الفصل السابع والعشرون

مكتب السيد إيلفيك

توجَّه سبارجو إلى تمبل مجددًا في التاسعة من تلك الليلة، وكان هناك سؤالان يُلِحان على عقله طوالَ الطريق، أولهما: ما قدْرُ ما يعرفه إيلفيك؟ وثانيهما: بأي قدرٍ من المعلومات عليَّ أن أبوح له؟

كان المنزل القائم في تمبل الذي كان سبارجو يقصده منزلًا قديمًا عاشت فيه أجيالٌ عديدة من كبار السن منذ عهد الملكة آن، وكثر فيه الدَّرَج والممرات، ونظرًا إلى أن سبارجو نسي أن يأخذ رقمَ المكتب المقصود بالتحديد، اضطر إلى التجوال في المبنى الذي كان مهجورًا. وبينما هو يتجوَّل على غير هدًى سمع فجأةً وقْعَ خطوات حازمة وثابتة تصعد دَرَجًا كان قد صعده هو للتو. نظر من فوق الدرابزين إلى الفراغ في الأسفل. فوجد امرأةً محتجبة طويلةَ القامة تصعد الدَّرَج بلا تردُّد، فاضطربتْ ضرباتُ قلب سبارجو فجأةً؛ إذ أدرك أنه الآن وللمرة الثانية في ذلك اليوم برفقةِ الآنسة بيليس تحت سقفٍ واحد.

فكَّر سبارجو بسرعة. فبعد أن علم ما علم من السيدة جاتش، لم يكن لديه أيُّ شك في أن الآنسة بيليس جاءت للقاء السيد إيلفيك، لتُخبره أنه — أيْ سبارجو — جاء لزيارتها صباحَ اليوم وأنه كان في طريقه لاكتشاف تاريخ ميتلاند السري. لم يخطر ذلك بباله من قبلُ، فقد كان منهمكًا منذ مغادَرة السيدة جاتش، لكنه من المتوقَّع أن تظلَّ الآنسة بيليس على اتصال بالسيد إيلفيك. على أي حال، ها هي الآن، ولا شكَّ أنها تقصد مكتبَ السيد إيلفيك. والسؤال الذي ألحَّ على سبارجو الآن هو: ما العمل؟

لزم سبارجو الصمتَ التام، وتسمَّرَ في مكانه على الدَّرَج بلا حَراك في حين أكَلَ التوترُ قلبَه، وقرَّر أن يترك للصدفة ألَّا تنظرَ تلك المرأة إلى الأعلى. وبالفعل لم تنظر الآنسة بيليس إلى الأعلى ولا إلى الأسفل؛ وصلتْ إلى أعلى عدة درجات متراصَّة واستدارتْ ومضَت في طريقها في أحد الممرَّات لا تلوي على شيء. وبعد ذلك بلحظةٍ سمع سبارجو طرقتَين حادَّتين على أحد الأبواب، ثم سمع صوتَ الباب ينغلقُ بعنف، وأدرك أن الآنسة بيليس استأذنت لدخولِ مكانٍ ما، ودخلته.

ولكي يعرف سبارجو ذلك المكانَ بالتحديد نزل إلى الممر الذي كانت الآنسة بيليس فيه لتوِّها. لم يجد أحدًا في الجوار، وفي الحقيقة لم يَرَ سبارجو أحدًا منذ دخل المبنى. سار في الممر الذي رأى الآنسة بيليس فيه. كان يعلم أن كلَّ أبواب المبنى كانت مزدوجة، وأن الطبقة الخارجية للباب المصنوعة من البلُّوط كانت مُصمَتةً وسميكةً بما يكفي لتمنع نفاذَ الصوت. لكنه — كما يفعل الرجال في مثل هذه الظروف — ترفَّق في مشيه، وقال في نفسه، مبتسمًا من الفكرة، إنه بالتأكيد سيَجفُل إنْ فتَحَ أحدٌ أيَّ باب. بيْدَ أن ذلك لم يحدث، ووصل في النهاية إلى آخِرِ الممر فوجد نفسَه أمام لوح أسود مكتوبٍ عليه باللون الأبيض: مكتب السيد إيلفيك.

بعد أن اطمأنَّ سبارجو بوصوله إلى المكان المقصود بالتحديد، عاد أدراجَه بالهدوء نفسِه. كانت في منتصف الممر نافذةٌ لمحها وهو قادمٌ تُطِل على الجسر ونهر التيمز؛ فتراجَعَ إليها واتَّكأ على إفريزها وأطلَّ منها مستغرقًا في التفكير. هل يَمضي قُدمًا ويُواجه هذَين المتآمِرَين إن سُمِح له بالدخول؟ أم ينتظر خروجَ المرأة ويسمح لها برؤيته وهو يتقدَّم في مسارِ كشفِ المستور؟ أم يختبئ حتى تنصرف ثم يقابل إيلفيك وحده؟

وفي النهاية لم يفعل سبارجو أيًّا من هذه الأشياء على الفور. بل ترك الأمورَ تَمضي كما قُدِّر لها للحظة. وأشعل سيجارة وحدَّق في النهر والأشرعة البنِّية التي تعلو صفحتَه، والمباني المصطفَّة على ضفتِه من ناحية سري. مرت عشر دقائق، ثم عشرون، ولم يحدث شيء. ولما دقَّت كل الساعات القريبة مُعلِنةً التاسعةَ والنصف، ألقى سبارجو بسيجارته الثانية، وسار في الممر بلا تردُّد وطرق بابَ السيد إيلفيك بجسارة.

فُوجِئ سبارجو عندما فُتِح الباب قبل أن يُضطرَّ إلى طرقِه مرةً ثانية. ووجد سبارجو السيدَ إيلفيك يقف أمامَه في هدوء، وتعلو وجهَه الهادئ نظرةُ تَرْحاب لا تخلو من انزعاجٍ بادٍ وراء نظَّارته. يعتمر قبعةً لمنع تشبُّعِ شعره بدخان التبغ، ويرتدي سُترةً فوق قميصه الرسمي لكيلا يَعْلَق الدُّخَانُ بملابسه، ويُمسِك بغليون صغير.

فُوجِئ سبارجو، بينما لم يفعل السيد إيلفيك. فقد فتح البابَ على اتساعه وأشار إلى الصحفيِّ يدعوه للدخول.

قال السيد إيلفيك: «تفضَّل يا سيد سبارجو. كنتُ أتوقَّع زيارتك. تفضَّل إلى غرفة الجلوس.»

مر سبارجو في طريقه إلى غرفة الجلوس بغرفةِ انتظارٍ مندهشًا من الاستقبال الذي تلقَّاه، ثم وصل إلى غرفةٍ ذاتِ أثاثٍ جميل مليئة بالكتب والصور. وبالرغم من عدم مرور وقتٍ طويل منذ انتصاف الصيف كانت في المدفأة نارٌ مشتعلة، وكان في الغرفة كرسيٌّ فسيح ذو ذِراعَين، توجد بالقرب منه طاولة عليها قنينةُ خمرٍ وكأسٌ ورِواية. استنتج سبارجو من هذه الأغراض أن السيد إيلفيك كان يأخذ قسطًا من الراحة بعد عَشائه. غير أن كرسيًّا آخرَ ذا ذراعَين على الجانب الآخَر من المدفأة كان يحمل الآنسةَ بيليس بهيئتها الباعثة على الذعر، وقد بدَت أكثرَ كآبةً وغموضًا من ذي قبل. لم تَصدُر عنها حركةٌ ولا كلمة مُذْ دخل سبارجو، بل إنها حتى لم تُوجِّه نظرَها نحوه. وقف سبارجو يُحدِّق فيها حتى لمس السيدُ إيلفيك كوعَه بعد أن غلَّق الأبواب، وأومأ إليه أن يجلس.

قال السيد إيلفيك وهو يعود إلى كرسيه: «بالفعل كنت أتوقَّع حضورك يا سيد سبارجو. كنت أتوقَّع حضورك في أي وقتٍ منذ بدأتَ تحقيقَك في قضية ماربري، وبالتحديد في بعض المراحل المبكرة التي قابَلتَني فيها، في ثلاجة الموتى مثلًا لو كنتَ تتذكَّر. لكن نظرًا إلى أن الآنسة بيليس أخبرَتني منذ عشرين دقيقة أنك زُرتها هذا الصباح، فقد كنتُ متأكدًا أنك ستزورني بعد ساعات قليلة.»

قال سبارجو بعد أن استعاد تمالُكَ أعصابه: «ولماذا كنتَ تتوقَّع أني سآتي لزيارتك يا سيد إيلفيك؟»

رد السيد إيلفيك: «لأني كنتُ متأكدًا أنك لن تتركَ صغيرةً ولا كبيرةً دون أن تبحث في شأنها. ففضولُ صحفيِّي هذا العصر لا حدَّ له.»

اعتدل سبارجو في جلسته.

وقال: «ليس الأمر فضولًا يا سيد إيلفيك. بل كلَّفَتْني صحيفتي بالتحرِّي عن ظروف موت الرجل الذي عُثِر عليه في ميدل تمبل، والتوصُّل إلى قاتِله إن أمكن، و…»

ضحك السيد إيلفيك بخفة ولوح بيده.

وقال: «أيها الشاب المهذَّب! أنت تُبالِغ في تقدير أهمية دورك. أمَّا أنا فلا أؤيد الصحافةَ الحديثة وطُرقَها. ففي قضيتك هذه مثلًا لديك فكرةٌ سخيفة بأن المدعوَّ جون ماربري كان في حقيقة الأمر جون ميتلاند الذي كان أحدَ أبناءِ ماركت ميلكاستر يومًا ما، وحاوَلتَ إثارةَ ذعرِ الآنسة بيليس لكي …»

هبَّ سبارجو قائمًا من كرسيه فجأة. فقد كانت أعصابُه سريعةَ الاشتعال، ما إن تَطُلْها شرارةٌ حتى تنفجر مستعصيةً على السيطرة، وها قد طالتها الشرارة. فقام ونظر إلى وجه المحامي العجوز بجُرأة.

وقال: «سيد إيلفيك، لا بد أنك لا تعلم كلَّ ما أعلم. لذا سأُخبرك بما سأفعل. سأعود إلى مكتبي وأدوِّن ما أعلمه بالفعل، وسأُضمِّن فيما سأكتب دلائلَ لا يَرقى إليها الشكُّ على ما أعلم، وإذا استقطعتَ بعضًا من وقتك لقراءة عدد الصباح من «ووتشمان» غدًا، فستعلم أنت أيضًا ما أعلم.»

قال السيد إيلفيك في سخرية: «يا إلهي! يا إلهي. لقد اعتدنا على القصص الصحفية المفرطة في الإثارة من صحيفة «ووتشمان»، لكني عجوز فضولي محبٌّ للاستطلاع أيها الشاب؛ لذا فَلْتُخبرني بما تعلم في عُجالة، أيُمكِنك ذلك؟»

فكَّرَ سبارجو لبُرْهة. ثم تقدَّم بجذعه من فوق الطاولة ونظر إلى وجه المحامي العجوز.

وقال في هدوء: «نعم. سأخبرك بما أعلمه عينَ اليقين. أعلم أن الرجل الذي قُتِل المعروف باسم جون ماربري هو بلا شك جون ميتلاند ابن بلدة ماركت ميلكاستر، وأن رونالد بريتون هو ابنُه الذي أخذتَه أنت من هذه المرأة!»

كان وقْعُ هذه الكلمات على السيد إيلفيك كافيًا تمامًا لردِّ اعتبار سبارجو بعد استخفافِ السيد إيلفيك بما لديه من معلومات. فقد تغيَّرَت ملامحُ السيد إيلفيك تمامًا، واختفَت من وجهه نظرةُ الازدراء والاستهانة لتحلَّ محلَّها نظرةُ رعبٍ شديد، وسقط غليونه، وتراجَعَ بجسمه في كرسيِّه ليستجمع شَتاتَ نفسِه، واستند إلى ذراعَي الكرسي، وحدَّق في سبارجو كما لو كان سبارجو قد أعلن له فجأةً أن حكم الإعدام الفوري سيُنفَّذ فيه بعد دقيقة. ولما لاحَظ سبارجو مفعولَ الصدمةِ الأولى هذا، أتبعها بالثانية.

«هذا ما أعلم يا سيد إيلفيك، وقد يعلمه العالَم كلُّه صباحَ الغد إذا قررتُ ذلك! رونالد بريتون هو ابنُ القتيل، وخاطِبُ ابنةِ المتهم بقتله. أتسمع ذلك؟ ليس الأمرُ مجردَ اشتباه أو فكرة أو حَدْس، بل حقيقة، حقيقة راسخة!»

التفت السيد إيلفيك ببطءٍ نحوَ الآنسة بيليس. وتلفَّظَ ببضع كلمات بين أنفاسه المتقطعة.

«لم … تُخبريني … بذلك!»

التفت سبارجو إلى المرأة، فلاحَظ انسحابَ الدمِ من وجهها هي الأخرى من الرعب.

تمتمَت قائلة: «أنا لم … لم أكن أعلم ذلك. لم يُخبرني. لم يُخبرني هذا الصباحَ إلا بما أخبرتُكَ به.»

التقط سبارجو قبعتَه.

وقال: «طابَت ليلتُك يا سيد إيلفيك.»

وقبل أن يبلغ البابَ كان المحامي العجوزُ قد نهض عن كرسيِّه وأمسك به بيدَين مرتعشتَين. فالتفتَ سبارجو ونظر إليه. وكان يعلم أنه بثَّ في نفس السيد سبتيماس إيلفيك رعبًا شديدًا.

قال سبارجو: «ما الأمر؟»

قال السيد إيلفيك في ضراعة: «أيها الشاب العزيز. لا تنصرف! يُمكِنني أن أفعل أيَّ شيء تريده مقابلَ امتناعك عن نشرِ هذه المعلومات. سأُعطيك ألف جنيه!»

انتزع سبارجو نفْسَه من بينِ يدَيه.

وقال في غضب: «كفى! سأنصرف الآن! أتُحاوِل رِشوتي؟»

فرَك السيد إيلفيك يديه.

وقال بصوتٍ أشبه بالعويل: «لم أقصد ذلك … لم أقصد ذلك على الإطلاق! لا أعلم ماذا كنتُ أقصد. انتظر أيها الشاب، انتظر بعضَ الوقت، وَلْنتحدَّث معًا. دَعْني أتحدَّث معك، سأُعطيك كلَّ ما تريد من الوقت. أرجوك!»

تظاهَرَ سبارجو بالتردُّد.

وأخيرًا قال: «لكن إذا انتظرت، فسيكون ذلك بشرطِ أن تُجيب بصدقٍ عن أي أسئلةٍ أطرحها عليك. وإلا …»

وتظاهَرَ بالتحرُّك نحو الباب، فأمسك به السيد إيلفيك مترجِّيًا.

وقال: «انتظر! وسأُجيب عن كل ما تريد!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤