الفصل السابع

مستقبل الزراعة في الجنوب: رؤية مصرية

أثارني جدًّا مقالُ الدكتور سمير أمين بعنوان: مستقبل الزراعة في العالم، المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ ١٣ / ١ / ٢٠١٥، الذي يتحدَّث فيه عن التوجهات المستقبلية لنمط الإنتاج الرأسمالي للزراعة في الدول المتقدمة (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا واليابان وأستراليا) Agrobusiness، التي يدعمها البنك الدولي، والتي تسعى إلى احتكار النشاط الزراعي والتوسع والتخصص بلا حدود في إنتاج الحاصلات الزراعية بمعدلات غير مسبوقة تصل إلى ١٥٠٠ طن من الحبوب للعامل سنويًّا، ولا تتورَّع هذه التوجُّهات عن اللجوء إلى التعديل الوراثي للأصول النباتية لزيادة العائد الاقتصادي، بصرف النظر عن المخاطر البيئية الناجمة عن ذلك. يتحدث الدكتور سمير أمين عن الكارثة المرتبطة بهذه التوجهات، التي تتمثَّل في تصفية الزراعة القروية في الجنوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخروج ٣ مليارات فلاح من المنافسة خاسرين، وما يحمله ذلك من مخاطر كارثية على مستقبل الحضارة الإنسانية.

(١) رؤيتي للقرية المصرية

إنني أرى أن القرية في مصر ليست مجرَّد أرضٍ تُزرَع لتحقِّق أهدافًا اقتصادية، فالقرية أو الريف عمومًا هو الوعاء الحضاري الأساسي لمصر، وهو الوريث الرئيسي للقِيَم الحضارية على امتداد التاريخ المصري، وأيضًا لأساليب الحياة التي ميَّزَتْ مصر عمَّا عداها من الأمم والحضارات. والريف كذلك يحمل مكونًا هامًّا لذاكرتنا الحضارية في الإنتاج؛ أي التراث التقني Technical heritage، الذي هو خلاصة خبرة الأجيال المتعاقبة، في كل مجتمع محلي في مصر، في التعامل مع معطيات البيئة المحيطة ومع مواردها المحلية من أجل إشباع حاجاتها الأساسية. وبقدر تنوع الظروف الإيكولوجية والخصائص الحضارية في أقاليم مصر المختلفة يتنوع التراث التقني، الذي يمثِّل ثروة معرفية وتقنية هائلة لا تُقدَّر بثمن؛ نتميَّز بها ويمكن أن نوظِّفها في التنمية.
إنني أرى أن القرية المصرية كانت تتميز — ربما حتى أوائل الستينيات من القرن الماضي — بذلك التوافق بين أساليب الحياة وأنماط الاستهلاك والإنتاج، وبين الموارد المحلية التي ينتجها الريف؛ ففي ظل الاقتصاد المعيشي Subsistence economy الذي كان سائدًا حتى هذا الوقت، كان الفلاح المصري يعتمد في غذائه وكسائه وبناء مسكنه وأثاثه إلى آخره، على موارده الزراعية أساسًا، وعلى إبداعه الذاتي، وعلى قدراته الذاتية في تصنيع كل ما يحتاج إليه في حياته. كانت القرية المصرية تمثِّل نموذجًا للتنمية المستدامة Sustainable development — في إطار المعرفة التي كانت متاحة للقرية والتقنيات التي كانت تحوزها — قبل ظهور هذا المصطلح في أوروبا في الثمانينيات من القرن الماضي. «أَلَا يوحي ذلك لنا بدور هام علينا القيام به لمساعدة القرية — من خلال توظيف معارف علمية وتقنية حديثة — على بَلْوَرَةِ طبعة جديدة للتنمية المستدامة، اعتمادًا على مواردها الزراعية وعلى الاستفادة من الميزات النسبية والتنافسية التي تحوزها؛ قوميًّا وعالميًّا، مما يجعلها من ثَمَّ قادرةً على مقاومة تيار الزراعة الرأسمالية؟»

(٢) أهمية تصنيع الريف

يشير تقرير برنامج الأمم المتحدة١ للبيئة إلى أن أكثر من مليار شخص أغلبهم في الريف عاجزون عن إشباع حاجاتهم الأساسية، وأن عددَ سكان الأرض سوف يصل في عام ٢٠٥٠ إلى ٩٫٥ مليارات نسمة، منهم ٨ مليارات في دول الجنوب، أغلبهم في الريف!
بالإضافة إلى ذلك فلقد تدنَّتِ الجدوى الاقتصادية للزراعة، ولم تَعُدْ أسعار الحاصلات الزراعية الخام، أي القيمة الاقتصادية لها على «رأس الغيط»، تفي بنفقات الإنتاج؛٢ مما يشير إلى ضرورة التصنيع الزراعي بهدف رفع القيمة المضافة إلى النشاط الزراعي في الريف.

(٣) الريف المصري كنموذج

يضمُّ الريف المصري حوالي ٣٤ مليون نسمة تمثِّل ٥٧٪ من إجمالي سكان مصر، ويصل حجم قوة العمل في الريف حاليًّا إلى حوالي ٩ ملايين٣ فرد بواقع ٢٧٪ من سكانه، ويُنتظَر أن يصل عدد سكان الريف المصري عام ٢٠٢٠ إلى حوالي ٦٠ مليون نسمة. فإذا فرضنا نفس نسبة قوة العمل، فسوف تبلغ قوة العمل في الريف حوالي ١٦ مليونًا؛ أي إننا بحاجة إلى ٧ ملايين فرصة عمل جديدة في الريف حتى ٢٠٢٠. وفي ظل محدودية العائد الاقتصادي من الزراعة، ومحدودية القدرة على التوسُّع في المساحات الزراعية، خاصةً مع محدودية حصة الماء الخاصة بمصر من منابع النيل — بالإضافة إلى التوقُّعات المرجحة لنقصها مع اكتمال بناء سد النهضة في أثيوبيا — تصبح الصناعةُ هي البديل الرئيسي لتوفير فرص عمل جديدة في الريف؛ كاملة أو أعمال إضافية للفلاح بجانب النشاط الزراعي الذي لم يَعُدْ يستغرق أكثر من ١٢٠–١٨٠ يومًا؛ نتيجةً لميكنة العديد من الأنشطة الزراعية. «ما هو البديل إن لم نوفر فرصَ عمل جديدة في الريف؟ إنه الهجرة إلى المدن التي تؤدِّي إلى تفريغ الريف من العناصر الشابة والدينامية، التي كان من الممكن أن تمثل عوامل نهوض بالريف وتنميته ذاتيًّا، بالإضافة بالطبع إلى نموِّ المناطق العشوائية وكل ما يرتبط بها من آثار اجتماعية وسياسية، ذلك فضلًا عن الهجرة غير الشرعية إلى دول جنوب أوروبا والكوارث والمآسي الإنسانية التي تؤدِّي إليها.»

(٤) تصنيع الريف: رؤية تنموية جديدة

fig19
شكل ٧-١: الاستخدام الشامل للمورد: نموذج النخلة.
fig20
شكل ٧-٢: الاستخدام الشامل للمورد: نموذج حطب القطن.
ما هي الاستجابة التنموية المنطقية لتدني الجدوى الاقتصادية للزراعة كنشاط مستقل، وعَجْز قطاع الزراعة عن توفير فرص عمل لأبناء الريف؟ إنما التحوُّل من الثقافة الرأسمالية القصيرة النظر — التي تحصُر التركيزَ على المنتج الأساسي القابل للتسويق أو المحصول النقدي Cash crop — إلى ثقافتنا التقليدية التي تهتم بالمورد ككلٍّ (نموذج النخلة، شكل ٧-١) مع إعادة اكتشاف عناصر كل مورد وفقًا لمعطيات المعاصرة؛ مما يؤدِّي إلى بلورة رؤية اقتصادية جديدة تحقق أعلى استفادة ممكنة من كافة عناصر المورد الزراعي؛ سواء المنتج الأساسي أو المنتجات الثانوية بلا أي مخلفات تضير بالبيئة. إننا وفقًا لهذه الرؤية التي لا تهتم فقط بالتمور من النخيل، بل تهتمُّ كذلك بالجريد والخوص والعرجون والليف والقحفة، مما يفتح البابَ أمام مجالات صناعية واسعة لإنتاج العديد من المنتجات (شكل ٢-١)، التي تلبي احتياجات إنسانية غاية في التنوُّع على المستويات؛ المحلي والقومي والعالمي، كذلك فإننا لن نحصر اهتمامنا في القطن فقط، بل سنهتمُّ كذلك بسيقان القطن والأوراق والأفرع وبقايا اللوز (شكل ٧-٢)، وبنفس المنهج فإننا سوف نهتم ليس فقط بمحصول الطماطم فرز أول القابل للتسويق مباشَرةً، بل سنهتمُّ كذلك بمحصول الطماطم فرز ثانٍ القابل للتصنيع كعصير أو كاتشب أو كمسحوق طماطم، بالإضافة إلى البذور التي يمكن أن يُستخرَج منها زيت منخفض محتوى الكولسترول، يتبقَّى الكسب الذي يمكن أن يُستخدَم في العلف الحيواني، فضلًا عن عروش الطماطم التي يمكن أن تمثِّل قاعدة مادية لصناعة ألواح الحبيبي Particle boards (شكل ٧-٣)، كذلك بالنسبة إلى مورد البرتقال، بالإضافة إلى محصول فرز أول منه، يمكن أن يُستخدَم المحصول الفرز الثاني في تصنيع العصائر، كما يمكن استخراج زيت De-lemonin من متبقيات العصير، الذي يُستخدَم لإعطاء النكهة في صناعة الحلويات، أما نواتجُ تقليم أشجار البرتقال فإنها تمثِّل قاعدةً مادية متجددة لتصنيع ألواح الباركيه ومنتجات المشربية (شكل ٧-٤)، ويمكن تطبيق المنهج السابق للحصول على نتائج متشابهة على عشرات الحاصلات الحقلية وزراعات الفاكهة.
fig21
شكل ٧-٣: الاستخدام الشامل للمورد: نموذج محصول الطماطم.
fig22
شكل ٧-٤: الاستخدام الشامل للمورد: نموذج محصول البرتقال.

(٥) صناعة فقط أم صناعة وتجارة؟

لِمَ لا نعمل ونجتهد لإعادة اكتشاف التفرُّد الإيكولوجي وثراء الخبرة التاريخية واختلاف الموارد الزراعية المتاحة، بالإضافة إلى خصوصية المهارات الفردية في مختلف القرى لتحديد الميزات النسبية والتنافسية لكل قرية، مما ييسِّر من ثَمَّ اكتشافَ الثغرات السوقية Market niches لكل قرية؛ قوميًّا وعالميًّا، وتوظيفها في التنمية؟ إننا بهذا نستطيع أن نحوِّل اسمَ كل قرية إلى علامة تجارية Trade mark؛ فهكذا يمكننا أن نعيد للقرية الاعتبارَ كمصدرٍ للقيمة وبؤرةٍ للإبداع المبتعث حضاريًّا، كما نعيد بذلك الحياةَ للنسيج الاجتماعي الحضاري للقرية، حتى يتحوَّل الانتماء للقرية إلى مصدر فخر لأبنائها، وما يوفر الفرص لأنْ تتشابك وتتعانق أحلامُ التحقُّق الذاتي لشباب كل قرية، مع حلم النهوض الحضاري بها.

(٦) مستقبل الزراعة أم مستقبل حاصلات الجنوب؟

إنني أرى أن مستقبل الزراعة في الجنوب موضوع يتجاوز الزراعة كنشاط اقتصادي، ويرتبط أشد الارتباط بقضية التحقُّق الحضاري؛ أي بإمكانية أن تتمكَّن الأنساق الحضارية المختلفة التي يشملها الجنوبُ من أن تعبِّر عن نفسها، وأن تأخذ مكانها على الساحة العالمية؛ اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا؛ مما يصنع مناخًا جديدًا للحوار بين الحضارات المختلفة، ذلك الحوار الذي يسمح بالإثراء المتبادل فيما بينها، ويتيح الفرصةَ لإبداع أبناء الريف واكتشاف صِيَغ جديدة للتعاون والاستثمار في كل مكان، مما يحقِّق ضمانًا ورصيدًا للتنمية المستدامة على مستوى العالَم.

١  UNEP, Human Development Report, Oxford University Press, Oxford, New York, 1998.
٢  د. محمد عبد الفتاح القصاص، «النيل في خطر»، اقرأ: سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن دار المعارف، ٧٠٥، ٢٠٠٦، ص١٠٨.
٣  ماجد عثمان، «السكان وقوة العمل: الاتجاهات والتشابكات والآفاق المستقبلية»، منتدى العالم الثالث، مكتبة مصر، حجيثة للنشر والمعلومات، القاهرة، ٢٠٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤