الفصل الثاني والعشرون

الماضي المجهول

مضَت جيسي إيلمور في ثقةٍ واضحة للقاء سبارجو، في حين تأخرَت أختها الكبرى متحفظة.

قالت جيسي: «هل يُمكِنني الحديث معك؟ هذا ما جئنا لأجله. لم تُرِد إيفيلين المجيءَ لكني حملتُها عليه.»

صافَح سبارجو إيفيلين إيلمور في صمتٍ وأشار إليهما أن يتبعاه. صحبَهما مباشَرةً إلى غرفته في الطابق العلوي، وأجلسهما على الكرسيَّين الأكثر راحة، ثم خاطَبهما قائلًا:

«عدتُ إلى البلدة لتوِّي. ساءني أن أسمع آخِرَ أنباء أبيكما. لا بد أن هذا ما جاء بكما إلى هنا. لكني أخشى أنْ ليس بيدي حيلة.»

خاطَبَت إيفيلين إيلمور أختَها قائلةً: «قلتُ لكِ إننا لا ينبغي أن نُزعِج السيد سبارجو يا جيسي. كيف عساه يساعدنا؟»

هزت جيسي رأسَها في نفادِ صبر.

وقالت: «صحيفة «ووتشمان» هي الصحيفة الأمضى تأثيرًا في لندن، أليست كذلك؟ أَوَليس السيد سبارجو هو مَن يكتب كلَّ هذه المقالات عن قضية ماربري؟ سيد سبارجو، لا بدَّ أن تُساعِدنا!»

جلس سبارجو على مكتبه وبدأ يُقلِّب الخطابات والصحف التي تراكَمتْ خلال غيابه.

وقال: «سأتوخَّى الصراحةَ التامة معكما، لا أرى وسيلةً يُمكِن لأحدٍ مساعَدتُكما بها ما دام أبوكما يُخفِي أسرارَ ماضيه.»

قالت إيفيلين في هدوء: «هذا بالتحديد ما يقوله رونالد يا جيسي. لكننا لا نستطيع إجبارَ أبينا على الإفصاح يا سيد سبارجو. نحن متأكِّدتان أنه بريء مثلنا تمامًا من هذه الجريمة الشنعاء، لكننا لا نعرف سببًا لرفْضِه الإجابةَ عن الأسئلة التي طُرِحَت عليه خلال الاستجواب. ولا نعلم أكثرَ مما تعلم أنت أو أيُّ شخصٍ آخر، وعلى الرغم من أني توسَّلت إليه أن يُفصِح عمَّا لديه، فإنَّه يرفض الإفصاحَ ولو عن كلمة واحدة. لقد أدرَكْنا الخطرَ المحدق به، وأخبرَنا به رونالد، أعني السيد بريتون، فناشَدْناه الإفصاحَ عن كل ما يعرف عن السيد ماربري. لكنه حتى الآن يهزأُ من تصوُّر ضلوعه في الجريمة، أو احتمال اعتقاله لاتهامه بها، والآن …»

قاطَعها سبارجو بنبرته الجادة: «والآن هو قيد الاحتجاز. هناك أناسٌ يحتاجون إلى مَن يُنقِذهم من أنفسهم. ربما يتحتَّم عليكما إنقاذُ أبيكما من تَبِعات … تعنُّتِه، إن جاز لي وصْفُ موقفِه بذلك. لكن، أخبراني، ولن يخرجَ السرُّ عن ثلاثتِنا، ما قدْرُ ما تعرفانه عن ماضي أبيكما؟»

تبادَلتِ الأختان النظراتِ ثم نظرتا إلى سبارجو.

وقالت الكبرى: «لا شيء.»

وأكَّدت الصغرى: «لا شيءَ على الإطلاق!»

قال سبارجو: «أجيباني عن بعض الأسئلة البسيطة. ولن أنشرَ إجاباتكما، ولن أستخدمها بأي شكل، أسألكما فقط رغبةً في مساعَدتكما. هل لكم أيُّ أقاربَ في إنجلترا؟»

ردت إيفيلين: «لا نعرف لنا أيَّ أقاربَ في إنجلترا.»

سأل سبارجو: «ليس لديكما أحدٌ يُمكِنكما اللجوء إليه لجمع معلوماتٍ عن الماضي؟»

«كلا، لا أحد!»

نقر سبارجو بأصابعه على لوحِ تجفيف الحبر. وأخذ يُفكِّر بعمق.

ثم سأل فجأةً: «كم عُمْر أبيكما؟»

أجابت إيفيلين: «أتمَّ التاسعةَ والخمسين منذ بضعة أسابيع.»

سأل سبارجو: «وكم عُمْركما أنتِ وأختك؟»

قالت إيفيلين: «أنا في العشرين، وجيسي في التاسعة عشرة تقريبًا.»

«وأين وُلِدتما؟»

«كِلْتانا وُلِدت في سان جريجوريو في مقاطعة سان خوسيه بالأرجنتين، شمال مونتي بيديو.»

سأل سبارجو: «كان أبوكما يعمل هناك؟»

ردَّت: «كان يعمل في التجارة والتصدير يا سيد سبارجو. ليس ذلك بسِر. كان يُصدِّر كلَّ شيء إلى إنجلترا وفرنسا؛ جلودًا، وأصوافًا، وأملاحًا مجفَّفة، وفواكه. هكذا كوَّنَ ثروتَه.»

سأل سبارجو: «ولا تعرفان كم من الوقت أمضى هناك عندما وُلِدتما؟»

ردت: «لا.»

«هل كان متزوجًا عندما سافَر إلى هناك؟»

«كلا، نعلم ذلك، لقد أخبَرَنا بظروف زواجه لأنها كانت رومانسية. عندما أبحرَ من إنجلترا إلى بيونس أيرس التقى على متن السفينة البخارية بشابةٍ أحوالُها مُشابِهة لأحواله، بلا معارف ولا أصدقاء تقريبًا. كانت مسافرةً إلى الأرجنتين لتعمل مربيةً. ووقعت هي وأبي في الحب، ثم تزوَّجا في بيونس أيرس بعد وصول السفينة بقليل.»

«وأمُّكما متوفَّاة؟»

«ماتت أمي قبل أن نأتي إلى إنجلترا. كنت في الثامنة حينئذٍ، وكانت جيسي في السادسة.»

«ومتى رحلتم إلى إنجلترا بعد ذلك؟»

«بعدها بسنتَين.»

«أيْ إنكما أمضيتما في إنجلترا عشَرة أعوام. ولا تعرفان شيئًا على الإطلاق عن ماضي أبيكما غير ما أخبرتماني به، صحيح؟»

«لا شيء، لا شيء على الإطلاق.»

«ولم تسمعيه يتحدَّث عن … اسمعي، وفقًا لروايتك، كان أبوكِ في الأربعين من عمره تقريبًا عندما رحل إلى الأرجنتين. ولا بدَّ أنه كان يعمل في مجالٍ ما في هذا البلد. ألم تسمَعيه قطُّ يتحدث عن صِباه؟ ألم يتحدَّث مطلقًا عن ماضيه أو أيِّ شيءٍ من هذا القبيل؟»

ردَّت إيفيلين: «لا أتذكَّر أني سمعتُ أبي يتحدَّث عن أي فترة تسبق زواجَه.»

وقالت جيسي: «سألتُه ذاتَ مرة عن طفولته. فأجابني بأن أيامه الأولى لم تكن سعيدة، وأنه حاوَلَ نسيانَها قَدْر استطاعته. فلم أُكرِّر السؤال.»

قال سبارجو: «هكذا إذن. لا تعرفان أيَّ شيء على الإطلاق عن أبيكما أو عائلتِه أو ثروتِه أو حياتِه غيرَ ما شهدتُماه بأنفسِكما عندما بلغتُما سنَّ التمييز. أهذا صحيح؟»

ردت إيفيلين: «هذا صحيحٌ تمامًا.»

قال سبارجو: «حسنًا، إذن. كما أخبرتُ أختَكِ منذ عدة أيام، سيقول العامة إن أباكِ يُخفِي سرًّا خطيرًا، وإن ماربري كان يَعلمه؛ لذا قرَّر أبوكِ قتْلَه لصون السر. ليس هذا رأيي أنا. فأنا متأكِّد أن أباكِ بريء تمامًا، بل متأكِّد أيضًا أنه لا يعلم شيئًا البتةَ عن مقتل ماربري، وأبذل كلَّ ما في وسعي لاكتشاف القاتل. وبالمناسبة، نظرًا إلى أنكما ستقرآن كلَّ شيء في عدد صباح الغد من صحيفة «ووتشمان»، يجدر بي أن أُخبركما مَن كان ماربري في حقيقة الأمر، لقد كان …»

وفي هذه اللحظة فُتِح باب سبارجو، ودخل رونالد بريتون. وهزَّ رأسَه عندما رأى الأختَين.

وقال: «توقَّعتُ أن أجدكما هنا. قالت جيسي إنها ستأتي للقائك يا سبارجو. لا أعرف كيف يُمكِنك المساعدة … بل لا أعرف كيف يُمكِن للصحيفة الأمضى أثرًا في العالَم المساعَدة. يا إلهي! كل شيء في أسوأ حال. لقد جئتُ لتوِّي من عند السيد إيلمور، أمضيتُ أنا ومحاميه ستراتون ساعةً معه، السيد إيلمور أكثر عنادًا من أيِّ وقتٍ مضى، يرفض الإفصاحَ عن أي شيء أكثرَ مما قال. ماذا يُمكِنك أن تفعل يا سبارجو إذا كان هو يرفض الحديثَ عن معرفته الأكيدة بماربري؟»

قال سبارجو: «أوه، حسنًا. ربما يُمكِننا إعطاؤه بعضَ المعلومات عن ماربري. لقد نسي السيد إيلمور أنَّ فتح دفاتر الماضي ليس بالصعوبة التي يتصوَّرها. على سبيل المثال، كما كنتُ على وشك إخبار السيدتَين، لقد اكتشفتُ بنفسي مَن كان ماربري في الحقيقة.»

انتفض بريتون.

وقال متعجِّبًا: «حقًّا؟ دون شك؟»

«دون سببٍ منطقي للشك. لقد كان ماربري مُدانًا سابقًا.»

راقَب سبارجو تأثيرَ هذا الإعلان المفاجئ. لم تُبدِ الفتاتان أيَّ تعبيرٍ عن الاندهاش أو الفضول، بل تلقَّتا الخبر بلا اهتمام، كما لو كان سبارجو يخبرهما بأن ماربري كان موسيقيًّا شهيرًا. لكن رونالد بريتون انتفض، وتخيَّلَ سبارجو في عينَيه شعورًا بالارتياب.

قال متعجبًا: «ماربري … مُدانٌ سابق! أتعني ما تقول؟»

قال سبارجو: «اقرأ عدد «ووتشمان» في الصباح. ستجد فيه القصةَ بالكامل … سأكتبُها الليلةَ بعدما تُغادِرون. ستكون قراءتها ممتعة.»

فهمتْ إيفيلين وجيسي إيلمور تلميحَ سبارجو وانصرفتا، ورافَقهما سبارجو حتى الباب وأكَّد لهما مجددًا تأكُّدَه من براءةِ أبيهما وإصراره على البحث عن المجرم الحقيقي. نزل رونالد بريتون معهما إلى الشارع وأوقَفَ لهما سيارة أجرة، ولكن بعد دقيقة واحدة عاد إلى غرفة سبارجو، كما توقَّع سبارجو. وأغلق البابَ خلفَه برفق والتفتَ إلى سبارجو في حماس.

وسأل: «اسمع يا سبارجو، أصحيحٌ ما تقول؟ أعني هل كان ماربري مُدانًا سابقًا؟»

قال سبارجو: «هذا صحيح. ليس لديَّ شك في ذلك، بل أثِقُ في ذلك كما أثق أني أراك الآن. لقد كان ماربري في واقع الأمر يحمل اسمَ جون ميتلاند، مدير مصرف من ماركت ميلكاستر، حُكِم عليه بالأشغال الشاقة لعشر سنوات عام ١٨٩١ بتهمة الاختلاس.»

قال بريتون: «١٨٩١؟ هذه تقريبًا نفس المدة التي يقول إيلمور إنه كان يعرفه خلالها!»

قال سبارجو: «بالضبط. وما يدهشني هو …» وجلس سبارجو إلى مكتبه ودوَّنَ ملاحظةً سريعة ثم واصَل: «ما يدهشني هو … أَلَم يقُلْ إيلمور إنه كان يعرف ماربري في لندن؟»

رد بريتون: «بالتأكيد. في لندن.»

فكَّر سبارجو ثم قال: «إممم. هذا غريب! لأن ميتلاند لم يكن قد زار لندن حتى ذهب إلى دارتمور، بصرف النظر عما ربما يكون قد فعله بعدما خرج من دارتمور، وبالطبع، كان إيلمور قد ذهب إلى أمريكا الجنوبية قبل ذلك بكثير.» ثم رفع صوتَه وواصَل: «اسمع يا بريتون، هل يُمكِنك الحديثُ مع إيلمور؟ هل يُمكِنك مقابَلته قبل مثوله في باو ستريت غدًا؟»

أجاب بريتون: «نعم، يُمكِنني لقاؤه مع محاميه.»

قال سبارجو: «اسمع إذن، ستجد في عددِ صباح الغد من «ووتشمان» القصةَ الكاملة التي أُثبِت بها أن ماربري هو ميتلاند. اقرأها في أبكرِ وقتٍ ممكن، ورتِّبْ لمقابَلة إيلمور في أبكر وقت ممكن أيضًا، واجعله يقرَأْها بكل كلمة فيها قبل أن يُستدعى. وتوسَّلْ إليه أن يدَعَه من تحفُّظه السخيف إذا كان يُقِيم وزنًا لسلامته الشخصية وراحة بال ابنتَيه، وأن يُفصِح عن كل ما يعرفه عن ميتلاند منذ عشرين عامًا. هذا ما كان عليه فِعلُه من البداية. كنت أسألُ ابنتَيه بعض الأسئلة قبل أن تأتي … إنهما لا تعرفان شيئًا البتة عن تاريخ أبيهما قبل أن تبلغا سنَّ التمييز! أَلَا ترى أن عمل إيلمور قبل عودته إلى إنجلترا، هو ماضٍ مجهول؟»

قال بريتون: «أعرف ذلك! نعم، على الرغم من أني تطرَّقتُ إلى هذا الموضوع كثيرًا، لم أسمع إيلمور يتحدَّث عن أيِّ شيء يسبق تَجارِبَه في الأرجنتين قط. ومع ذلك، لا بد أنه كان قد تقدَّم في العمر عندما ذهب إلى هناك.»

قال سبارجو: «كان في السابعة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين على الأقل. إيلمور رجلٌ بارز في المجال العام بشكلٍ أو بآخَر، ولا يُمكِن لرجلٍ بارزٍ في المجال العامِّ أن يُبقِي حياتَه طيَّ الكتمان هذه الأيام. بالمناسبة، كيف تعرَّفتَ على آل إيلمور؟»

أجاب بريتون: «التقيتُ بهم أنا ومعلمي السيد إيلفيك في سويسرا. وبقينا على اتصالٍ بعد عودتنا.»

قال سبارجو: «ألم يزل السيد إيلفيك مهتمًّا بقضية ماربري؟»

رد بريتون: «بشدة. وكذلك العجوز كاردلستون الذي بدأ كلُّ شيء أسفل دَرَجِه. تناوَلتُ العشاء معهما الليلةَ الماضية واستحوذ الموضوع على معظم حديثهما.»

قال سبارجو: «وفرضيتهما هي …؟»

رد بريتون: «لا يزالان مقتنِعَين أنه قُتِل بدافع السرقة. العجوز كاردلستون حانقٌ لحدوثِ شيءٍ كهذا على بابه. يقول إنه ينبغي أن يُجرى تحقيقٌ دقيق في شأنِ كلِّ مستأجرٍ في تمبل.»

قال سبارجو: «هذا يستغرق وقتًا طويلًا. حسنًا، انطلِقْ أنت الآن يا بريتون، فعليَّ الكتابة.»

سأل بريتون وهو يتحرَّك نحو الباب: «هل ستكون في باو ستريت غدًا صباحًا؟ الموعد هو الساعة العاشرة وثلاثون دقيقة.»

رد سبارجو: «كلا، لن أذهب. لن يَزيد الأمرُ عن التأجيل، وأنا أعرف بالفعل كلَّ ما قد أسمعه هناك. لديَّ مهمةٌ أكثرُ إلحاحًا بكثير. لكنْ تذكَّرْ ما طلبتُه منك، اجعل إيلمور يقرأ القصةَ التي سأنشرها في «ووتشمان»، وتوسَّلْ إليه أن يتحدَّث ويُفصِحَ عن كلِّ ما يَعرف، كلِّه!»

وعندما انصرف بريتون، كان سبارجو يُواصِل التمتمة بالعبارة نفسِها: «كل ما يعرف … كله!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤