الفصل الثامن والعشرون

إثبات الهُوِية

جلس سبارجو على كرسيِّه من جديد، ونظر إلى الشخصَين اللذين أحدَثَ كلامُه المفاجئ فيهما ذلك التأثيرَ الغريب. وأدرك عندما نظر إليهما أنه بالرغم من أن كِلَيْهما كان خائفًا، فإن خوفَ كلٍّ منهما كان ذا طبيعة مختلفة. فقد كانت الآنسة بيليس قد استعادت رباطةَ جأشِها؛ وها هي تجلس الآن في وجومٍ وتجهُّمٍ كما كانت تمامًا، تردُّ على نظرة سبارجو بنظرةِ تحدٍّ ولامبالاة، وتخيَّل سبارجو معركةً تدور في عقلها بين خوفٍ من نوعٍ ما وتعجُّبٍ من اكتشافه للسر. بدا له أنها لما أدركت انكشافَ السر، أخذت تحثه بلا كلماتٍ أن يأتيَ بأسوأ ما لديه ما دام السرُّ قد انكشف.

لكنَّ وَقْع الكلام على السيد إيلفيك كان مختلفًا تمامًا. فقد ظل يرتعش من فرط الإثارة، وعاد إلى كرسيِّه مزمجرًا، واهتزَّت يدُه وهو يصبُّ لنفسه كأسًا من الخمر، وعندما رفع الكأس إلى شفتَيه اصطكَّت بأسنانه. قضَت الصدمةُ القوية التي تلقَّاها على ما تبقَّى من آثار الازدراء المقنع الذي استقبل به سبارجو. وبينما كان سبارجو يُراقِبه في اهتمامٍ خاطَبَ نفسه قائلًا: هذا الرجل يعرف أكثرَ بكثير من أن ماربري هو ميتلاند، وأن رونالد بريتون هو في الحقيقة ابنُ ميتلاند، إنه يعرف شيئًا لم يُرِد لأحدٍ أن يعرفه، شيئًا كان يحسب وصولَ خبره إلى أيِّ شخصٍ من ضروب المستحيل. كما لو أنه دفن شيئًا ما في هوَّة سحيقة، ثم هاله أن يرى خبيئتَه تنكشف للعِيان واضحةً كالشمس في رابعة النهار.

وفجأةً قال سبارجو: «سأنتظر حتى تتمالكَ أعصابك يا سيد إيلفيك. لا أريد الضغطَ عليك. لكني أُلاحِظ بالطبع أن الحقائق التي قلتُها لك سبَّبَت لك نوعًا من اﻟ… الخوف.»

أخذ إيلفيك رشفةً جديدة من الخمر. وقلَّ اهتزازُ يده، واستعاد وجهُه لونَه الطبيعي.

وقال: «هلَّا سمحتَ لي بالتوضيح. هلا استمعتَ إلى ما جرى من أجل الفتى؟»

رد سبارجو: «هذا بالتحديد ما أريد. واعلم أني آخِر شخصٍ في العالَم قد يتمنَّى إلحاقَ أي ضررٍ بالسيد بريتون.»

نفسَت الآنسة بيليس عما يعتملُ في صدرها من مشاعرَ بإصدارِ صوتٍ يُعبِّر عن ازدرائها. وقالت وهي تنظر نحو سقف الغرفة: «هو يقول هذا. يقول هذا بالرغم من أنه ينوي إخبارَ العالَم كلِّه في صحيفته الحقيرة أن رونالد بريتون الذي حظِي بكل صنوف الرعاية هو ابنُ مُجرِم، مُدانٍ سابق، ابن …»

رفع إيلفيك يده.

وقال متوسِّلًا: «صه! السيد سبارجو نواياه طيبة، أنا متأكد من ذلك … أنا مقتنعٌ بذلك. لو أنه فقط يستمع لما لديَّ ﻓ…»

وعندئذٍ جاء من الباب الخارجي صوتُ طرقٍ عالٍ شديد قبل أن يردَّ سبارجو. فزع إيلفيك في توتر، لكنه قطع الغرفةَ مترنحًا كمَن تلقَّى ضربة، وفتح الباب. فوصل إلى غرفة الجلوس صوتُ فتًى.

«من فضلك سيدي، هل السيد سبارجو الذي يعمل في صحيفة «ووتشمان» هنا؟ لقد ترك هذا العنوانَ للجوء إليه فيه عند اللزوم.»

تعرَّفَ سبارجو على الصوت، وعرَف أن صاحبَه واحدٌ من سُعاة المكتب، فهبَّ واقفًا وتوجَّه نحو الباب.

وقال: «ما الأمر يا رولينز؟»

قال الساعي: «هلا جئتَ إلى المكتب على الفور يا سيدي؟ السيد راثبري هناك ويقول إنه يجب أن يُقابِلَك على الفور.»

قال سبارجو: «حسنًا. سآتي الآن.»

وأشار إلى الفتى أن ينصرف، ثم التفتَ إلى إيلفيك.

وقال: «سأُضطَر إلى المغادَرة. وقد أتأخَّر. هل يُمكِنني أن آتيَ لرؤيتك صباح الغد يا سيد إيلفيك؟»

رد إيلفيك في حماس: «نعم، نعم، صباح الغد! بالتأكيد. في الحادية عشرة تمامًا. أهذا يُناسِبك؟»

رد سبارجو: «سأكون هنا في الحادية عشرة. الحادية عشرة تمامًا.»

همَّ سبارجو بالانصراف، لكن إيلفيك أمسَكَه من كمِّه.

وقال: «لحظة واحدة! لم تُخبِر الفتى — رونالد — بما تعرف، أليس كذلك؟ لم تُخبِره؟»

رد سبارجو: «بلى، لم أخبره.»

أحكَمَ إيلفيك قبضتَه على كمِّ سبارجو. ونظر إلى وجهه في توسُّل.

وقال: «عِدْني يا سيد سبارجو، عِدْني أنك لن تُخبره قبل أن تُقابِلني صباح الغد! أتوسَّل إليك أن تَعِدَني بذلك.»

تردَّد سبارجو، وهو يفكِّر في الأمر.

ثم قال: «حسنًا … أعِدُك بذلك.»

قال إيلفيك وهو لم يَزَل مُمسِكًا بكمِّ سبارجو: «وألَّا تَنْشره. هلا وعدتَني بألَّا تنشره الليلةَ؟»

قال سبارجو: «لن أنشره الليلة. أؤكِّد لك ذلك.»

أفلتَ إيلفيك ذراعَ الشاب.

وقال: «تعالَ في الحادية عشرة من صباح الغد.» ثم تراجَعَ وأغلق الباب.

أسرع سبارجو إلى المكتب وتوجَّه إلى غرفته. فوجد فيها راثبري جالسًا على كرسيٍّ وثير يُدخِّن السيجار ويقرأ صحيفةَ المساء غيرَ آبهٍ بشيء، ويبدو عليه اتزانٌ شديد. ولما وصل سبارجو رحَّبَ به راثبري بإيماءةٍ فيها شيءٌ من اللامبالاة وابتسامة.

وقال راثبري: «حسنًا، كيف الحال؟»

جلس سبارجو على كرسي المكتب يُحاوِل التقاطَ أنفاسه.

وقال: «لم تأتِ إلى هنا لتُخبِرني بذلك.»

فضحك راثبري.

وقال وهو يُلقِي بالصحيفة جانبًا: «هذا صحيح. بل جئتُ لأخبرك بآخِرِ ما توصَّلتُ إليه. ولك الحرية التامة في نشره في صحيفتك الليلةَ، قد يكون الأمر جديرًا بالإعلان.»

قال سبارجو: «وما هو؟»

أخرج راثبري السيجارَ من فمه وتثاءب.

وقال في تكاسُل: «لقد انكشفَت هُوِية إيلمور.»

انتصبَ سبارجو فجأةً في جلسته.

«انكشفَتْ هُوِيته؟!»

«انكشفَتْ هُوِيته يا بني، دونَ أدنى شك.»

قال سبارجو في انفعال: «انكشف أنه مَن؟ أو ماذا؟»

ضحك راثبري.

وقال: «إنه سجينٌ قديم، مُدان سابق. أمضى مدةَ عقوبته في دارتمور. وبالطبع، كان هذا هو المكان الذي جمع بينه وبين ميتلاند أو ماربري. هل فهمت؟ الأمرُ واضحٌ تمامًا الآن يا سبارجو.»

جلس سبارجو يطرق بأصابعه على المكتب. وكانت عيناه مثبتتَين على خريطةٍ للندن معلَّقةٍ على الحائط المقابل، وسمعتْ أذناه هديرَ ماكينات الطباعة في الطابق السفلي. غير أن ما رآه حقًّا كان وجهَي فتاتَين، وما سمعه كان صوتَيهما …

كرَّر راثبري في ابتهاج بالغ: «واضح تمامًا، تمامًا.»

عاد سبارجو من بين سُحُب خيالاته إلى أرض الواقع المرير.

وسأل في حِدَّة: «وما الواضح تمامًا الذي تَعْنيه؟»

أجاب راثبري: «ما الواضح؟ عجبًا، كل شيء! الدافع وكل شيء، أَلَا ترى؟ ميتلاند وإيلمور (اسمه الحقيقي إينزوورث بالمناسَبة) تقابَلا في دارتمور على الأرجح — بل من المؤكَّد — قبل إطلاق سراح إيلمور مباشَرة. وبعد ذلك سافَر إيلمور إلى الخارج، وجمع المال، وعاد في وقتٍ ما، وبدأ عملًا جديدًا، ونال عضوية البرلمان، وأصبح ذا شأن. وفي الوقت المناسب عاد ميتلاند أيضًا من الخارج بعد أنْ سافَرَ هو الآخَر بعد انقضاء مدةِ عقوبته. والتقى الاثنان. وعندئذٍ حاوَل ميتلاند ابتزازَ إيلمور على الأغلب أو هدَّده بأن يُعلِم الناسَ أن السيد إيلمور النائبَ البرلماني البارز هو في الحقيقة مُجرِم مُدانٌ سابق. وكانت النتيجة أنِ استدرَجه إيلمور إلى تمبل لإسكاته. وهكذا يُصبِح كلُّ شيء واضحًا تمامًا كما قلت. وضوح الشمس!»

أخذ سبارجو ينقر بأصابعه مجددًا.

وسأل في هدوء: «كيف؟ كيف اكتُشِفَت هُوِية إيلمور؟»

قال راثبري في فخر: «إنه عملي. عملي يا بني. لقد فكَّرتُ كثيرًا. وخاصةً بعد اكتشاف أن ماربري هو ميتلاند.»

قال سبارجو: «تعني بعد أن اكتشفتُ أنا ذلك.»

لوَّح راثبري بسيجاره.

وقال: «لا يهم، الأمران سيَّان. أنت تُساعدني وأنا أساعدك، أليس كذلك؟ على أي حال، فكَّرتُ مَلِيًّا كما قلتُ لك. وتساءَلتُ عن المكان الذي تعرَّف فيه ميتلاند أو ماربري على إيلمور أو التقى به فيه منذ عشرين أو اثنين وعشرين عامًا؟ ليس في لندن؛ لأننا كنا نعرف أن ميتلاند لم يَزُر لندن قبل محاكَمته قط، وليس لدينا أيُّ دليلٍ على أنه زارها بعد محاكَمته. وتساءلتُ عن سببِ امتناع إيلمور عن الحديث. فدار في خَلَدي أن مكان اللقاء كان غيرَ مشرِّف بلا شك. وفجأةً قفزت الفكرةُ إلى ذهني في إحدى لحظات اﻟ… ماذا تسمونها أنت وزملاؤك يا سبارجو؟»

قال سبارجو: «الإلهام، على ما أظن. الإلهام المباشِر.»

قال راثبري: «هذه هي. في إحدى لحظات الإلهام المباشِر، قفزَت الفكرة إلى ذهني: منذ عشرين عامًا كان ميتلاند في دارتمور، لا بد أنهما التقَيا هناك! وبِناءً على ذلك، استدعينا بعضَ حرَّاس السجن القدامى الذين كانوا يعملون فيه ذلك الوقت، وأَرَيْناهم إيلمور ومكَّناهم من التدقيق فيه. وبالطبع سنُّه الآن أكبرُ بعشرين عامًا، وقد أطلق لحيتَه، لكنهم بدَءوا يتذكَّرونه، ثم تذكَّرَ أحدُهم أنه إذا كان المقصودَ فستكون لديه وحمةٌ في مكان محدَّد. وتبيَّنَ أنها لديه!»

سأل سبارجو: «وهل يعلم إيلمور باكتشافِ هُوِيته؟»

ألقى راثبري بسيجاره في المدفأة وضحك.

وقال في سخرية: «يعلم! يعلم؟ لقد اعترف بنفسه. فما فائدةُ إنكارِ دليلٍ كهذا؟ لقد اعترف بذلك الليلةَ في حضوري. إنه يعلم كلَّ شيء!»

«وماذا قال؟»

ضحك راثبري في ازدراء.

وقال: «وماذا عساه يقول؟ لم يقُل الكثير. كلُّ ما قاله هو تقريبًا نفس ما قاله عن قضيتنا هذه؛ قال إنه كان بريئًا من التهمة التي أُدين بها عندئذٍ. لا شكَّ أنه بارعٌ في ادِّعاء البراءة.»

سأل سبارجو: «وبِمَ أُدين؟»

«سأُجِيبك عن ذلك؛ فقد عرَفنا كلَّ شيء. فقد بحثنا في كل شيء فورَ أن اكتشفنا هُوِيته الحقيقية. كان إيلمور أو إينزوورث (اسمه الكامل ستيفن إينزوورث) يُدير جمعيةً للمساعَدة في حالات المرض أو الوفاة في بلدةٍ في الشمال اسمها كلاودهامبتون منذ ثلاثين عامًا تقريبًا. كان في الظاهر أمينًا للجمعية، لكنه كان في الحقيقة مديرَها ومالِكَها. اشترك فيها أبناءُ الطبقات العاملة — حيث إن معظمَ أهلِ كلاودهامبتون من الحِرفيِّين — وضخُّوا فيها الكثيرَ من أموالهم. ثم انهارت الجمعية فجأةً، وذهب كلُّ شيءٍ أدراجَ الرياح. وادَّعى إينزوورث، أو إيلمور، أنه تعرَّضَ للسرقة أو الخداع على يدِ رجلٍ آخر، لكن هيئة المحكمة لم تُصدِّقه، وحُكِم عليه بسبع سنوات. قصة واضحة كما ترى يا سبارجو إذا نظرت في كل التفاصيل، أليست كذلك؟»

قال سبارجو: «كل القصص تكون واضحةً عندما ينكشف عنها النقاب.» ثم واصَل: «هذا يعني أنه لزم الصمتَ لأنه لم يُرِد أن تعرفَ ابنتاه ماضيَه؟»

قال راثبري: «هذا صحيح. ولا أظنني ألومه على ذلك، لقد ظنَّ أنه سيُفلِت من جُرمه في قضية ماربري هذه، لكنه ارتكب خطأَه في المراحل الأولى، نعم هذا صحيح!»

قام سبارجو من وراء مكتبه وتمشَّى في الغرفة بضع دقائق، في حين أشعل راثبري سيجارًا آخَر. وأخيرًا عاد سبارجو وربَّت على كتف المحقِّق.

وقال: «اسمع يا راثبري. من الواضح جدًّا أنك ترى أن إيلمور قتَل ماربري بالفعل. صحيح؟»

رفع راثبري نظرَه. وعلَتِ الدهشةُ وجهَه.

وقال منفعلًا: «بعد هذه الأدلة؟ عجبًا، بالطبع. هناك دافِعٌ يا بني، دافِع!»

ضحك سبارجو.

وقال: «اسمع يا راثبري. إيلمور بريء من قتْلِ راثبري كبراءتِك أنت منه!»

نهضَ المحقِّق واعتمر قبعته.

وقال: «أوه! أيعني ذلك أنك تعرف مَن فعلها إذن؟»

أجاب سبارجو: «سأعرف بعد أيام قليلة.»

حدَّق راثبري فيه في تساؤُل. ثم مشى نحو الباب فجأةً. وقال بفظاظة: «طابَت ليلتُك!»

ردَّ سبارجو: «طابَت ليلتُك يا راثبري!» وجلس إلى مكتبه.

لم يكتب سبارجو شيئًا تلك الليلة لعدد صحيفة «ووتشمان». كل ما كتبه كان برقيةً قصيرة موجَّهة لابنتَي إيلمور، ولم تكن فيها إلا كلمتان: لا تخافا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤