الفصل العشرون

ميتلاند، الاسم المستعار ماربري

غرَسَت تلك الفكرةُ بذرةَ تصوُّر جديد للأمور في ذهن سبارجو، وذهبَت بخياله إلى آفاقٍ لا حدَّ لها، حتى إنه جلس لوهلة صامتًا يُحدِّق في محدِّثه الذي أطلق ضحكةً خفيفة حين رأى اندهاش زائره.

وأخيرًا قال سبارجو: «أتقصد أن تُخبرني أنَّ هناك أُناسًا في هذه البلدة لا يزالون يعتقدون أن التابوت الذي استقرَّ في مقابركم، والذي من المفترض أن به جثمانَ تشامبرلين، ليس فيه في الحقيقة إلا … رصاص؟»

رد السيد كوارتربيدج: «أناس كثيرون يا سيدي العزيز. أناس كثيرون! انزل إلى الشارع واسأل أولَ ستة رجال تلتقي بهم، أراهن أنك ستجد أربعةً من الستة يعتقدون ذلك.»

سأل سبارجو: «لماذا إذن لم يتخذ أحدٌ أيَّ خطوات للتحقُّق من الأمر؟ لماذا لم يستصدروا أمرًا لنبش القبر؟»

أجاب السيد كوارتربيدج: «لأن ذلك لم يكن من شأن أحد. أنت لا تعرف كيف هي حياة البلدات الريفية يا سيدي العزيز. ففي بلدةٍ مثل ماركت ميلكاستر يتحدَّث الناس ويُثرثرون كثيرًا، لكنهم قلَّما يفعلون شيئًا. الأمر متوقِّفٌ على مَن سيتخذ خطوة أولًا … على أخذ زمام المبادَرة. إذا وجدوا أن الأمر سيُكلِّفهم شيئًا، فسيُحجِمون عن فعل أي شيء.»

قال سبارجو: «لكن، ماذا عن مسئولي البنك؟»

هز السيد كوارتربيدج رأسه رافضًا.

وقال: «إنهم ممَّن يظنون أن تشامبرلين قد مات بالفعل، فعائلتا جاتشبي وهوستابل أناسٌ قديمو الطراز محدودو التفكير، تقبَّلوا روايةَ ابن الأخ والطبيب والمحامي. لكن دَعْني أخبرك شيئًا عن هؤلاء الثلاثة. ذات مرة جاء رجلٌ من زملائك في المهنة للعمل محرِّرًا في هذه الصحيفة التي على ركبتك. وأثارت قضيةُ تشامبرلين فضولَه، فبدأ يطرح الأسئلةَ ليحصل على … ماذا تسمونها؟»

قال سبارجو: «مادة صحفية جيدة، على ما أظن.»

وافَقه السيد كوارتربيدج: «مادة صحفية … هذه هي. تجشَّمَ الرجلُ عناءَ السفر إلى لندن لطرح أسئلة هادئة عن ستيفن، ابن الأخ. كان هذا بعد دفن تشامبرلين باثني عشر شهرًا فقط. لكنه اكتشف أن ستيفن تشامبرلين غادَر إنجلترا قبل ذلك بعدة أشهر. اختفى، على حدِّ قول الناس، ذهب إلى أحد المستعمرات، لكنهم لم يعلموا أيَّ مستعمرة. والمحامي أيضًا اختفى. وكذلك الطبيب، لم يُعثَر له على أثر، لم يُجدِ الرجوع إلى السجلِّ الطبي فائدةً في العثور عليه. ما قولك في كل هذا يا سيد سبارجو؟»

أجاب سبارجو: «أعتقد أن أهاليَ ماركت ميلكاستر شديدو التقاعُس. لو كان الأمر بيدي لَأمرتُ بالتحقيق في ظروف الوفاة والدفن. فالأمر برمته يبدو مؤامَرة.»

قال السيد كوارتربيدج: «الأمر أن هذا لم يكن من شأن أحد. حاوَل الصحفيُّ إثارةَ الاهتمام بالقضية، لكن ذلك لم يُجدِ شيئًا، وغادَر بعد ذلك بوقت قصير للغاية. وهكذا انتهى كلُّ شيء.»

قال سبارجو: «سيد كوارتربيدج، ما رأيك أنت بصراحة؟»

ابتسم العجوز.

وقال: «أوه! لطالما تساءَلتُ يا سيد سبارجو عما إذا كان لي رأيٌ في هذا الأمر حقًّا. أعتقد أن انطباعي عن الأمر كله أن غموضًا شديدًا كان يكتنفه. لكن يبدو يا سيد سبارجو أننا ابتعَدْنا كثيرًا عن موضوع التذكرة الفِضية التي تحملها في محفظتك. والآن …»

قاطَع سبارجو مضيفَه ملوحًا بإصبعه: «كلا! بل أعتقد أننا نقترب من الموضوع أكثر. لقد منحتَني الكثيرَ من وقتك يا سيد كوارتربيدج، وأخبرتَني بالكثير، وقبل أن أُخبرك أنا بما لديَّ — وهو كثير أيضًا — سأُرِيك شيئًا.»

أخرَجَ سبارجو من دفتر ملاحظاته الذي كان يحمله في جيبه صورةً لجون ماربري كانت مثبتةً بداخله جيدًا، كانت الصورةَ الأصلية التي التقطها لصحيفة «ووتشمان». سلَّمَها للسيد كوارتربيدج.

وسأله: «هل تعرف صاحبَ هذه الصورة؟ انظر إليها جيدًا.»

ارتدى السيد كوارتربيدج نظارة خاصة، وفحص الصورةَ من عدة زوايا.

وأخيرًا هز رأسه وقال: «كلا، يا سيدي. لا أعرفه على الإطلاق.»

سأل سبارجو: «أَلَا ترى فيه تشابُهًا مع أيِّ رجل كنتَ تعرفه يومًا ما؟»

رد السيد كوارتربيدج: «كلا يا سيدي! لا أحد على الإطلاق.»

وضع سبارجو الصورةَ على الطاولة الفاصلة بينهما وقال: «حسنًا. إذن أخبرني كيف كان شكلُ جون ميتلاند عندما كنتَ تعرفه. وأُريدك أيضًا أن تصفَ شكلَ تشامبرلين عندما مات، بافتراض أنه مات فعلًا. لا بدَّ أنك تتذكَّرهما جيدًا، صحيح؟»

قام السيد كوارتربيدج، وتوجَّه إلى الباب.

وقال: «يُمكِنني أن أفعل ما قد يُفيدك أكثرَ من ذلك. يُمكِنني أن أُرِيك صورةً للرجلين كما كان شكلهما قبل محاكَمة ميتلاند مباشَرةً. لديَّ صورة لثُلَّة من وجهاء ماركت ميلكاستر التُقِطت في حفل في حديقة البلدية، يظهر فيها كلٌّ من ميتلاند وتشامبرلين. كانت محفوظةً في خِزانة في غرفة الاستقبال بمنزلي سنواتٍ طِوالًا، ولا شكَّ لديَّ أنها واضحة كما كانت يوم التُقِطت.»

وغادَر الغرفة ثم عاد بعد وقتٍ قصير يحمل صورة فوتوغرافية كبيرة وضعها على الطاولة أمام زائره.

وقال: «تفضَّل يا سيدي. واضحة جدًّا، كما ترى، لا بد أن عشرين عامًا قد مضت منذ آخِرِ مرة خرجَتْ فيها من الدُّرج الذي كانت فيه. انظر، هذا هو ميتلاند. وهذا تشامبرلين.»

وجد سبارجو نفسَه ينظر إلى مجموعةٍ من الرجال يقفون أمام جدارٍ مكسوٍّ باللبلاب في وضعياتٍ متشنجة كالتي يُرتِّب فيها المصوِّرون مَن يصوِّرنهم قائمين وجالسين. وركَّز انتباهَه على الشخصَين اللذين أشار إليهما السيد كوارتربيدج، فوجد رجلَين متوسِّطَي الطول، قويَّي البِنية، لم يكن في هيئتَيهما ما يجذب الانتباه.

قال متفكِّرًا: «إمممم. كلاهما مُلتحٍ.»

وافَقه السيد كوارتربيدج: «نعم، كلاهما مُلتحٍ، لحيتان كاملتان. لاحِظ أنهما لم يكونا متشابِهَين كثيرًا. لكن ميتلاند كانت بشَرتُه أغمقَ من بشرة تشامبرلين، وعيناه بُنِّيتين، أما عينا تشامبرلين فكانتا باللون الأزرق الفاتح.»

قال سبارجو: «إزالة اللحى تُغيِّر الشكل كثيرًا.» ونظر إلى صورة ميتلاند بين المجموعة، وأخذ يُقارِنها بصورة ماربري التي أخرَجها من جيبه. ثم قال متفكرًا: «والعشرون عامًا أيضًا تُغيِّر الشكل.»

قال العجوز: «بالنسبة إلى بعض الناس تُغيِّر العشرون عامًا الشكلَ تغييرًا كبيرًا يا سيدي. وبالنسبة إلى آخَرين لا تُغيِّر شيئًا، فأنا لم يتغيَّر شكلي كثيرًا في العشرين عامًا الأخيرة حسَبما يُقال لي. لكني رأيتُ بعض الرجال يتغيَّر شكلهم، ويَشِيخون حتى يتعذَّر التعرُّف على شكلهم الجديد في خمسة أعوام فقط. الأمر يعتمد على ما يمرون به يا سيدي.»

وضع سبارجو الصورَ جانبًا فجأة، ووضع يدَيه في جيوبه، وأخذ ينظر إلى السيد كوارتربيدج في ثبات.

وقال: «اسمع، سأخبرك بما أبحث عنه يا سيد كوارتربيدج. لا شكَّ أنك سمعتَ عما يُعرَف بجريمة قتل ميدل تمبل … قضية ماربري، صحيح؟»

رد السيد كوارتربيدج: «نعم، لقد قرأتُ عنها.»

سأل سبارجو: «هل قرأتَ ما كُتِب عنها في صحيفتِي «ووتشمان»؟»

هز السيد كوارتربيدج رأسَه نافيًا.

رد السيد كوارتربيدج: «لم أقرأ إلا صحيفةً واحدة منذ شبابي. أشتري صحيفة «ذا تايمز» يا سيدي … نشتريها منذ وقتٍ طويل، حتى عندما كانت تخضع للضرائب.»

قال السيد سبارجو: «جيد جدًّا. لكن ربما يُمكِنني أن أخبرك بما يَزيد عمَّا قرأتَ أنت، فأنا أعمل على هذه القضية منذ العثورِ على جثةِ رجلٍ يُعرَف باسم جون ماربري. أعِرْني انتباهَك، وسأخبرك بالقصة كلها منذ لحظة العثور على الجثة حتى الآن.»

طفق سبارجو يحكي بإيجاز واقتضابٍ قصةَ قضية ماربري منذ بداية انخراطه فيها حتى اكتشاف التذكرة الفضية، وأنصت السيد كوارتربيدج في اهتمامٍ شديد، وأخذ يُومِئ برأسه من وقتٍ لآخرَ في حين كان الشابُّ يحكي القصة.

اختتم سبارجو قصتَه قائلًا: «والآن يا سيد كوارتربيدج، هذه هي المرحلة التي وصلتُ إليها. وأعتقد أن الرجل الذي جاء إلى فندق أنجلو أورينت باسم جون ماربري وقُتِل بلا شكٍّ تلك الليلةَ في زقاق ميدل تمبل كان جون ميتلاند … لا شكَّ لديَّ في ذلك بعد ما أخبرتَني به عن التذكرة الفضية. لقد وصلتُ للكثير من المعلومات القيِّمة هنا، وأعتقد أني أقترب من حلِّ اللغز. أيْ من اكتشاف قاتِل جون ميتلاند، أو ماربري. ما أخبرتَني به عن قصة تشامبرلين جعلني أُفكِّر في احتماليةِ وجودِ شخصٍ أو أشخاص في لندن كانوا يسعَون للعثور على ماربري — فَلْندعُه بهذا الاسم — وأن هذا الشخص التقى به تلك الليلة بشكلٍ ما، وكان يسعى لإسكاته، كي لا يتحدَّث عن موضوع تشامبرلين. لقد دفعني كلُّ ما يُحيط بإيلمور من غموض، وامتناعه عن الإفصاح عن أي تفاصيل عن نفسه، إلى التساؤل عمَّا إذا كان إيلمور هو في الحقيقة تشامبرلين. نعم، لقد خطر هذا التساؤل ببالي! لكن إيلمور طويلُ القامة، وقويُّ البِنية، طوله ستُّ أقدام، ولحيته كانت داكنة جدًّا، بالرغم من أن الشيب غزاها الآن، أمَّا تشامبرلين فأنت تقول إنه متوسط الحجم، وأشقر ذو عينَين زرقاوَين.»

وافَقه السيد كوارتربيدج: «هذا صحيحٌ سيدي. لقد كان رجلًا متوسِّط البِنية، وأشقرَ شديد الشُّقْرة. يا للعجب يا سيد سبارجو! … هذا اكتشاف. هل تعتقد حقًّا أن جون ميتلاند وجون ماربري هما الشخص نفسُه؟»

قال سبارجو: «أنا متأكدٌ من ذلك الآن. هذا تصوُّري للأمر. عندما أُطلِق سراحُ ميتلاند سافَرَ إلى أستراليا، واستقرَّ فيها. ثم عاد في النهاية ويُسْر الحال بادٍ عليه. وقُتِل يومَ وصوله. إيلمور هو الرجل الوحيد الذي يعرف أيَّ شيء عنه، لكنه يرفض الإفصاحَ عن كل ما لديه، هذا واضح. لكن إيلمور أقرَّ بأنه كان يعرفه في وقتٍ غير محدَّد، ربما منذ واحدٍ وعشرين أو اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين عامًا. لكن، أين كان يعرفه إيلمور؟ يقول إنه كان يعرفه في لندن، لكن هذا ليس دقيقًا. يرفض تحديدَ المكان، ويرفض الإفصاحَ عن أي شيء محدَّد، ويرفض حتى الإفصاح عن العمل الذي كان يُزاوِله هو ذلك الحين. هل تتذكَّر أيَّ شيء عن قدومِ شخصٍ مثل إيلمور إلى هنا للقاء ميتلاند يا سيد كوارتربيدج؟»

أجاب السيد كوارتربيدج: «كلا، ميتلاند كان رجلًا هادئًا جدًّا وانطوائيًّا يا سيدي، كان أهدأَ رجلٍ في البلدة تقريبًا. لا أتذكَّر استقبالَه لأيِّ زائرين قط، وبالتأكيد لا أتذكَّر له صديقًا من تلك الأيام تنطبق عليه أوصافُ إيلمور التي أخبرتَني بها.»

سأل سبارجو: «وهل كان ميتلاند يزور لندن تلك الأيام؟»

ضحك السيد كوارتربيدج.

وقال: «سأُثبِت لك قوةَ ذاكرتي، سأخبرك بشيءٍ حدث في فندق يلو دراجون قبل ذيوع قصة ميتلاند بأشهُرٍ قليلة. ذاتَ مساءٍ كان عددٌ منا هناك، وجاء ميتلاند برفقة تشامبرلين على غير العادة. وحدث أنْ قال تشامبرلين إنه سيذهب إلى لندن في اليوم التالي، كان يذهب إليها ويعود منها كثيرًا، فبدأنا نتحدَّث عن لندن. وخلال الحديث قال ميتلاند إنه يعتقد أنه الرجل الوحيد تقريبًا ممَّن يُماثِلونه سنًّا في إنجلترا — ولا شكَّ أنه كان يعني أيضًا مَن يُماثِلونه في الطبقة الاجتماعية والظروف — الذي لم يَرَ لندن قط! ولا أعتقد أنه زارها بين ذلك الوقت ووقت محاكَمته، بل إني متأكدٌ أنه لم يَزُرها؛ لأنه لو كان زارها، لَكنتُ سمعتُ بخبر ذلك.»

قال سبارجو: «هذا غريب، هذا غريب جدًّا؛ لأني متأكدٌ أن ميتلاند وماربري هما الشخص نفسُه. فرضيتي عن تلك العُلْبة الجلدية القديمة هي أن ميتلاند كان قد دفَنَها بعنايةٍ قبل القبض عليه، وأنه أخرَجَها عندما خرَج من دارتمور، ثم أخذها إلى أستراليا معه، ثم عاد بها، وأن التذكرة الفضية والصورة كانتا فيها طوال هذه السنوات. والآن …»

في هذه اللحظة فُتِح باب المكتبة، ودخلت خادمةٌ ونظرت إلى سيدها وقالت:

«هناك عاملٌ من فندق يلو دراجون على الباب الأمامي يا سيدي. ومعه برقيتان للسيد سبارجو وصلا إلى الفندق، يعتقد أنه قد يودُّ الاطِّلاعَ عليهما على الفور.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤