تقديم

بقلم  عبد الغفار مكاوي

(١) تعريف موجز بالمؤلف وبعض مؤلفاته

لا تُذكر فلسفة الوجود إلا ويذكر معها كارل ياسبرز (١٨٨٣–١٩٦٩م) وصديقه «اللدود» مارتن هيدجر بوجه خاص (١٨٨٩–١٩٧٦م)، على الرغم من الاختلافات العميقة بينهما. ولا يُذكر ياسبرز إلا وتُذكر معه كلمات صارت أشبه بعلامات الطريق إلى فلسفته، وجرت على أقلام المثقفين وألسنتهم: الوجود الذاتي الحميم، التواصل، الشامل، شفرات الوجود، المواقف الحدِّية … إلخ.

وإذا كان التعريف بفلسفة خصبة مؤثرة، كانت وما تزال رسالة روحية إلى الإنسان، أمرًا بالغ الصعوبة في مثل هذا التمهيد القصير، فسوف أحاول تقديم فكرة موجزة عنها وعن هذا النص المهم الذي كان آخر ما خطته يد الفيلسوف.

وُلد كارل ياسبرز سنة ١٨٨٣م في شمال ألمانيا في مدينة أولدينبورج بالقرب من شاطئ بحر الشمال. ويبدو أن بيئة الشمال المفتوحة، وبحره الممتد بغير حدود، قد أثَّرا على فكره وحياته، وانعكسا على عقله حركة لا نهائية، وأفقًا شاسعًا متلألئًا بالأضواء، وتفتحًا على كل الأبعاد والجهات والثقافات، وومضات وبروقًا ساطعة هي أشبه بوصايا ورسائل مفتوحة إلى البشر المعاصرين، مفعمة بالحكمة والإحساس بالمسئولية والتعاطف والقلق على مستقبلهم في عصر تتهدده أخطار التعصب المذهبي والحرب النووية.

بدأ ياسبرز بدراسة الطب، مدفوعًا من ناحية بمجالدة مرض رئوي مُستعصٍ، والحرص على استنقاذ أقصى طاقة ممكنة من جسده الضعيف، ومن ناحية أخرى بإرضاء حاجة فلسفية إلى تدريب عقله على المنهج العلمي الدقيق، ومعرفة حدود الفكر التجريبي. وأتاحت له دراسة الطب أن يتعمق مشكلات الطب النفسي، ويقرن منهج البحث العلمي والفسيولوجي بمنهج التفهم الحَدْسي والكلي للأمراض النفسية والذهنية، فكانت ثمرة ذلك كتابه «علم النفس المرضي العام» (١٩١٣م)، الذي أتبعه بكتابه «سيكولوجية وجهات النظر العالمية» (١٩١٩م)، الذي يُعد إسهامًا مهمًّا في نظرية الحياة النفسية السويَّة، ومدخلًا إلى الفلسفة على السواء، بجانب بحثَيه الرائدين عن «سترندنبرج» و«فان جوخ»، اللذين اتخذ منهما نموذجين لما سمَّاه «إضاءة الوجود الكلي للإنسان».

وفي سنة ١٩٢١م عُيِّن ياسبرز أستاذًا للفلسفة في جامعة هيدلبرج، فأقبل على مهام التعليم بما عُرف عنه طوال حياته من جدية وشعور بالمسئولية، حتى هجمت جحافل النازية السوداء على السلطة فعُزِل من منصبه في سنة ١٩٣٧م. وفي هذه الآونة من حياته كان أهم مَن تأثر بهم من الفلاسفة هم كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) وكيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥م)، كما كان أهم شركائه في الحوار من معاصريه ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م) ومارتن هَيدجر. وفي هذه المرحلة أيضًا أتم أعظم كتبه: «فلسفة» (١٩٣٢م) و«الموقف الروحي للعصر» (١٩٣١م) و«العقل والوجود» (١٩٣٥م)، فضلًا عن كتابيه عن «نيتشه» و«ديكارت» (١٩٣٢ و١٩٣٧م)، و«فلسفة الوجود» (١٩٣٨م) الذي منع النازيون نشره، ثم توالى إنتاجه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي لطَّخت الضمير الألماني بالذنب والإثم، فاتَّسَم جانب كبير منه بالاهتمام بالقضايا السياسية والقومية (مسألة الذنب، فكرة الجامعة، القنبلة الذرية ومستقبل الإنسان، الحرية وإعادة توحيد ألمانيا)، بالإضافة إلى إنتاجه الفلسفي الخالص (عن الحقيقة، الإيمان الفلسفي، المدخل إلى الفلسفة، شيلنج، الفلاسفة العِظام، خطب ومقالات فلسفية).

ويبقى أعظم كتب ياسبرز وأشملها هو كتابه «فلسفة» بأجزائه الثلاثة؛ فهو في الجزء الأول الذي جعل عنوانه «التوجُّه في العالم» يحمل حملة شعواء على العلم وموضوعيته المزعومة، وكأنما هو أصلح وسيلة للكشف عن حقيقة العالم. ولهذا يسوق حجتين لتأييد هجومه: فالمعرفة العلمية بالطبيعة لا يمكن أن تكتمل في صورة كونية تامة؛ لأن نتائج البحث العلمي تتولد عنها مشكلات جديدة وأساليب جديدة لمواجهة هذه المشكلات، كما أن المناهج العلمية من الكثرة والتعدد بحيث لا يمكن أن تُرَد إلى منهج واحد موحَّد، بل إن مجرد الوعي بأن العلم نفسه عملية تركيب وتحليل لا ينتهيان يشير إشارة كافية إلى أن الحياة العقلية والعلمية لا يمكن أن يحيط بها البحث التجريبي والعلمي نفسه؛ ولذلك فإن ياسبرز لا يحاول النظر في «ماهية» هذه الحياة العقلية كما نجدها في التراث الميتافيزيقي العريق، وإنما ينظر إليها من منظور «عملي» على نحو ما فعل كانط. وهذا مضمون الجزء الثاني الذي آثر أن يجعل عنوانه «إضاءة الوجود» لا «نظرية العقل».

وقبل أن ننتقل إلى هذا الجزء الثاني لا بدَّ من التوقف لحظة نشير فيها إلى موقف فلاسفة الوجود بوجه عام من العلم بمعناه النظري الدقيق، أو بتطبيقاته التقنية، وتفرقتهم الحاسمة بينه وبين التفلسف بوصفه فعلًا باطنيًّا وتجربة شخصية قبل كل شيء؛ فتأملاتهم عن الوجود الإنساني تقوم في معظم الأحيان على افتراض ميتافيزيقي صريح أو مُضمَر بأن الوجود في الواقع وجودان أو له على الأقل بُعْدَان مختلفان: الوجود الذاتي الحميم أو الحقيقي الأصيل من ناحية، والوجود العلمي غير الأصيل من ناحية أخرى، الأول يشارك فيه الإنسان بوصفه وجودًا قوامه التحقق والمعاناة والتجربة الباطنة، وهو وجود يفلت من البحث الموضوعي بمناهجه العقلية والتجريبية، وتعبِّر عنه عبارة ياسبرز: «إن الإنسان في الأساس لأكثر مما يمكنه أن يعرف عن نفسه.»١ كما تدل عليه عبارة أخرى ﻟ «جابرييل مارسيل» (١٨٨٩–١٩٧٣م) ورَدَت في يومياته الميتافيزيقية: «إنني على الدوام وفي كل الأحوال لأكثر من مجموع الصفات التي يمكن أن يخلعها عليَّ أي بحث أقوم به لنفسي أو يتولاه غيري عني.» ولهذا يكرر فلاسفة الوجود أنه لا سبيل للإفصاح المباشر عن هذا الوجود المستسرِّ الحميم، ولكننا نحياه ونتصل به في لحظات نادرة من حياتنا الباطنة التي تجاوز تفسيرات العقل ومناهج التجريب العلمي. ولا عجب بعد ذلك أن يصفوه أوصافًا مختلفة تدل على عدم قابليته للتحديد أو على عجزهم عن تحديده، كالوجود الأصيل «هيدجر»، والوجود الذاتي أو العلو «ياسبرز»، والسر «مارسيل»، والأنت الأبدي «مارتن بوبر وإمانويل ليفيناس». ولا عجب أيضًا أن يقللوا من شأن العلم الدقيق ومناهجه، أو على الأقل من قدرته على النفاذ إلى حقيقة ذلك الوجود الحميم الصميم، وأن يتابعوا «كيركجارد» في تأكيده المستمر «بأن الحقائق والمبادئ العلمية التي تُلزم العقل بتصديقها — لأنها ضرورية وعامة الصدق — لا تلزمني ولا تهزني بما أنا وجود فردي وحيد، ولا تجيب عن أسئلتي القلقة عن حقيقتي ومصيري.»٢

ونعود إلى مضمون الجزء الثاني من كتاب «فلسفة» فنقول: إنه يدور حول الوعي بوجودي الحاضر والماضي بما أنا كائن حُر يحيا في ظل الحقيقة والكرامة، بحيث أتمكن من تحقيق هذا الوجود وتَحَمُّل مسئوليته. ليس ثمة معايير موضوعية جاهزة لهذا التحقق، ولا سبيل لالتماس العون من التراث المأثور ولا من أية سلطة ميتافيزيقية أو دينية لا يعترف بها الفيلسوف. والسبيل الأوحد هو أن يجرِّب الفرد تلك المواقف الأساسية النادرة، التي يسميها «المواقف الحدِّية»، فتوقظ فيه حقيقته الباطنة التي هي قانون حريته، هنالك يمر بتجارب تكشف عن تناهيه، من أهمها تجربة «التواصل» التي كتب عنها ياسبرز صفحات خالدة (يطل من خلالها ذلك الوجه الطيب الحنون لرفيقة دربه «جيرترود» التي رَعت جسده العليل، وأسندت رأسه المتعب على صدرها طوال العمر). ففي التواصل يشعر الفرد بأن ثمة إنسانًا يحبه حبًّا يفرض عليه الولاء والصدق نحو نفسه ونحو محبوبه، كما يستشعر حرية النهوض بمسئوليته تجاه نفسه وتجاه شريكه، وفي هذا الموقف الذي يعدُّ إمكانية أساسية للإنسان لتحقيق وجوده الحقيقي، لا يتصل فَهم بفهم، ولا عقل بعقل، بل وجودٌ حميم بوجودٍ آخر حميم (فيه تتحقق كل حقيقة أخرى، وفيه وحده أكون أنا نفسي، بحيث لا أحيا مجرد حياة، وإنما أحقق حياتي). أما التجربة الأخرى فهي تجربة «المواقف الحدية» (التي قدمها ياسبرز لأول مرة في كتابه «وجهات النظر العالمية»، الذي صدر في سنة ١٩١٩م). في هذه المواقف التي يعاني فيها الإنسان تجارب العذاب، والشعور بالذنب، والإخفاق، وفَقْد الأعزاء، ووطأة الصدفة المباغتة، وضياع الثقة بالعالم يحسُّ أنه يصطدم بجدار لا منفذ منه ولا سبيل إلى تخطيه، ويتبين عجزه عن مواجهته بكل ما لديه من قوى عقلية وقدرات عملية. قد يتمكن منه الإحساس بالإخفاق ويهزمه في النهاية؛ وذلك إذا تهرَّب منه بالمسكِّنات والحلول الوهمية، وعجز عن مواجهته بأمانة، وتقبَّله في صمت، بوصفه الحد النهائي لوجوده، هذا الحد الذي يكشف له عن «الآخر» الذي يستعصي على التحديد والتفسير؛ «فحقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان».

غير أن الجرح الذي يؤلم هو نفسه الجرح الذي يُشفي، «وداوني بالتي كانت هي الداء» تصدق في هذه الحالة أكثر مما تصدق في حالة السُّكر والنشوة كما تصوَّرها وعبر عنها أبو نواس؛ فالإخفاق الذي يهزُّ الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه الطريق إلى وجوده، ويساعده على أن يكون «هو ذاته»، ويكتشف في داخله البُعد الباطن الذي كان خافيًا عليه، والذي تحيا عليه الحرية والحكمة والأصالة. هذا البعد هو الذي يسميه بكلمة «العلو» الغامضة المراوغة؛ لأنه هو الإمكان الذي يتخطى آفاق جميع الإمكانات الأخرى.

حول هذا «العلو» أو «العالي» (الترانسندنس)٣ يدور الجزء الثالث الذي جعل عنوانه «ميتافيزيقيا»، كما تدور فلسفة ياسبرز بأسرها؛ فالوعي بالعلو وعي وجودي من كل ناحية، والذي ينخرط في «الموقف الحدِّي» يعلو فوق الحد ويتوق إلى العثور على أساس يقيم عليه حياته، ويشعر بأن حريته ليست مجرد مصادرة أولية أو مطلب أساسي، وإنما هي تجربة بالوجود غير المحدد، الذي يصفه بالعلو، وهي تجربة مختلفة كل الاختلاف عن التجارب التي نتحدث عنها في العلم التجريبي أو في الحياة اليومية، ويمكننا أن نكررها بإرادتنا؛ لأنها مرتبطة «بحدية» وجودنا الحميم واستعصائه على «التموضع» أو التجسد في موضوع. لهذا تتخذ طابع الاعتقاد أو الإيمان؛ أي التصميم على إمكان تشكيل حياتنا تشكيلًا عقليًّا على الرغم من تناهينا المؤكد أو في مواجهته. وتجلابة العلو التي يقصدها ياسبرز يمكن أيضًا أن تُفصح عن نفسها في صور مختلفة مما ندركه ونلقاه في العالم الطبيعي. غير أن هذه الصور لن تكون أكثر من «شفرات» مُلتَبَسة متعددة المعاني، ليس بينها وبين ما تشير إليه علاقة ضرورية، ولا يستطيع أن يقرأها ويفك رموزها إلا من خبِر التجربة نفسها، فضلًا عن أن هذه التجربة — كما سبق القول — مما يستحيل تحديده أو تسميته أو جعله موضوعًا للتناول. إنها من الندرة والمفارقة بحيث لا تتفق للإنسان إلا في لحظات ومواقف استثنائية تضيء وجوده، وتقرِّبه من معناه وحقيقته وحريته، وربما لا تتفق له على الإطلاق في حياة تستهلكها الألوان المألوفة من خداع الذات.
ولما كان تاريخ الفلسفة هو الميدان الزاخر بتجارب الحقيقة من كل العصور والحضارات، الغني بصور التواصل مع العالي والشامل، وبالنماذج البشرية التي سمَت إلى ذراه أو لمست جذوره، فقد اهتم «ياسبرز» بتاريخ الفلسفة وبأعلامها الكبار منذ مرحلة اشتغاله بعلم النفس، وظل أقربهم إلى نفسه «كانط» «وكيركجارد» بجانب «نيتشه» و«ديكارت» و«هيجل» كما سبق القول. ثم تجلَّى هذا الاهتمام في كتابه الضخم الذي لم يصدر في حياته غير الجزء الأول منه، وهو «الفلاسفة العظام» كما ظهر واضحًا في هذه الدراسة، أو هذا المشروع الذي تجده بين يديك عن كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر كلية وعالمية، وقد وُجِد في أوراقه التي تركها بعد وفاته، وبلغت أكثر من عشرين ألف ورقة، يعكف على ترتيبها ونشرها واحد من تلاميذه المقرَّبين، سبق له أن كتب سيرة حياته وفكره.٤

يتناول ياسبرز الفلاسفة العظام من منظور عالمي واسع الأفق، يضم فلاسفة الغرب إلى جانب حكماء الشرق الأقصى ومصلحيه ومؤسسي دياناته. والفلسفة من هذا المنظور هي مملكة العقل التي يأتينا منها نداء هؤلاء الكبار من كل العصور. والواقع أنه يؤرِّخ لهم من وجهة نظر تعلو على التاريخ بمعنى التتابع الزمني حقبة بعد حقبة، وتتأمل أفكارهم الحية وتستوعبها وتدربنا على استيعابها على أساس أنهم عاشوا في زمن فوق الزمن، وارتفعوا فوق أساليب وجودهم التاريخية وشروطها، وانفتحوا — بوصفهم نماذج من الوجود الإنساني الممكن — على العلو أو العالي، وشاركوا — كلٌّ على طريقته — في تلمُّس جذور الحقيقة الخالدة التي تتخطى حدود المكان والزمان واختلاف الآراء والمذاهب والأصول والغايات. ولهذا لا نعجب كثيرًا إذا وجدناه يضع كونفوشيوس وبوذا وسقراط والسيد المسيح بوصفهم نماذج دالة على معنى التفلسف، بجانب أفلاطون والقديس أوغسطين وكانط بوصفهم المؤسسين والمطورين للتفلسف، وأرسطو وتوماس الأكويني وهيجل الذين يعدُّهم حفظة التراث ومنسقيه المبدعين، وأنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلوطين وأنسيلم وكوزانوس واسبينوزا ولاوتزو الصيني وناجارجونا الهندي من الميتافيزيقيين الذين تغذَّى تفكيرهم على الأصل وانبثق منه، وهوبز وليبنتز وشيلنج من أصحاب العقول البنَّاءة، وأبيلار وديكارت وهيوم من أقطاب النفي الحاد والتشكك النافذ، وباسكال وليسينج وكيركجارد ونيتشه من الذين يؤثِر أن يسميهم «الموقظين» العظام. (وطبيعي أن يغضب القارئ العربي ولا ينفد عجبه من تجاهل هذا الفيلسوف لعالم الإسلام وحضارته، وإغفاله لفلاسفة الإسلام وأئمته الكبار وصفوة مفكريه وعلمائه، ولكن لعله لم يعرف عنهم ولا عن الحضارة الإسلامية شيئًا يُذكر، أو لَمْ يكلف نفسه مشقة المعرفة لأسباب يصعب التكهن بها وتفسيرها.)

من الواضح أن مواطني «الجمهورية العقلية» العالمية التي تدعونا إلى شرف الانتماء إليها قد مارسوا التفلسف بمعناه الوجودي ومعاناته، وانعكس عليهم نور الوجود الكلي والحقيقة الشاملة، على الرغم من اختلاف ميادين نشاطهم التي توزَّعت بين الدين والأدب والفلسفة والتربية والعمل السياسي وحكمة الحياة، هؤلاء المفكرون الأصلاء يقفون هناك في الأفق اللانهائي المفتوح لكل التفسيرات الممكنة، ينادوننا أن نشاركهم التفكير، ويدعوننا لأن نصبح معاصرين لهم ويصبحوا معاصرين لنا، دون أن يضطر أحد منا إلى التخلي عن خصوصيته النابعة من تفرُّد ذاتيته وتراثه وتجربته بالوجود.

ويبدو أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة قد شغل ياسبرز منذ سنة ١٩٣٧م وأنه وهبه من جهده المتصل أكثر من ربع قرن، حتى أثمر ذلك الجزء الأول الذي تحدثنا عنه، بجانب هذا النص الذي كان — بقدر ما أعلم — هو آخر ما كتبه في حياته، استجابة لطلب المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو». ولا شكَّ أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة كان جزءًا من مشروع أكبر منه وأقدم عن الدعوة إلى إنسانية جديدة. وربما بدأ التفكير فيه كما قلت بعد عَزْله من منصبه في الجامعة وخوضه محنة الحرب العالمية التي هزَّته كما هزت كثيرين غيره من مفكري العصر وعلمائه وأدبائه وشعرائه، فأخذوا يراجعون أصول الحضارة الغربية المهددة بالانهيار أو الانتحار، مشفقين على مستقبلها ومستقبل البشرية والكوكب الأرضي الصغير من سطوة «تنينها» العقلي والتقني، ومعترفين — بعد غرور مدمِّر واستعلاء طويل الأمد — بأن أوروبا لم تعد هي مركز العالم، ولا عادت حضارتها هي نموذج كل الحضارات.٥

تجلَّت آثار هذه «العالمية» في كتاب «ياسبرز» البديع عن أصل التاريخ وهدفه «١٩٤٩م»، ثم في عروضه الضافية لتفكير الفلاسفة العظام من الغرب والشرق، الذين شاركوا في غرس الجذور المشتركة للحقيقة «الشاملة» وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني العاقل الحر. وكما حدث فيما يطلق عليه اسم «الزمن المحوري» (من القرن الثامن إلى القرن الثاني قبل الميلاد) الذي بزغت فيه شموس الديانات والحضارات الكبرى في الصين والهند وعند العبرانيين والإغريق، كذلك يتصور ياسبرز أن عصرًا محوريًّا جديدًا قد بدأ حقًّا وبدأت معه حضارة إنسانية وعالمية قادرة على وقف التطورات الخطيرة التي تورطت فيها المدنية التقنية الغربية، من تعصب للعلم الوضعي والتجريبي إلى الحد الذي أوشك معه أن يصبح خرافة جديدة، ومن نظم السيطرة والهيمنة والتسلط والاستبداد الفردي والشمولي في الغرب والشرق، وخصوصًا في عالمنا الثالث الذي لم يكد الفيلسوف يتذكره أو يفكر فيه، وكأنه برغم دعوته للعالمية لم يتطهَّر تمامًا من رواسب مركزية أوروبية متمكنة! ومن جماهيرية ضاعت معها ملامح الفردية الحرة العاقلة. ولذلك كان تناوله للمؤسسين والبنائين العظام من العصور الماضية بمثابة العودة إلى النماذج الإنسانية التي اتصلت بالعلو أو حاولت القرب منه، كما كانت بمثابة إعداد مركَّب جديد يتمثَّل في حضارة عالمية وإنسانية جديدة، لم يكف عن دعوة الضمائر إليها، على الرغم من ضياع صوته وخيبة أمله داخل بلاده وخارجها.

والفكرة الموجِّهة لهذا المشروع الذي ستطلع على ترجمته العربية هي أن تاريخ الفلسفة كلٌّ متكامل، فإذا اقتربنا منه لكي نبحثه تفتت إلى وحدات متعددة ومذاهب وأنظار متباينة. وكل وجهات النظر في تفسير هذا التاريخ مفتوحة وممكنة، ولكن المهم هو أن نختار وجهة النظر «الجوهرية» التي تبيِّن كيف جاءت الفلسفة إلى العالم عن طريق أفراد عاشوا في تاريخ معيَّن لحضارة معينة وعصر معين، «وحققوا» فلسفتهم بما هم أفراد وأشخاص فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات. بذلك يصير تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات تحاوروا حولها، وطرحوا أسئلة وقدَّموا أجوبة عنها. إن كل مفكر من مواطني جمهورية العقل، التي تمثل مجموع تاريخ الفلسفة، هو قبل كل شيء فرد متفرِّد، وشخصية متميزة لا تنوب عنها شخصية أخرى، وترتيبه في المجموع الكلي يخضع لمكانته ونوع تفكيره وأسلوب تحقيقه لفلسفته ومدى تأثيرها في العالم. وتفكيره يعكس الأصول والمنابع التي نهل منها، لغة كانت أو أسطورة أو أدبًا أو دينًا أو فنًّا. وهو من ناحية أخرى ينعكس عليها ويؤثر فيها. ثم إن كل مفكر منهم له علاقة بغيره من المفكرين؛ فهو يأخذ تفكيرهم ويستوعبه، ويتصارع معه، ويكتشف وعيه بالإشكالات الكبرى وصياغته الجديدة لها. بذلك يكون تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحوار والتواصل في إطار ما يسميه ياسبرز ﺑ «الفلسفة الخالدة» التي تظل من خلال هذا التاريخ الكلي — المرتفع فوق التاريخ، والمهتم مع ذلك بكل التفصيلات التاريخية المحددة والممكنة — فلسفة معاصرة وحاضرة. وهكذا يسجل هذا التاريخ الكلي ملحمة الوعي البشري في تطوره عبر التاريخ الحي للأفكار والمفكرين، في محاولة ﻟ «تفهم» صراعهم مع الحقيقة «من الباطن»، بعيدًا عن كل نزعة مسبقة تدَّعي المذهبية، ولإشراكنا نحن القراء في استيعاب الحق الشامل واكتشاف حقيقتنا وذاتيتنا وحريتنا وعلوِّنا بالتواصل «الوجودي» الحميم معه. وهكذا يكون تاريخ الفلسفة نفسه طريقًا مفتوحًا إلى التواصل العالمي والحضارة الإنسانية الجديدة، من خلال التواصل بين العقول الكبرى التي استمعت إلى دعاء الحقيقة، واستجابت لنداء العلو، وشدتنا للاستماع إليه والتحاور معه والتمرُّس عليه بالفكر الجاد، والتجربة الذاتية الحميمة، والفعل الاجتماعي والسياسي المسئول عن البشرية الممتَحَنة المهدَّدة في «قريتنا الصغيرة» التي نسميها الأرض.

(٢) تصور ياسبرز للفلسفة

  • (١)

    يكاد النص المنشور مع هذا التقديم أن يكون مرآة مصغَّرة لفلسفة ياسبرز، فهو يردد أصداء نداءاته الفكرية التي ألحَّ على توجيهها طوال حياته، ويركز في بؤرته أكثر الأشعة المتفرقة في معظم كتبه المشهورة (كالمدخل إلى الفلسفة، والموقف الروحي لعصرنا، والعقل والوجود، والإيمان الفلسفي، والتمهيد الضافي لآخر كتبه الذي لم يقدَّر له أن يتمَّه وهو الفلاسفة العظام). وقبل أن ننظر في هذا النص بقدر ما يعكس الاتجاهات النقدية المعاصرة، أو بقدر ما تنعكس عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يحسن بنا أن نقف قليلًا عند معنى «التفلسف» عنده، ثم نلخص أهم الأفكار التي يدور حولها النص نفسه، وتتشابك فيها وحولها ظلال متباينة من وجهات نظر ومناهج متعددة (كالمنهج النفسي، والظاهري أو «الفينومينولوجي»، ومنهج الفهم والتفسير أو التأويل «الهيرمنيوطيقي»).

    يمكننا — مع الاعتذار عن التبسيط المخلِّ — أن نلخِّص تصور ياسبرز لمعنى «التفلسف» والغاية منه فيما يلي:
    • أن ترى الواقع الحقيقي في منبعه الأصلي.

    • أن ندرك هذا الواقع في مواقفنا الفكرية من أنفسنا وفي أفعالنا الباطنة.

    • أن ننفتح على «الشامل» بكل مداه (والشامل هو المصطلح الذي يُؤثِره الفيلسوف للدلالة على الأبدي والكلي والحق والعلو — أو العالي — الذي لا يمكن تحديده ولا الإحاطة به لأنه ليس موضوعًا ولا موضوعيًّا).

    • أن نبادر إلى «التواصل» الحق من إنسان إلى إنسان بنوع من الحوار الحميم أو التصارع الفكري (الذي لا ينقلب إلى الإدانة والتصادم بل يقوم على التنافس المفعم بالحب).

    • أن ندعِّم يقظة العقل في صبر وإصرار إزاء الغرابة البالغة وفي مواجهة العجز والإخفاق (فالفلسفة لا تعطي، وكل ما تستطيعه هو أن توقظ، وتذكِّر، وتساعد على الضمان والإبقاء.٦ أما ما نستطيعه نحن ويتوجب علينا النهوض به فهو التعلم من «الموقظين الكبار» في كل العصور والحضارات، وإن كان ياسبرز نفسه قد حددهم في أربعة لم يسعفه الوقت لتناولهم في كتابه السابق الذكر عن الفلاسفة العظام، وهم: باسكال وليسينج وكيركجور ونيتشه).
    • أن تكون الفلسفة هي «بؤرة التركيز» التي تجعل الإنسان يصبح هو نفسه بمشاركته في الواقع مشاركة حرة.

    ولما كانت الصياغة الواعية لحقيقة التفلسف وهدفه لا تكتمل أبدًا في صورة نهائية يمكن الإجماع عليها (كما هو الشأن مع الحقائق العلمية التي تظل مُلْزِمة للعقل وعامة الصدق ما لم تظهر حقائق أخرى تعدِّلها أو تنسخها) فلا بد لكل منا أن يضطلع بها مرة أخرى، وأن يعدها مهمة ومسئولية يتعيَّن عليه أن يواجهها ويتحمل تبعاتها ما بقي إنسانًا. ولا بد في كل الأزمان من النظر إلى الفلسفة بوصفها كلًّا حيًّا، ذا حضور دائم، يتحقق في تاريخها كله، وفي نصوص عظماء الفلاسفة التي يجب أن «نتحاور» معها و«نكابدها» و«نتواصل» معها تواصلًا وجوديًّا حميمًا حتى توقظ الحقيقة الشاملة الكامنة فينا وفي كل ما يحيط بنا. ذلك بأن كل قول فلسفي يكون بطبيعته ناقصًا إلى أبعد حد؛ لأنه يطالب مَن يسمعه بأن يعمل على إكماله من وجوده الخاص، كما أن الفلسفات جميعًا تنطوي على فلسفة واحدة خالدة لا يملكها أي إنسان، وإنما اتجهت إليها الجهود الجادة في كل زمان، وفي الشرق والغرب على السواء. ولا غنى لنا عن إقامة جهدنا الفلسفي على هذا الأساس، ولا عن المشاركة في هذا المسرح التاريخي الذي يتقارب فيه أفذاذ الفلاسفة ويتباعدون، ويتخاصمون ويتنافسون، ويتناقشون ويتحاورون فيما يشبه أن يكون جمهورية حكماء تعلو وترتفع فوق التاريخ.

    والأفكار الأساسية الموجِّهة للنص الذي نحن بصدده لا تخرج عن الأفكار السابقة وإن زادتها تفصيلًا. وسوف نقتصر على عرضها بالقدْر الذي يسمح لنا بمناقشتها في ضوء المناهج الجمالية والنقدية السابقة الذكر، راجين أن نوفق إلى تحليل النص من داخله بغير أن نفرض عليه شيئًا من عندنا، أو نقسره على الدخول في قالب غريب عليه، أو نسلِّط عليه وجهة نظر أو حكمًا مسبقًا يتعارض مع روحه العامة.

    • (أ)

      إن كل مفكر من مواطني «جمهورية العقل» أو «ملكوت الحكمة» هو قبل كل شيء فرد متفرِّد، وشخصية متميزة، لا تنوب عنها شخصية أخرى، ولا يُستعاض عنه بفرد سواه، وتفكيره يعكس الأصول والمنابع التي نهلَ منها، لغةً كانت أو أسطورةً أو أدبًا أو دينًا أو فنًّا أو علمًا (بقدر ما تحث فروض العلم الأساسية أو حدوده النهائية على التفلسف)، كما ينعكس من ناحية أخرى عليها ويؤثِّر فيها، وكأن تاريخ الفلسفة (وربما استطعنا أن نضيف إليه تاريخ الأدب والفن والعلم بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه) هو تاريخ الحوار والتواصل بين أولئك المواطنين الأفراد وبيننا في إطار ما يمكن تسميته بالحقيقة الخالدة؛ وهي التي تظل خلال هذا التاريخ الكلي الشامل — أو العالمي — حقيقة معاصرة وحاضرة فيهم وفي كل مَن يعايش نصوصهم ويحاول القرب منهم ومن منابعهم الأصلية.

    • (ب)

      إن دراسة هذا التاريخ الكلي في تطوره عبر تجارب المفكرين هي محاولة «لتفهم» صراعهم مع الحقيقة من الباطن، بعيدًا عن كل نزعة مسبقة إلى «المذهبة» أو «القولبة» أو «الأدلجة»، كما هي محاولة لإشراكنا في اكتشاف الحقيقة من ناحية، والتبصر بحقيقة وجودنا وذاتيتنا وعلوِّنا بالتواصل الحميم معها من ناحية أخرى.

    • (جـ)

      كل مؤرِّخ للفلسفة (ونستطيع أيضًا أن نقول مؤقتًا: وكل مؤرخ للأدب والفن) ينبغي أن يعرف نفسه معرفة واضحة، بجانب معرفة الكل الذي ينطلق منه، وما دامت الحقيقة الفلسفية ليست معرفة دقيقة وضرورية مُلزمة للعقل، وإنما هي استيعاب باطني، ومحاولة تملك ذاتي أو شخصي خاص، فلا بدَّ أن يتغير وجهها ويتحول شكلها من عمل فلسفي (وأدبي وفني …) إلى آخَر، ربما نسارع قائلين: إذن فلا شيء حق؛ إذ إن الحقيقة الفلسفية والفنية تتغير مع تغير الإنسان وتطوره وتبدل شروطه وأحواله، ولكننا بهذا لن نجد شيئًا مؤكدًا، وسنقع حتمًا في النسبية، ولن نعثر على الحقيقة في أي مكان، بيد أننا قد نكتشف أن المعرفة «الموضوعية» أو «المطلقة» موجودة بمعنًى آخر على الدوام، وأن «الحقيقة» حاضرة في الشكل أو الثوب الذي تفرضه لحظتها التاريخية. ستكون مهمة المؤرخ والناقد في هذه الحالة هي «تفهُّم» كل شيء، والوعي بأن ما هو حق لا تقتصر حقيقته على عصر أو شخص معين، ولا تنحصر داخل حدود تاريخية ضيقة وعابرة؛ لأن «ما لا يصدق على كل العصور والأزمان بصورة مطلقة وشاملة فليس من الحق في شيء».

    • (د)

      يمكن أن تعبِّر الفلسفة عن نفسها في صورة نظام خاص مكتمل، يحمل الطابع الشخصي لصاحبه، ويدل على الأسلوب الأصيل للتحقق الفلسفي. وكل نظام من هذه الأنظمة يمثل نسقًا أو مجموعًا حيًّا متماسكًا لا يمكن تخطيه؛ إذ يبقى قيمة متفردة نسيجَ وحْدِها؛ لأنها تكمن في صميم الكل وتعبر عن «الفلسفة الخالدة» تعبيرها عن الحقيقة الخالدة التي لا يستحوذ عليها أحد، ومع ذلك تظل «حاضرة» على الدوام ولا تتحدد — كما قلنا — بأي أسلوب أو منهج أو مذهب ولا تنغلق فيه؛ لأنها تظل كذلك واحدة متغلغلة في أعماق كل شيء. لقد تجلَّت في أشكال تاريخية متعددة، وكان كل شكل منها بالنسبة لصاحبه كليًّا وحقيقيًّا، ولم يزل كذلك بالنسبة إلينا، دون أن يلزم عن هذا نضطر أن نلتزم به أو نقيد وجودنا الخاص به، اللهم إلا بقدر ما يكشف عن «الشامل» أو «العالي» الذي نتطلع إليه جميعًا، ويحاول كل منا أن يجرِّبه تجربته الخاصة به، وأن يضيئه بعقله بقدر ما يستطيع.

    • (هـ)

      يمكننا من الناحية الصورية أو الشكلية أن نقارن بين تاريخ الفلسفة — بالمعنى الذي شرحناه في الفقرة السابقة — وتاريخ الأدب والفن؛ فالفلسفة والفن يشتركان في كونهما حقائق كلية باقية في كل زمان، تصدق قيمتها بهذه الصفة الكلية أو لا تصدق على الإطلاق، وكل فيلسوف وفنان عظيم يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة جزئية أو غامضة أو متهافتة. وكلما تفتَّح الكل واكتمل واتضح، وجدنا أنفسنا أمام عمل من أعمال الفلاسفة أو الفنانين العظام. وطبيعي أن كل فيلسوف أو فنان عظيم لا يمكنه — من حيث هو إنسان — أن ينفصل عن العمل الذي أبدعه؛ فالشامل أو الحق الخالد يتجلى في عمله، وهو لا يتجلى إلا في صورة شخصية، ولهذا كان تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب والفن هو تاريخ فلاسفة وأدباء عظام، قبل أن يكون تاريخ أفكار وقيم ونُظم ومذاهب أثرت على الواقع التاريخي والاجتماعي، أو تأثرت به، ضمن شروط وسياقات معينة.

    • (و)

      إن الحق الخالد أو الواقع الشامل لا يتحدد بشيء آخر، وهو يستعصي على الإحاطة به من أي مكان أو في أي عمل على انفراد. ومع ذلك يمكننا أن نلمح حقيقته من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وتفرع عنه. وهنا ينبغي علينا أن ننتبه إلى أمرين: تجربة المفكر أو الفنان بالواقع الحي الشامل وأسلوبه في التعبير عنه (لا سيما إذا كانت تفصلنا عنه مسافة زمنية ومكانية شاسعة)، وواقع ما حققه بالنسبة إلينا اليوم (هنا والآن). وغنيٌّ عن الذكر أن «تفهُّم» تلك التجربة أمر لا ينفصل عن الشخص (أو الذات والوجود الحميم) الذي يحاول فهمها، ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع وإعادة تكوينه واستحضاره. وفهمنا وتفسيرنا لهذا الواقع لا يمكن أن يحالفه التوفيق إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر فينا نحو الشامل الحاضر في التاريخ، المتجلِّي في أشخاص المبدعين العظام وفي أعمالهم التي «تدعونا» لتحقيق وجودنا الحر المسئول، وتساعدنا على أن نكون نحن أنفسنا.

    • (ز)

      هذا التفهم من خلال التواصل القائم على المحبة والتعاطف والجد والاحترام لا ينفي أنه صراع من نوع خاص، لا من أجل القوة أو السيطرة أو إثبات التفوق أو غير ذلك من الصغائر التي يحرص عليها صغار النقاد والمفسرين البعيدين عن التواصل بمعناه الأصيل، بل من أجل الحقيقة الكلية المشتركة التي يكتشف فيها الطرفان نفسيهما. ولا ضير في أن يتخذ التواصل مع تفكير آخر، مختلف في جذوره وشروطه وأنماطه عن تفكيري، شكل الصراع والتساؤل، والاعتراض، والتفنيد، ولا بأس أيضًا في أن يتبين لي أنه آخر وغريب عني وعن واقعي التاريخي، بحيث يمتنع تداخل أفق مع أفق، واندماج ذات في ذات، فالمهم هو أن أضع نفسي بقدر الطاقة في موضع السؤال والسائل، وأن أنصت بأمانة لما يدور في نفسه، وأتحسس ألوان «الشامل» وخيوطه في نسيجه الخاص الذي استعصى عليَّ أو استعصيت عليه. ذلك أن تاريخيته الخاصة لا تقوم إلا على تاريخية الكل، ولا بد في النهاية أن تستقر سكينة الحقيقة وصفاؤها في هذا الصراع المتعاطف المحب.

  • (٢)

    هل يمكن أن نكتشف من الأفكار السابقة بعض المناهج النقدية التي يُحتمل أن يكون ياسبرز قد طبَّقها عن قصد في هذه الدراسة وغيرها من دراساته، أو أفاد منها على الأقل بصورة غير مباشرة؟ إن علينا الآن أن نتقدم خطوة نحو التحقق من ذلك، وأول ما يخطر على البال من حديثه المستمر عن العظمة وعظماء الفلاسفة «الأفراد»، أو عن بعض كبار الفنانين والأدباء الذين توفر على دراسة شخصياتهم «المرَضية»، أنه قد لجأ إلى المنهج النفسي. وينبغي علينا، قبل أن نؤكد هذا أو ننفيه، أن نثبت حقيقتين أساسيتين كان لهما تأثير لا يُنكر على كتاباته:

    أولاهما: إنه قد تخصص في بداية حياته في الطب النفسي والعقلي، وكان من أوائل الذين شاركوا في تأسيس ما يُسمى اليوم علم النفس الوجودي، كما أنه انطلق منه في اتجاهه بعد ذلك إلى فلسفة الوجود التي أصبح من أبرز أعلامها. ويكفي في هذا المقام أن نذكر كتابيه المبكرين: «علم النفس المرضي العام» (١٩١٣م) و«علم نفس وجهات النظر إلى العالم» (١٩١٩م)، ثم كتابه عن سترندبرج وفان جوخ: محاولة تحليل مرضي مع الإشارة إلى سويدنبورج وهلدرلين٧ (١٩٢٢م) وهو الكتاب الذي تتبع فيه «صيرورة» التكوين النفسي لسترندبرج بوجه خاص من خلال كتاباته المختلفة عن سيرته الذاتية، منذ أن بدأت وساوس الغيرة وجنون الاضطهاد في التسلط عليه، كما تناول غيره من «الفصاميين»، وانعكاس مرضهم على شخصيتهم، ومضمون إبداعهم ونظرتهم للكون، أو على رؤاهم الحدسية والصوفية الكاشفة، بجانب كتبه الأخرى عن ماكس فيبر (١٩٣٢م)، ونيتشه (١٩٣٦م)، وديكارت (١٩٣٧م)، ونيتشه والمسيحية (١٩٤٧م)، وليوناردو فيلسوفًا (١٩٥٣م)، وشيلنج (١٩٥٥م)، وعظماء الفلاسفة (١٩٥٧م)، ونيقولا الكوزاني (١٩٦٤م)؛ وهي كتب لم تخلُ من النظر إلى وجودهم المتفرد بالأصالة والحرية، أو تجاربهم المتميزة بالتمزق والخيبة والانكسار.

    وثانية هذه الحقائق، أن تأكيده المستمر لخصوصية تجارب الفلاسفة والفنانين والأدباء، مع حسبانها تجلِّيًا تاريخيًّا للحقيقة الخالدة المتعالية على التاريخ، دليل على تأثره بالمنهج أو المنحى النفسي بوجه عام، وانشغاله بالمواقف الحدِّية — على حد تعبيره المشهور — في حياة الإنسان، كالألم والعجز والإخفاق والموت وإدراك تناهي العالم.

    وعلى الرغم من أن المنهج النفسي في نقد الأدب والفن قد تراجع في العقود الأخيرة تراجعًا شديدًا أمام زحف المناهج الجديدة، وأنه قد أثار الشك من حوله والهجوم عليه من أكثر من ناحية، فلا يمنع هذا من القول بالتأثير المتبادل بين الأدب وعلم النفس. إن الإحساسات، والمشاعر، والأفكار، والخيالات، والحالات، والمواقف النفسية، تؤلف جميعًا مادة لا غنى عنها للأديب والشاعر والفنان، كما أن افتراض وجود «النفس» ضروري لإثبات استجابتها للأدب والفن والفكر (بالرغم من الارتياب في وجودها نفسه، منذ أن تشكَّك «هيوم» في وحدتها الجوهرية، وأنكرها الماديون والوضعيون التقليديون والجدد، واستبعدها السلوكيون من تسمية العلم نفسه ليصبح في رأيهم هو علم السلوك …) ومع أن حدود التأثير المتبادل الذي سبق ذكره غير واضحة، كما أن الحدود الفاصلة بين الأدب وعلم النفس غير واضحة أيضًا، فإن العمليات الذهنية والمضامين الباطنية واقع لا شك فيه، كما أن هذا الواقع يدخل في أي لون من ألوان الأدب والفن، ويمكن أن يكون موضوعًا من موضوعات البحث النفسي، وأن تشهد عليه حياة الأدباء والفنانين وأعمالهم، وحياة بعض الفلاسفة والمفكرين على مر العصور.

    وإذا كانت كتابات ياسبرز عن بعض عظماء الفلسفة والفن والأدب توحي في ظاهرها بما يُسمى بالسيرة النفسية، أو تقدِّم تحليلات علمية، وتطبق مناهج وأساليب وصفية وعلاجية معروفة في علم النفس المرضي النفسي والعقلي، فلا يصح في الحقيقة أن نتسرع بإطلاق صفة «النفسي» عليها، أو نجعل من صاحبها «سيكلوجيًّا» نفسانيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وتتلخص حجتنا على هذا في الأمور التالية:
    • (أ)
      كان انشغال ياسبرز بالطب النفسي والعقلي، ومشاركته في تأسيس علم النفس الوجودي تعبيرًا عن اتجاهه الأساسي إلى النظر الكلي للإنسان بوصفه «شيئًا» أكثر بكثير مما يمكن أن تُسفِر عنه نتائج العلوم والبحوث الطبيعية والحيوية والطبية والاجتماعية والنفسية التي تتناوله أو تطبق عليه. ومن ثم كان تحوله من الطب النفسي إلى الفلسفة تأكيدًا لرغبته الأصلية في إضاءة الوجود الإنساني الحميم بالوعي الفلسفي. وإذا كان في بداية حياته قد اعتمد منهج التواصل الوجودي بين الطبيب والمريض، حتى ينير الأول وجود الأخير ويعيده إلى السواء والشفاء، فقد تلفَّع بعد ذلك بمسوح طبيب الأرواح والنَّطاسي المداوي لأمراض العصر، وظل التواصل عنده هو لُب الوجود الإنساني وسبيله إلى سر الوجود الشامل وإلى تجربة الأفراد العظام لحقيقته الغامضة والنابضة مع ذلك بالحياة فينا وفي كل شيء. لذلك لم تكن العظمة الشخصية للفيلسوف أو الأديب والفنان، ولا كانت الأحوال المرَضية والظواهر الاستثنائية عند بعض العظماء منهم، مجرد حالات يمكن إدراكها بوسائل علم النفس. فالإنسان دائمًا أكثر مما يمكن أن نعرف عنه من الزوايا النفسية. والعظمة في الفرد صورة من عظمة الكليِّ، وقيمتها لهذا السبب قيمة كلية. وإذا كانت وقائع حياة العظيم، وسلوكه في حياته ووسطه، وأعماله وسجيته، ومظاهر قلقه وتمزقه ومرضه وشذوذه؛ إذا كانت كلها تصلح لأن تكون موضوعًا للبحث النفسي، فإن هذا البحث يهتم بدلالتها الميتافيزيقية والوجودية لا بدلالتها «السيكولوجية» الخالصة.٨ ثم إن معنى العظمة يغيب عنا إذا لجأنا إلى البحث النفسي والاجتماعي؛ فمن شأن «طراز الفكر في علم النفس والاجتماع أن يعشي البصر ويحجب العظمة عندما نعد ذاك الطراز مطلقًا، ذلك أن العظمة في نظر هذين العلمين تنحلُّ إلى كيف، إلى خصائص، إلى ما تمكن مشاهدته موضوعيًّا وكميًّا».٩
    • (ب)

      إذا كانت دراسات ياسبرز لبعض الظواهر والشخصيات المرَضية التي أشرنا إليها تنتمي إلى الطب النفسي وعلم النفس الوجودي، فقد نشأت من السؤال عن حدود التفهم الممكن للوجود والإبداع الإنساني. ففي كل وجود فعلي، بما في ذلك الوجود العقلي، لحظة أو لحظات غامضة يمكن أن نصفها بأنها مستعصية على الفهم. وعندما يتعلق الأمر بالأمراض العقلية والنفسية، يمكن إخضاع الوجود الفعلي للتجريب والتحليل والمقارنة الدقيقة، غير أنه يظل محتفظًا بقَدْر من الغموض الذي لا يسمح برؤيته والكشف عنه كشفًا نهائيًّا؛ لأنه آخر الأمر جزء من لغز الوجود نفسه، أو من «شفرته» التي يحاول الوعي الفلسفي أن يضيئها ويحل رموزها.

      ومع التقدير لكل الجهود العلمية والموضوعية التي تُبذَل للبحث في أمراض النفس والعقل وعلاجها، فلا بد أن تنبع هذه الجهود من الوجود الحميم أو الأصيل وتصبَّ فيه، ولا بد أن تتجه من وراء الوقائع والمقارنات والتحليلات إلى إنارة هذا الوجود والاستبصار بألغازه وإمكاناته وحريته الأصيلة.١٠
    • (جـ)

      يؤكد ياسبرز بصفة مستمرة أن الفكر الفلسفي بالمعنى الصحيح لا يمكن أن ينفصل عن شخص صاحبه، وإذا عزلناه بوصفه تعبيرًا موضوعيًّا وحسب، لم يبقَ فكرًا حقيقيًّا بالمعنى ذاته. وقد عرفنا من الصفحات السابقة أن الفلسفة الحقيقة تتركز حول شخصيات عظيمة وتنبثق وتتدفق منها، وأن اللغة التي كتبوا بها نصوصهم يمكن أن تُفهم من حيث تعبيرها عن موجودات بشرية.

      ومع ذلك فإن كثرة الفلاسفة وتنوع الفروق الفردية بينهم تمثِّل الفيلسوف الحقيقي الواحد، أو تعبر عن وحدة الحق التي تتمثل كذلك في تواصلهم جميعًا مع الحقيقة السرمدية الواحدة. إن المفكرين العظام يظهرون حقًّا في التاريخ. ولكن جوهرهم — وهو أشبه بلغة الحقيقة — يفوق وجودهم الطبيعي والنفسي، وانتماءهم التاريخي، وأخص ما يخصهم هو معناهم فوق-التاريخي. وهذا المفهوم لا يجعلنا ننفي التاريخ ولا علم النفس، وإنما يجعلنا نؤكد أن الشخصية العظيمة تعلو عليهما، فمضمون الحقيقة الجوهرية يكمن في وحدة الزماني والسرمدي التي تتمثل في شخصية العظيم وإبداعه.

    • (د)
      وأخيرًا فقد يعاني الفيلسوف أو الفنان أو الأديب أمراضًا نفسية، وقد يكشف نَسَقَه الفكري أو عمله الفني عن خصائص أو علامات وأحوال مَرَضية، غير أن هذه الخصائص والأحوال المرَضية لا تفسر فكره أو عمله كما يزعم النقاد المتأثرون بالتحليل النفسي (وإن كان بعض النقاد قد استغل فكرة يونج عن النموذج الأولي وعن «النفس» anima والاتجاهات والوظائف والأنماط النفسية بطريقة ناجحة في تحليل شعر إليوت وقصيدة كيتس الشهيرة «أنشودة للعندليب»). ويُحتمَل — في تقديري المتواضع — أن يكون ياسبرز قد تأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة ﺑ «يونج» في محاولته إيجاد ما يمكن أن يسمى بظاهريات النفس التي تتخطى الفردية الواقعية وتغوص في أعماق الوعي واللاوعي الجمعي المتأصل فيه (على نحو مشابه لما فعله باشلار في تفسيره للخيال الخلَّاق والصورة الشعرية)، وليس من المستبعد أيضًا أن يكون قد تأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكتابات «دلتاي» و«هُسِّرْل» وتلاميذهما، وأن يكون قد أخذ عن الأول ما وصفه ﺑ «علم نفس الفهم» أو التفهم للحياة الشعورية، وتجربتها من الباطن، والاندماج المتعاطف فيها، ومحاولة تفسيرها، وتأويل حوافزها وإمكاناتها، وأن يكون قد تابع الثاني في هجومه الساحق على النزعة النفسية والبشرية في المنطق والمعرفة، وفي محاولته جعل فلسفته في الظاهريات (أو الفينومينولوجيا) نوعًا من علم النفس الخالص للوعي المحض الذي تُرَى الماهيات أو تُعايَن في مجاله الحي، ويبدأ منه وحده تأسيس كل مناطق الوجود والمعرفة والتقويم.
  • (٣)

    هل يعني كل ما ذكرناه الآن أن ياسبرز قد تأثر بالمنهج الظاهري ووليده الأحدث عهدًا، وهو منهج التفسير (أو التأويل – الهرمنيوطيقا) الذي تطور إلى فلسفة شاملة عند بعض أقطابه، مثل جادامر وريكور وبولنو وبيتي … إلخ؟ وهل نجد لهما مكانًا لديه على الرغم من تحفظه إزاء المناهج بعامة، وخلو كتاباته من الإشارة الصريحة إليها؟

    يعلم القارئ أن «الظاهرية» تعد نفسها منهجًا معرفيًّا محايدًا لوصف معطيات الوعي أو الشعور وتمحيصها بغية «الحَدْس» بماهيات الظواهر التي تتجلى فيه، أو رؤيتها وعيان حقائقها ومعانيها عيانًا حيًّا. وقد عرَّفها مؤسسها إدموند هُسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م) بأنها «عودة إلى التجربة»، وراح في بداية عهدها يردد نداءه الشهير: «لنرجع إلى الأشياء نفسها.» ولم يقتصر الأمر بعد ذلك على الوصف المباشر لظاهرات الشعور دون أي أحكام أو فروض مسبقة، إلى حد وضع العلم الطبيعي والعلم الوضعي «بين قوسين» أو تعليقهما (وهو ما يُعرف عنده بمصطلح الإيبوخية الذي استخدمه قدماء الشُّكَّاك الإغريق)، بل تعداه إلى تحديد نسيج هذا العالم الحي الذي سميناه الشعور، بوصفه قطب الوعي العينيِّ المباشر، الذي يتميز بأنه يتوجه إلى كل ما يعيه أو «يقصد» إليه (ومن ثم كانت القصدية هي بنيته الأساسية). ثم تطورت الظاهرية وتنوَّعت تطبيقاتها ومناهج الرد فيها، وبلغت مرحلة مثالية متعالية، عجز كثير من تلاميذ هُسرل عن ملاحقته فيها أو إقراره عليها. بَيْد أن هدفها المزدوج قد بقي على كل حال كما حدده مؤسسها على الصورة التالية:
    • (أ)

      أن تكون الظاهرية علم نفس محضًا، موازيًا للعلم الطبيعي، بحيث يميز النفسي عن الطبيعي تمييزًا حاسمًا (ولا نَنْسَ أنه شن حملة ساحقة على النزعة النفسية في المعرفة والمنطق فلم تقم لها قائمة بعده).

    • (ب)

      وأن تكون منهجية كلية شاملة لإعادة بناء العلوم والمعارف بأسرها؛ أي فلسفة متعالية وعلم وجود عام (أنطولوجيا) مهمتها الكشف عن البنى الأساسية للشعور ذاته ومقولاته الدائمة التي تؤسس أو تكوِّن مناطق الوجود ومجالات المعرفة ووحدات المعنى وماهيات الحقائق والقيم … إلخ، التي «تظهر» نفسها في عالمه الحي.

    والحق أن أهداف «الظاهرية» ومناهجها تشترك في أمور كثيرة مع أهداف الفن والأدب والشعر بوجه خاص، ومناهج فهمها وتفسيرها؛ فبقدر ما تكشف الظاهرية من خلال اللغة عن «كينونة» التجربة ونسيج العالم المعيش، يمكن — بغير تجاوز كبير — أن نصف مبحثها بأنه في صميمه وفي روحه المتغلغلة في الوجدان الباطن مبحث أدبي بوجه عام. بهذا توفق بين النزعة الوجودية الحميمة ووحدة التجربة وعدم قابليتها لأن تُرَّد إلى شيء عداها؛ وبذلك أيضًا ترفض التحليل المنطقي الذي يمكن أن يهدِّد وحدة الشعور وتكامله، على نحو ما يعبر «موريس ميرلو-بونتي» (١٩٠٨–١٩٦١م): «ليس العالم هو ما أفكر فيه، بل هو ما أعيشه وأحياه.»

    ولعل هذا هو الذي حدا ببعض فلاسفة العصر — مثل هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) وسارتر (١٩٠٥–١٩٨٠م) وميرلو-بونتي نفسه — إلى التعبير عن كثير من حدوسهم وأنظارهم الفلسفية بلغة تقترب أحيانًا من لغة الأدب والفن، وأن يقيموها في أحيان أخرى على حدوس الأدباء والشعراء (مثل هيدجر في شروحه لشعر هلدرلين وريلكه وتراكل، وسارتر في تفسيره لشعر بودلير ولأعمال عدد كبير من أدباء العصر، ومثل غيرهما من النقاد الظاهريين الذي اهتموا بشعراء غنائيين مثل مالارميه وريلكه ووالاس ستيفنز ورينيه شار وسواهم ممَّن أبدعوا عوالمهم الخيالية الخاصة). إنهم يوحون إلينا بأن الأدب يمكن أن يكون أصدق شكل من أشكال التعبير الفلسفي، كما يمكن أن ينهل الفكر الفلسفي من ينابيع الشعر والفن، وأن يلجأ إلى الفن وإلى الشعر بوجه أخص، بوصفه مصدرًا أساسيًّا لمعرفة طبيعة الإدراك الحسي وغيره من ظواهر النشاط العقلي، كالخيال على سبيل المثال.١١ والواقع أنه لا عجب في هذا كله؛ فالأدب في النهاية وصف وتحليل لمعطيات الوعي؛ وكم قدَّم من الشواهد على «اللاوعي» في صور لغوية واعية، وكم «علق» وجود العالم المكاني — الزماني أو وضعه بين قوسين (كما يقتضي منهج الرد الذي توسعت فيه الظاهرية) ليحقق امتلاء التجربة وتدفقها. ولعل الأدباء والشعراء أنفسهم أن يكونوا أكثر مَن تعمق هذا المنهج — الذي طبقته الظاهرية — كما سبق القول — بطريقة معرفية «وماهوية» قصدية لكي يتأملوا الأشياء والمعاني في الشعور المحض تأملًا يتسم بالجدة والأصالة والنضارة، ويوظفوا اللغة في سبيل استدعاء عالمهم الشعري وإبداع عالمهم الخيالي الذي لا يتعلق بعالم الوقائع بقدر ما يتعلق مباشرة بالشعور الخالص، ذلك لأن الشاعر — شأنه في هذا شأن الفيلسوف الظاهري — ينطلق من التسليم بأولوية الشعور، وبأن الأشياء لا تُفهم، وربما لا توجد أصلًا، إلا في علاقتها بالشعور الذي يتوجه إليها بطبيعته، أو يقصدها؛ كما سبق القول. ويكفي في هذا المجال المحدود أن نورد عبارة مالارميه (١٨٤٨–١٨٩٢م) التي توضح قدرة الشعور الخلَّاق على تكوين عالمه الشعري من خلال اللغة الرمزية المصفَّاة من كل أثر للشيئية إلى حد التماس مع العدم: «أقول زهرة! ومن داخل ذلك النسيان لأي مَعْلَم من المعالم التي يمكن أن يرتبط بها الصوت الذي نطقت به، تتصاعد بشكل موسيقي، وبفكرتها أو مثالها الرقيق تلك الزهرة المفتقدة في كل باقات الزهور.»

    وحسبنا هذا المثل الواحد دليلًا على استفادة نقاد الأدب والشعر من خصوصية عالم التجربة الشعورية الحي، ومن غناه وامتلائه الدائب لكي يرد إلينا «جسد العالم» كما يعبر عنه الشعر الذي لا يستمد وجوده — في نظرهم — إلا من الشعور وفي الشعور؛ لأنه ببساطة جزء منه ولا استقلال له عنه.

    ولقد نبَّهنا النقد الظاهري إلى عدد من الحقائق التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
    • (أ)

      حسبان الخيال أو التخيل مصدرًا للتحرر، فبقدر ما يجذبنا العالم الفني الخيالي للاستغراق فيه، نجده يساعدنا كذلك على التحرر منه والشعور بنوع من الصفاء والسكينة الجمالية الخالصة. وهو بقدْر ما يجعلنا نغوص في خصوصيته، يتيح لنا أن نجرب خصوصية شعورنا الباطني الحميم.

    • (ب)

      حسبان العمل الفني والأدبي موضوعًا قصديًّا مستقلًّا، مع تأكيد أن تجربة هذا العمل نوع من التذوق أو التأمل الذي يحقق إنسانيتنا ويزيدها عمقًا وغنًى وامتلاء. ومن ثم لا يكون النقد الظاهري تقويمًا، بقدر ما يكون تجلية للتجربة الجمالية، وإشادة بثرائها.

    • (جـ)

      حسبان الاستجابة الجمالية والأدبية استجابة فعالة؛ أي عملية «وضع بين قوسين» يتخلى فيها الناقد والمتلقي عن كل افتراضاته وأحكامه المسبقة، بحيث يقصد إلى الموضوع الجمالي ذاته على نحو ما هو معطًى له «بلحمه ودمه» وبحيث يستغرق فيه، كما تقدم القول، وينفتح عليه، ويسلِّم نفسه له كما يقضي بذلك مبدأ التفاعل بين الآفاق، أو المشاركة بين الذوات، الذي طالما أكدته الفلسفة الظاهرية، وكأننا نتعلم منها كيف نرى وكيف نقرأ كما ينبغي أن تكون الرؤية والقراءة، دون أي تحفُّظ عقلي، أو رغبة في الاحتفاظ بحكم عقلي مستقل (وهو درس في التواضع للمغرورين والمعذبين في أرض الأدب والفكر والفن) وعند ذلك نلتزم الالتزام المنشود من القارئ بما يقرأ، ونشعر شعورًا حدسيًّا مباشرًا بشعورنا نحن بالموضوع الجمالي الذي استغرقنا حتى جعلنا نتخلَّى عن التعارض أو التضاد المعتاد في المواقف الإدراكية بين شعوري أو وعيي من جهة والموضوعات أو الأشياء الطبيعية المطروحة أمامه من جهة أخرى، وفي ذلك تكمن المفارقة التي نبَّه إليها «دوفرين» إزاء التجربة الجمالية؛ فهي استغراق عميق مصحوب بتحرر وجداني، كما أنها تعبير عن وصف «باشلار» للخيال بأنه ضَرْب من التحويل الذي يحرِّرنا من إحساسنا العادي بالواقع؛ لأن التجربة الجمالية عنده هي نوع من «الحلم» الذي تتم فيه حالة استجابة يكون فيها الشعور شديد الاستغراق وشديد الانتباه في وقت واحد؛ بل إن هذه التجربة — في رأي باشلار — تجربة نموذجية أولية (على حد تعبير يونج المشهور)، أي عودة إلى الصور والبنى الأصلية للشعور؛ وهي بهذه المثابة نوع من تحقيق إنسانيتنا وتعميقها وإثرائها.

(٣) نظرة تحليلية لمحتويات الكتاب

لننظر الآن في نص ياسبرز لنرى مدى تطبيقه للمنهج الظاهري في قراءته لنصوص الفلاسفة، وفي تأريخه للفلسفة من وجهة نظر عالمية. وأول سؤال يخطر على البال، هو هذا السؤال:

كيف يمكن لحواري مع الأموات أن يجعلهم أحياء؟ وكيف يستطيع الاتصال بنصوصهم أن يُلبسها ثوب الحياة؟

والجواب في السؤال نفسه، وهو جواب تمتزج فيه عناصر ظاهرية وتفسيرية في وقت واحد؛ لأنه كامن في الحوار معهم ومع نصوصهم. فعندما أسأل يجيبني النص الذي لا يرد على مَن يمر عليه مرور الكرام. غير أن إجابة النص — أو أجوبته الممكنة — لن تصل إلى سمعي إلا إذا استطعت أن أسوِّغها بحسب المعنى القصدي الذي يضمره النص. وإذا لم يستجب هذا المعنى ظل الأموات صامتين. وعندما أستوعب المضمون الحقيقي وأتملكه بحق، يمكنني كذلك أن أفهم المعنى المختفي بين السطور أو تحتها ووراءها، ولن يتيسر هذا حتى تتفاعل أفكار المفكر «الميت» مع أفكاري، ويتداخل أفقه مع أفقي — كما يقول اليوم فيلسوف التفسير أو التأويل هانز جورج جادامر.

ومما يرجح هذا المنحى الظاهري أن ياسبرز يؤكد على الدوام الأسس التي يقوم عليها؛ إذ يفترض استبعاد أي أحكام مسبقة، بل يفترض وضع العالم الطبيعي والوضعي، لا معارفي وأحكامي السابقة وحدها، بين قوسين، قبل أن أحاول القرب من النص واستكناه قصده ودلالته في حَيْدَة تامة. ومعنى هذا أن من التبجح على الفيلسوف ونصوصه أن أعدَّ كلامه مجرد سلم أتصرَّف به أو أتسلَّق عليه، وأمضي في اتباع درب لا يقودني هو نفسه إليه،١٢ أو أن أُقحم عليه معنًى لا ينطوي عليه، أو أقسره على الدخول في وجهة نظر مسبقة للعالم، شاء ذلك أم أبى؛ فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يوصف من الناحية الأخلاقية إلا بانعدام الحياء.

الفلسفة إذن تجربة معيشة قبل كل شيء. هي تجربة الحقيقة التي تحياها الذات في تواصلها مع ذات أخرى — عبر رموز لغتها وعلاماتها ودلالاتها الممكنة — وفق إمكاناتها الوجودية الصميمة. وما دامت تجربة وجودية وذاتية تتم في التاريخ، فلن يتم تفسيرها على الوجه الملائم إلا بمنهج ذاتي وتاريخي أيضًا. وغني عن الذكر أن هذا المنهج يقترب الآن أشد الاقتراب من منهج التأويل (الهرمنيوطيقا)، ويبتعد بالتدريج عن المنهج الظاهري بمعناه الدقيق عند مؤسسه الأول الذي استنكر أن تدخل فيه عناصر الذاتية البشرية من أي سبيل، أو قل إنه يقترب من منهج تفسيري انطلق من أساس ظاهري، كما حدث مع كل أصحابه الذين تبنوه بصور وأشكال مختلفة (خصوصًا من هيدجر إلى جادامر وتلاميذهما).

والحق أن التاريخ لم يغِب أبدًا عن عينَي ياسبرز؛ فهو لم يتوقف عن التفكير في أصله وهدفه (كما ينطق بهذا كتابه المشهور بالعنوان نفسه (١٩٤٩م، ١٩٦٣م)، وكتاباته المتأخرة عن مستقبل الإنسانية ومصيرها في مواجهة الخطر النووي المنذر بالإبادة والكارثة الجماعية)، وإذا كان التاريخ عنده هو قبل كل شيء تاريخ الأفراد العظام، فإننا لا نتصل بتراثه الماضي والحاضر لإشباع فضولنا للمعرفة، ولا لإثبات تميزنا بالعلم أو تفوقنا على الآخرين — كما يتصور بعض الصغار في بلادنا، من الأدعياء الاستعراضيين والمتضخمين الجوف، الذين ارتفع ضجيج طبولهم، واشتد سعارهم النرجسي إلى الشهرة الرخيصة والأضواء الكاذبة — بل لكي نوجد بعمق وصدق حين نتواصل مع وجود العظماء ومع عظمة الذين وجدوا أنفسهم في الحقيقة، ولكي نوقظ في أنفسنا ينابيع المسئولية والجد والإنسانية، ونؤكد حريتنا في أن نكون ونأمل ونعمل في سبيل مستقبل نشارك في صنعه مع بقية «الأحياء» الذين ضمَّهم حضن الأرض منذ مئات السنين أو آلافها، أو من الذين ما فتئوا يضطربون على ظهرها. ومن لا يتدبر وجوده على «خلفية» من آلاف السنين في عمر البشرية فلن يعرف ذاته، ولن يدرك الهدف من الماضي والحاضر والمستقبل. ومن ثم يصبح التاريخ والتراث وجودًا حيًّا يصل الأمس بالغد في لحظة سرمدية هي لحظة الفعل الحاضر في الحقيقة الشاملة العالية، لحظة الوعي الحر المسئول عن وجودها وعملها الدائب فينا وفي كل شيء وكل إنسان، فالتاريخ في النهاية هو مَجْلى هذه الحقيقة وسجل حضورها الحي، وما لم يتواصل وجودنا مع وجود أولئك الذين جسَّدوها فيه فلن نفهم شيئًا عن معنى الفلسفة ولا غير الفلسفة.

  • (٤)
    لعلنا أن نكون قد رأينا من العرض السابق أن «ياسبرز» قد اقترب أشد القرب من منهج الفهم والتأويل «الهرمنيوطيقي»، وإن لم يحرص هو نفسه على التصريح بذلك، ولا حرص أصحابه الذين تبلور المنهج على أيديهم في السنوات الأخيرة على ضمِّه إلى صفوفهم أو الإشادة بدوره في صياغته وتطبيقه. إن قراءاته لنصوص الفلاسفة وبعض الفنانين والأدباء تشهد على أنه ينظر فيها من الداخل ويحاول أن يتملَّك مضامينها الباقية بالتعاطف والحوار النقدي الحر معها، لا من وجهة نظر يفرضها عليها، ولا بمعيار مذهبي أو «شعاري» خارجي يدَّعي الصحة أو «الموضوعية» المطلقة،١٣ ولا لانتقادها ومناظرتها وهدمها؛ فالنقد الحقيقي يفترض الحب، ويقوم على التفهُّم والكشف، وهو يبتعد عن كل شهوة رخيصة لإثبات التفوق والتحذلق. هذا التعاطف لا يمنع بطبيعة الحال من التصارع مع النصوص وإدراك حدودها وتناقضاتها وجوانب ضعفها وقصورها، ولا يتعارض مع تطبيق المناهج والأدوات العلمية الدقيقة لتحقيقها وتمحيص لغتها وبناءاتها ومستوياتها المختلفة، ووضعها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية … إلخ، فكل ذلك يقوي من أواصر اتصالنا بها، ويوقظ معرفتنا بحدود وجودنا وإمكاناتنا، وسواء استوعبنا مضامينها وتملكناها بحيث صارت شيئًا خاصًّا بنا، أو رددناها وفنَّدناها بوصفها «الآخر» المباين لحقيقتنا وغايتنا، فإن ذلك لن يقلل في شيء من موقفنا المبدئي القائم على «تجربة» النص، وإعادة استحضاره وإنتاجه، وضرورة بذل كل الجهود الذاتية والموضوعية الممكنة للاندماج فيه والاتصال بحقيقته المحدودة بحدود النقص والتناهي والقصور البشري المحتوم.

    وليست هنالك طريقة (أو وصفة) معينة يمكن التوصية بها لتفسير نص معين أو تأويله. فلا مفرَّ من اختلاف التفسير باختلاف النصوص والمفسرين. صحيح أنه ينبغي علينا أن نلجأ إلى المقولات العامة، وأساليب البحث وقواعده «العلمية» المتفق عليها، ولكن المهمة الملحَّة هي تحقيق المشاركة فيها، والتواصل معها، وبغيرهما يستحيل النقد الحقيقي كما يستحيل «التفلسف» الحقيقي الذي أوصانا به كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) عندما كان يكرر قوله لتلاميذه: «أنا لا أعلِّمكم الفلسفة — بمعنى تاريخ الآراء والأفكار والمذاهب — وإنما أعلمكم التفلسف، قفوا على أقدامكم، فكروا بأنفسكم!» ولا ننسى في هذا السياق أن نقَّاد فلسفة التأويل يأخذون عليها أنها لم تتوصل إلى مبادئ أو قواعد يمكن الإجماع عليها، ناسين هم أيضًا أنه لم يتوصل أحد حتى اليوم إلى مبادئ ثابتة أو قواعد مطلقة، لا في الفلسفة ولا في النقد، وأن من الطبيعي أن تختلف المبادئ والقواعد — إذا صح استخدام هاتين الكلمتين — باختلاف المفسرين الذين تختلف قراءاتهم وتفسيراتهم للنص الواحد، دون أن يلزم عن ذلك بالضرورة أن نتهمهم بالذاتية والنسبية، وتنكُّب سبيل الموضوعية؛ لأن هذه المفاهيم نفسها بحاجة دائمة إلى التحديد والتوضيح، كما أن أصحاب فلسفة التأويل يؤكدون أن منهجهم ذاتي وتاريخي ونسبي، وأن الموضوعية «المطلقة» هنا شيء مستحيل؛ ذلك لأن الفهم أو التأويل عملية دائرية تنصهر فيها الآفاق وتتداخل، أو تتنافر وتتباعد، فتحاول «ترجمة» الغريب والآخر الأجنبي عنها من موقفها الخاص لتزداد معرفة به. وهو على كل حال ليس عملية أفقية أحادية الاتجاه (وقد ألحَّ على هذا فلاسفة التأويل، من هيدجر إلى جادامر وبولنو) والمهم هو فتح أبواب الإمكانات المختلفة للقراءات المتعددة والممكنة للعمل الفكري أو الفني وللوجود الإنساني.

    ربما جاز لنا في النهاية أن نعترض على النظر إلى الأعمال والتجارب الفلسفية والفنية بوصفها مجرد رموز، أو بالأحرى شفرات تحتاج إلى الحل، لبيان دلالتها على العلو أو الحقيقة الشاملة كما يفهمها ياسبرز نفسه، أو كما يوحي إلينا بأنها مستعصية على الفهم. وسيكون من حقنا في هذه الحالة أن نأخذ عليه تقييده للمعاني الممكنة للرمز في معنًى واحد، بالرغم من أن الرمز يختلف عما يدل عليه ويزيد عنه، ولا يمكن أن يقتصر على العالي أو الشامل وحده. وربما جاز لنا كذلك أن نقول إن هذا في نهاية المطاف تفسير أحادي لا يستقيم مع استقلال العمل أو النص وخصوصية تركيبه وسياقه، ولا مع قابليته لتفسيرات وتأويلات متعددة، يمكن أن ينفتح عليها وأن تنفتح عليه، كما أن مختلَف النصوص والأعمال ستصبح في هذه الحالة مجرد أمثلة أو نماذج لا تكتسب معناها وحقيقتها الخاصة إلا من حيث دلالتها على تلك الحقيقة الشاملة، أو بالأحرى من حيث تعبيرها عن فلسفة «ياسبرز» نفسه، التي تدور حولها دوران السواقي والأراجيح حول محور واحد، أو الأغاني والتنويعات على لحن لا يتغير (وهذا ما يمكن أن يُقال أيضًا بمعانٍ مختلفة عن تفسيرات فلاسفة كبار آخرين لنصوص غيرهم، مثل تفسيرات أرسطو قديمًا، وهيجل حديثًا، وهيدجر في عصرنا الحاضر؛ إذ يبرزون من تلك النصوص ما يؤكد فلسفاتهم هم) كل هذا جائز ومشروع. ولا يملك أحد أن يحرمنا حقنا في تفسير «تفسير» ياسبرز أو غيره، ولا في تقديم تفسير مختلف تحكمه عوامل تكوين ذاتيتنا ووجودنا التاريخي، وتأثير تجاربنا اللغوية والثقافية والتراثية التي تضافرت على تشكيلهما، بجانب انعكاس المقولات والأحكام والتصورات السائدة على معرفتنا وفهمنا ونقدنا، بل جنايتها في كثير من الأحيان على محاولاتنا في تفسير الأعمال والنصوص، وبخاصة ما ينتمي منها إلى عصر غير عصرنا، وإلى ثقافة وتاريخ وتقاليد مختلفة عن تلك التي كوَّنتنا. صحيح أن التفسير الجوهري — إذا صح هذا التعبير — ينطوي دائمًا على محاولة لمجاوزة النص نفسه إلى السؤال أو الإشكال الأساسي الذي بعث ذلك النص إلى الوجود. ومهما حاولنا أن نفتح أفقنا على أفق النص والذات التي أبدعته، فلا بد أن يبقى تفسيرنا محدودًا بالحدود والعوامل التي سبق ذكرها، ولا مفر من أن يكون مختلفًا عن أي تفسير آخر لذات أخرى غير ذاتنا، فلا مجال هنا للحديث عن «موضوعية» مطلقة، نعلم اليوم أكثر من أي يوم مضى أنها مستحيلة، ولا مناص من الاعتراف بأننا نفهم دائمًا من خلال أسلوبنا في الرؤية والوجود، وهو أسلوب قد لا نعيه إلى حد كبير، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نعيش بدونه.

    مهما يكن الأمر فإن تدخُّل التأمل الفلسفي (أو التأمل النقدي القائم بالضرورة على أسس فلسفية) ما يزال بنظرياته واتجاهاته الكثيرة التي تشغلنا اليوم — ولا حاجة بي لذكر أسمائها أو الجدل حولها — أقول إنه ما يزال موضع السؤال والإشكال، ولم يفلح معظمها — كما أسلفت — في تقديم معايير مضمونة أو قواعد متفق عليها من الجميع (ربما لأننا ننسى أحيانًا أن التفسير يقوم على الفهم والتذوق، ولا بد أن يختلف كلاهما باختلاف النصوص والمتذوقين …) ولو نجحت الفلسفة في تقديم أسس نظرية متينة للتمييز بين التفسير «العلمي» والفهم «الإنساني» — أو الذاتي التاريخي — (كما حاول فلاسفة الهرمنيوطيقا وما زالوا يحاولون دون أن يصلوا إلى مبادئ أو نتائج عامة الصدق، ربما لأسباب كامنة في فلسفتهم نفسها)؛ أقول لو أمكن هذا ذات يوم في حدود معينة، لكان للفلسفة تأثير أكبر وأكثر فعالية على النقد الأدبي والفني، ولا شك عندي في أنها تسعى دائبة على الطريق إلى هذا التأسيس، كما يتبين من بحوث بعض المعاصرين (مثل رومان إنجاردين، وج. ﻫ. فون رايت، وك. و. آنيل، وت. م. زيبوم، وغيرهم). وسيبقى تفسير التفسيرات نفسها ومراجعتها أمرًا يحتِّمه مبدأ تعدد التفسيرات وثراء النصوص العظيمة — في الفلسفة والأدب والفن — بالإمكانات التي لا حد لها. ويكفي النص الذي نقدمه أن يكون قد سمح لنا بتفسيره، بعد أن سمح بالانفتاح على مختلف التفسيرات، ومن بينها تفسيرنا المحدود بقدراتنا وإمكاناتنا وأدواتنا المحدودة.

١  كارل ياسبرز؛ مدخل إلى الفلسفة، زيوريخ ١٩٥٠م، وميونخ ١٩٥٣م، الطبعة الرابعة عشرة، ميونخ ١٩٧٢م، ص٦٢.
Jaspers, Karl; Einführung in die. Philosophie. Zurich 1950-München 1953. 14. Aufl. ebd. 1972, S. 62.
٢  كورت سالامون (محرر)؛ ما الفلسفة؟ نصوص جديدة لتفهمها، توبنجن، سلسلة الكتب الجامعية، الطبعة الثانية، ١٩٨٦م، ص٣٩–٥٠.
Salamun, Kurt, Was ist Philosophie? Neuere tezte zu ihrem Selbstverständnis. 2., erweiterte Auflage-Tübingen, UTB. S. 50 f.
٣  انظر حول مشكلة العلو بوجه عام كتاب الأستاذ فولفجانج شتروفه: فلسفة العلو (الترانسندنس)، القاهرة، مكتبة الشباب، ١٩٧٥م، ترجمة كاتب هذه السطور.
٤  وهو الأستاذ هانز سانر، الذي سيرد اسمه في هامش لاحق. وقد عرفت بعد كتابة هذا التمهيد أنه قد نشر هذا النص الأخير مع غيره من شذرات تراث الفيلسوف عن التأريخ للفلسفة والفلاسفة العظام.
٥  هانز سانر، كارل ياسبرز في شواهد ذاتية ووثائق مصورة، هامبورج، سلسلة روفولت، ١٩٧٣م، ص٧٧–٨٢.
Saner, Hans, Karl jaspers in Selbstzeugnissen und Bilddokumenten—Hamburg, Rowohlt—Monographien, 1973, S. 77–82.
٦  انظر: نصوص مختارة من التراث الوجودي، ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة النصوص الفلسفية، ١٩٨٧م، ص٩٣ (وهو يتضمن أربعة أحاديث من «المدخل إلى الفلسفة» الذي ترجم إلى الإنجليزية تحت عنوان «سبيل إلى الحكمة»).
٧  كارل ياسبرز، سترندبرج وفان جوخ، محاولة تحليل مرضي مع إضافة مقارنة لكل من سويدنبرج وهلدرلين، ميونخ، بيير، ١٩٤٩م، ص٥–٨.
Jaspers, Karl; Strindberg und Van Gogh. Versuh einer Pathographischen Analyse—München, Piper, 1949, S. 5–8.
٨  ياسبرز، كارل؛ عظمة الفلسفة، ترجمة الدكتور عادل العوا، بيروت، منشورات عويدات، د. ت، ص١١٧، ١٢٣ (وهي ترجمة لمقدمة كتاب «الفلاسفة العظام» الذي لم يكن تحت يدي أثناء كتابة هذه الصفحات).
٩  المصدر السابق، ص٤٨.
١٠  سترندبرج وفان جوخ، مرجع سابق، ص٥–٩.
١١  موسوعة برينستون للشعر وفن الشعر، الملحق، ٩٦١–٩٦٤.
Princeton Encyclopedia of Poetry and Poeties. Supp, p. 961–964.
١٢  عظمة الفلسفة، مصدر سابق، ص١١٤.
١٣  سحر محب مشهور، نحو فهم العملية الإبداعية: نظرة تأويلية، في «فصول»، المجلد السابع، أبريل– سبتمبر ١٩٨٧م، ص١٦٢-١٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤