الفصل الخامس والعشرون

كشف المستور

أولى سبارجو محدِّثتَه الوضيعة كلَّ انتباهه وطاقاته وغرائزه الصحفية. لم يكن قبل دخول حانة كينج أوف ماداجاسكار متأكدًا من أنه سيعرف منها أيَّ شيء مفيدٍ عن جريمة ميدل تمبل، وراوَحَه شكٌّ في أن شارِبة الجِن العجوز تخدعه لتحصلَ منه على المشروب والمال. أمَّا الآن بعد أن لاح له شبحُ معلومة مهمة أطلقَته مِن فِيها، فقد نسي كلَّ مساوئ الأم جاتش وعينَيها الخبيثتَين ووجهها المترَع بالخمر، ولم يَرَها إلا شخصًا قد يُخبره بشيء مهم. والتفت إليها في حماس.

وقال: «تقولين إن ابن جون ميتلاند لم يَمُت؟!»

ردت الأم جاتش: «الفتى لم يَمُت.»

سأل سبارجو: «وهل تعرفين أين هو؟»

هزت الأم جاتش رأسها نافيةً.

وقالت: «لم أقل إني أعلم أين هو أيها الشاب. قلت إني أعلم ماذا فعلَتْ به.»

قال سبارجو: «ماذا فعلتْ؟»

عدَّلَت الأم جاتش جلستَها في خُيَلاء شديدة، ورمقت سبارجو بنظرة استعلاء.

وقالت: «هذا هو السرُّ أيها الشاب. وأنا مستعِدة لبيعه لك، لكن ليس بعملتَين من فئة نصف سوفرن وكأسَين أو ثلاثٍ من شراب الجِن البارد. إذا كان ميتلاند قد ترك كلَّ هذه الأموال التي سمعتُك من وراء السياج الشجري تُخبِر جين بيليس عنها، فهذا يعني أن سري ثمين.»

تذكَّرَ سبارجو فجأةً خداعَه للآنسة بيليس. كان موقفه الحاليُّ نتيجةً غير متوقَّعة لذلك الخداع.

واصَلت الأم جاتش: «لا يُمكِن لأحد غيري مساعدتُك في تتبُّع أثر ابن ميتلاند؛ لذا أتوقَّع أن يُدفَع لي مقابلٌ مناسب. كلامي واضح أيها الشاب.»

فكَّر سبارجو في الموقف صامتًا لدقيقة أو اثنتين. هل يُعقَل أن تعرف هذه العجوز البائسة المُفرِطة في شرب الخمر سرًّا قد يُفضِي إلى كشف لغز جريمة ميدل تمبل؟ على أي حالٍ سيكون في صالح صحيفة «ووتشمان» أن يُميط قلمُ أحدِ رجالها اللثامَ عن كل شيء. وقد عُرِف عن صحيفة «ووتشمان» الإنفاقُ بسخاءٍ مفرط في أمورٍ مختلفة عديدة، وصبَّتِ المالَ صبًّا من قبلُ لتتمَّ لها أمورٌ أقلُّ شأنًا.

التفَت سبارجو إلى محدِّثته فجأةً وسأل: «كم تريدين مقابلَ السر؟»

أخذت الأم جاتش تحاوِل بَسْط ثَنْيةٍ في فستانها، فأثارت يقظتُها والهيئةُ الطبيعية التي بدَت عليها إعجابَ سبارجو، لم يَفهم أن أعصابها كانت مرتعشة وأن التوتُّر كان متملِّكًا منها في أول لقائهما، وأن تناوُلها لمشروبها الكحوليِّ المفضَّل بالكمية التي تكفيها هو ما هدَّأ أعصابها وأعاد لها الاتزان؛ كان في سريرة نفسه مندهشًا منها، واعتبرها أغربَ مَن صادَفَ من كبار السن، بل داخَلَه بعضُ الخوف منها وهو ينتظر قرارَها. وأخيرًا نطقَتِ الأم جاتش.

قالت: «حسنًا أيها الشاب، بعد أن فكَّرت في الأمر، وأدركتُ أنه من حقي أن أسعى لمصلحتي الشخصية، أعتقد أني أُفضِّل أن أحصل على راتب. راتب جيد يجلب لي الراحة، على أن يُدفَع أسبوعيًّا، وليس شهريًّا ولا كل ثلاثة أشهر، بل راتب يُدفَع بانتظامٍ ودقة صباحَ السبت من كل أسبوع. أو صباح الإثنين، حسبما يُناسِب أطراف الاتفاق، المهم أن يُدفَع بانتظامٍ ودقة. أعرف العديد من السيدات اللاتي يحصلن على رواتبَ في دوائري الشخصية، وأعرف أن الحصول على راتبٍ أسبوعي يُحقِّق راحةً كبيرة.»

خطر لسبارجو أن السيدة جاتش ستُنفِق راتبَها الأسبوعي بالكامل في يوم حصولها عليه، سواءٌ أكان السبت أم الإثنين، لكن ذلك لم يكن من شأنه على أي حال؛ لذا ركَّز على صُلب الموضوع.

وقال: «لكنك لم تقولي حتى الآن كم تريدين؟»

ردَّت الأم جاتش: «ثلاثة جنيهات كلَّ أسبوع. وهذا سعر منخفض!»

استغرق سبارجو في تفكير عميق لدقيقتَين، ربما يؤدي السرُّ إلى اكتشاف هام، مَن يعلم؟! ومن المرجَّح أن تقتل هذه العجوزُ البائسة نفسَها من فرط الشراب خلال عامٍ أو عامَين. على أي حال، بضع مئات من الجنيهات مبلغ تافه بالنسبة لصحيفة «ووتشمان». نظر إلى ساعته سريعًا، وتذكَّر أن رئيس تحرير «ووتشمان» يكون في مكتبه ذلك الحين ويظل فيه لمدة ساعة. فهبَّ على قدمَيه متحفزًا يَقِظًا.

قال سبارجو: «هيا، سآخذك لمقابَلة رؤسائي. سنستقلُّ سيارة أجرة.»

ردَّت الأم جاتش: «بكل سرور أيها الشاب، لكن بعد أن تُعطيني عملةَ نصف السوفرن الأخرى. أما بالنسبة إلى رؤسائك، فأنا أُفضِّل دائمًا الحديثَ مع الرؤساء على الحديث مع الموظَّفين، مع كامل احترامي لك.» شعر سبارجو بأنه لا مفرَّ من المُضِي في الأمر، فأعطاها نصف السوفرن الآخَر، وطلب سيارة أجرة. لكن عندما وصلت السيارة اضطُرَّ سبارجو لانتظار السيدة جاتش ريثما تشرب الكأسَ الثالثة من شراب الجِن وتشتري قارورةً من المشروب نفسِه لتأخذها معها. وأخيرًا وصلا معًا إلى مكتب «ووتشمان» في الوقت المناسب، وهناك حدَّق فيها عاملُ الاستقبال والسُّعاة في انبهار، على الرغم من اعتيادهم رؤيةَ غريبي الهيئة والأطوار. قادها سبارجو إلى غرفته، وأغلق البابَ عليها، ثم طلب حضورَ الرئيس المهيب.

لم يكن لدى سبارجو أيُّ فكرةٍ عما قاله لرئيس التحرير والرئيس المتحكم في موارد صحيفة «ووتشمان» وكل واردةٍ وشاردة فيها. كان من حُسْن حظِّ سبارجو أن كِلَيْهما كان يتابع ملابسات وتطوُّرات جريمة ميدل تمبل عن كثب، ويرى فائدةً من وراء معرفة السر الذي حصل سبارجو على وعدٍ مشروط بكشفه. على أي حال، فقد صَحِبا سبارجو إلى غرفته عاقِدَي العزم على رؤيةِ السيدة التي كانت محتجَزة فيها والإنصاتِ لها ومُساوَمتها.

فاحتْ رائحةُ شراب الجِن غير المحلَّى بقوةٍ في غرفة سبارجو، لكن الأم جاتش كانت أكثرَ تيقُّظًا من أي وقتٍ سابق. وأصرَّت على أن يجريَ التعارُف بينها وبين مالِك الصحيفة ورئيس تحريرها على نحوٍ مناسِب ولائق، وعلى مناقَشة شروط الاتفاق معهما قبل الخوض في أي تفاصيل. كان رئيس التحرير مُصرًّا على مُماطَلتها إلى حينِ تقييمِ احتمال صدقها، أمَّا مالك الصحيفة، فبعد أن قيَّمَها بخبرته، أخذ رفيقَيه وانفرد بهما خارجَ الغرفة.

وقال: «سنستمع لما لدى العجوز وحسب شروطها. ربما كان لديها شيءٌ تُخبرنا به يفيد القضية فائدة كبيرة، بل لا بد أنها تعلم شيئًا. وكما يقول سبارجو أغلب الظن أنها ستقتل نفسَها من فرطِ الشراب بعد وقتٍ قصير، لنَعُد ونسمع قصتها.» فعادوا إلى جوِّ الغرفة المشبع برائحة شراب الجِن، وأُبرِزت وثيقةٌ رسمية بموجبها يلتزم مالك صحيفة «ووتشمان» بأن يدفع للسيدة جاتش مبلغًا قدْرُه ثلاثة جنيهات في الأسبوع (وأصرَّت السيدة جاتش على إضافة عبارة: صباحَ السبت من كل أسبوع، بانتظامٍ ودقة)، ثم طلب من السيدة جاتش أن تحكيَ قصتَها. واستعدَّت السيدة جاتش لذلك، في حين استعدَّ سبارجو لتدوين القصة بكل كلمة فيها.

قالت السيدة جاتش: «هذه القصة — كما يُسمِّيها هذا الشاب — ليست طويلةً جدًّا ولا قصيرة جدًّا أيها السادة، لكنها دَسِمة. الأمر أنه عندما ثارت قضية ميتلاند في ماركت ميلكاستر، كنتُ مدبِّرةً لمنزل السيدة جين بيليس في برايتون. كان لديها نُزُل فندقيٌّ في كِمب تاون، بالقرب من شاطئ البحر، وقد طوَّرَته وأبقَتْ عليه في حالٍ جيدة، وادَّخرَت مبلغًا جيدًا، ونظرًا إلى أنها ورِثَت عن أبيها ثروةً بسيطة — شأنها شأن أختها السيدة ميتلاند، فقد كان أبوهما صاحِبَ حانةٍ هنا في لندن — فقد كانت تملك الكثيرَ من المال. وكل هذا المال كان تحت سيطرة ميتلاند، كل بنس فيه. أتذكَّر جيدًا يومَ وصلتْ أخبارُ سرقة ميتلاند نقودَ المصرف. جُنَّ جنون الآنسة بيليس عندما قرأَتِ الخبرَ في الصحيفة، وكانت في طريقها إلى ماركت ميلكاستر قبل أن تمضيَ ساعةٌ من قراءتها للخبر. رافَقتُها إلى المحطة، وقبل أن تستقلَّ القطارَ أخبرَتني أن ميتلاند كان يستحوذ على كلِّ ممتلكاتها ومدَّخَراتها، وكذا مدَّخرات أختها، زوجته، وأنها كانت تخشى أن يضيعَ كلُّ شيء.»

قال سبارجو دون أن يرفع رأسَه عن دفتر ملاحظاته: «كانت السيدة ميتلاند قد ماتت في ذلك الوقت.»

واصَلت السيدة جاتش: «هذا صحيح أيها الشاب، من حُسن حظِّها. على أي حال، انطلقت الآنسة بيليس، ولم أسمع عنها شيئًا أو أرَها بعد ذلك لمدة أسبوع، ثم عادت ومعها طفلٌ صغير، ابن ميتلاند. وأخبرَتني أنها خسرت كلَّ بنس كان معها، وأن أموال أختها التي كان من المفترَض أن تَئُول إلى الطفل ضاعت هي الأخرى، وقالت الكثير عن ميتلاند. ومع ذلك، فقد أولَتِ الطفلَ عنايةً فائقة، لم يكن غيرها ليعتنيَ به أكثرَ منها. بعد ذلك بوقتٍ قصير، وبعد أن حُكِم على ميتلاند بالسجن لعشر سنوات، تحدَّثتُ معها حول بعض الأمور، وقلت لها: «وما الفائدة من حبِّك الشديد لهذا الطفل والاعتناء به كما تفعلين الآن وتعليمه وكل ذلك؟» فقالت: «ولِمَ لا؟» فردَدْتُ عليها: «ليس ابنَك، لا حقَّ لك فيه، وبمجرد أن يُطلَق سراحُ أبيه سيأتي ليُطالِب به، وعندئذٍ لن تتمكَّني من منعه عنه.» وصدِّقوني فيما سأقول الآن أيها السادة، وهو أني لم أرَ مثلَ نظرتها على وجه أيِّ امرأة قطُّ عندما قلتُ لها ذلك. قامت وأقسمَت إن ميتلاند لن يرى ابنَه أو يلمسه أبدًا مهما كانت الظروف.»

توقَّفت السيدة جاتش لتأخذَ رشفةً من قارورتها، واعتذرَت عن اضطرارها إلى ذلك متعلِّلةً بحالة قلبها. ثم واصَلت على الفور والانتعاشُ بادٍ عليها.

«كانت فكرةُ انتزاعِ ميتلاند الطفلَ منها تُسيطر على عقلها أيها السادة، وكانت تتحدَّث معي في بعض الأحيان عن ذلك، وتقول الشيءَ نفسَه كلَّ مرة: إن ميتلاند لن يأخذَه أبدًا. وذاتَ يومٍ أخبرَتْني أنها ذاهبةٌ إلى لندن لتستشيرَ بعضَ المحامين في الأمر، وذهبَت بالفعل وعادت والرضا بادٍ عليها، وبعد ذلك بيومٍ أو يومَين، جاء رجلٌ بدا أنه محامٍ، وأمضى في المكان يومًا أو يومَين، وظل يتردَّد عليها، حتى جاءت إليَّ ذاتَ يوم وقالت: «أَلَا تعرفين ذلك الرجلَ الذي يتردَّد علينا كثيرًا في الآونة الأخيرة؟» فقلت: «كلا، إلا إذا كان يسعى وراءَك.» فقالت: «يسعى ورائي!» وهزت رأسها وواصَلَت: «إنه الرجل الذي كان سيتزوَّج أختي المسكينة لو لم يخدعها ميتلاند لتتخلَّى عنه!» فقلت: «أحقًّا تقولين؟! إذن كان من الممكن أن يكون أبا الطفل.» فقالت: «سيكون أباه بالفعل. سيأخذه ويُعلِّمه أفضلَ تعليمٍ ويجعله رجلًا مرموقًا إكرامًا لذِكرى أمه.» فقلت: «ليرحَمْنا الرب! وماذا سيقول ميتلاند عندما يأتي للمطالَبة به؟» فقالت: «ميتلاند لن يأتيَ للمطالَبة به؛ لأني سأغادر هذا المكان وسيختفي الطفل قبل ذلك. الترتيباتُ جاريةٌ لكل هذا، كي لا يعرف الطفلُ أبدًا عارَ أبيه ولا مَن كان.» واختفى الطفل فعلًا، لكن ميتلاند جاء قبل أن ترحل، وأخبرَته أن الطفل قد مات، ولم أرَ في حياتي رجلًا يُطعَن بهذا الشكل. ومع ذلك، لم يكن ذلك من شأني. كان هذا جزءًا كبيرًا من السر أيها السادة، أليست هذه المعلومات قيِّمة؟»

قال مالك الصحيفة: «جيدة جدًّا.» لكن سبارجو قاطَعهما قائلًا: «واصِلي الحديث.»

ثم سأل: «هل سمعتِ اسمَ الرجل الذي أخذ الطفلَ؟»

ردَّت السيدة جاتش: «نعم سمعتُه. بالطبع سمعتُه. كان اسمه إيلفيك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤