الفصل السادس والعشرون

الصمت يستمر

سقَط قلمُ سبارجو أمامَه على المكتب مُحدِثًا ضجيجًا حادًّا أفزع السيدة جاتش. فقد كان طول مُعاقَرتها للخمر قد أضعَفَ أعصابها، فحدجتْ سبارجو الذي أفزعها بنظرةِ غضبٍ عارم.

وصاحت بحِدَّة: «لا تفعل ذلك ثانيةً أيها الشاب. لا أتحمَّل أن يُفزِعَني أحدٌ هكذا، هذا سوءُ تهذيب. قلتُ إن اسم الرجل كان إيلفيك.»

رمَق سبارجو مالكَ الصحيفة ورئيسَ التحرير بنظرة سريعةٍ أشبهَ بالغمزة.

وقال: «حسنًا، إيلفيك. تقولين إنه يعمل في المحاماة يا سيدة جاتش؟»

قالت السيدة جاتش: «قلت إنه بدا كمحامٍ. ونظرًا إلى أنك تُصرُّ على التفاصيل أيها الشاب، بالرغم من أني لم أوجِّه كلامي لك بل لرئيسيك، فقد كان محاميًا بالفعل. من هؤلاء الذين يرتدون شعرًا مستعارًا وثوبًا، رأيتُ صورتَه في غرفة جين بيليس في النُّزُل الذي قابَلتَها فيه هذا الصباح.»

سأل سبارجو: «أمتقدِّمٌ في العمر هو؟»

قالت: «لا بد أنه متقدمٌ في العمر الآن، لكنه عندما أخذ الفتى كان في منتصف العمر. قرابةَ سنِّ هذا الرجل.» وأشارت إلى رئيس التحرير، فقطَّب لا إراديًّا في حين كتم المالك ضحكَه بصعوبة، وواصَلت: «ولا يختلف كثيرًا عنه أيضًا؛ إذ لم يكن على وجهه شعر.»

قال سبارجو: «حسنًا. وإلى أين أخَذ هذا السيد إيلفيك الطفلَ يا سيدة جاتش؟»

هزَّت السيدة جاتش رأسها.

وقالت: «ليستْ لديَّ أيُّ فكرة. لقد أخذه. وبعد ذلك جاء ميتلاند كما أخبرتُك، وأخبرَتْه جين بيليس أن الفتى قد مات. ولم تُخبرني قطُّ بأيِّ شيء عن الفتى بعد ذلك. بل أمسكَت لسانها. سألتها مرةً أو مرتَين لكنها كانت تردُّ قائلةً: «لا تنشغلي بذلك، ستكون حياته على ما يُرام ولو عاش حتى أصبح طاعنًا في السن.» ولم تقُل غير ذلك، ولم أقُل أنا شيئًا بعد ذلك، ولكن …» واصَلت السيدة جاتش، وكانت قارورتها قد فرَغت من الشراب، وراحت تمسح الدموعَ التي طفرت من عينَيها، قائلةً: «لقد أصبحتْ جين بيليس تُعامِلني بغِلظة، ولم توفِّر لي أسبابَ الراحة المستحَقَّة لسيدةٍ في عمري، وعندما سمعتها تتحدَّث معك هذا الصباح من خلف السياج الشجري، خاطَبتُ نفسي قائلةً: «هذا هو الوقت المناسب لأُغمِد سكِّيني في ظهرك سيدتي العزيزة.» وأرجو أن أكون قد فعلتُ ذلك.»

نظر سبارجو إلى رئيس التحرير ومالك الصحيفة، وأومأ برأسه إيماءةً خفيفة. كان يُلمِّح إليهما أنه حصل على كل ما أراد من الأم جاتش.

وسأل: «ماذا ستفعلين يا سيدة جاتش عندما تنصرفين من هنا؟ يُمكِننا الترتيبُ لتوصيلك إلى بيزووتر مباشَرةً إذا أردت.»

قالت السيدة جاتش: «سأكون ممتنَّةً لذلك أيها الشاب، وسأكون ممتنَّةً أيضًا إذا تسلَّمتُ أولَ راتب أسبوعي، وسآتي في الحادية عشرة تمامًا من صباح كل سبت، أو يُمكِنكم أن تُرسِلوا إليَّ المبلغَ بالبريد يومَ الجمعة، الخياران متاحان لكم أيها السادة. بعد أن يكون راتبُ الأسبوع الأول في كيس نقودي ويتم توصيلي إلى بيزووتر، سآخذ صناديقَ أمتعتي وأذهب إلى صديقة لي ستُرحِّب بي بحرارة، وأنسى أمرَ جين بيليس ومعيشتي معها.»

قال سبارجو ببعض القلق: «لكن يا سيدة جاتش، إذا عُدتِ إلى هناك الليلة، ينبغي أن تتوخَّي أشدَّ الحذر، وألَّا تُخبري الآنسة بيليس أنك كنتِ هنا وأخبرتِنا بهذا كلِّه.»

قامت السيدة جاتش في ترفُّع ورزانة.

وقالت: «أيها الشاب، نواياك طيبة، لكنك لستَ معتادًا على معامَلة النساء. يُمكِنني إمساكُ لساني عندما أريد مثلَ أيِّ شخصٍ آخر. ما كنتُ لأخبر جين بيليس بشئوني الخاصة، أعني الجديدَ منها، والفضلُ لكم في ذلك، لن أُخبرها ولو كان ذلك مقابلَ راتبَين في الأسبوع بدلًا من راتب واحد!»

قال رئيس التحرير: «اصطحِب السيدة جاتش إلى الأسفل يا سبارجو، وتأكَّدْ من تلبية كل احتياجاتها، وبعد ذلك تعالَ إلى مكتبي.» وواصَل مخاطبًا السيدة جاتش: «لا تنسَي يا سيدة جاتش، أمسِكي لسانك، لا تتحدَّثي مع أحد، وإلا فلن تحصلي على الراتب الأسبوعي صباحَ كل سبت.»

اصطحب سبارجو الأمَّ جاتش إلى قسم الخِزانة وتأكَّد من دفع راتبِ الأسبوع الأول لها، واستدعى لها سيارةَ أجرة، ودفع الأجرةَ وودَّعها، ثم توجَّه إلى مكتب رئيس التحرير مستغرقًا في التفكير. كان رئيس التحرير ومالك الصحيفة يتحدَّثان، وعندما دخل سبارجو قطعا حديثَهما ونظرا إليه في حماس. قال سبارجو في هدوء: «أعتقد أننا نجحنا.»

سأل رئيس التحرير: «ماذا اكتشفنا بالتحديد؟»

رد سبارجو: «أكثر مما توقَّعتُ بكثير، لقد اتضحَت الأمور كثيرًا. إذا تأمَّلتَ الملابَسات المعروفة سلفًا، فستتذكَّر أن الشيء الوحيد الذي عُثِر عليه مع جثة ماربري كان قصاصةَ ورقٍ رماديةً عليها اسم وعنوان: رونالد بريتون، كينجز بنش ووك.»

قال رئيس التحرير: «وماذا إذن؟»

واصَل سبارجو: «بريتون محامٍ شاب. ويكتب في بعض الأحيان … لقد قبلتُ مقالَين أو ثلاثة كتبَها لصفحة الأدب في الصحيفة.»

قال رئيس التحرير: «حسنًا؟»

واصَل سبارجو: «وهو خاطِب الآنسة إيلمور، أكبر كريمات إيلمور، عضو البرلمان الذي وُجِّهت إليه في باو ستريت اليومَ تهمةُ قتل ماربري.»

قال رئيس التحرير: «أعرف. حسنًا، ما معنى ذلك يا سبارجو؟»

رد سبارجو في جِدية شديدة: «الأمر الأهم — مع افتراضِ صحةِ رواية هذه المرأة العجوز، وهذا رأيي الشخصي — هو أن بريتون (مع العلم بأني التقيتُ به كثيرًا) قال لي بنفسه إنه نشأ في كنفِ وَصِي. وهذا الوَصِيُّ هو السيد سبتيماس إيلفيك، المحامي.»

تبادَل مالِكُ الصحيفة ورئيسُ التحرير النظرات. وارتسم على وجهَيهما تعبيرٌ يَشِي بتطابُق الفكرة التي تكوَّنتْ لديهما والنتيجةِ التي توصَّلا إليها. والْتَفتَ المالك إلى سبارجو مستفهمًا في جدية: «تعتقد إذن أن …»

أومأ سبارجو بالإيجاب.

وقال: «أعتقد أن السيد سبتيماس إيلفيك هو إيلفيك المقصود، وأن بريتون هو ابن ميتلاند الذي تحدَّثتْ عنه السيدة جاتش.»

قام رئيس التحرير، ودسَّ يدَيه في جيبَيه، وطفق يذرع الغرفةَ ذَهابًا وإيابًا.

وقال: «إذا كان هذا صحيحًا، فإنه يَزيد من تعقيد اللغز. ماذا تقترح أن نفعل يا سبارجو؟»

قال سبارجو ببطء: «أعتقد أني أودُّ مقابَلةَ الشاب بريتون دون أن أُخبره بأي شيءٍ مما علمنا، وأن أجعله يعرِّفني بالسيد إيلفيك. يُمكِنني اختلاقُ عُذرٍ مُقنِع لإجراءِ حوارٍ معه. إذا تركتم الأمرَ لي.»

لوَّح مالكُ الصحيفة بيده وقال: «نعم، نعم! اترك الأمرَ كلَّه في يد سبارجو.»

قال رئيس التحرير: «أطلِعْني على المستجدَّات بانتظام. افعل ما تراه مناسبًا. يبدو لي أنك على المسار الصحيح.»

تركَهما سبارجو، وبينما هو في طريق العودة إلى غرفته ولم تزَل شخصيةُ السيدة جاتش عالقةً في ذهنه، صادَف الصحفيَّ الذي كان في باو ستريت عندما استُدعِي إيلمور ذلك الصباح. لم يكن هناك جديد، طلبتِ السلطاتُ تأجيلًا آخَرَ فحسب. وإلى ذلك الحين لم يُفصِح إيلمور عن جديد لأي شخص، حسَبما أفاد الصحفي.

توجَّه سبارجو إلى تمبل وقصَد مكتب رونالد بريتون. فوجَد المحاميَ الشاب يهمُّ بالمغادَرة، وعلى وجهه وجومٌ وتفكير يَفُوقان المعتاد. ولما رأى سبارجو الْتَفتَ عائدًا من الباب الخارجي، ونادى الصحفيَّ طالبًا منه أن يتبعه، وقاده إلى الغرفة الداخلية.

وقال وهو يدعو زائرَه للجلوس: «اسمع يا سبارجو. لقد أخذَتِ الأمورُ منعطَفًا بالغ الجِدِّية. أتعلم ما طلبتَ مني أمسِ أن أفعله بشأن إيلمور؟»

قال سبارجو: «نعم … طلبتُ منك أن تجعله يُفصِح عن كل ما لديه.»

هز بريتون رأسه.

وقال: «قابَلته أنا ومحاميه ستراتون هذا الصباحَ قبل بدء إجراءات الشرطة والمحكمة. وأخبرته عن حديثي معك، حتى إنني أخبرته أن ابنتَيه زارتا مكتبَ صحيفة «ووتشمان». وتوسَّلتُ أنا وستراتون إليه أن يستمِع لنصيحتك ويُفصِح عن كل شيء … كل شيء … مهما كان وَقْعُ ذلك على مشاعره. وأوضحنا له خطورةَ الأدلة التي تُدِينه، وكيف أنه جنى على نفسه بعدم الإفصاح عن الحقيقة الكاملة من البداية، وأنه وضَع نفسَه موضعَ الاشتباه، وأن أغلب الظن أن أيَّ هيئة محلَّفين ستُدينه وفقًا للأدلة الحاليَّة. لكن كل ذلك لم يُجدِ نفعًا يا سبارجو.»

قال سبارجو: «أيرفض الإفصاحَ عن أي شيء؟»

رد بريتون: «يرفض الإفصاحَ عن أي جديد. كان مُصِرًّا. ظل يُردِّد: «لقد أفصحتُ عن الحقيقة الكاملة عما فعلتُ مع ماربري ليلةَ وفاته في الاستجواب، ولن أقول أيَّ شيء آخَر مهما حدث. إذا شاءت إرادةُ القانون أن يُشنَق رجلٌ بريء بِناءً على الأدلة الحاليَّة، فَلْيكن ذلك!» وظل على هذه النَّغْمة حتى تركناه. لا أعلم ما العمل الآن يا سبارجو.»

سأل سبارجو: «وماذا حدث في المحكمة؟»

قال بريتون: «لا شيء … تأجيل آخَر. أنا وستراتون قابَلْنا إيلمور مرةً أخرى قبل أن ينقلوه. وقد تركَنا وهو يقول متهكمًا: «إذا كنتم جميعًا تودُّون إثباتَ براءتي، فابحثوا عن المذنب الحقيقي».»

قال سبارجو: «هذا منطقيٌّ للغاية.»

قال بريتون: «بالطبع، لكن كيف، كيف يُمكِننا أن نفعل ذلك؟ هل أحرزتَ أنت أو راثبري أيَّ تقدُّم نحو حلِّ اللغز؟ هل هناك أيُّ دليلٍ يُلقِي بالجُرْم على أي شخصٍ آخَر؟»

لم يُجِب سبارجو عن هذه الأسئلة. وظل صامتًا لبُرْهة وبدا عليه التفكير.

ثم سأل فجأة: «هل حضر راثبري جلسةَ المحاكمة؟»

رد بريتون: «نعم، حضَرها. كان هناك هو ورجلان أو ثلاثة أظنُّهم محقِّقين، وبدا شديدَ الاهتمام بإيلمور.»

قال سبارجو: «إذا لم ألتقِ براثبري الليلةَ فسأقابله في الصباح.» ونهض يهمُّ بالمغادَرة، لكنه تباطَأ لحظة، ثم جلس مجدَّدًا. وقال: «اسمع، لا أعرف كيف يبدو الأمر في نظر القانون، لكن ألن تكون حُجةُ ممثِّل الادِّعاء ضد إيلمور ضعيفةً للغاية إذا لم يَثبت أن إيلمور كان لديه دافعٌ ما لقتل ماربري؟»

ابتسم بريتون.

وقال: «لا حاجةَ إلى إثبات الدافع في جرائم القتل. لكن اسمع يا سبارجو، إذا أثبت الادِّعاءُ أن إيلمور كان لديه دافعٌ للتخلُّص من ماربري، إذا أثبتوا أن إيلمور كانت له مصلحةٌ في إسكاته، فلا أظن أنَّ فرصةَ نجاته ستظلُّ قائمة.»

قال سبارجو: «أفهم ذلك. لكن لا وجودَ للدافع حتى الآن، لم يُطرَح أيُّ سبب قد يدعو إيلمور لقتل ماربري.»

قال بريتون: «لا دافع، في حدود علمي.»

نهض سبارجو وتوجَّه نحو الباب.

وقال: «حسنًا، سأنصرف إذن.» ثم التفت كمَن تذكَّر شيئًا ما فجأةً. وقال: «بالمناسبة، أليس السيدُ إيلفيك وَصِيُّك مَرجعًا بارزًا فيما يتعلَّق بجمع الطوابع؟»

رد بريتون: «أحد أبرز المراجع في هذا المجال. ومن أكبرِ المتحمِّسين له.»

سأل سبارجو: «أتعتقد أنَّ بإمكانه إخباري ببعض المعلومات عن تلك الطوابع الأسترالية التي عرَضها ماربري على التاجر كريديه؟»

قال بريتون: «بكل تأكيد، سيُسَرُّ بذلك، هاك.» وكتب بريتون بعضَ الكلمات على بطاقة، وواصَل: «إليك عُنوانه وتوصيةً مني له. سأخبرك بالوقت الذي يكون فيه دائمًا في بيته، الساعة التاسعة، بعد أن يتناول العشاء، يكون هناك خمس ليالٍ من ليالي الأسبوع السبع. لولا اضطراري إلى زيارة منزل آل إيلمور، لَذهبتُ معك الليلة. فالفتاتان في كربٍ شديد.»

قال سبارجو وهما يخرجان معًا: «احمِل لهما رسالةً مني. اطلب منهما التحلِّيَ بالشجاعة ورباطة الجأش.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤