الفصل التاسع والعشرون

الأبواب المغلقة

بخِلاف جميعِ صُحف لندن الصباحية، خلا عددُ صحيفة «ووتشمان» من الأخبار المثيرة المتعلقة بجريمةِ قتلِ ميدل تمبل. أمَّا الصحف اليومية الأخرى فقد نشرَت رواياتٍ تبايَنَت في تفاصيلها حول اكتشافِ الهُوِية الحقيقة للسيد ستيفن إيلمور عضو البرلمان عن بروكمينستر، وأنه في الحقيقة المُدانُ السابق ستيفن إينزوورث، الذي كان يومًا ما مؤسِّسَ جمعيَّة هيرث آند هوم للمساعَدة في حالات المرض أو الوفاة وأمينَها، وهي الجمعية التي كان مقرُّها في كلاودهامبتون بديلشاير، وكان انهيارُها نازلةً ضربَتِ الآلافَ من العاملين الشرفاء في مقتل. عمدت معظمُ الصحف إلى التنقيب عن ماضي إينزوورث في الدفاتر القديمة؛ لعلها تجد فيها مادةً صحفية ذات بال. ولم يكن بالأمر العسير على هذه الصحف أن تَسرد قصةَ انهيارِ جمعية هيرث آند هوم، وأن تكتب عن عَوزِ أولئك المستثمرين الصغار الذين أتى الانهيارُ على مدَّخراتهم المحدودة، وأن تُعِيد سرْدَ تاريخِ اعتقال إينزوورث ومحاكَمته وما صار إليه. اصطبغت القصةُ بالكثير من العواطف: رجلٌ مكَّنَته قدراتُه المالية من تأسيسِ جمعيةِ تأمينٍ صناعية كبيرة، ثم استخدم المبالغَ الطائلة التي عُهِد إليه بها لأغراضه الخاصة حسَبما ادُّعِي عليه، وبعد ذلك انفضح أمرُه وتلقَّى عقابَه، ثم اختفى بعد أن نال عقابَه ولم يُعثَر له على أثر، وبعد عددٍ من السنوات عاد باسمٍ جديد، وثراءٍ فاحش، ونال عضويةَ البرلمان، وبات شخصيةً عامة دونَ أن يشتبهَ أيٌّ ممَّن عرَفوه في منصبه الجديد في أنه ارتدى ذاتَ يوم زيَّ السجن. إنها مادة صحفية خِصبة، بل ممتازة، خصَّصَت بعضُ صحفِ الصباح لها عمودَين.

كانت صحيفة «ووتشمان» حتى ذلك الحين تستأثِر عن كلِّ منافِسيها بقصَب السَّبق في إحاطة العامة بآخِر المستجدَّات ذات الصلة بقضية ماربري، لكنها اكتفت ذلك الصباحَ بخبرٍ مقتضب. فبعد أن ترك راثبري سبارجو، التقى الأخيرُ بمالِك الصحيفة ورئيس تحريرها، وتشاوَرَ معهما مطولًا، واتفقوا في آخِر حديثهم على الاكتفاءِ بنشرِ خبرٍ يتكوَّن من فقرةٍ واحدة قصيرة صباحَ اليوم التالي، جاء فيه:

علمَت الصحيفةُ أن مسئولين محدَّدين اكتشفوا أن السيدَ ستيفن إيلمور عضوَ البرلمان المتهم بقتل جون ماربري (أو ميتلاند) في تمبل في الحادي والعشرين من يونيو الماضي، هو في الحقيقة ستيفن إينزوورث، الذي حُكِم عليه بالأشغال الشاقة في قضية أموالِ جمعيةِ هيرث آند هوم للمساعَدة في حالات المرض والوفاة، منذ ثلاثين عامًا تقريبًا.

وبينما كان سبارجو يمشي بخِفةٍ في طريقه إلى فليت ستريت ذلك الصباح، مر أمام المحكمة فالتقى بصحفيٍّ آخَرَ يعمل لدى إحدى الصحف المنافِسة، فابتسم له الرجلُ ابتسامةَ استهزاء.

وقال في خُيلاء: «أسقطَتْ صحيفتُك التافهة بعضَ المعلومات في عددها هذا الصباحَ يا عزيزي سبارجو! لقد فوَّتُّم إحدى أفضلِ الفرص التي سنحت فيما يتعلَّق بقضية ماربري. فِقرة واحدة بائسة فحسب! لقد كتبتُ عمودًا ونصفَ عمود في صحيفتي! فيمَ كنتَ منشغلًا ليلةَ أمسِ أيها العجوز؟»

أومأ سبارجو برأسه وقال: «كنتُ نائمًا!»

ترك سبارجو الرجلَ يُحدِّق فيه وعبَرَ الطريق إلى زقاق ميدل تمبل. وعند تمام الحادية عشرة كان يصعد الدَّرَج المُفضِيَ إلى مسكن السيد إيلفيك، ثم يطرق الباب الخارجي. يندر أن تكون الأبوابُ الخارجية مغلقةً في هذه الساعة في تمبل، لكن باب إيلفيك كان مغلقًا. في الليلة الماضية فُتِح الباب على الفور، أمَّا الآن فلم يجد ردًّا عندما طرقه للمرة الأولى، ولا الثانية، ولا الثالثة. نطَق فُوه وهو لا يكاد يَعِي ما يحدث متمتمًا: «باب إيلفيك مغلق!»

لم يخطر ببال سبارجو أن يُواصِل الطَّرْقَ بعد ذلك، فقد أخبرَته غريزتُه أن باب إيلفيك مغلقٌ لأن الرجل ليس موجودًا … لأن إيلفيك لم يكن ليلتزم بالموعد الذي ضربه. التفت سبارجو وسار في الممر. وما إنْ وصل إلى أعلى الدَّرَج حتى وجد رونالد بريتون ينهب الدَّرَج نهبًا وهو شاحِب الوجه مضطرِب الهيئة، ولما رأى سبارجو توقَّف يحدِّق فيه في تساؤل. ثم تصافَحَ الاثنان وكأنما في تعاطُف متبادَل.

قال بريتون: «أسعَدَني أنك لم تنشر في عددِ هذا الصباح من «ووتشمان» أكثرَ من هذين السطرَين أو الثلاثة الأسْطُر. كان ذلك لُطفًا منك. أمَّا الصحف الأخرى فقد …! أكَّدَ لي إيلمور أمسِ يا سبارجو، أكَّد أنه كان بريئًا بالرغم من إمضائه مدةَ العقوبة في دارتمور! لقد استُخدِم ككبشِ فداءٍ لرجلٍ آخَر اختفى.»

اكتفى سبارجو بالإيماء بالموافَقة، وأضاف بريتون في حرَج:

«أنا ممتنٌّ لك أيضًا أيها الصديق القديم على إرسالِ تلك البرقيَّة إلى الفتاتَين ليلةَ أمس، كان ذلك لُطفًا منك. إنهما في حاجةٍ إلى أيِّ مسانَدة. مسكينتان! لكن ماذا تفعل هنا يا سبارجو؟»

استند سبارجو على الدرابزين وضم يدَيه.

وقال: «جئتُ بناءً على موعدٍ مع السيد إيلفيك، لقد ضرب معي موعدًا عندما زرته في التاسعة حسَب اقتراحك. كان موعدنا في الحادية عشرة، وهو موعدٌ مهم جدًّا.»

نظر بريتون إلى ساعته.

وقال: «هيا بنا إليه إذن. لقد تجاوَزَ الوقتُ الحاديةَ عشرةَ بكثير، ووَصِيِّي بالغُ الحزم في المواعيد.»

لكن سبارجو لم يتحرَّك. وهز رأسه وهو ينظر إلى بريتون بعينٍ مِلْؤُها التوتر.

وقال: «أنا أيضًا كذلك. لقد تدرَّبت على ذلك. وَصِيُّك ليس هنا يا بريتون.»

رد بريتون: «ليس هنا؟! والموعد في الحادية عشرة؟! هذا محال، لم أعهده مُخلِفًا لأي موعد قط!»

قال سبارجو: «لقد طرَقتُ البابَ ثلاثَ مرات منفصلة.»

قال بريتون: «بل اطرقه ستَّ مرات، ربما لم يَزَل نائمًا؛ فهو يسهر. كثيرًا ما يسهر مع العجوز كاردلستون حتى منتصفِ الليل ويتحدَّثان عن الطوابع، أو يلعبان بأوراق اللعب. هيا، سترى بنفسك!»

هز سبارجو رأسَه مجددًا.

وقال: «إنه ليس هنا يا بريتون. لقد غادَر!»

حدَّق بريتون فيه كما لو أنه قال إنه رأى السيد سبتيماس إيلفيك يتسنَّم جَملًا في فليت ستريت ويرحل. ثم أمسك بكوعه.

وقال: «هيا! لديَّ مفتاحُ بابِ السيد إيلفيك، حتى يُمكِنني الدخول والخروج كما يحلو لي. سأُرِيك بعد قليلٍ أنه لم يُغادِر.»

تبع سبارجو المحاميَ الشاب في الممر.

وقال متفكرًا بينما أدخَلَ بريتون المفتاحَ في الباب: «لن يُجدِيَ ذلك، فهو ليس هنا يا بريتون. لقد غادَر!»

قال بريتون منفعلًا وهو يفتح الباب ويدلف إلى الصالة: «عجبًا لك يا رجل! لا أعلم ماذا تقول! غادَر؟! وإلى أين عساه يُغادِر بعد أن ضرب معك موعدًا الساعة الحادية عشرة، إنه …» وقطع جملتَه لينادي على السيد إيلفيك.

فتح بريتون بابَ الغرفة التي التقى فيها سبارجو بإيلفيك والآنسة بيليس في الليلة الماضية، وهمَّ بدخولها لكنه توقَّف على عتبتها في ذهول.

وصاح: «يا إلهي! ما هذا كله؟»

نظر سبارجو من فوق كتف بريتون في هدوء. لم يتطلَّب الأمر أكثرَ من نظرة خاطفة ليُدرِك أن أمورًا كثيرةً حدثت في هذه الغرفة مُذْ غادَرَها الليلةَ الماضية. ها هو الكرسي الوثير الذي ترك فيه إيلفيك، وبالقرب منه الطاولةُ الصغيرة التي كان عليها قنينة الخمر والكأس، لكن الطاولة كانت قد زُحزِحت من مكانها على نحوٍ يَشِي بدفعها بيدٍ متعجِّلة، وها هي تلك الرواية موضوعةٌ على غلافِها الأمامي وفوقها غليون إيلفيك. أما باقي محتويات الغرفة فكانت مُبعثَرة بشدة؛ أدراج مكتبٍ سُحِبت لفتحها ولم يُعَد غلقها، وأوراقٌ من كل نوع وصنف — منها ما بدا وثائقَ قانونية، ومنها ما بدا خطاباتٍ قديمة — مُبعثَرة على الطاولة التي توسَّطَتِ الغرفةَ وعلى الأرضية؛ وفي أحد الأركان علبةٌ مدهونة بطِلاء أسود فُتِحت وتناثَرت محتوياتها، وتُرِك غطاؤها فوقها كما اتفق. وانتشرت في المدفأة وعلى حاجزها كُتَلٌ من ورقٍ محترق ومتفحِّم. كان جليًّا أن صاحبَ المكان أمضى وقتًا في إتلافِ عددٍ كبير من الوثائق قبل رحيله إلى وجهة مجهولة، وأنه كان متعجلًا لدرجةِ أنه لم يهتمَّ بترتيب المكان قبل مغادَرته.

حدَّق بريتون في هذا المشهد لحظةً في تخوُّف شديد. ثم خطا خطوةً واحدة نحو باب داخلي، فتبعه سبارجو. ودخلا معًا غرفةً داخلية مخصَّصة للنوم. لم يكن فيها أحد، لكن كانت فيها أدلةٌ على أن إيلفيك حزَم حقائبَه متعجِّلًا كما أتلَفَ الوثائقَ متعجِّلًا. تناثَرت الملابس التي رآه سبارجو يرتديها مساء اليوم السابق في أنحاء الغرفة؛ سُترتُه الأنيقة ملقاةٌ بلا اكتراث في أحد الأركان، وقميصُه الرسمي ذو الأزرار الثمينة مُلقًى في ركن آخَر. وكانت في الغرفة حقيبة أو اثنتان بدا أنهما فُحِصتا ثم أُلقِيَتا جانبًا، وفُضِّلت عليهما حقيبةٌ أخرى أسهل في الحمل والتنقُّل. وتُرِكت أدراجُ الملابس التحتية مفتوحةً هي الأخرى، وكذا باب خزينة الملابس التي كشفت عمَّا احتوت عليه من ملابسَ ثمينة. نظر سبارجو حوله فخمَّن كلَّ ما جرى: بحثٌ متعجِّل مضطرب عن أوراقٍ ما، ثم تمزيقها وحرقها، ثم تبديلٌ للملابس، وحزْمٌ للضروريات في حقيبةٍ سهلةِ الحمل، ثم لَوْذٌ بالفرار.

قال بريتون في انفعال: «ماذا يعني هذا؟ ما الأمر يا سبارجو؟»

رد سبارجو: «هذا يعني ما قلتُه لك بالضبط، لقد غادَر! رحل!»

قال بريتون: «رحل؟! لكن لماذا؟ إنه وَصِيِّي! وهو أكثرُ رجالِ تمبل هدوءًا … رحل؟! لأي سبب؟ أخشى أن … يا إلهي! سبارجو، أخشى أن يكون سببُ رحيله شيئًا قلتَه له ليلةَ أمس.»

رد سبارجو: «هذا هو سببُ رحيله بالضبط، لقد رحل بسببِ شيءٍ قلتُه له الليلةَ الماضية. كان حُمقًا مني أن أتركه يَغِيب عن نظري.»

انفعل بريتون على سبارجو وقال لاهثًا:

«يَغِيب عن نظرك! أيُعقَل أن يكون قصْدُك أن للسيد إيلفيك صِلةً بقضية ماربري؟ يا إلهي! سبارجو …»

وضع سبارجو يدَه على كتف المحامي الشاب.

وقال: «أخشى أنَّ هناك أمورًا كثيرًا لا بد أن تَعلمها يا بريتون. كنتُ أنوي التحدُّثَ معك اليومَ على أي حال. اسمع …»

وقبل أن يقول سبارجو كلمةً أخرى قطعت حديثَه امرأةٌ بدا مما تحمله من أدواتٍ أنها عاملةُ تنظيف. دخلت المرأةُ الغرفةَ وما إن رأت حالها صاحتْ منفعِلة. والتفت بريتون نحوَها في تأهُّب.

وقال: «أيتها المرأة! هل رأيتِ السيد إيلفيك هذا الصباح؟»

دارتْ عينا المرأة في محجرَيها ورفعت يداها.

وقالت: «أنا، يا سيدي؟! لم أرَه على الإطلاق. أنا لا آتي قبل الحادية عشرة والنصف تقريبًا، نظرًا إلى أن السيد إيلفيك في هذا الوقت يكون قد خرج لتناوُل فطوره. رأيته صباحَ أمس سيدي، وكان عندئذٍ على ما يُرام كعادته سيدي. لا يا سيدي، لم أرَه على الإطلاق هذا الصباح.»

صدَر من بريتون تعبيرٌ آخَر عن نفاد الصبر.

وقال: «يُستحسَن أن تتركي كلَّ شيء على حاله. يبدو أن السيد إيلفيك قد غادَر متعجلًا، ويجب ألَّا تلمَسي أيَّ شيءٍ هنا حتى يعود. سأغلق مسكنَه، إذا كان معكِ مِفتاحٌ له فأعطيني إياه.»

سلَّمَت عاملةُ التنظيف مِفتاحًا كان معها، وألقت على المكان نظرةً ذاهلة أخرى، ثم انصرفت متمتمة، والتفتَ بريتون إلى سبارجو.

وقال: «ماذا كنت تقول؟ قلتَ إن هناك أمورًا كثيرًا لا بد أن أعلمها! فَلْتُخبرني بها إذن يا رجل.»

هزَّ سبارجو رأسَه رافضًا.

وقال: «ليس الآن يا بريتون. والآن أقول لك، من أجل الآنسة إيلمور، ومن أجلك، أول ما يجب أن تفعله هو أن تَتتبَّع أثرَ وَصِيِّك. علينا أن نتحرَّك! وعلى الفور.»

وقف بريتون يُحدِّق في سبارجو لحظةً في عدم تصديق. ثم أشار إلى سبارجو ليخرجا من الغرفة.

وقال: «هيا إذن. أعرف الشخصَ الوحيد الذي قد يعرف مكانَه.»

سأل سبارجو وهما ينطلقان: «ومَن يكون؟»

أجاب بريتون في تجهُّم: «كاردلستون. كاردلستون!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤