الفصل الحادي عشر

مال وفيرٌ بأجنحةٍ يطير!

وسط الظلام الدامس كان رولاند يذرع الضفة الشرقية من نهر الراين ذهابًا وإيابًا في منطقة في منتصف الطريق بين مدينة أسمانسهاوزن وقلعة إيرنفيلس. خيَّم على الليل سكون شديد، أبرزه صوت خرير تيار الماء الهادئ الذي كان يُداعب مقدمة السفينة الحادة، التي كان اتجاهها عكس التيار. وقف القبطان بلومنفيلس بهيئته الضخمة بلا حراك كالتمثال وبدا كشخص أكثر اسمرارًا في مقابل التلال السوداء على الناحية الأخرى من نهر الراين. كانت المجاديف الطويلة موازية لحوائل الأمواج الخاصة بالسفينة، واتخذ الرجال الشجعان مواقعهم، في انتظار صدور الأوامر بالإمساك بتلك المجاديف الضخمة، متحدِّين الرياح وحركة المد والجذر. لكن المد وحده في هذه الحالة سيكون عائقًا لهم؛ إذ كان النسيم الجنوبي القوي مُواتيًا تمامًا. ستكون رحلتهم في تلك الليلة قصيرة وشاقة في الوقت نفسه؛ فهم سيعبرون النهر فقط، ويرسون عند الضفة المقابلة، لكن أمواج النهر كانت تتلاطم بقوة حول صخرة إيرنفيلس من فوقهم، وكان عليهم أن يجدِّفوا بقوة لو أرادوا النجاة من خطر محقَّق.

الآن بدا رولاند، الذي كان أصغرَ عضوٍ في عصبة الحدَّادين حين غادَرُوا فرانكفورت، أكبرَ بسنوات من عمره الحقيقي — وهذا إذا ما استطاع المرء تمييزَ صورتِه وسط ظلام الليل الحالك — وقد ازداد مظهره وقارًا؛ إذ بالرغم من كونه مجرد قاطع طريق محتملٍ الآن، فقد تأكَّد من أنه سيكون الإمبراطور المنتخب في النهاية.

كان رولاند قد أرسل خطابًا هذا الصباح إلى جريسل في حانة ذا جولدن أنكر، يَرجُوه أن يجمع رجاله ويقودهم إلى السفينة قبل ساعة من ارتفاع القمر في كبد السماء بحدٍّ أقصى؛ إذ كان يتطلَّع للوصول إلى الجانب الآخر من النهر دون أن يراه أحد على كلتا الضفتين. وطلب منه أن تكون مسيرته صامتة، وقد وجد جوزيف هذا الأمر صعب التنفيذ في البداية، لكنه في كل الأحوال لم يكن يحتاج للقلق من تحقيق ذلك. فقد كان للنبيذ الأحمر الذي تشتهر به أسمانسهاوزن تأثيره القوي، وكان أهل المدينة يعتادون الغناء والضحك في الشارع الوحيد الموجود في ذلك المكان طوال ساعات الليل.

عند وصولهم، كان الرجال في غاية الهدوء، وسرعان ما اتخذوا مخابئهم في مؤخرة السفينة، وعندئذٍ لوَّح رولاند، الذي كان آخر مَن صعد إلى متنها، بيده إلى القبطان لكي يبحر. بدأت السفينة تَبتعِد بمُقدمتها عن البر شيئًا فشيئًا، وأخذت تَرتطم المجاديف القوية بالماء. وبدأت السفينة تشق طريقها عبر النهر في تؤدة وثبات؛ ودون أن يراها أو يسمعها أحد على كلتا الضفتين. إلا أن تيار الماء جرفهم للجهة المقابلة لأضواء أسمانسهاوزن المتلألئة، وبعد ذلك أخذوا يُجدِّفون بثبات عكس التيار قرابة نصف فرسخ وسط هدوء الماء في الشاطئ الغربي، ثم رست السفينة وربطوا أحبالها في الأشجار النامية على حافة الماء لبقية الليل.

أشار رولاند على رجاله بأخذ قسط من النوم إن أمكن؛ لأنَّ عليهم الاستيقاظ مبكرًا عند بزوغ فجر اليوم التالي؛ ومن ثم ودون تذمُّر لفَّ كلٌّ منهم جسده بعباءته واستلقى على أرضية مقصورة السفينة.

وعندما أصبحت السماء الشرقية رمادية اللون، أُوقظ النيام وقُدِّم لكلٍّ منهم الخبز والنبيذ. وكان القبطان قد تلقَّى بالفعل تعليماته، واتَّبع الرجال، نافضين عن أنفسهم غبار النوم، قائدَهم إلى الغابة الساكنة الموحشة. وفي هدوء شديد ودون إحداث أي ضجيج يُذكر، تسلَّقوا التل الشاهق الكثيف الأشجار، ليصلوا إلى شيءٍ أشبه بممرٍّ يعلو النهر بمائة ياردة، واتجهوا نحو اليمين في صمت مُطبق لا يخلو من الهمسات.

أخذ الضوء يسود الغابة شيئًا فشيئًا، وفي النهاية، اتجه رولاند، رافعًا يده محذرًا، يسارَ الممر، وسلك طريقه عبر الغابة التي امتدت بلا نهاية تلوح في الأفق. كانوا قد قطعوا ربما فرسخًا حين جاءهم أمر صامتٌ آخر دعاهم إلى التوقف التام، وعندما أخذ الرجال يختلسون النظر عبر الأشجار الموجودة جهة الشرق، لمحوا الأبراج المحصنة الرمادية التي تتميَّز بضخامتها لقلعة راينستاين الشهيرة، فرأوا برجًا مربعًا في أقرب ركن منهم، بجواره جدار ساتر به كوات، وبرجًا مربعًا آخر أكبر يكاد طوله يصل إلى ارتفاع البرج الأول، الذي يعلو الجرف المؤدي إلى نهر الراين. وبداخل هذا السياج المنيع يوجد صرح القلعة نفسها، وبالقرب منه يوجد البرج الرئيسي المربع الضخم، الذي له بُرَيج ثُمانيُّ الشكل على الجانب الجنوبي الشرقي، قمَّته هي أعلى نقطة في هذا الحصن، رغم وجود برجٍ مُستدير يُطلُّ على النهر مباشرة لا يقل طوله عنه كثيرًا.

توغَّل رولاند وسط الأشجار، فيما أشار لرجاله بالبقاء حيث كانوا، وأخذ يَنظُر بتمعُّن إلى الأبراج وبالأسفل إلى بوابة الدخول.

كان بارون هوهينفيلس جالسًا في أمانٍ تامٍّ داخل وكر اللصوص الذي كان يَحتمي به، والذي كان يظنُّ أنه لا يُقهَر، وبالفعل الجرف الذي كان مُستقرًّا عليه وكْرُه والذي كان ارتفاعه قرابة المائة ياردة، جعله يبدو كذلك إذا ما اقترب منه أحد من جهة نهر الراين؛ لدرجةٍ جعلته لا يضع عليه سوى حارس واحد، وكان هذا الحارس مُتمركزًا عند المنصة المرتفعة للبرج المستدير. رأى رولاند الحارس يتثاءب في ضجرٍ بينما يتَّكئ على رمحه الطويل، وقد سرَّه أن يرى حارسًا واحدًا للقلعة؛ إذ كان يخشى في البداية أن يكون كلُّ مَن فيها نيامًا، وكان البرج المستدير مُتواريًا خلف البرج الرئيسي المربع الأقرب إليه إلى أن غيَّرَ رولاند موقعه جهة الشمال. وبعد أن اكتنفه شعور بالرضا لما رآه، أشار إلى رجاله أن اجلسوا ففعلوا. واتخذ هو موقعًا خلف شجرة، بحيث يمكنه مراقبة الحارسِ ذي الرمح دون أن يراه أحد.

بدأ الكسل والتراخي يظهران على الحارس حتى بدأ رولاند يخشى أن تمر السفينة دون أن يراها. فلم تَظهر أيُّ سفينة في النهر منذ شهور، ولا شك أن الحارس لم يكن يرى فائدة لمنصبه، بل كان يراه مبعثًا للضجر. بدأت السماء تزداد سطوعًا ناحية الشرق، حتى ظهر الشفق الأحمر في النهاية أعلى التلال المطلة على نهر الراين الساكن. وفجأة هبَّ الحارس واقفًا، ثم ظلل عينيه بيمناه، واتكأ على الأسوار، محدقًا جهة الجنوب. وما هي إلا لحظات حتى قطع الصمت صرخة مُدوية، واختفى الرجل وكأن الأرض قد ابتلعته. وسرعان ما تردَّد صدى صيحات البوق بين الجدران، متبوعًا بصوت قعقعة الدروع وأصوات ضجيج الرجال وكأنَّما عش دبابير قد هُوجم. ظهر ستة رجال أعلى الأبراج والأسوار المتعددة، ونظروا إلى النهر ثم اختفوا في لمح البصر كما فعل الحارس.

في النهاية، فُتحت البوابات في تثاقل، وكان الرجال الثلاثة الأوائل الذين ظهروا يمتطون ظهورَ الخيل، وكان أحدهم يرتدي ثوبًا خارجيًّا على عجل، لكنَّ الخيولَ المدرَّبة جيدًا — التي كانت تعرف عملها تمامًا مثل راكبيها؛ لأنها اعتادت السباحة في النهر إذا ما خالفت أيُّ سفينة الأمرَ الذي صدر لها بالتوقُّف — خرجت من البوابة، وانطلقت في الطريق الذي ينحدر عبرَ الغابة. اندفع الرجال ومعهم سيوف أو رماح، وتواروا عن الأنظار. بدوا بلا قيادة، مندفعين للأمام دونما تنظيم معيَّن، لكنهم كانوا يعرفون عملهم جيدًا كخيولهم. كان لكل هذه الجلبة تأثيرها على رولاند، الذي تقدَّم ببطء على يديه وركبتيه ليعرف ماذا يجري، والجميع احتبست أنفاسه في ذهول؛ لكنهم كانوا يرون قائدهم هادئًا وبلا حراك؛ إذ كان منشغلًا بعدِّ الأفراد الذين يمرون على أصابعه لأنه كان يعرف جيدًا عدد الموجودين داخل القلعة.

همس قائلًا: «ليس بعد، ليس بعد!»

وأخيرًا ظهر ثلاثة رجال يبدو عليهم الوقار يَمشُون بخُطًى واسعة واثقة؛ ويبدو من ملابسهم الأنيقة أنهم ضباط، وتبعوا الآخرين.

صاح رولاند قائلًا: «أها! لقد أسرف البارون العجوز هوجو في الشرب ليلة البارحة حتى عجز عن الاستيقاظ مبكرًا كهذا.»

كان يتحدَّث بصوت مسموع الآن.

«اعتبِروا من ذلك يا رفاق، وإياكم أن تسمحوا للنبيذ أن يؤثِّر على عملكم. اتبعوني بحذر، فرادى واحدًا تلو الآخر وانتبهوا لخطواتكم. فالطريق شديد الانحدار من هنا إلى البوابة»، وقد وجدوه كذلك بالفعل، لكن الجميع وصلوا إلى الساحة الأمامية بسلام واجتازوا البوابة المفتوحة أيضًا دونما خطر.

جاءهم الأمر التالي: «أغلقوا تلك البوابات بإحكام»، فنفَّذوه في الحال.

هبط درجَ القلعة الصخري رجلٌ ضخم بدين وهو ينخر ويلهث، وكان مُنتفخَ الوجه، مغمض العينين ويبدو أنه شرب حتى الثمالة. كان يحاول جاهدًا ارتداء سترة الدوبليت الخاصة به بينما يساعده خادم عجوز يكسو الرعب ملامح وجهه، وكان يُطلق السباب واللعنات على نحوٍ فظيع. وعندما رأى الجمع عند البوابة، ظنهم خطأً رجاله، فصاح فيهم قائلًا:

«ماذا تفعلون هنا أيها الأوغاد؟ اذهبوا جميعكم إلى النهر، اللعنة عليكم جميعًا أيها الكسالى! لماذا بحق الجحيم …» وفي تلك اللحظة توقَّف فجأة عن الكلام عند الدرجة الأخيرة من السلَّم، بينما سُلِّط سيفٌ على رقبته، فاحتبست أنفاسه وبات وجهه الأرجواني شاحبًا.

«صباح الخير، يا هوجو بارون هوهينفيلس. مَن تُخاطبهم بهذه اللهجة الفظة لا يُطيعون سوى أوامري أنا.»

قال العجوز في ضجر: «ومَن تكون بحق الجحيم؟»

«مهنتي جلاد. أثناء استقرارنا بين التلال رأينا سفينة تبحر في النهر، فاعتقدنا أنه من المُحتمَل أن تُترك القلعة دون حماية؛ ومن ثم أتينا لإعدام كبير اللصوص.»

كان البارون يرتعد بشدة من الخوف. وكان من الواضح أنه، برغم قسوته وفظاظته المعروفتين عنه، كان جبانًا في أعماق نفسه.

أخذ يتمتم بصوت مرتجف: «أنتم … أنتم … أنتم … لصوص! أنتم لصوص من هونسروك.»

«ما أذكاك، أيها البارون، كي تتعرَّف علينا في الحال. والآن أنت تعرف ما يجب أن تتوقعه بعد ذلك. جريسل، فك الحبل الذي أعطيتك إياه بالأمس. سأريك الغرض منه.»

فعل جريسل ما أمره به دون تعليق، لكن إبرهارد اقترب بشدة من رئيسه وهمس قائلًا:

«لماذا نلجأ إلى العنف؟ لسنا على خلاف مع هذا الفيل. ما نُريده هو الذهب الذي يمتلكه، وشنقه مضيعة للوقت.»

قال رولاند بلهجة صارمة: «صه، يا إبرهارد. يقال إن كل كبير يضمُّ ما هو أصغر منه. أنا أعرف هذا الرجل، وأسلُكُ أسرع الطرق للوصول إلى مكان خزينته.»

تراجع إبرهارد، وعندئذٍ كان المساعد جريسل قد صنع عقدة بالحبل ولفَّها حول عنق البارون كرابطة العنق.

صاح النبيل المرتعب: «لا، لا، لا تفعل!» وتابع: «لا حاجة لكم بحياتي. لن تنفعكم في شيء؛ كما أنني لم أوذِ الخارجين عن القانون يومًا.»

قال رولاند: «هذا كذب.» وأردف: «فقد أرسلتَ حملة ضدنا العام الماضي.»

رد بارون هوهينفيلس معترضًا: «لست أنا، بل قرصان فالكينبرج. لكن لا بأس. سأشتري حياتي منكم. فأنا رجل ثري.»

سأله رولاند في تردد: «بكم تشتريها؟»

«بأكثر مما يمكنكم جميعًا حمله.»

«ذهبًا؟»

«بالتأكيد ذهبًا.»

«إذن أين مفاتيح خزينتك؟»

«في غرفتي. سآتيك بها»، واستدار البارون وهمَّ بصعود السلَّم من جديد.

فصاح رولاند قائلًا: «لا، ليس هكذا.» وتابع: «قف مكانك، وأرسِل خادمك ليأتي بها. وإن لم تُوضع أمامي هنا قبل أن أعُدَّ إلى أربعين، فستموت شنقًا، ولن ينقذك مني أحد.»

أخبر البارون خادمه المُرتعب بمكان المفاتيح.

«جريسل، اذهب أنت وإبرهارد معه، وأيُّ إشارةِ غدرٍ أو مُحاوَلة للاستغاثة، اقتلاه بسيفيكما.» واستطرد سائلًا البارون: «هل يَعرف خادمك مكان الخزينة؟»

«أوه، نعم، نعم!»

«كيف تَحتفظ بأموالك؟»

«في حقائب من الجلد.»

«جيد. جريسل، اصطحِب ستة عشر رجلًا، وأحضِر ما استطعتم حملَه من المال إلى هنا. وسوف نُقرِّر بعدها ما إذا كان هذا كافيًا لشراء حياة البارون أم لا؛ فقيمتُه عندي كبيرة. إنه رجل مُهم. نفِّذ ما أقوله بسرعة يا جريسل، وإياك أن تَغفُل عن هذا الخادم. أحضره معك ثانية، محملًا بالذهب.»

اختفوا جميعًا داخل القلعة، يقودهم الخادم العجوز.

قال رولاند بلطف: «اجلس أيها البارون.» وتابع: «تبدو مُضطربًا للغاية، ولا أرى داعيًا لذلك ما دام لديك ما يكفي من الذهب ليفديك.»

جلس النبيل الضجر متنهدًا في إنهاك.

وأردف رولاند قائلًا: «وادعُ الرب الكريم ألا يعود رجالك قبل إتمام هذه الصفقة؛ فإنهم إن فعلوا فسيكون أول ما أقوم به هو أن أخنقك بالحبل. وحتى الذهب لن يخلصك منِّي في هذه الحالة. لكنك ما زلت تملك فرصة أخرى للحياة، في حالة وقوع هذا الحدث البغيض. سيكون عليك أن تَصيح في رجالك عبر البوابات المغلقة وتأمرهم بالعودة إلى حافة النهر إلى أن تنضم إليهم؛ ثم، إذا أطاعوا أمرك، فستكون قد نجوت. رجاءً تذكَّر أنه لا داعي للصراخ؛ لأننا مسيطرون على قلعة راينستاين، وأنت تعلم أنه لا يُمكن مهاجمة القلعة من الخارج.»

تنهَّد البارون.

وقال مُكتئبًا: «لا تتسرَّع في استخدام الحبل.» وتابع: «فأنا سوف أطيع أوامرك.»

غير أن اللصوص لم يعودوا، وحدَهم الباحثون عن الخزينة هم مَن عادوا، جامعين الحقائب في الساحة الأمامية، فتنهَّد بارون هوهينفيلس ثانية في أسفٍ لما رآه. وأشار رولاند إلى حقائب معيَّنة بطرف سيفه، آمرًا رجاله بفتحها. فكانت جميعها تمتلئ بالذهب.

فصاح قائلًا: «والآن، يا رفاق، اصنعوا للبارُون معروفًا بحمل هذا الوزن من الذهب، ثم سنتَّجه إلى هونسروك. افتحوا البوابات. واصطحبِ الرجال يا جريسل إلى النقطة التي تجمعنا فيها وانتظروني هناك.»

غادر الجمع الثَّرِي، بينما حاول رولاند إضاعة الوقت وتخفيف حدة التوتُّر الذي تملك البارون بحديث خفيف وشيق لم يحظَ بردٍّ أو مقاطعة منه. وأخيرًا وبعد أن انتظر ما يكفي من الوقت لكي يتمكَّن رجاله من الوصول إلى نقطة تجمُّعهم الأخيرة، فك رولاند الحبل الملفوف حول عنق البارون وربط يدَي اللص العجوز خلف ظهره، ثم ربط قدميه، بعد أن قطع الحبل إلى قِطَع مُستخدمًا سيفه. وفعل الشيء نفسه مع الخادم المُرتعِد، وحبسه داخل القلعة، ثم أغلق الباب بأكبرِ مفتاحٍ وسط مجموعة المفاتيح التي رماها بجانب الرجل النبيل.

ثم قال: «يا بارون هوهينفيلس، لقد وفيتُ بوعدي معك، وداعًا الآن. سأتركك بالخارج؛ لأنه يبدو أنك تُعاني ضيقًا في التنفس، والهواء النقي مفيد لك. وداعًا أيها البارون.»

لم ينبس البارون ببنت شفة، حين غادر رولاند المكان مُنظِّفًا قبعته، وتسلَّق الممر المنحدر وانضم إلى رجاله المُنتظِرين. وقد قادهم على طول جانب التل عبر الغابة لبعض الوقت، ثم نزل إلى حافة الماء. كان النهر خاليًا، فجلسوا جميعًا تحت الأشجار بعيدًا عن الأنظار، تاركين أحدهم للقيام بمهمة الحراسة. وعندئذٍ قضى رولاند نصف ساعة يسودها قلق بالغ، لم يُهدِّئه سوى معرفته بافتقار رجال قلعة راينستاين إلى براعة اختراق الغابات، ومن ثمَّ قد لا يتمكنون من ملاحقة الهاربين. لقد كان من المرجَّح أن يُهرَعوا إلى الطريق المعاكس تمامًا، باتجاه هونسروك؛ لأن بارون هوهينفيلس كان يعتقد أنهم لصوص من هذا المكان ولم يَربط وجودهم بأي حال بالسفينة المسروقة.

لكن لصوص راينستاين لو خطر ببالهم إغراق السفينة، ولطالَما فعلوا مثل هذا الأمر، لوقع رولاند ورفاقه في مأزق؛ إذ إنهم سيكونون حينها بلا طعام ولا وسيلة لعبور النهر. غير أنه كان واثقًا من أن القبطان بلومنفيلس سيتَّبع تعليماته، بألا يُبدي أيَّ مقاومة، بل ويساعد اللصوص في مهمتهم.

قال رولاند مخاطبًا رجاله: «في حدود مسافة فرسخ واحد، توجد ثلاث قلاع للقراصنة: قلعة راينستاين، التي غادَرناها للتو، ثم قلعة فالكينبرج، التي على بُعد مسافة قصيرة بعدها، ثم قلعة زونيك. إن لم يحدث للسفينة شيء، فأنا أتوقَّع الانتهاء من القلاع الثلاث قبل حلول الليل؛ ونظرًا لقرب تلك الحصون بشدة من بعضها، فعلينا العمل بسرعة، وعدم السماح بأن تَسبقنا أخبار ما نفعل وتتسرب إليهم.»

رد كورزبولد قائلًا: «لكن ماذا لو احتجز رجال هوهينفيلس السفينة في مرساهم؟»

رد رولاند: «سنَنتظر هنا نصف ساعة أخرى، وإن لم نعرف أي شيء عن السفينة خلالها، فسنذهب إلى حافة النهر إلى أن نعرف ماذا حل بها. أنا لا أظن أن اللصوص سيتعرَّضون لها؛ إذ إنهم لم يُبدوا حتى أيَّ انزعاج لا بعصيان أوامرهم بالإرساء ولا بالمقاومة بعد وصول السفينة إلى الشاطئ. كما أنني أُعوِّل على حقيقة أن الضباط سيكونون متلهفين على الأقل للسماح للسفينة بالانطلاق، أملًا في أن تتبعها سفن مُحمَّلة أخرى، وأعتقد بالفعل أنهم لهذا السبب سيكونون أكثر منا اعتدالًا في النهب.»

وقبل أن يُنهي حديثه، أعلن الحارس الذي يُراقب النهر وجود السفينة في مرمى البصر، حيث كانت تتدفق مع التيار. وعندئذٍ هبَّ الجميع تاركين الغابة. كان القبطان بلومنفيلس يتفقد الشاطئ بعناية حين رآهم فجأة، فأدار مقدمة السفينة باتجاه مكان وقوفهم.

وضعت حقائب الذهب في خزائن مَتينة تمتد على جانبي المقصورة. وفي أثناء ذلك، أعطى رولاند للقبطان تعليمات دقيقة بشأن الخطوة التالية من الخطة، ثم عاد مع رجاله إلى الغابة ثانية.

لقد كانت مهمَّتهم أصعب من الاستيلاء على قلعة راينستاين؛ لأن قلعة فالكينبرج الضخمة تُوجد على قمة صخرية خالية من الأشجار؛ كما أن القلعة نفسها عبارة عن كتلة رمادية عملاقة مُستطيلة، لها برج مربع رفيع بالقرب منها، يرتفع عن أسوارها على منحدر يصل إلى نهر الراين، مما يجعله برج مراقبة ممتاز. لكن بالرغم من أن التل الصخري المخروطي الشكل كان خاليًا من الأشجار الضخمة التي كانت تُحيط بقلعة راينستاين، فقد كان هناك الكثير من الصخور والشجيرات التي يُمكن الاختباء خلفها. ومن ثم لم يكن بإمكان مجموعة الغزاة أن يُأمِّنُوا موقعًا على نفس المستوى مع أسوار القلعة كما فعلوا خلف قلعة راينستاين؛ ومن ثمَّ كانوا مضطرين للاندفاع بسرعة باتجاه البوابة أعلى التل.

لكن عوَّض كلَّ هذه المساوئ حقيقةُ كون موقع قلعة فالكينبرج أعلى من قلعة راينستاين بكثير، كما أن القلعة كانت بعيدة عن النهر أكثر، بحيث إذا نزل الرجال إلى حافة الماء فلن يتمكنوا من العودة بالسرعة التي عاد بها رجال هوهينفيلس. فقد كانت قلعة راينستاين مطلة على النهر مباشرة ولا تعلو عنه سوى مائتين وستين قدمًا، بينما كانت قلعة فالكينبرج أبعدَ منها داخل البر. لكن جميع هذه القلاع لم تُهاجَم منذ زمن طويل وكان أصحابها يَعتبرُون أنفسهم آمنين، حتى إنهم أهملوا الحراسة الكافية؛ إذ كان القائم على الحراسة في فالكينبرج شخصًا واحدًا يقف على البرج الطويل. لم يرَ المهاجمون أحدًا عند أسوار القلعة، فشقوا طريقهم حول التل إلى أن اختفى المراقب عن أنظارهم خلف مبنى القلعة نفسه، ومن ثم زحفوا كالسحالي من شجيرة إلى شجيرة ومن حجر إلى آخر ومن حافة صخرية إلى أخرى، مستغرقين الوقت الكافي لذلك، وكانوا لا يُغادرون موقعًا للاختباء حتى يتخذوا قرارًا بشأن آخر. وكان وجود الحارس عند الجانب المطل على نهر الراين من القلعة قد جعل التسلل خلسة من أي منطقة على البر خيارًا عظيمًا.

وأخيرًا دقَّت أجراس الخطر؛ وفتحت البوابة، فهُرع كلُّ مَن في القلعة أسفل التل بلا تردد. ومن ثم أصبحت الفرصة سانحة أمام اللصوص الهواة لكي يمضوا في طريقهم، وبالرغم من أن هذا كان في البداية يبدو ميزةً، فسرعان ما وجدوا العكس؛ إذ إنهم تمكنوا بالفعل من التجول من غرفة لغرفة، لكنهم لم يعرفوا مكان الخزينة. فلم يكن رولاند يعرف تفاصيل القلعة من الداخل، حيث كانت إحدى الحصون التي كان مُضطرًّا للبيات فيها في مبنًى ملحق بها. وأخيرًا وجدوا الباب المؤدِّي إلى غرفة الخزينة، حيث أشار رولاند إلى أنها ربما تكون في مكان مماثل لذاك الذي وجدوها فيه في قلعة راينستاين، ولذا، مَن كانوا يُرافقون خادم بارون هوهينفيلس بدءوا البحث من هذا المنطلق، وكوفئوا بالوصول إلى بابٍ مُغلَق بإحكام شديد لم تُجدِ جهودهم لفتحه نفعًا.

تملَّكهم إحباط شديد، عندما سمعوا أصوات عدد من رجال الحراسة يُدمدمون بوحشية، فاضطروا للانسحاب خالي الوفاض؛ إذ أنذرتهم الصرخات التي كانت تقترب منهم بعودة رجال الحراسة، فتسلَّلوا زحفًا عائدين من حيث جاءوا، واتجهوا نحو النهر، حيث كانت السفينة في انتظارهم هذه المرة.

لقد أثبت سيد فالكينبرج اعتداله في سطوِه كرجال راينستاين تمامًا. فقد فُتح الكثير من البالات وكان اللصوص، بمهارة نسَّاجي الملابس، يختارون أفضل البضائع فقط في كل مرة، لكنهم لم يأخذوا من هذه البالات إلا ما يكفي لزيٍّ واحدٍ فقط لكلٍّ منهم.

وبالرغم من أن العصبة بدأت عملها مبكرًا جدًّا، فقد كان الوقت قد تجاوز الظهيرة حين عادوا إلى السفينة في المرة الثانية. فقُدِّمت لهم وجبة كبيرة؛ إذ كانوا جميعًا يتضوَّرون جوعًا، إلى جانب إحباطهم لعلمهم بأن حتى مجال السرقة فيه تقلبات.

وفي ساعة مبكرة من العصر، اتجهوا إلى قلعة زونيك الجميلة، التي كانت أبراجُها الرفيعة واقفة في شموخ وسط السماء الزرقاء. وهناك وجدوا غطاءً مُمتازًا على مرمى البصر من المدخل؛ إذ كانت قلعة زونيك تقف وحيدة على صخرتها دون جدار يحميها.

وعندئذٍ تكررت تجربة راينستاين، باستثناء أنهم لم يُواجهوا سيد القلعة، بل كان حارسًا مرتعبًا استسلم تحت تهديد السيف وأحضر المفاتيح وفتح الخزينة. ورغم أنهم لم يحظوا بالغنيمة نفسها التي حظوا بها في المرة الأولى، فإنهم حصلوا على ما يكفي ليجعل عملهم يستحق العناء، ثم ذهبوا إلى السفينة وهم في معنويات عالية.

انتظرت المجموعة في ظل التلال إلى حلول وقت الشفق، ثم تسلَّلوا بهدوء عبر النهر مختفين وراء جزيرتين وتوقَّفوا على طول ضفة النهر، قبل قرية لورش النشطة مباشرة، التي لا تكاد تبعد أكثر من فرسخين عن المكان الذي كانوا فيه بالأمس. وعندما رست السفينة، مشى رولاند مع القبطان على متنها يستمع إلى روايته للأحداث من مستوى سطح النهر. لقد ثبت أنه في المجمل لم يكن بإمكان رولاند أن يُسيِّر اليوم على أفضل مما كان. فقد سار كل شيء على أحسن ما يكون من وجهة نظر بلومنفيلس.

وبينما كانا يتمشيان، جاء أحد الرجال وقال ببعض العجرفة:

«أيها القائد، رفاقك يَرغبون في مقابلتك عند المقصورة.»

لم يُبدِ رولاند أيَّ رد، وواصل حديثه مع القبطان إلى أن عرف من هذا الشخص الكتوم بعض الشيء كلَّ ما يرغب في معرفته. وبعد ذلك مشى في تؤدة إلى الخلف ونزل إلى المقصورة، حيث وجد الثمانية عشر رجلًا يَجلسون فوق الخزانات، كما لو كان هذا الاجتماع السري لأعضاء هيئةٍ ما كالأمراء الناخبين، الذين توصلوا إلى قرار بالغ الأهمية.

قال كورزبولد: «لقد أصدرنا قرارًا بالإجماع مفاده توزيع المال علينا جميعًا بالتساوي كل ليلة. ولا أظنُّ أنك تعارض هذا، أليس كذلك؟»

«بلى؛ أنا لا أعارض صدور قرار من قِبلكم.»

«ممتاز. نحن لا نريد أن نُضيِّع الوقت الآن في التقسيم؛ لأننا سنذهب إلى لورش للاحتفال بنجاحنا بإقامة مأدبة. هل أنت وجريسل وإبرهارد مُهتمُّون بالانضمام إلينا؟»

رد رولاند في هدوء: «لا يمكنني أن أتكلَّم نيابةً عن الاثنين الآخرين، لكن بالنسبة إليَّ فلن أستطيع الحضور؛ لأنَّ لديَّ بعض الخطط المستقبلية التي أحتاج للتفكير فيها.»

قال كورزبولد، الذي بدا غير مكترث على الإطلاق بعدم حضور قائده: «حسنًا في هذه الحالة لن ننتظرك.»

قال جون جينسبين مقترحًا: «ربما سينضمُّ القائد إلينا في وقتٍ متأخِّر من المساء. فقد علمنا حين كنا في أسمانسهاوزن أن حانة كرون رائعة للغاية، فقررنا الذهاب إليها.»

سأل رولاند: «كيف عرفتُم أننا ننوي التوقف في لورش؟» وتساءل ما إذا كانوا قد سمعوا بأي نحو أنه ينوي مقابلة مبعوث جوبل في هذه القرية.

رد جينسبين: «لم نكن مُتأكِّدين، لكننا أجرينا استقصاءً بشأن جميع القرى والقلاع المطلَّة على نهر الراين، ودوَّنا ملاحظاتنا في هذا الشأن.»

«أها، أنت إذن مرشد ماهر. قد أجد فرصة أستخدم فيها تلك المعلومات.»

قال كورزبولد في ضجر: «كلنا مشاركون على نحوٍ مُتساوٍ في هذه الحملة، ولا ينبغي أن تتخيَّل أنك الوحيد المعني بهذا. لكن الوقت يتسرَّب من بين أيدينا. ما نريده الآن هو أن تفتح واحدًا من هذه الصناديق وتقسم إحدى حقائب الذهب فيما بيننا. وسوف تُقسم البقية عند عودتنا هذا المساء؛ وبعدها لن نكون بحاجة لإزعاجك بطلب المزيد من المال يا سيد رولاند.»

«هل نفدت الثلاثون تالرًا التي أعطيتك إياها قبل بضعة أيام يا سيد كورزبولد؟»

رد القائد السابق المتمرد قائلًا: «دعك من هذا.» وتابع: «الأموال المختزنة في هذه الخزانات ملك لنا، ونحن نُطالب بتقسيم جزء منها الآن، والبقية بعد عودتنا من المأدبة.»

من دون أن يتفوه بكلمة أخرى، أخذ رولاند حَفنة المفاتيح من حزامه وفتح إحدى الخزانات، وأخرج إحدى حقائب الذهب وفك أربطتها، وسكب العملات على غطاء الخزانة ثم أغلقها مرة أخرى.

وقال مخاطبًا كورزبولد: «ها هو ذا المال.» وأردف: «سأرسل في طلب جريسل وإبرهارد ليشاركا في توزيعه، ومن ثم يُمكنك أن تدعوهم لحضور مأدبتك. أما نصيبي أنا فيمكنك أن تتركه على غطاء الخزانة.»

وهنا صعد إلى ظهر السفينة من جديد وقال لنائبيه:

«لقد طلب كورزبولد، نيابةً عن الرجال، حقيبةً من المال. وسوف تذهبان للمقصورة لاستلام حصتكما. وسوف يدعوكما أيضًا لحضور مأدبة في حانة كرون. فاقبلا دعوته، وإن أمكن احجزا غرفة خاصة كما فعلتما في أسمانسهاوزن، لكي تمنعا الرجال من الحديث إلى أيٍّ من السكان. دعوهم يستمتعون هناك إلى أن يخلد كلُّ مَن في القرية إلى النوم؛ ثم أرسلوهم إلى السفينة ثانية في هدوء شديد قدر الإمكان. فقد صدر قرار بتوزيع المال بين محاربينا لدى عودتهم، لكني أتصوَّر أنهم لن يكونوا بحالة تجعلهم يتصرَّفون تصرفات مسئولة عندما أسعد برؤيتهم من جديد، ولذلك إذا قيل شيء عن التقسيم، فاقترحا تأجيل الأمر حتى الصباح. ولستُ بحاجة لأن أضيف أنني أتوقَّع ألا تشربا كثيرًا؛ لأن هذه النصيحة أنوي تطبيقها بنفسي.»

أخذ رولاند يذرع سطح السفينة مستغرقًا في أفكاره إلى أن غادر فريقه المتمرِّد باتجاه أضواء القرية المتلألئة، ثم عاد إلى المقصورة، وسكب نصيبه من المال في حقيبته ثم تبع رفاقه لمسافة داخل قرية لورش. تجنَّب زيارة حانة كرون، وبعد أن شق طريقه توقَّف عند نُزل أصغر بكثير، يُدعى حانة ميرجلر. وهناك أعطاهم اسمه وسألهم عما إذا كان هناك أحد ينتظره، فاصطحبوه إلى الطابق العلوي إلى غرفةٍ وجد فيها السيد كروجر والذي كان على وشك الجلوس لتناول العشاء. كان هناك فتًى قويٌّ عمره يناهز العشرين يقف في وسط الغرفة، ولم يكن رولاند بحاجة لكلمات الرجل الأكبر سنًّا ليعرف أنه ابنه؛ إذ عرف ذلك من مظهره.

قال كروجر: «أتيتُ به على سبيل الاحتياط؛ إذ رأيت أن فارسَين خير من فارس واحد لأداء المهمة التي وُكلت بها.»

رد رولاند قائلًا: «أنت مُحقٌّ تمامًا، وأهنئك على رفيق السفر الشجاع هذا. أستأذنكما في طلب وجبة والجلوس لتناول العشاء معكما، لنُوفِّر الوقت بالحديث أثناء الطعام، لأنكما ستكونان بحاجة للرحيل بأقصى سرعة ممكنة.»

«تعني أننا سنرحل في الظلام؟ الليلة؟»

«أجل؛ وبأقصى سرعة مُمكنة. هناك أسباب ملِحَّة تجعلكما ترحلان دون تأخير. كيف أتيتما إلى هنا؟»

«على ظهر الخيل؛ في البداية على طول رافد ماين، ثم على ضفة نهر الراين.»

«عظيم. ستعودان من حيث أتيتما وسط الظلام، لكن مسافة الوصول إلى قلعة إيرنفيلس فقط؛ أي على بُعد ثلاثة فراسخ من هنا. وهناك ستُوقظان الحارس، وتقضيان بقية الليلة في أمان هناك. وغدًا في الصباح سيُوفِّر لكما دليلًا يرشدكما عبر الغابة للوصول إلى فيسبادن، ومن هناك أنتما تعرفان طريقكما إلى فرانكفورت، التي يجب أن تصلا إليها قبل حلول المساء.»

وفي تلك اللحظة أتى صاحب النُّزل الذي استُدعي للحضور.

قال رولاند: «سأتناول عشائي مع صديقيَّ هنا.» وتابع: «أظن أنني لست بحاجة لأن أسألك عما إذا كان لديك بعض النبيذ الأحمر الجيد الذي تُشتهَر به لورش، والذي أخبروني أنه لا يقلُّ لذة عن نبيذ أسمانسهاوزن، أليس كذلك؟»

«بلى، يا سيدي، إنه نتاج حقل العنب الذي أملكه، ولذلك يُمكن أن أضمن لك جودته. أما عن كونه يُشبه نبيذ أسمانسهاوزن، فنحن نعتبره أفضل منه دائمًا، وكثير من الذوَّاقة يُوافقوننا في ذلك.»

«أعطِني منه قنينة إذن، حتى تتمكَّن من إضافة رأيي إلى آراء الآخرين.»

وعندما أحضر صاحب النُّزل النبيذ، رفعه رولاند إلى شفتَيه وارتشف رشفةً كبيرة.

وقال: «بالفعل هذا هو الأفضل على الإطلاق، أيها المالك، والفضلُ يعود لحقولك ونزُلك. أريد أن أُرسل برميلين كبيرين من هذا النبيذ الجيد لتاجر من مَعارفي في فرانكفورت، وقد وعَد صديقي السيد كروجر بتوصيلِهما إلى هناك. وإن استطعت أن تُوفِّر لي برميلَين من هذا النبيذ الرائع، فسوف يُحقِّق هذا توازنًا أكبر للحصان.»

«بالتأكيد، يا سيدي.»

«اختر، أيها المالك، اثنين من البراميل الطويلة التي بها ثقبٌ كبير في جانبها. هل توجد لديك حزمة سرج؟»

«أها، نعم.»

قال رولاند مُلتفتًا إلى ابن كروجر: «وأنت يا صديقي الشاب، هل أتيت إلى هنا مستخدمًا سرجًا؟»

قال الأب مقاطعًا: «كلا، أنا أستخدم السرج، لكن ابني اضطرَّ للاكتفاء بقطعة من قماش السيد جوبل الخشن بعد طيها أربع مرات وربطها في ظهر الحصان.»

«إذن ما زال بإمكاننا استخدام قطعة القماش كوسادة لحَمل حزمة السرج، وأنت يا صديقي ستُضطرُّ للمشي وهو أمر أعتقد أنك معتاد عليه.»

ابتسم الفتى ابتسامة عريضة، لكنه لم يُبدِ أيَّ اعتراض.

«والآن، أيها المالك املأ برميليك بالنبيذ أثناء تناولنا الطعام، ثم ضع حزمة السرج على ظهر حصان الفتى، والبرميلين فوقها؛ إذ أزعم أن لديك رجالًا بارعين في هذا الأمر.»

قال صاحب النُّزل مُتفاخرًا: «لا يوجد أبرع منهم على امتداد نهر الراين.»

«ضع البرميلين بحيث يكون الثقب لأعلى، ولا تُحكِم غلق الثقب أكثر من اللازم، لأنه سيُفتح قبل الوصول إلى فرانكفورت، وسوف يَستفيد من النبيذ صديق آخر لي. وعندما يتم ذلك، أبلغني، وأخبرني بكم أَدين لك.»

ذهب صاحب النُّزل وجلس الثلاثة يتناولون العشاء.

قال رولاند: «تُوجد كميات من الذهب أكثر مما توقَّعت، ولا يُمكن لكما حتى حملها في حقائب مُعلَّقة في أحزمتكُما. بالإضافة إلى ذلك، إذا تعرَّضتما لمُضايقات، فلن يكون حملُها بهذا الشكل آمنًا بالمرة. أما حمل النبيذ فهو أمر أكثر شيوعًا بحيث لا يلفت الأنظار أو يثير الفضول. ولذلك أقترح عند مغادرتنا هنا أن نذهب إلى سفينة السيد جوبل، ونفتح السدادتَين ونسكب الذهب داخل البرميلين ولنترك النبيذ المُستبدَل يتدفق إلى الأرض. ثم لنغلق السدادتين بقوة، وإن عارضكما الحراس عند بوابات فرانكفورت، فلتدعهم يتذوَّقون النبيذ إن أصرُّوا، وأظنُّ أنها لن تحمل نكهة العملات المعدنية فيها.»

قال السيد كروجر في حماس: «اقتراح رائع. يا لها من خطة بارعة؛ لأنني أعترف أني كنتُ أنظر لهذه الرحلة بشيء من القلق، وأنا أحمل حقائب الذهب تحت عباءتي.»

«نعم. أنت مجرَّد رجل مُحب للشراب، سئمتَ نبيذ فرانكفورت الأبيض، وتُمتِّع نفسك بنبيذ لورش الأكثر قوة. أنا واثق من أنك ستُوصِّل المال للسيد جوبل في أمان، صحيحٌ أنه سيكون ملطَّخًا ببعض الشراب، لكن لا بأس هذا بالتأكيد أفضل من ضياعه بالكامل.»

انتهَوا من تناول الطعام، وجرَت تصفية جميع الحسابات، وغادر الثلاثة النُّزل ووصلُوا إلى السفينة وهم يقودون الحصانين دون أن يُلاحظهم أحد. وهناك فتحت سدادتَي البرميلَين وأخذ الرجال الثلاثة بمساعدة القبطان يفتحون حقيبةً تلو الأخرى بسرعة وهدوء، ويسكبون ما بها من عملات في النبيذ؛ غشٌّ فريد بالتأكيد، ومذهل حتى فيما يتعلق بنبيذٍ قويٍّ مثل نبيذ لورش. اقتطع رولاند من المبلغ كلِّه ألفَي تالر، وقسَّمها بالتساوي على حقيبتين.

وقال مُخاطبًا كروجر: «الألف تالر هذا ستقتسمه بينكما أنت وابنك، بجانب ما ستحصلان عليه من السيد جوبل. أما الألف الثاني فسوف تعطيه للحارس في قلعة إيرنفيلس، وتخبره بأنه من صديقه رولاند، وهو المال الذي اقترضَه منك منذ بضعة أيام. وسوف يكون هذا خطابًا تعريفيًّا رائعًا له. قل له إني أطلب منه أن يُرسل معك ابنه دليلًا يُرشدك عبر الغابة حتى تصل إلى فيسبادن؛ وأتمنى لك ليلة سعيدة وحظًّا سعيدًا.»

كان قد مرَّ وقت طويل بعد مُنتصَف الليل حين عاد الرجال في صخب عبر ضفة نهر الراين إلى السفينة. وكان القمر قد ارتفَعَ بما يَكفي ليمدَّهم بالضوء اللازم للمَشي بخُطًى حثيثة دون أن يتعرَّضوا لخطر السقوط في الماء. وكان إبرهارد معهم، فيما تقدمهم جريسل بسرعة ليُخبِر قائده بشيءٍ ما قبل أن يأتي الآخرون.

«لقد نجحتُ في منعهم من الحديث إلى أيِّ شخص غريب، لكنهم تناولوا في الحانة من النبيذ ما يكفي لجعلهم صعبي المراس ومُثيرين للمشاكل بشدة إذا ما قُوبلوا بالاعتراض. عندما اقترحتُ أن يتركوا أمر التقسيم إلى صباح الغد، ارتابوا في البداية ثم أبدوا استياءهم لقول إنهم ليسوا في حالة تُمكِّنهم من أداء هذه المهمة. ولذلك أنصح أن تسمح لهم بتقسيم المال الليلة. فسوف يُخفِّف ذلك من مخاوفهم بشأن تدبير أمرٍ ما للتلاعب بهم، وإذا لمَّحت لحالة الثمالة التي هم عليها، فسوف يَخرُجون عن السيطرة على الأرجح. وما دام وقت توزيع المال لا يُهم، فأنا أنصحك بمسايرتهم الليلة وتأجيل التفكير العقلاني للغد.»

قال رولاند: «سأفكِّر في الأمر.»

«لقد اشتروا عدة براميل من النبيذ، ويتبادلون الأدوار في حملها. فهل ستَسمح بصعود هذا النبيذ على متن السفينة، حتى وإن كنتَ عازمًا على إلقائه في الماء غدًا؟»

قال رولاند بلا مبالاة: «أوه، نعم. أدخلها إلى المقصورة بمُنتهى الهدوء، وأبقِها هناك إذا استطعت؛ لأنها إذا وُضعت على ظهر السفينة فسوف نفقد بعضها بسقوطها في النهر.»

عاد جريسل ليُقابل السكارى، بينما استدعى رولاند القبطان ورجاله.

وقال لبلومنفيلس: «استعدَّ، وفي اللحظة التي أرفع فيها يدي، انطلق. اتجِه إلى جانب الجزيرة الكبرى هذا، وتوقَّف هناك بقية الليلة. ومُر مجدِّفيك أن يبذلوا كل طاقتهم في التجديف.»

نُفذت الأوامر بدقة كعادة القبطان. تسلَّل ضوء القمر إلى المشهد بنوره الخافت، وبدت الجزيرة القاحلة مهجورة، بينما كان الرجال يُرسون سفينتهم عندها. لقد انطفأ معظم أضواء قرية لورش، وخيَّم ضوء القمر الخافت على المدينة في سكون وكأنها مدينة أموات. جلس رولاند على متن السفينة وجريسل وإبرهارد بجانبه، بينما أخذ يحكي الأخير الصعوبات التي واجهوها هذا المساء. ملأت أصوات الغناء المقصورة ثم عمَّ هدوء مُفاجئ بسبب الجلبة المسموعة بالأسفل، التي تبعتْها صرخة تنبئ عن وجود خطرٍ ما. وما هي إلا لحظات حتى صعد الرجال وهم يبدو عليهم الغضب إلى متن السفينة، يقودهم كورزبولد، والجميع مُشهِرون سيوفهم التي تتلألأ في ضوء القمر.

صرخ كورزبولد في وجه رولاند قائلًا: «أيها الوغد! هذه الخزانات مليئة بحقائب فارغة.»

ردَّ رولاند بهدوء: «أعلم ذلك. المال في أيادٍ أمينة، وسوف يُقسم في نهاية الرحلة بالعدل.»

صرخ كورزبولد مُشهرًا سيفه بوجهه: «أيها السارق! أيها اللص!»

رد رولاند بهدوء: «نعم هذا صحيح. فقد كنت أُدعى كبير اللصوص في حين أني لم أكن أستحقُّ هذا اللقب وقتها. والآن استحققته.»

«لقد استحققتَ عقوبة السرقة، وأرى أننا سنُلقي بك في نهر الراين.»

«كلا، أنا واثق أنك لن تفعل هذا قبل أن تعرف مكان المال.»

لقد أذهَلَهم ما سمعوه برغم أنهم كانوا في حالة سكر، لكن كورزبولد كان مُستشيطًا غضبًا وقد أذهب النبيذ عقله.

فصرخ قائلًا: «هلمُّوا يا شجعان! لا يوجد سوى ثلاثة منهم.»

قال رولاند بصوت هامس، بينما كان نصل سيفه يتلألأ في ضوء القمر: «اسحبا سيفيكما يا رفيقيَّ.»

فأطاع جريسل وإبرهارد الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤