبراهما تُشيح برأسها، أمَّا الصغرى فكانت تُحدِّق في الشاهد بثبات. وكان بريتون ينقر بأصابعه على أعلى قبعته الحريرية اللامعة.

كرَّر المستشار بصوته الهادئ الواضح: «السيد إيلمور عضو البرلمان، حسنًا، وكيف عرَفتَ أنه السيد إيلمور عضو البرلمان؟»

رد لايل: «أنا سكرتير نادي ليبرال وارد في مسقط رأسي، وفي العام الماضي نظَّمنا فعاليةً أنيطَ بي فيها الترتيبُ مع المتحدِّثين الأساسيين. فرتَّبتُ مع السيد إيلمور ليحضر للحديث؛ لذا التقيتُ به عدةَ مرات بطبيعة الحال، في لندن وفي اسكتلندا.»

«أيْ إنك كنتَ تعرفه جيدًا؟»

رد لايل: «نعم سيدي.»

«وهل تراه الآن يا سيد لايل؟»

ابتسم لايل والتفتَ التفاتةً طفيفة من فوق منصة الشهود.

«بالطبع، ها هو السيد إيلمور.»

«ها هو السيد إيلمور. جيد جدًّا. لنواصِل إذن. التقيتَ بالسيد إيلمور بالقرب من جسر ووترلو، صحيح؟ وكم كانت المسافة؟»

«توخِّيًا للدقة، السيد إيلمور هبط الدَّرَجَ من الجسر إلى منطقة إمبانكمنت.»

«وحده؟»

«كلا.»

«مَن كان معه؟»

«رجل، سيدي.»

«وهل كنتَ تعرف ذلك الرجل؟»

«كلا. لكني عندما تعرَّفت على رفيقه، نظرتُ إليه هو أيضًا جيدًا. لم أنسَ وجهَه.»

«لم تَنْسَ وجهَه. هل ذكَّرك أيُّ شيء بوجه ذلك الرجل خلال اليوم أو اليومَين الماضيَين يا سيد لايل؟»

«نعم سيدي، بالتأكيد.»

«وماذا كان ذلك؟»

«صورة الرجل الذي يقولون إنه قُتِل؛ جون ماربري.»

«هل أنت متأكد؟»

«متأكد تمامًا سيدي، كتأكُّدي من اسمي.»

«هل تعتقد أن السيد إيلمور عندما التقيتَه كان بصحبة الرجل الذي تدلُّ الصورُ على أنه جون ماربري؟»

«نعم يا سيدي.»

«حسنًا جدًّا. وبعد أن رأيتَ السيد إيلمور ورفيقه، ماذا فعلت؟»

«استدرتُ وتبعتُهما.»

«تبعتَهما؟ أكانا يسيران في اتجاه الشرق إذن؟»

«كانا يسيران في الاتجاه الذي جئتُ أنا منه.»

«أيْ إنك تبعتَهما في اتجاه الشرق؟»

«نعم … كنتُ عائدًا إلى الفندق.»

«ماذا كانا يفعلان؟»

«يتحدثان بجدِّية غير معتادة يا سيدي.»

«وإلى أين تبعتَهما؟»

«تبعتُهما حتى وصلا إلى نُزُل إمبانكمنت في زقاق ميدل تمبل سيدي.»

«وبعد ذلك؟»

«حسنًا يا سيدي، دخلا إلى هناك، واتجهتُ أنا مباشَرةً إلى فندق دي كيزرز وخلدتُ للنوم.»

عندئذٍ عمَّ في القاعة صمتٌ مطبقٌ لم يكن له مثيلٌ في أي وقتٍ آخَر من ذلك اليوم الطويل، واشتدَّت وطأة الصمت عندما نطق الصوتُ الهادئ الجادُّ بالسؤال التالي.

«هل تُقسِم إنك رأيتَ السيد إيلمور يصطحب رفيقَه إلى داخل زقاق ميدل تمبل من مدخل إمبانكمنت في الوقت المذكور؟»

«نعم أُقسِم! بالتأكيد سيدي.»

«هل يُمكِنك أن تُخبرنا عن الساعة ذلك الحينَ بأقربِ تقدير؟»

«نعم. كانت الساعة قد تخطَّتِ الثانية عشرة بخمس دقائق، ربما بعد ذلك أو قبله بدقيقة تقريبًا.»

أومأ مستشارُ الخِزانة لقاضي الوَفَيَات، فتشاوَرَ قاضي الوَفَيات مع رئيس هيئة المحلَّفين همسًا، ثم نظر إلى الشاهد.

وقال: «أنت لم تُدْلِ بهذه المعلومات إلا للشرطة فقط، صحيح؟»

«نعم سيدي، كنتُ في باريس وفي أميان، ولم أصِل على متن السفينة إلا هذا الصباح. وبمجرد أنْ قرأتُ كلَّ الأخبار التي نُشِرت في الصحف — أعني الصحف الإنجليزية — ورأيتُ صورَ الرجل الميت، قررتُ أن أُبلِّغ الشرطة بما أعرفه، فذهبتُ إلى نيو سكوتلاند يارد فورَ وصولي إلى لندن هذا الصباح.»

لم يكن لدى أيِّ شخصٍ آخَر أسئلةٌ ليطرحها على السيد ديفيد لايل، فتنحَّى عن المنصة. وهبَّ السيد إيلمور فجأةً فحلَّ محلَّه عليها مُلتمِسًا انتباهَ القاضي.

وقال: «هل يُمكِنني أن أقدِّم تفسيرًا يا سيدي؟ أنا …»

وهنا تدخَّلَ مستشار الخزانة الذي هبَّ واقفًا، وكان هذه المرةَ صارمًا وحازمًا. وقال: «أريد أن أوضِّح يا سيدي أن السيد إيلمور كان بالفعل في منصة الشهود، ولم يكن حينها مستعدًّا لتقديم أي تفسيراتٍ على الإطلاق، أو حتى للإجابة عن أسئلة؛ لذا ألتمس منك قبل أن تسمح له بتقديم التفسير الآن، أن تسمع شاهِدًا آخَرَ أودُّ أن أستدعيَه في اللحظة الراهنة. وهذا الشاهد هو …»

التفت السيد إيلمور إلى القاضي فيما يُشبه الغضب.

وقال في إصرار: «بعد شهادة الشاهد الأخير، أعتقد أن لديَّ الحقَّ في أن أتحدَّث على الفور. إذ يبدو من سَير الأمور في اللحظة الراهنة كما لو أنني استخففتُ بسيادتك وبالمحلَّفين، لكن لو سُمِح لي بتقديم تفسير ﺳ…»

قال مستشار الخِزانة حازمًا: «لا أجد مَفرًّا من أن أطلب — مع كامل الاحترام — أن تُسمَع شهادةُ الشاهد الذي أشرتُ إليه قبل أن يُسمَح للسيد إيلمور بتقديم أي تفسير. فثَمَّةَ أسبابٌ وجيهة لطلبي.»

قال القاضي: «أخشى أنك ستُضطر إلى الانتظار قليلًا يا سيد إيلمور إذا أردتَ أن تُقدِّم تفسيرًا.» والتفت إلى المستشار. وسأل: «مَن يكون هذا الشاهد الآخر؟»

تراجَع إيلمور. ولاحَظ سبارجو أن صُغرى ابنتَيْه كانت تُحدِّق فيه في قلق. لم ترتسم على ملامحها أَمَاراتُ شكٍّ في أبيها، لكنها كانت قَلِقة. والتفتَتْ هي الأخرى ببطءٍ إلى الشاهد التالي. ولم يكن إلا الحارس الذي يعمل في نُزُل إمبانكمنت بزقاق ميدل تمبل. طرح عليه مستشارُ الخِزانة سؤالًا مباشِرًا على الفور.

قال وهو يشير إلى إيلمور: «أترى ذلك السيد النبيل؟ هل تعرفه كأحدِ نُزلاء تمبل؟»

حدَّقَ الرجل إلى إيلمور في ارتباكٍ ظاهر.

وقال: «بالتأكيد يا سيدي. أعرفه جيدًا يا سيدي.»

سأل المستشار: «جيد جدًّا. بأي اسم تعرفه؟»

زاد ارتباك الرجل.

وأجاب: «الاسم! السيد أندرسون يا سيدي. السيد أندرسون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤