الفصل الثالث عشر

الاشتباه

ضجَّتْ قاعة المحكمة المزدحمة بغمغماتِ مفاجأةٍ استعصَت على السيطرة عندما نطق الرجل الماثل في منصة الشهود بإجابته. فقد دلَّت إجابتُه على عدةِ أشياء، أولها أنه كان من بين الحضور مَن توقَّعوا هذا التطوُّرَ الدرامي؛ وثانيها أن آخَرين من بين الحضور لم يتوقَّعوه؛ وثالثها أن الإجابةَ نفسَها لم تكن إلا تمهيدًا للمزيد من التطوُّرات. ولما نظر سبارجو حوله لاحَظَ أنَّ وقْعَ المفاجأةِ على ابنتَي إيلمور كان مختلفًا. فقد أخفضَت كُبراهما وجهَها حتى تعذَّرت رؤيته، في حين انتصبَت الصُّغرى في جلستها تمامًا وحدَّقَت في أبيها في حيرةٍ شديدة وحقيقية. وللمرة الأولى لم يَصدُر عن إيلمور ما يردُّ به على حيرتها.

لكن الأمور مضَت في مسارها بلا توقُّف. لم تَعُد هناك وسيلةٌ لكبح جِماح مستشار الخزانة الآن، سيستخلص الحقيقة أو بعضًا منها على طريقته الخاصة التي لا هوادةَ فيها. كانت عيناه قد تلاقَت مع عينَي القاضي مرةً واحدة فقط، وهمس بشيء لمحامي الإجراءات الذي كان يجلس بجواره، وها هو يعود لتوجيه انتباهه إلى الشاهد.

قال: «تأكَّد الآن! هل هو صحيح أنك تعرف هذا السيد باسم السيد أندرسون، وهو نزيلٌ في تمبل؟»

«نعم يا سيدي.»

«ولا تعرفه بأي اسم آخَر؟»

«كلا يا سيدي.»

«منذ متى تعرفه بهذا الاسم؟»

«منذ سنتَين أو ثلاث يا سيدي.»

«وكنتَ تراه يدخل ويخرج بانتظام؟»

«كلا يا سيدي … ليس بانتظام.»

«بأيِّ وتيرةٍ إذن؟»

«من وقتٍ لآخَر سيدي، ربما مرةً واحدة في الأسبوع.»

«أخبِرنا بما تعرفه عن دخول السيد أندرسون وخروجه.»

«قد أراه ليلتَين متتاليتَين، ثم لا أراه لمدة أسبوع أو أسبوعَين، يمكن القول إنها وتيرةٌ غيرُ منتظمة يا سيدي.»

«تقول «ليلتَين». فهل معنى ذلك أنك لا ترى السيد أندرسون إلا ليلًا؟»

«نعم سيدي. لم أرَ السيد أندرسون قطُّ إلا ليلًا. ودائمًا في الوقت نفسِه تقريبًا يا سيدي.»

«أي وقت؟»

«نحوَ منتصف الليل يا سيدي.»

«حسنًا. هل تتذكَّر منتصف ليل الحادي والعشرين-الثاني والعشرين من يونيو؟»

«نعم يا سيدي.»

«هل رأيت السيد أندرسون يدخل في ذلك الوقت؟»

«نعم يا سيدي، بعد الثانيةَ عشرةَ مباشَرةً.»

«وهل كان بمفرده؟»

«كلا سيدي، كان برفقته رجلٍ آخَر.»

«هل تتذكَّر أي شيء عن الرجل الآخر؟»

«كلا سيدي، لا أتذكَّر إلا أني لاحظتُ وهما يمرَّان أن الرجل الآخَر كان يرتدي ملابسَ رمادية.»

«يرتدي ملابسَ رمادية. ألم تَرَ وجهَه؟»

«ليس بما يكفي لتذكُّره، يا سيدي. لا أتذكَّر إلا ما أخبرتُك به سيدي.»

«الذي هو أن الرجلَ الآخَر كان يرتدي بِذلةً رمادية. لكن إلى أين ذهب السيد أندرسون وذلك الرجل ذو البذلة الرمادية بعدما مرَّا؟»

«إلى زقاق ميدل تمبل مباشَرةً يا سيدي.»

«هل تعلم أين يوجد مسكن السيد أندرسون في تمبل؟»

«ليس بالتحديد يا سيدي، لكني فهمتُ أنه في فاونتن كورت.»

«والآن أخبرني، في الليلة التي نتحدَّث عنها، هل غادَرَ السيد أندرسون مرةً أخرى؟»

«كلا، يا سيدي.»

«هل سمعتَ عن اكتشافِ جثةِ رجلٍ في زقاق ميدل تمبل في الصباح التالي؟»

«نعم، سيدي.»

«هل توقَّعت أن يكون ذلك الرجلُ هو الرجلَ ذا البذلة الرمادية؟»

«كلا، يا سيدي. لم يخطر ذلك ببالي. فالكثير من الرجال الذين يعيشون في تمبل يُحضِرون معهم أصدقاءَ لهم في وقتٍ متأخر من الليل؛ ولم أشغَل تفكيري بهذا الأمر قطُّ.»

«ولم تَذكُر ذلك لأحدٍ قبل أن تُستدعى إلى هنا الآن؟»

«نعم سيدي، لم أذكره لأحدٍ قطُّ.»

«ولم تعرف للرجل الواقفِ هناك أيَّ هُوِية غير أنه السيد أندرسون؟»

«نعم سيدي، لم أسمع له بأيِّ اسم غير أندرسون.»

نظر قاضي الوَفَيَات إلى المستشار.

وقال: «أعتقد أن هذه قد تكون فرصةً مناسِبة للسيد إيلمور ليُقدِّم التفسيرَ الذي أراد تقديمَه منذ دقائقَ قليلة. فهل تقترح أي شيء؟»

رد المستشار: «أقترح يا سيدي أن السيد إيلمور إذا أراد أن يُقدِّمَ أيَّ تفسير، فعليه أن يعود إلى مِنصة الشهود، وأن يُسمَح بإعادة استجوابه تحت القَسَم. الأمر مرهونٌ بأمرك.»

التفت قاضي الوَفَيَات لإيلمور.

وقال: «هل تعترض على ذلك؟»

تقدَّم إيلمور في جُرأة إلى الأمام وصعد إلى منصة الشهود.

وقال بنبرة واضحة: «لا أعترض على أي شيءٍ سِوى أن يُطلَب مني الإجابة عن أسئلةٍ متعلقة بأمور في الماضي لا علاقةَ لها بهذه القضية، ولا يُمكِن أن تمُتَّ لها بصِلة. اطرَحوا عليَّ كل ما أثارَتْه شهادتا الشاهِدَين الأخيرين من أسئلة، وسأُجيب عنها إلى الحد الذي أعتبره أنا مناسبًا. أمَّا إذا سألتموني عن أمورٍ مضى عليها عِشرون عامًا، فسأحتكم في قرار الإجابة أو رفض الإجابة إلى تقديري الشخصي. ويجدر بي القولُ إني مستعِدٌّ لمواجَهة تَبِعات صمتي أو كلامي.»

قام مستشار الخزانة مجددًا.

وقال: «جيد جدًّا يا سيد إيلمور. سأطرح عليك أسئلةً محدَّدة. هل سمعتَ شهادةَ ديفيد لايل؟»

«نعم.»

«هل كان ما قاله عنك صحيحًا؟»

«صحيحٌ تمامًا، لا غبارَ عليه.»

«وقد سمعتَ شهادةَ الشاهد الأخير. فهل كان ما قاله هو أيضًا صحيحًا؟»

«نعم، هذا أيضًا صحيح.»

«إذن أنت تعترف أن الشهادةَ التي أدليتَ بها هذا الصباحَ — قبل أن يظهر هذان الشاهِدان — لم تكن صادِقة؟»

«كلا، لا أعترف بذلك! لا أعترف بذلك البتَّة. لقد كانت شهادةً صادقة.»

«صادقة؟ لقد قلتَ لي وأنت تحت القَسَم، إنك افترقتَ عن جون ماربري على جسر ووترلو!»

«معذرة، أنا لم أقُل شيئًا كهذا. بل قلتُ إننا خرجنا من فندق أنجلو أورينت ثم تمشَّينا بطول جسر ووترلو، ثم افترقنا بعد ذلك بقليل، ولم أقُل أين افترقنا. أرى كاتبًا موجودًا هنا يُدوِّن كلَّ شيء، اسأله عما قلتُه بالضبط.»

استُشِير الكاتب، فأكَّد صحةَ كلام إيلمور، فامتعض مستشار الخِزانة بوضوح.

وقال: «على أي حال، لقد صُغتَ إجابتَك على نحوٍ يجعل تسعةً من كل عشرة أشخاص يفهمون أنك افترقتَ عن ماربري في الشوارع المفتوحة بعد عبور جسر ووترلو. والآن …؟»

ابتسم إيلمور.

وقال وهو ينظر شزَرًا: «لستُ مسئولًا عن فَهمِ تسعةٍ من كل عشَرة أشخاص، ولا عن فَهْمك. سأُكرِّر ما قلتُه: عبَرت أنا وماربري جسر ووترلو، ثم افترقنا بعد ذلك بوقتٍ قصير. لقد أخبرتُك بالحقيقة.»

«صحيح! ربما يُمكِنك أن تُواصِل إخبارنا بالحقيقة. بما أنك أقررتَ بأن شهادتَي الشاهِدَين الأخيرين صحيحتان تمامًا، فهل يُمكِنك إخبارُنا أين افترقتَ عن السيد ماربري بالتحديد؟»

«على الرحب والسعة. افترقنا عند باب مسكني في فاونتن كورت.»

«إذن — للتأكيد — هل كنتَ أنت مَن اصطحب ماربري إلى تمبل تلك الليلة؟»

رد إيلمور: «بالتأكيد أنا مَن اصطحب ماربري إلى تمبل تلك الليلة.»

سرَت الغمغماتُ بين المقاعد المكتظَّة من جديد. فقد باتت هناك حقيقةٌ راسخة مهمة. وبدأ سبارجو يتصوَّر مسارًا للأحداث لم يتوقَّعْه.

«هذا اعترافٌ صريح يا سيد إيلمور. أظنك تُدرِك خطرَه عليك.»

«لا حاجةَ لي لأقول ما إذا كنتُ أدرك الخطر أم لا. فقد أقررتُ بالأمر فحسب.»

«جيد جدًّا. لِمَ لَم تُقدِّم هذا الاعترافَ من قبلُ؟»

«لأسبابي الخاصة. أخبرتُك بما اعتبرتُه ضروريًّا لهذا التحقيق. ولم أُغيِّر شيئًا الآن. طلبتُ الإذنَ لتقديمِ تفسيرٍ فورَ أن غادَر السيد لايل منصةَ الشهود، ولم أُمنَح الإذن. وأريد أن أُقدِّم التفسيرَ الآن.»

«قدِّمه إذن.»

قال إيلمور ملتفتًا إلى القاضي: «التفسير كما يلي: خلال السنوات الثلاث الماضية، كنتُ أستأجر مسكنًا بسيطًا في تمبل، بحيث يُمكِنني من وقتٍ لآخَر، أن أقصده في وقتٍ متأخر من الليل. كما قرَّرت لأسبابي الخاصة التي أعتقد أنها لا تعني أحدًا أن أستأجر هذا المسكنَ باسم السيد أندرسون. وقد صحبني ماربري في منتصف تلك الليلة عدةَ دقائقَ إلى مسكني هذا. ولم يلبث هناك أكثرَ من خمس دقائق كان خلالها يقف في الخارج، تركتُه على بابي الخارجي، وفهمت أنه سيُغادِر تمبل من الطريق نفسِه الذي دخل منه، ثم سيعود إلى فندقه مباشَرةً راكبًا أو ماشيًا. هذه هي الحقيقة الكاملة. وأريد أن أضيفَ أنه ربما كان عليَّ الإفصاحُ عن كل ذلك في البداية. لكن كانت لديَّ أسبابٌ للامتناع عن ذلك. فأفصحتُ بما اعتبرتُه ضروريًّا، وهو أني افترقتُ عن ماربري وهو حيٌّ يُرزَق بعد منتصف الليل بقليل.»

سأل مستشار الخزانة: «وما الأسباب التي منعَتْك من الإفصاح عن كل هذا من البداية؟»

«أسبابٌ خاصة بي.»

«هل ستُخبِر هيئةَ المحكمة بها؟»

«كلا!»

«إذن هل ستُخبرنا لماذا رافَقَك ماربري إلى المسكن الذي تستأجره في فاونتن كورت باسم أندرسون؟»

«نعم. كان ذلك لإحضارِ وثيقةٍ تخصُّه كانت في حوزتي منذ عشرين عامًا أو أكثر.»

«وثيقة مهمة؟»

«في غاية الأهمية.»

«هل يعني هذا أنها كانت معه عندما قُتِل وسُرِقت متعلقاته حسب اعتقادنا لما جرى له؟»

«كانت معه عندما تركني.»

«هل ستُخبِرنا بماهية الوثيقة؟»

«قطعًا لا.»

«إذن أنت لن تُخبرنا إلا بما تختار الإفصاحَ عنه؟»

«أخبرتُك بكل ما يُمكِنني الإفصاحُ عنه من وقائع تلك الليلة.»

«إذن سأسألك سؤالًا في صُلب الموضوع. أليس صحيحًا أنك تعرف عن جون ماربري أكثرَ بكثير مما أخبرتَ به هيئة المحكمة؟»

«أرفض الإجابةَ عن هذا السؤال.»

«أليس صحيحًا أن بإمكانك أن تُخبِر هيئة المحكمة بالمزيد عن جون ماربري ومعرفتك به منذ عشرين عامًا إن أردت؟»

«أرفض الإجابة عن هذا السؤال أيضًا.»

حرَّك مستشار الخِزانة كتفَيه حركةً خفيفة، والتفت إلى القاضي.

وقال في هدوء: «أقترح يا سيدي أن تُؤجِّل هذا الاستجواب.»

قال القاضي موافِقًا وملتفتًا إلى المحلَّفين: «لأسبوع.»

تدفَّقَ الحشد إلى خارج المحكمة يُدردشون ويُغمغمون ويتعجَّبون … واختلط المتابِعون والشهود والمحلَّفون والصحفيون والقانونيون جميعًا معًا. وأخذ سبارجو يشقُّ طريقًا لنفسه بينهم وهو مستغرِق في التفكير في قيمةِ ما أضْفَتْه وقائعُ ذلك اليوم من تغييرات على ملامح كل شيء، وفجأةً شعر بيدٍ تُمسِك بذراعه. ولما التفت وجد نفسَه يحدِّق في جيسي إيلمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤