الفصل الحادي والعشرون

اعتقال

هُرِع سبارجو إلى صالة الاستقبال، وأخذ البرقيتَين من عامل فندق يلو دراجون، وفتح المظروفَين، وقرأ الرسالتَين سريعًا. ثم عاد إلى السيد كوارتربيدج.

قال وهو يُغلِق باب المكتبة ويعود إلى مقعده: «هناك أخبارٌ مهمة. سأقرأ لك هاتَين البرقيتَين سيدي، وبعد ذلك يُمكِننا مناقَشتُهما في ضوء ما كنَّا نتحدث عنه هذا الصباح. البرقية الأولى من مكتبنا. قلتُ لك إننا أرسلنا إلى أستراليا نطلب تقريرًا كاملًا عن ماربري من كولومبيدجي، وهو المكان الذي قال إنه أتى منه. وصل التقرير للتوِّ إلى صحيفة «ووتشمان»، وأرسلوه إليَّ. إنه من رئيس شرطة كولومبيدجي إلى رئيس تحرير صحيفة «ووتشمان» في لندن، وجاء فيه:

جاء جون ماربري إلى كولومبيدجي في شتاء ١٨٩٨-١٨٩٩. ولم يكن معه أحد. بدا أنه كان يمتلك ثروةً لا يُستهان بها، واشترى حصةً في مزرعةِ خِراف صغيرة من مالِكها أندرو روبرتسون. لم يزَل هذا الرجل هناك، ويقول إن ماربري لم يُخبِره بشيءٍ عن نفسه قطُّ سوى أنه هاجَرَ لأسباب صحية وأنه كان أرملًا. وذكر أنه كان له ابنٌ لكنه مات، ولم يَعُد له أقاربُ الآن. عاش حياةً هادئة جدًّا ومستقرة في مزرعة الخِراف، ولم يُغادِرها عدةَ سنوات. لكنه منذ ستةِ أشهر تقريبًا زار ميلبورن، وعندما عاد أخبر روبرتسون أنه قرَّر العودةَ إلى إنجلترا على إثْرِ خبرٍ ما وصَلَه؛ لذا عليه أن يبيع حصتَه في مزرعة الخِراف. اشتراها منه روبرتسون نظيرَ ثلاثةِ آلاف جنيه، وبعدها بوقتٍ قصير رحل ماربري متجهًا إلى ميلبورن. ويعتقد روبرتسون بِناءً على ما ورده من أنباء أن ماربري كان يمتلك خمسة أو ستة آلاف عندما رحل عن كولومبيدجي. أخبر روبرتسون أنه التقى برجلٍ في ميلبورن أنبأه بخبرٍ صدَمَه، لكنه لم يُفصِح عن فحوى الخبر. وعندما ترك روبرتسون كان يحمل الأمتعةَ نفسَها التي أحضرها معه عندما أتى، وهي حقيبةُ سفرٍ كبيرة، وعُلْبة جلدية صغيرة مربعة. ولم يترك في كولومبيدجي أيًّا من متعلقاته.»

قال سبارجو وهو يضع البرقية الأولى على الطاولة: «انتهت البرقية.» ثم واصَل: «يبدو لي أنها تحمل دلالاتٍ كثيرة. ولكن إليك النبأَ الأخطر. هذه البرقية من راثبري محقِّق سكوتلاند يارد الذي حدَّثتكَ عنه يا سيد كوارتربيدج، فقد تعهَّد بإطلاعي على ما يستجدُّ في غيابي. إليك ما كتب:

ظهرت أدلةٌ جديدة تُدين إيلمور. وقرَّرت السلطات اعتقالَه للاشتباه فيه. يجدر بك الإسراع بالعودة إذا أردتَ مادةً لعددِ الغد من الصحيفة.»

وضع سبارجو هذه البرقيةَ أيضًا من يده، وانتظر ريثما أخذ العجوز ينظر إلى البرقيتَين بفضولٍ ظاهر، وفجأةً هبَّ واقفًا.

وقال: «أنا مضطرٌّ إلى الانصراف يا سيد كوارتربيدج. لقد تفقَّدتُ جدولَ القطارات هذا الصباح لكي أكون مستعدًّا. يُمكِنني ركوب قطار الواحدة وعشرين دقيقة إلى بادينجتون … وبهذا سأصل قبل الرابعة والنصف. لا تزال لديَّ ساعةٌ من الزمن. هناك رجل آخَر كنت أودُّ مقابَلتَه في ماركت ميلكاستر. المصوِّر، أو بالأحرى أي مصوِّر. هل تتذكَّر أني أخبرتُكَ عن صورةٍ وُجِدت مع التذكرة الفضية؟ أُخمِّن أنها التُقِطت هنا، وأريد أن أقابِل الرجل الذي التقطها، إذا كان لا يزال على قيد الحياة، وإن أمكنني لقاؤه.»

قام السيد كوارتربيدج واعتمر قبعته.

وقال: «لا يوجد في هذه البلدة سوى مصورٍ واحد يا سيدي، وهو يعمل هنا منذ سنوات عديدة، اسمه كوبر. سآخذك إليه، لا يفصلنا عنه سوى مبانٍ قليلة.»

لم يُضيِّع سبارجو أيَّ وقت وهو يُخبِر المصوِّرَ بما أراد. وسأل السيد كوبر العجوز سؤالًا مباشرًا.

بعد أن قدَّمه السيد كوارتربيدج بصفته رجلًا من لندن يود طرْحَ بضعةِ أسئلة، قال سبارجو: «هل تتذكَّر التقاطَ صورةٍ لابن جون ميتلاند، مدير المصرف، منذ نحو عشرين أو واحد وعشرين عامًا؟»

رد السيد كوبر: «أتذكَّر ذلك جيدًا سيدي. كما لو كان ذلك أمس.»

سأل سبارجو: «هل لم تزل معك نسخةٌ منها؟»

لكن السيد كوبر كان قد التفتَ بالفعل إلى صفٍّ من الألبومات المجلَّدة. وأخذ من بينها ألبومًا عليه مُلصَقٌ مكتوب عليه ١٨٩١، ثم أخذ يُقلِّب الصفحات. وبعد دقيقة أو اثنتَين وضع الصورةَ على طاولته أمام زائِرَيه.

وقال: «ها هي يا سيدي. هذا هو الطفل!»

ألقى سبارجو على الصورة نظرةً سريعة ثم حوَّلَ نظرَه إلى السيد كوارتربيدج. وقال: «كما اعتقدتُ بالضبط. إنها الصورة نفسُها التي وجدناها في العُلْبة الجلدية مع التذكرة الفضية. أنا ممتنٌّ لك يا سيد كوبر. والآن هناك سؤالٌ أخير أريد أن أطرحه. هل أعطيتَ أحدًا أيَّ نُسَخ أخرى من هذه الصورة بعد قضية ميتلاند؟ أعني بعد أن غادَرَتْ أسرتُه البلدة؟»

رد المصوِّر: «نعم. أعطيتُ ستَّ نُسَخٍ منها للآنسة بيليس، خالة الطفل، في حقيقة الأمر، هي مَن أحضرَتِ الطفلَ إلى هنا لألتقطَ صورتَه. ويُمكِنني إعطاؤك عنوانها أيضًا.» وبدأ يُفتِّش في ملفٍّ قديم آخَر. ثم واصَل: «لديَّ العنوان هنا في مكانٍ ما.»

لكز السيد كوارتربيدج سبارجو.

وقال له: «هذا شيءٌ لم أكن أستطيع فعله! فكما قلت لك، اختفتْ من برايتون عندما بدأتِ التحرياتُ عقبَ إطلاقِ سراح ميتلاند.»

قال السيد كوبر: «ها هو. لقد أرسلتُ ستَّ نُسَخ من هذه الصورة إلى الآنسة بيليس في أبريل من عام ١٨٩٥. كان عُنوانها حينذاك ٦ ميدان تشيتشيستر، بيزووتر، دبليو.»

دوَّنَ سبارجو العنوان سريعًا، وشكر المصوِّرَ على مساعَدته، ثم خرج مع السيد كوارتربيدج. وفي الشارع التفتَ إلى العجوز مبتسمًا.

وقال: «لا أعتقد أنَّ هناك مجالًا للشك الآن. ميتلاند وماربري هما الشخص نفسُه يا سيد كوارتربيدج. أنا متأكدٌ من ذلك كتأكُّدي من أني أرى مجلسَ بلدتكم هناك.»

سأل السيد كوارتربيدج: «وماذا ستفعل بعد ذلك؟»

رد سبارجو: «لم يَبقَ إلا أن أشكرك سيدي على كرمك ومساعدتِك، وأنطلق إلى البلدة على متن قطار الواحدة وعشرين دقيقة. سأُطلِعُك على المستجدَّات.»

وعندما كان سبارجو ينصرف مُسرِعًا قال العجوز: «انتظر لحظة، هل تعتقد أن السيد إيلمور هذا قتل ميتلاند حقًّا؟»

قال سبارجو مؤكدًا: «كلا. لا أعتقد ذلك! وأعتقد أنه لم يَزَل علينا فِعلُ الكثير قبل اكتشاف الفاعل.»

تعمَّد سبارجو خلال رحلته إلى البلدة عدمَ التفكير في قضية ماربري. وتناوَلَ غَداءً دَسِمًا على متن القطار وتحدَّث إلى الركاب المجاوِرين له، وقد أراحه أن يلتفتَ بعقله وانتباهِه إلى موضوعٍ غير الموضوع الذي استحوذَ عليه بلا انقطاعٍ كلَّ هذه الأيام. غير أنه عندما وصل إلى محطة ريدنج سمع الفِتْيةَ الذين يبيعون الصحفَ يصيحون مُعلِنين خبرَ اعتقالِ عضوٍ في البرلمان، وعندما نظر من النافذة لمحَ العنوانَ الصحفي العريض:

قضية قتل ماربري

اعتقال السيد إيلمور

خطف صحيفةً من أحد الفِتْية في حين بدأ القطار التحرُّك، وفتحها فلم يجد إلا إعلانًا في المساحة المخصَّصة للأخبار الهامة العاجلة جاء فيه:

أُلقِي القبض على السيد ستيفن إيلمور النائب في البرلمان في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم وهو في طريقه إلى مجلس العموم، بتهمةِ الضُّلوع في جريمةِ قتلِ جون ماربري في زقاق ميدل تمبل ليلةَ الحادي والعشرين من يونيو الماضي. ومن المزمَع أن يَمثُل للمحاكَمة في باو ستريت في العاشرة من صباح الغد.

هُرِع سبارجو إلى نيو سكوتلاند يارد فورَ أن وصل بادينجتون. والتقى براثبري وهو قادمٌ من غرفته. ولما رآه المحقِّق التفت إليه.

وقال: «ها أنت ذا. أظنك سمعتَ الخبر، صحيح؟»

أومأ سبارجو بالموافَقة وجلس على كرسي.

وسأل فجأةً: «ما الذي أدى إلى اعتقاله؟ لا بدَّ أن شيئًا جديدًا ظهر.»

رد راثبري: «نعم، ظهر شيء. لقد عُثِر في الليلة الماضية على الأداة، أو العصا، أو الهراوة — بصرف النظر عن اسمها — التي ضُرِب بها ماربري.»

سأل سبارجو: «حسنًا …؟»

أجاب راثبري: «ثبت أن إيلمور هو مالِكها. عصا فريدةٌ من أمريكا الجنوبية كانت في مسكنه في فاونتن كورت.»

سأل سبارجو: «وأين عُثِر عليها؟»

ضحك راثبري.

وقال: «لقد كان الفاعلُ أخرقَ، سواءٌ أكان إيلمور أم غيرَه. أتعرف أنها رُمِيت في أنبوب للصرف في زقاق ميدل تمبل؟! ربما ظنَّ القاتلُ أن التيار سيَجرفها إلى نهر التيمز ويحملها بعيدًا. ولكنَّ ظهورَها كان حتميًّا. وجدها عاملُ صرفٍ مساءَ أمس، وسرعان ما تعرَّفَتْ عليها السيدة التي تُنظِّف مسكن إيلمور وأفادت بأنها كانت في مسكنه منذ تعرَّفَتْ به.»

سأل سبارجو: «وماذا قال إيلمور في هذا الشأن؟ لا بد أنه قال شيئًا.»

قال راثبري: «قال إنها هراوته بالتأكيد، وإنه أحضرها معه من أمريكا الجنوبية، وإنه مع ذلك لا يتذكَّر أنه لمحها في مسكنه منذ بعض الوقت، ويعتقد أنها سُرِقت منه.»

قال سبارجو متفكرًا: «إممم. لكن، كيف عرَفتَ أنها كانت الأداةَ التي ضُرِب بها ماربري؟»

ابتسم راثبري ابتسامةً خفيفة.

وقال: «كان عليها بعضٌ من شعره مختلطًا ببعض الدم. لا شكَّ في ذلك. لكن أخبرني، هل توصَّلتَ إلى شيءٍ من رحلتك إلى الغرب؟»

رد سبارجو: «نعم. الكثير!»

سأل راثبري: «معلوماتٌ مفيدة؟»

«مفيدة جدًّا. لقد عرَفتُ مَن كان ماربري حقًّا.»

«لا! حقًّا؟»

«لا شكَّ لديَّ. أنا متأكِّد.»

جلس راثبري على مكتبه، وأخذ يراقب سبارجو في انتباهٍ شديد.

وسأل: «ومَن كان؟»

أجاب سبارجو: «جون ميتلاند، كان يعيش في ماركت ميلكاستر مدةً، وهو مدير مصرف سابق. وكذلك مُدان سابق.»

«مُدان سابق!»

«مُدان سابق. حكمتْ عليه محكمةُ ماركت ميلكاستر في خريف عام ١٨٩١ بالأشغال الشاقة لمدة عشرِ سنوات، بتهمة اختلاسِ قرابةِ مائتين وعشرين ألفَ جنيه من أموال المصرف. وأمضى مدةَ سجنه في دارتمور. وفورَ أن أُطلِق سراحه، أو بعد ذلك بقليل، سافَر إلى أستراليا. هذا مَن كان ماربري، أو ميتلاند. بكل تأكيد.»

واصَل راثبري التحديقَ في زائره.

وقال: «واصِلِ الحديث. أخبرني بكل ما لديك عن الأمر يا سبارجو. فَلْنستمع إلى كل التفاصيل. وبعد ذلك سأخبرك بكل ما أعرف. بالرغم من أن ما أعرف قليلٌ جدًّا بالمقارَنة بما لديك.»

أخبره سبارجو بكل مُغامَراته في ماركت ميلكاستر بالتفصيل، وأنصت له المحقِّق في انتباه شديد.

وفي النهاية قال: «نعم. لا أظن أنَّ هناك مجالًا للشك في ذلك. هذا يُفسِّر الكثير، أليس كذلك؟»

تثاءَب سبارجو.

وقال: «بلى، هذا يفتح صفحةً جديدة بالكامل، لم يَعُد اهتمامي الآن مُنصبًّا على ماربري أو ميتلاند. أنا الآن مهتمٌّ بإيلمور.»

أومأ راثبري بالموافَقة.

وقال: «نعم. الأمر الذي ينبغي اكتشافه هو هُوِية إيلمور، أو مَن كان منذ عشرين عامًا.»

سأل سبارجو: «لم يتوصَّل زملاؤك إلى أي شيء إذن، صحيح؟»

أجاب راثبري مبتسمًا: «لا شيءَ سوى تاريخ السيد إيلمور الخالي من المآخِذ منذ عودته إلى هذا البلد بثرائه الواسع منذ عشر سنوات تقريبًا. وليس لديهم أيُّ معلومات عنه من تاريخ سابق. ما خطوتُك التالية يا سبارجو؟»

رد سبارجو: «مُقابَلة الآنسة بيليس.»

سأل راثبري: «أتعتقد أن ذلك سيفيدك بشيء؟»

قال سبارجو: «اسمع. لا أعتقد ولو لثانيةٍ واحدة أن إيلمور قتَل ماربري. أعتقد أن ما سيقودني إلى الحقيقة هو البحث في أمر ما أُسمِّيه بمحاكَمة ميتلاند. والآنسة بيليس هذه لا بدَّ أنها تعرف شيئًا، إن كانت على قيد الحياة. سأذهب إلى المكتب الآن. ابقَ على اتصالٍ بي يا راثبري.»

وتوجَّه سبارجو حينئذٍ إلى مكتب «ووتشمان»، وعندما نزل من سيارة الأجرة أمامه، توقَّفت سيارة أجرة أخرى ونزلَت منها ابنتا السيد إيلمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤