مهمة كتابة تاريخ الفلسفة

التصور التاريخي للفلسفة

تتراكم أمامنا النصوص الوفيرة والمعارف المتواترة من التراث؛ فما معناها بالنسبة إلينا؟ وكيف تتسق فيما بينها؟ وعلى أي نحو تمثِّل كلًّا متكاملًا؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة لتنبع من طريقة فهمنا لهذه النصوص والمعارف. فتصورنا للتراث المأثور وتفسيرنا له هو وحده الذي يجعله حاضرًا أمام عقولنا.

والصعوبة التي تواجه أية محاولة لإعادة كتابة تاريخ الفلسفة تكمن في ضرورة الانفتاح على هذا التاريخ في مجموعه وتصوُّره تصورًا كليًّا حتى يمكن أن يصبح موضوعًا للتأمل. فليس هناك عَرْض نهائي وموضوعي، ولا توجد موسوعة معتمدة لتاريخ الفلسفة يمكنها أن تفي بطبيعة التجربة الفلسفية أو توضح ماهية التفكير الفلسفي. إن النصوص وحدها هي التي يمكن أن توصف بالموضوعية، وذلك بقدر ما تكون قد نُقِلت إلينا أو أعيد بناؤها بأمانة، وتعمُّق النصوص يبين لنا أن حجمها — في نطاق التاريخ العالمي للفلسفة — من الضخامة بحيث يصبح من المحال على إنسان واحد أن يعرفها جميعًا معرفة دقيقة، كما يبين من ناحية أخرى أن النصوص الأصلية تحتمل تفسيرات لا نهاية لها.

إن كل العروض التي تزعم أنها تصنِّف المادة التاريخية وترتِّبها وتعمِّمها وتؤلف بينها في إطار الموضوعية الخالصة إنما تنطبع في الواقع بأسلوب التفكير الفلسفي الخاص بأصحابها. وهي تختلط — دون أن يقصدوا إلى ذلك في معظم الأحوال — بالنزعات المدرسية المتزمتة، التي تغفل عما تنطوي عليه من تبريرات عقلية وتركيبات مصطنعة تتسم بالتوفيق والتلفيق. ويظل تصور هؤلاء المؤلفين مقيدًا باستخلاص الدروس التعليمية، وتحليل ما بينها من علاقات عقلية، وما يترتب عليها من نتائج وتناقضات. كذلك يظل مضمون هذا التصور في نهاية المطاف أمرًا غامضًا من الناحية الوجودية.

ينبغي علينا إذن أن نسأل عن موقف مؤرِّخ الفلسفة ووجهة نظره لكي نتمكن من تقدير أهمية تصوره وحدوده، والكشف عن العوامل الذاتية التي تدخلت فيه. والواقع أن المؤرِّخ الجدير بهذا الاسم يتعين عليه أن يعرف نفسه معرفة واضحة. فكل وجهة نظر يتبناها عن وعي لا تعدو أن تكون زاوية واحدة من زوايا الرؤية التي تكوِّن في مجموعها صورة شاملة لتاريخ الفلسفة. وهو في الحقيقة لا يريد أن تكون له وجهة نظر؛ لأنه يسعى إلى أن يفهم ابتداء من الكل، وأن يرجع بتفلسفه إلى الأصل في هذا الكل، مدفوعًا بتاريخ الفلسفة بأسره، بل إنه ليتمنى — مهما تكن أمنيته بعيدة المنال — أن تهتدي جهوده في هذا السبيل بفكرة معرفة عامة بحصيلة الموروث الفلسفي الذي لا نهاية له، وطبيعي ألا يكون تصوره تصورًا جامدًا أو محدودًا بوجهة نظر ثابتة؛ لأنه يصب في نهر التفلسف العام، ويشارك في مجراه الواحد، لكي يستطيع في هذه اللحظة أن يجربه في نفسه، انطلاقًا من موقفه، واعتمادًا على وسائله وإمكاناته، حتى تنبثق عنه في النهاية صورة خاصة به، أو بالأحرى صور كثيرة يلقي بعضها الضوء على بعضها، ويتفاعل بعضها مع بعضها في حركة مستمرة. وعلينا الآن أن نستوعب هذا التصور لتاريخ الفلسفة وننظر إليه عن قرب.

(١) الفلسفة بمعناها الصحيح وتاريخ الفلسفة (فكرة الفلسفة الخالدة)

ترتبط الفلسفة بتاريخها بعلاقات متعددة:
  • (١)

    فقد يكون التاريخ سلسلة من الأخطاء التي تم تجاوزها، أو يكون هو التقدم الذي تحقق بتحصيل المعارف الدقيقة وتجميعها، بحيث تمثل اللحظة الحاضرة في هذا التقدم أقصى ذروة بلغها.

    هكذا ترتسم أمامنا الصورة التالية لتاريخ الفلسفة: فليس ثمة غير حقيقة واحدة في ذاتها، صادقة في كل زمان، وهي ثابتة لا يمكن أن تتغير، متماثلة مع نفسها إلى أبد الآبدين، غير أن الإنسان يكتشفها على مدار الزمن خطوة فخطوة، وجزءًا بعد جزء، بحيث تكون كشوفه حصيلة نهائية لا رجعة فيها. والمعنى الكامن في الحقيقة التي تم الكشف عنها لا يتوقف على العصر ولا على الحضارة، وهو لا يعتمد على المواقف والظروف التي أمكن العثور عليه في ظلها، فالحقيقة نفسها مستقلة عن الظروف التي خضع لها اكتشافها. كانت نظرية فيثاغورس صادقة قبل الكشف عنها، وسوف تظل صادقة إلى آخر الزمان. وفهم هذه النظرية يتطلَّب دراستها هي نفسها، لا دراسة تاريخ اكتشافها؛ إذ كان من الممكن اكتشافها قبل ذلك التاريخ أو بعده، وليس التاريخ إلا المجال الزمني الذي تم فيه التوصل إلى حقائق دقيقة تخطت كل زمان، حقائق عرفها الإنسان هنا وهناك، وظلت تنمو وتتطور على نحو متصل. والوجود التاريخي هو الشكل الخارجي الذي تتخذه رؤية الحقيقة وهي في سبيل تحققها، ربما يكون فهم التاريخ أمرًا مهمًّا، ولكن التاريخ لا أهمية له بالنسبة إلى الحقيقة نفسها؛ لأنه لا يخبرنا إلا عن تتابع الاكتشافات بصورة عَرَضية أو محتملة، ونحن نتعلم من الماضي ما وفَّره لنا من معارف مكتسبة، ولكننا نفضِّل دائمًا أن يكون ذلك على هيئة عَرض منهجي وموضوعي منظم، لا على هيئة الدراسة التاريخية، ونحن ندرس الكيمياء، أما تاريخ الكيمياء فلا ندرسه في أحسن الأحوال إلا على سبيل الهواية أو المتعة الشخصية، وقياسًا على هذا يلزم دراسة الفلسفة من حيث هي مجموع الأنظار الفلسفية الراهنة. صحيح أن تاريخ الفلسفة يبين التطور الذي أدى إليها، ولكن هذا التطور يقتصر في الواقع على تتبُّع ظهور هذه الأنظار النهائية التي ثبتت صحتها، والتي كان من الضروري استخلاصها من سُحب الأخطاء التي كانت تغلِّفها. لقد تقدمنا وتخطينا أفلاطون وكانط. ولنمثل لهذا الزعم بصورة متواضعة في ظاهرها: لقد كان المفكرون السابقون عمالقة بحق، أما أنا، وإن كنت مجرد عصفور، فإني أحط على رأس العملاق وأرى أبعد مما رآه.

    إن هذا التصور سيقصر مهمة تاريخ الفلسفة على البحث عن شيء غريب عن موضوعه الحقيقي، وتفسير جوانبه العرَضية تفسيرًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا، وتعرُّف الطبيعة الإنسانية التي أمكنها أن تقع في مثل هذه الأخطاء، أو تتوصل لمثل هذه الآراء في ظل ظروف معينة، بحيث يسهل تجنب العثرات في ضوء معرفتها.

    بيد أن هذه الصورة التي قدمناها لتاريخ الفلسفة — على الرغم من صحة بعض تفصيلاتها — هي في مجموعها صورة خاطئة خطأً جذريًّا.

    هناك فرق كبير بين تاريخ العلوم المتخصصة وتاريخ الفلسفة؛ فالواقع أن تاريخ الكيمياء أو تاريخ الرياضيات لا يبدو أنه جزء أساسي من دراسة تلك العلوم، على حين أن تاريخ الفلسفة يمثل منذ عهد طويل المجال الحقيقي لدراسة الفلسفة، حتى في تلك العصور التي بلغ فيها الإبداع الفلسفي غاية ازدهاره. ولما كانت الفلسفة مختلفة عن العلم، فإن ما يصدق على تاريخ العلوم — وإن لم يكن هذا بصفة مطلقة — لا يتحتم بالضرورة أن يصدق على تاريخ الفلسفة.

    هنالك عالم يمثل كل ما هو «دقيق»، ويمكن أن يتحقق فيه التقدم إلى ما لا نهاية، وتتسع المعارف بصورة مستمرة، ويتم توصيلها إلى أفهام الناس جميعًا ونقلها من حضارة إلى أخرى بغير تغيير. ويضم هذا العالم قدرًا هائلًا من المعارف المحددة التي يمكن البرهنة على صحة محتواها، كما يتفق الإجماع العام على الاعتراف بنتائجها. غير أن هذا العالم ليس هو كل العالم؛ فعالم المعارف الدقيقة أو الضرورية يفتقر قبل كل شيء إلى الكلية، ونحن نستطيع أن نميز فيه جوانب جزئية، ولكننا لن نميز الكل أبدًا، اللهم إلا إذا كان كلًّا نسبيًّا في علاقته بكلٍّ آخر، لا الكل ذاته وبصورة مطلقة. أضف إلى هذا أننا لا ندرك في هذا العالم إلا بعض الوقائع الموضوعية المحددة، في حين يوجد خارجها شيء آخر مختلف عنها، وأقصد به الذات التي تعرفها، بجانب موضوعات أخرى ترتبط في علاقة معها.

    ثم إن هذا العالم يفتقر كذلك إلى قيمة مطلقة تهمُّ وجودنا الحميم؛ ذلك لأنه لا يقدم أية إجابة عن الأسئلة المتعلقة بحقيقتنا الذاتية أو كينونتنا الخاصة، ونحن نملك شعورًا أصيلًا بجدية هذه الأسئلة: فحقيقة كوننا موجودين تنطوي في صميمها على سر معتم غامض؛ هذا السر يعطي الحياة وزنًا لا نهائيًّا، ففي هذه الحياة يتقرر شيء ما، ومن المهم أن أعرف كيف أعيش ولأجل أية غاية أعيش. ونحن نملك كذلك شعورًا بالمطلق، يمكنه أن يقف في مواجهة كل ما هو جزئي، هذا الشعور شامل محيط؛ لأنه ليس بحاجة للخضوع لأي موضوع، ونحن نجد كذلك أن ما يمكن إثبات صحته يظل من ناحية المضمون شيئًا لا يكترث به وجودنا الذاتي الحميم (صحيح أن الجهد الذي نبذله للتوسع في معارفنا لا يمكن أن يكون شيئًا نقف منه موقف عدم الاكتراث، ولكن مضمون الشيء الدقيق وحسب هو الذي لا يهم وجودنا الشخصي). إن الحقيقة التي تشد أزر حياتنا وتوجهها لا يمكن أن تحتاج إلى إثبات أو برهان مُلْزِم.

    هنالك طرق عدة لإيقاظ شعورنا بالكل، وتنبيه وعينا بما لا يمكن إثباته بصورة ضرورية، وعلى أمثال هذه الطرق تسير الفلسفة. إنها تضع ما ليس بموضوعي في قالب المعرفة الموضوعية، وتُظهر ما يهم الوجود في صورة مرئية للعين، ولا بد أن يكون لتاريخ هذه الفلسفة طابع مختلف عن تاريخ العلوم.

    والواقع أن تاريخ العلوم نفسه لا يخلو من أهمية بالنسبة لموضوع العلم ذاته، وذلك بقدر ما ينطوي على شيء من تاريخ الفلسفة؛ فالفلسفة في نهاية الأمر هي المحرك للبحث العلمي، ولا بد أن يكون «الدقيق» أو «الصحيح» من الأهمية بحيث يستحق البحث عنه، وقد تنبع هذه الأهمية من أهداف محددة، ودوافع تقنية، وقد تستجيب لحاجات عملية، ولكن هناك وراء ذلك أهمية لا يتيسر إثباتها بطريقة ملزمة ومؤكدة، وإنما تأتي من علاقة بالكل وبالوجود، وتكوِّن العنصر الفلسفي الذي لا يستغني عنه أي علم حقيقي. ولهذا تظهر أهمية تاريخ العلم أمام الباحث أيًّا كان مجال بحثه، لا بوصفه نوعًا من تراكم الكشوف، بل من حيث هو إبراز ﻟ «المهم» وتوضيح ﻟ «المبادئ» الكامنة في صميم الكل. هذا الاهتمام التاريخي الذي نجده في جميع العلوم الجزئية يعبر عن اللحظة الفلسفية الحاضرة في كل معرفة أصيلة.

  • (٢)

    ولكن كيف يكون تاريخ الفلسفة على الدوام أمرًا جوهريًّا لا غنى عنه للفلسفة؟ هذا هو السؤال. فإذا لم تكن الحقيقة الفلسفية معرفة دقيقة مُلزِمة للفهم، بل كانت استيعابًا باطنيًّا للوجود، فلا بد أن يتغير وجهها، ويتحول شكلها، من عمل فلسفي إلى آخر. ومن ثم يمكننا أن نقول: كل شيء حق على نحو معين، بالنسبة إلى هذا الإنسان وإلى هذا العصر. ويمكننا — على العكس من ذلك — أن نقول: لا شيء حق؛ إذ لا يمكن لشيء مما مضى أن ينقل بالطريقة نفسها، كما أن الحقيقة الفلسفية تتغير مع تطور الإنسان وتبدل مواقفه وأحواله. بهذا لن نجد شيئًا نهائيًّا مؤكدًا، ولن نعثر على الحقيقة في أي مكان، وسنكتشف أن الإنسان لم يحقق المثل الأعلى ولم يبلغ المعرفة المطلقة في أي مكان؛ أو ربما اكتشفنا أن هذه المعرفة المطلقة موجودة بمعنًى آخر على الدوام، وأنها حاضرة في الشكل الذي تفرضه عليها لحظتها التاريخية. وستكون مهمة تاريخ الفلسفة في هذه الحالة هي تفهُّم كل شيء، وعدم استبعاد شيء، وتقبل الأعمال على ما هي عليه وتسليط الضوء عليها.

    مثل هذا الموقف من التاريخ لا بد أن يصدم إحساسنا بمعنى الحقيقة، ولا بد أن نسخط عليه ونرفضه حتى لا يتحول تاريخ الفلسفة في مجموعه إلى خليط مضطرب، وصور من الصراع اليائس العقيم، ومبارزة زائفة بغير طائل بين الآراء الذاتية وأشكال الحياة المختلفة، ولن يكون تاريخ الفلسفة في هذه الحالة سوى تاريخ الأوهام والأخطاء البشرية، ولن يحظى في النهاية إلا باهتمام نفسي أو مرَضي.

    هذا الموقف نفسه؛ أعني هذه النزعة التاريخية التي تجعل كل شيء نسبيًّا؛ ستدمِّر معنى الحياة، ولن يكون في وسعنا أن نقيم علاقة بين الحقيقة الخالدة والتاريخ بغير إفساد الحقيقة، ما دام التاريخ يعلِّمنا أن نشك في كل شيء، وألا نؤمن بشيء. ولهذا يتعين علينا أن نؤكد دائمًا بكل وضوح أن ما هو حق لا تقتصر حقيقته على عصر أو زمن معين، ولا تنحصر قيمته داخل حدود تاريخية ضيقة، وما لا يصدق على كل العصور والأزمان بصورة مطلقة شاملة فليس من الحق في شيء.

  • (٣)
    وتسعى الفلسفة التي وَعت طابعها الخاص للوصول إلى تصور عن تاريخها يجمع أطراف التصورات المضادة والسابقة يصهرها في بوتقته. إنها لتسعى إلى الفلسفة الخالدة التي لا يستحوذ عليها أحد، ومع ذلك فهي حاضرة على الدوام، لا تحدد بأي أسلوب فكري ولا تنغلق فيه، وتظل واحدة متغلغلة في أعماق كل شيء، وهي تتجلى في أشكال متعددة كان كل شكل منها بالنسبة إلى صاحبه شيئًا كليًّا وحقيقيًّا، ولم يزل كذلك بالنسبة إلينا، دون أن نضطر للالتزام به أو لتقييد وجودنا الخاص به. هذه الفلسفة الخالدة تتطلع إلى الشامل الذي يتطلع إليه الجميع، ويمكن أن نقدم الآن بعض سماتها المميزة:
    • (أ)

      إن الفلسفة تتضمن عنصرًا أو مستوًى يتم فيه التوصل إلى الدقة، وتحصيل المعارف، وتحقيق التقدم على غرار العلوم الجزئية. ويتمثل هذا بوجه خاص في مجال المنطق في شمول المقولات ووضوحها، كما يتمثل في العلوم، بقدر ما تحدد موقف البحث الفلسفي وشروطه الضرورية. في هذا المستوى الفلسفي نجد أخطاء أُسقطت، وفروضًا تم تجاوزها، كما نجد فكرة حقيقية عامة الصدق، بيد أن من الصعب دائمًا تحديد معالم هذا المستوى؛ لأن الخطأ نفسه يمكن أن يتخذ شكل رؤية فلسفية فريدة لا يمكن أن تُستبدَل بها رؤية أخرى، ولا يمكن إصدار حكم نهائي على قضية سقطت وفسد محتواها ولم تزل مع ذلك تحتفظ بحيوية لغة تاريخية لم تسقط ولم تفسد. صحيح أن البحث الفلسفي يوسِّع مجاله، ويتطهر من شوائبه، ولكن بغير أن يتحول إلى شكل منهجي منسق للفلسفة الحقة التي يمكن أن يوافق عليها جميع الناس، وعملية التوسع والتطهير المذكورة تعدُّ أحد العوامل الداخلة في تكوين الفلسفة الخالدة، ولكنها ليست نسقًا أو نظامًا يكفل المعرفة الدقيقة.

    • (ب)

      يمكن أن تعبِّر الفلسفة عن نفسها في صورة نظام خاص مكتمل، يحمل الطابع الشخصي لصاحبه، ويدل على الأسلوب الأصيل للتحقق الفلسفي، وكل نظام من هذه الأنظمة يمثل مجموعًا حيًّا متماسكًا لا يمكن تخطيه؛ إذ يبقى قيمة متفردة هي نسيج وحدها؛ لأنها تكمن في صميم الكل، وتعبِّر عن الفلسفة الخالدة. ويمكننا من الناحية الصورية أن نقارن بين هذا الجانب من تاريخ الفلسفة — بوصفة صيغة زمنية وشكلًا متغيرًا من أشكال الفلسفة الخالدة — وتاريخ الفن، فالفلسفة والفن يشتركان في كونهما حقائق كلية باقية في كل زمان، تصدق قيمتها بهذه الصفة الكلية أو لا تصدق على الإطلاق.

      إن كل إنسان — إذا كان فيلسوفًا — يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة متهافتة أو جزئية أو غامضة. وكلما تفتَّح هذا الكل واكتمل واتضح، رأينا أمامنا عملًا من أعمال الفلاسفة الأعلام. ولكن ما من إنسان يمكنه أن يكون فيلسوفًا على نحو ما يمكنه مثلًا أن يكون عالمًا في الرياضيات؛ أي مبدع عمل أو إنجاز خاص يقف تجاهه وينظر إليه من الخارج، وينفصل عنه انفصالًا جذريًّا من حيث هو إنسان. إن الفلسفة هي البذرة الأولى والزهرة الأخيرة للتفكير العقلي الذي يتحرك في ميدان المعرفة بما هو جزئي ونهائي محدود، وهي تتحقق عندما تخرج عن نفسها بشكل من الأشكال، وتعبر عن نفسها في العلوم الخاصة وفي الحياة وكل مجالاتها العينية واليومية. ولكنها كذلك هي «الشامل» الذي يتبين نفسه بوضوح من خلال تأثيره وفاعليته؛ ولا يتم هذا بكل ما فيه من جلال وصدق وعمق إلا في صورة شخصية. ولهذا كان تاريخ الفلسفة قبل كل شيء هو تاريخ الفلاسفة العظام.

    • (جـ)

      إن الفلاسفة العظام يتحاورون حوارًا عقليًّا مستمرًّا عبر آلاف السنين، ويحيون في مجال مشترك لا يقتصر على كونه مجال التفكير العقلي الذي يتطور فيه الإنسان ويتقدم، ولا يقف عند حد المجال الذي يتجسد فيه نموذج إنسان فريد. إنه مجال الفلسفة الخالدة الذي يخلق التعاون المشترك، ويوحد بين الأطراف المتباعدة، ويجمع بين الصينيين والغربيين، بين مفكرين مضى عليهم ألفان وخمسمائة سنة ومفكرين يعيشون في أيامنا الراهنة، ونور هذه الفلسفة الخالدة يجعلنا نشعر في معظم الأحيان بأننا أقرب إلى بدايات الفلسفة الغربية عند المفكرين قبل سقراط منا إلى الألعاب العقلية والدروب الجانبية المصطنعة التي تتكرر في كل العصور. إنها لنغمة أساسية عميقة تربط كل شيء بكل شيء، ولكن كيف؟ ليس من السهل إدراك السر في هذا، إن التفكير الفلسفي نفسه يظل تفكيرًا واحدًا على اختلاف الشخصيات التي يتم التواصل بينها، وهو ذلك الشيء الذي لا يمكن أن يتحدد بشيء آخر، وإنما نعرف من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وما تفرَّع عنه، في حين يبقى هو نفسه مستعصيًا على الإحاطة به من أي مكان، إنه يتولد بطاقته الخاصة، ويندفع بلا توقف خلال جميع الشخصيات لكي يصل إلى المنبع الذي صدر عنه.

(٢) إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة (اختيار الأساسي والجوهري)

لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إليَّ التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة، وعلى اختياره وتنظيمه. إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية. ولن ينفتح عليَّ تاريخ الفلسفة حتى أنفتح في الوقت نفسه عليه. ولهذا يتحتم عليَّ أن أغوص بكل كياني في هذا العالم، وأن أرى وأشعر وأجرب ما يتحرك في نفسي ويتضح ويصبح شيئًا جوهريًّا. ولا بد أن يسبق فعل الحضور كل عملية منهجية، وسنحاول الآن أن نَصِف هذا عن قرب:

(٢-١) الإحساس بواقع «الشامل»

يمكننا أن نصف التاريخ بأنه تجربة الواقع، ويمضي الإنسان عبر الزمان وهو يزاول فعله ونشاطه في العالم، ويراقب الكائنات والدلالات، ويستعين بالأفكار والمفاهيم، يمضي متجهًا نحو الوجود الذي يتكشَّف له من خلال الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والشخصيات التي يلتقي بها، والأفكار التي يستوعبها، دون أن يتجلى له هذا الوجود أبدًا على نحو نهائي في صورة الواقع الواحد الكلي. وفي أثناء عملية التكشُّف هذه — التي لا تكتمل أبدًا — يصبح الوعي هو الشرط الضروري لنمو الإنسان وتقدمه وإصراره على تجربة الواقع. وغني عن الذكر أن هذه التجربة نفسها تتحول وتتطور مع تطور المعرفة.

وتفهُّم طبيعة هذه التجربة التي يفترض أن تظهر — بكل ما يميزها من وضوح وصفاء — في تاريخ الفلسفة أمر يتوقف على الشخص الذي يقوم بعملية الفهم، وعلى مدى إحساسه بمعنى الواقع الذي لا يتضح له إلا عن طريق هذا الفهم نفسه. وقد يحدث في يسر أن تضيق حدود هذا الإحساس بمعنى الواقع ضيقًا شديدًا، فينحصر فهمه للعلم الوضعي في الوقائع التجريبية، ويقف إدراكه للاهوت عند وحي إلهي بعينه، وتقتصر حماسته الرومنطيقية على بعض الرؤى الأسطورية، وتتحدد اهتماماته في مجال الحياة السياسية بما يتعلق بالدولة والسلطة، وفي كل بُعْدٍ من هذه الأبعاد، كما في غيرها، يتم إدراك جانب من الواقع، ولكن المهم هو الإحساس بالواقع كله في أعماق الشامل، لكي نتعرف المضمون الحقيقي لتاريخ الفلسفة، ولهذا يتعين علينا أن نلاحظ أمرين: أما الأول فهو تجربة المفكر القديم بالواقع الحي وأسلوبه في التعبير عنها، وأما الثاني فهو واقع ما حققه وقيمته بالنسبة إلينا اليوم.

وإذا صح أن تفهُّم تجربة الواقع التي انتقلت إلينا عبر تاريخ الفلسفة لا ينفصل عن الشخص الذي يريد فهمها ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع، فإن من واجب هذا الأخير أن يعي الواقع بكل أبعاده واتجاهاته ولا يهمل شيئًا منها؛ فالعلم في نظره هو مجموع المعارف الدقيقة والمناهج الصحيحة، والتصور الواضح للمعرفة التي حصَّلها الإنسان وطبَّقها بنجاح هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل فهم لاحق. غير أن من الخطأ أن نتصور أن تطور العلم هو المحور الذي يدور عليه تاريخ الفلسفة، أو أنه هو لبُّ المشكلة، فلقد تبين منذ عهد بعيد أن العلم بما هو كذلك ليس له هدف في ذاته، وأنه يخيب الآمال، ولا يضع قيمًا، ولا يقدم أساسًا تقوم عليه الحياة؛ بل إن الحياة لتفقد معناها إذا تصور صاحبها أن العلم بما هو علم خالص هو الغاية الأخيرة.

ليس هناك مطلق، فضروب الواقع تنشأ وتنمو، والإنسان لا يقتصر على معرفتها بوصفها وقائع، بل ينظر إليها بوصفها كائنات. وما يوضحه العالِم لكل الناس ويُلزمهم به — وإن يكن علامة على الطريق الذي لا غنى عنه — لا يبلغ أعماق الواقع، ولا يتمثل الواقع أيضًا فيما يبقى ويدوم، في حين يُعَدُّ العابر والمتلاشي غير واقعي. لا، ليس الأمر كذلك، فكل شيء واقعي؛ لأن كل شيء يسمح بالتغلغل إلى الأساس، حيث لا يتحدث الواقع بلغة الوقائع الجزئية بل بلغة الأسرار الكبرى. ومَن فهم اللغة التي تنطق بلسانها «أثينا» و«كاساندرا» و«برونهيلد» فقد فهم قدْرًا أكبر من الواقع، بل واقعًا آخر مختلفًا عما يلقنه العلم إياه. وإن كل الوقائع الجزئية لتشحب وتتسطح إذا قورنت بذلك الواقع الحقيقي.

إن المعرفة بمفهومها الفلسفي (والمعرفة العملية لا تمثل إلا جانبًا واحدًا منها) ينبغي أن تؤخذ بمعنًى أوسع. وما يُعد وهمًا بالنسبة لمن عميت عيناه عن الواقع — ولم يحكم عليه إلا المقاييس التجريبية — هو نفسه شكل من أشكال المعرفة بالوجود.

لهذا فإن فهم تاريخ الفلسفة يقتضي التجرد من الأحكام المسبقة، والإدراك الواضح لكل أساليب الوعي بالواقع، وكل أساليب تجلي هذا الواقع ذاته. والواقع متضمن في جميع أحوال الشامل وأنحائه، التي ينبثق عنها في أشكال محددة ونسبية، وهو موجود في وحدة الشامل؛ في الكينونة أو الوجود الواحد الذي يمكنه؛ بوصفه المتعالي، أن يتكلم خلال كل شيء. إن تاريخ الفلسفة هو التحقيق التاريخي للأبدي على النحو الذي تم به تصوره، وهو يفترض أن الإنسان، في علاقته المباشرة بالله، قادر في كل لحظة على أن يلمس الأبدية من خلال الوجود الحاضر في شموله وإحاطته.

ومن انفتاح الفهم على الواقع في كليته وفي أعماقه ينشأ الحس النقدي الذي يكتشف الانحرافات الممكنة في تفسير الواقع. إن لدينا في علوم الطبيعة معايير محددة تمكننا من التثبت من الوقائع التجريبية أو الكشف عن المزاعم الباطلة التي تقرر وجودها بغير أساس. ولكن عندما نكون بصدد واقع نؤمن به، واقع لا يلغي إيماننا به أنه يناقض الوقائع ويخيِّب التوقعات المنتظرة، فليس التعبير عن هذا الإيمان إلا شكلًا من أشكال الإدراك لواقع يستعصي على الإثبات والتحقيق التجريبي.

لكل حالة من حالات الواقع دلالتها النوعية، ولكل أسلوب من أساليب خدمته معنًى مختلف باختلاف خدمة الوقائع أو الهدف أو الأسطورة أو الله. ولكن الانحراف يبدأ عندما يزعم عنصر معين من عناصر الواقع أنه هو الواجب نفسه في كليته ومعناه المطلق، ومن الخطأ أن ننكر الواقعية على شيء لا تنطبق عليه المعايير التجريبية المعمول بها في مجال التقنية والتأثير العملي. ومن الخطأ كذلك أن ننظر إلى موضوع يمكن معرفته بطريقة سببية، واستخدامه استخدامًا تقنيًّا، على أنه هو الواقع ذاته، كما أن من الخطأ أن نأخذ الصور الأسطورية على أنها الواقع، ونتوهَّم وجود الواقع في ذاته في الرؤى السامية، فلن تكون هذه كلها غير جوانب جزئية، وحقائق مشتقة من الواقع، ولن يُفهم معناها وتأثيرها وشكلها المحدد إلا من خلال ذلك الواقع.

ونحن لا نملك — لهذه الأسباب كلها — أن نطبِّق معايير واحدة ثابتة على تفسيرنا لتاريخ الفلسفة. فلا يمكن أن نوفق في هذا التفسير إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر في أنفسنا — الذي نشعر أنه دائب الحركة فينا — نحو الشامل الحاضر في التاريخ. عندئذٍ ينكشف لنا الوجود في أعماقه، في أثناء فهمنا للتاريخ، وتتبين لنا الصور التي تجلى فيها حتى الآن، وعندئذٍ يتضح أمامنا تسلسل مراتب الواقع، وتتبين لنا الانحرافات التي تمخضت عنه لتتخذ صورًا مختلفة مما هو سطحي ومحدود بحدود عقلية ضيقة، أو مما هو موضوعي، ومتناهٍ، ومادي، وشيئي، وذري، أو تافه يؤخذ مأخذ الواقع.

(٢-٢) الوجود الممكن يستجيب للوجود الماضي

لا وجود لفلسفة حقيقية واحدة على هيئة رصيد منهجي منسق من المعارف التي تفرض نفسها على كل إنسان وتلزمه بالتسليم بها، وكأنها موضوع لا يتطلَّب منه إلا أن يبذل جهدًا عقليًّا لتعلمه، كما يفعل مع سائر المعارف الموضوعية في العلوم الطبيعية والرياضية. ومن تصوَّر أن الحقيقة الفلسفية موجودة أمامه ولا تحتاج منه إلا أن يتعلمها فلن يبلغ من الفلسفة شيئًا؛ فالواقع أن الإنسان يشرع في دراسة الفلسفة بوصفه وجودًا ممكنًا يتواصل مع وجود آخر، وهو يحقق هذا التواصل من خلال تاريخ الفلسفة مع أولئك الذين بلغوا أقصى درجات المطلق والوضوح. إنه يدخل في حوار مع أكبر عقول الماضي وأكرمها، ويستطيع أن يطرح عليها أسئلته، وإذا لم يفعل هذا فلن يكون لدراسة الفلسفة أي معنًى.

ويكون الإنسان حرًّا بقدر ما يكون موجودًا ممكنًا أو مدعوًّا للوجود؛ فهو هذا الكائن الذي لا يُفهم، والذي يحيا حياته وهو على وعي بضرورة اتخاذ قرارات ذات قيمة أبدية، ولهذا فإنه لا يحيا حياته وحسب، وإنما يعرف الجد الذي تصبح الحياة نفسها بالقياس إليه شيئًا غير ذي بال. وعندما يردد الناس: «يا إلهي! هكذا خُلقت! هذه هي طبيعتي!» فإن هذه العبارة لا تبدو له خاطئة لمجرد أن مضمونها غير قابل للمعرفة؛ بل لأنه يشعر بأنها تخدعه تحت ستار معرفة مزعومة، وتنصب له فخًّا يغريه بالتخلي عن مسئوليته والاستسلام السلبي ﻟ «هكذا خلقت وهذه هي طبيعتي»، والتردي في تفاهته أو انفعالاته.

وليس الوجود في الزمان مجرد حلقات متتابعة من التجارب والخبرات، ولا هو مجرد تذكُّر لما لم يُنسَ بعد، فالواقع — على العكس من ذلك — أن السابق يحدد اللاحق، وأن المستقبل يرتبط ارتباطًا واعيًا بما تمَّ إنجازه واستيعابه وتقريره في الماضي. وبالمثل يمكن القول إن اللاحق يحدد السابق، وذلك بقدر ما كان الماضي ملتزمًا بمستقبل لا يسمح لذلك الماضي بأن يحيا حياته كيفما اتفق، وما من وجود يخلو من الوعي بماضٍ — كنته أنا نفسي — يدفعني في الحاضر لاتخاذ قرارات قد حددها المستقبل من قبل.

إنني أتواصل مع نفسي ما دمت موجودًا؛ فلست أحيا ببساطة وكأنني موجود فحسب، وإنما أنا وجود له علاقة بذاته ومن ثم بالمتعالي، غير أنني لا أوجد نفسي في علاقة بالوجود في ذاته، هذا الذي يُعد «آخر» لا سبيل إلى النفاذ إليه، والذي يواجهني وتتأسس عليه حياتي، وإنما أوجد كذلك في علاقة بوجود الذين يمكنني أن أتواصل معهم.

ولما كان التفلسف وجوديًّا، فإنه يتحقق عن طريق استيعاب تفكير أولئك الذين وجدوا في الماضي والتحاور معه. وإذا كان الوجود (الذاتي الحميم) يتسم دائمًا بالأصالة، فإنه لا يبدأ أبدًا بداية مطلقة؛ لأن هناك سياقات متتابعة على الطريق الذي أدَّى به إلى موقفه الراهن. ويتوقف عمق التفكير الفلسفي على مدى قدرة الإنسان على استيعاب الروح التاريخية الفعالة التي انبثقت منها شخصيات الماضي.

ولكن العلاقة التي يمكن أن تربطنا بشخصية ظهرت في الزمن الماضي هي علاقة بُعْدٍ واحد. فكل ما هو تاريخي يضع الإنسان الحاضر أمام إمكانات مختلفة. وكل ما عرفته عن ماضٍ — كان واقعًا ذات يوم — لا يعدو أن يكون مجموعة متنوعة من آثار مَن سبقوه على الدرب، وضروبًا من التنظيم والتصنيف المؤقت، وعددًا من الأشكال والاتجاهات والمواقف الأساسية، غير أن الأمر المهم في كل الأحوال هو أن يحرص في أثناء وجوده الزمني على الدخول في علاقة أصيلة ومباشرة بالمتعالي، وأن يكون هو نفسه، ولا بد له من أن يسمع في الحاضر ما قد سمع قديمًا في الماضي، ومع ذلك فإن الماضي لا يقدم ضمانًا كافيًا لمجرد أنه قد وُجد من قبل؛ إذ يتحتم علينا أن نجرِّبه تجربة جديدة إذا أردنا أن يحتفظ بحقيقته وواقعه في أنفسنا.

ولهذا فإن كل محاولة لتكرار الوجود الماضي أو محاكاته لا يمكن أن تخلو من خداع النفس، وهذا هو السر في ألوان الانحراف التي تؤدي بالإنسان إلى التشبث بغيره بدلًا من أن يكون هو نفسه وأن يجرِّب تجربته، كما تفسِّر حرصه على التمسك بالمعارف اليقينية التي انتقلت إليه بدلًا من حرصه على الارتباط المباشر بوجود المتعالي. وطبيعي أن تتخذ هذه الانحرافات شكل المعرفة (الدقيقة)، والاعتقاد المتزمت، والنزوع إلى الأحكام المطلقة، وأن تستمد يقينها من المؤسسات والضمانات الموضوعية.

(٢-٣) الماضي بوصفه شرطًا لا غنى عنه للاستيعاب

لاحظنا التعارض القائم بين حقيقة ضرورية ثابتة تتسم بالموضوعية البحتة من ناحية، وحقيقة الوجود في الزمان من ناحية أخرى، هذه الحقيقة التي تتضح بالتواصل، وتعي ماضيًا ينتمي إليها، وحاضرًا تتخذ فيه القرارات الحاسمة، ومستقبلًا تحدده وتجرِّبه قدَرًا لها؛ لأنها حقيقة لا تُعْطَى أو توجد كغيرها من المعطيات والموجودات، وإنما تتحقق من خلال الحرية، وتقوم على أساس معتم.

هناك معارف دقيقة تتخطى الزمان. هذا أمر لا ينكره أحد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المعارف هي كل شيء؟ وهل تنحصر الحقيقة في إدراك العلاقات الدقيقة؟ أم أن بجانب المعرفة الموضوعية المضبوطة ومن فوقها معرفة أخرى ممكنة تضيء كل أحوال الشامل وجهاته، معرفة لا تتوقف ولا تنغلق على نفسها، بل تتيح للحرية أن تشف وتتكشَّف لذاتها؟ من هنا تصبح كل معرفة بالموضوعات مجرد وسيلة، وهي لن تبلغ الكمال في ذاتها أبدًا، على حين أن وضوح الشامل — الذي يُعَدُّ وعيًا بالحاضر الأبدي — لن يتحقق إلا في صورة زمنية، ولن يكون إلا وعيًا تاريخيًّا. وإذن فلن تغدو الدقة التي تتخطى الزمان حقيقة نهائية في ذاتها، بل سيصبح الماضي، بكل ما يملؤه، أساسًا يرتكز عليه وجودي. صحيح أننا نجرِّب الزمانية بوصفها ظاهرة، أو نجربها على مستوى الظواهر، ولكن هذه الزمانية وحدها هي التي تسمح لنا ببلوغ ما هو حق وجوهري. وليس من سبيل إلى تجاوزها إلا بالعلو والاتجاه نحو المتعالي، نحو اليقين بحضور أبدي لا أحصل عليه إلا إذا بلغ إحساسي بالزمان أقصى درجاته، كما أفقده فقدًا تامًّا حين أواجه لا زمانية المعارف الدقيقة التي تزعم لنفسها الأبدية. ذلك أن هذه المعارف الدقيقة تنطوي في الواقع على تجاوز زائف للزمان عن طريق نفيها له، في حين يتحتم على التجاوز الصحيح — بوصفه ظاهرة — أن يتخذ صورة زمنية. إن الحقيقة هي الماضي، ولكن ليس هو الماضي الميت الذي يتمثل في المعرفة بما مضى، بل هو الماضي الذي لا يمكن أبدًا أن يقال عنه ببساطة إنه قد انقضى، والذي يبقى بفضل حريتي. وهذه الحرية تكون حرة بقدر ما ألتزم — في وجودي نفسه — بالإحساس بالمسئولية والذنب تجاه أفعال قديمة قِدم الماضي الذي التزمت بنفسي خلاله، ولا زلت ألتزم بها إلى اليوم.

إذا كانت الحقيقة ترتبط بالزمان بوصفه الشكل الضروري لظهورها وتجليها، وإذا كانت الحقائق العلمية الدقيقة التي تتخطَّى الزمان لا تعدو — إن صح هذا التعبير — أن تكون هي الهيكل العظمي الذي يتضح الوجود ويتكشَّف من خلاله — وبذلك لا تكون شيئًا مستقرًّا في ذاته بل شيئًا مضادًّا للحرية؛ إذا صح هذا كله فلن يكون التاريخ شيئًا نعرفه من الخارج، بل سيصبح حاضرًا نحيا فيه. إنني لم أصبح ما أنا عليه من فراغ؛ فماضيَّ هو التاريخ. وأنا أحصِّل الفلسفة الماضية عندما أتفلسف، ويرقى تفلسفي إلى المستوى الوجودي ويزداد حظه من الامتلاء بقدر ما تتكشف علاقتي بفلاسفة الماضي العظام وتزداد حضورًا، وبقدر ما أتلقى عنهم، وأدخل في عراك معهم، وأجد نفسي من خلالهم. وإذا كنت فردًا له مصيره الفردي، فإنني لا أكون إنسانًا بحق حتى أشارك في مصير العقل البشري، أي في تاريخه، وأجلَّ الذين صنعوه، وأحبهم، أو أنقدهم وأدخل في صراع معهم.

من المحال أن نلغي شيئًا تم وقوعه حقًّا، أو نجعل الماضي كأن لم يكن، وكما أن استيعاب الماضي — خلال الزمان — وإضاءته وتوضيحه هي التي تتيح لي تعميق وجودي الشخصي وتغييره أو إضاعته وفقده، فإن التاريخ الذي يحيا في الحاضر ليس على الإطلاق مجرد رصيد من الآراء الجامدة والمعارف الثابتة التي لا يمكن تغييرها، ولا هو مجموعة من الأفعال التي حُسِمَت وانتهى الأمر، ولكنه يُظهرنا — عن طريق الحرية — على أعماق جديدة وإمكانات لن تخطر على البال. والتاريخ يتحول من الناحية الباطنة تحولًا لا يتوقف، في حين يظل ثابتًا لا يقبل التغيير في واقعه الخارجي. ونحن كلما استوعبناه استيعابًا باطنيًّا استعاد حضوره، وبُعثت أطيافه حية بدم الأحياء الذين يقتربون منها بكل ما في وجودهم من جدية. عندئذٍ تستأنف الأطياف حياتها وتتفتح وتزدهر.

بهذا المعنى يتصل المتفلسف بفلاسفة الماضي ويصبح شاهدًا على تواصل تم تحقيقه. وكلما تغلغل بعمق في هذه المملكة التي تهيم فيها العقول والأرواح وتحفُّها الأسرار، تبيَّن له بوضوح كيف يتصارع بعضهم مع بعضهم، وكيف يتشابكون في تفاعل تسوده المحبة، وكيف يردُّون الحياة لبعض الموتى ويعيدونهم إلى الحاضر في صورة جديدة، أو يهملون بعضهم الآخر ويسلمونهم للضياع والنسيان. أليس عجيبًا أن يكون أوفر الناس حظًّا من الحياة هو أقدرهم على السكن مع الموتى، وأن يكون ناسيهم فقيرًا في الحياة؟ إن علامة الوجود الطبيعي الخالص أن صاحبه يحيا حياته يومًا بيوم. أما علامة الوجود الحق فهي عدم الاستسلام للدورة الموضوعية للزمان اللانهائي، وإحالتها إلى شكل زمني — أي إلى حاضر فماضٍ فمستقبل — دون أن يفقد القدرة على رؤية ذاته أو رؤية الحقيقة. عندئذٍ يصبح الزمن كيانًا باطنًا، ويغوص الوجود الحميم في الماضي كأنه يغوص في الأبدية، كما يلقي التفكير التأملي وإرادة التحقيق والإنجاز العملي بنفسهما أمام المستقبل. حينئذٍ يبدو كأن الأدوار تُعكس أو تتبادل؛ إذ لا يكتسب المستقبل عمقه إلا من الماضي، كما أن الماضي يصبح مجرد امتداد ميت بدون الحرية والحاضر والمستقبل. وها هو ذا الشاعر كونراد فرديناند ماير (١٨٢٥–١٨٩٨م) يعبِّر عن هذا في أنشودته «جوقة الموتى» التي تبدأ بهذه السطور:
آه آه! نحن الموتى! نحن الموتى! نحن جحافل جرَّارة
أكثر عددًا من أكثركم في اليابسة وفوق بحور هدَّارة.
ثم يستطرد فيقول:
وكل ما بنينا أو بدأنا في ظروف صعبة
لا زال يجري في الينابيع مياهًا عذبة،
وكل حبنا، وكرهنا، صراعنا على الطريق
لا يزال ينبض كالحياة في الدماء والعروق،
وكل قانون كشفنا أمس كنهه وصدقه
يغير الأرض ويهدي للحياة الحقة.
إلى أن يختتمها بهذه السطور:
لا زلنا حتى الآن نفتش عن معنى قَدَر الإنسان،
فاحنوا الهامات خشوعًا، ضحُّوا، هاتوا القربان!
إذ لا زلنا أكثر منكم حتى الآن!

إن الموتى يلوذون بالصمت، ونحن لا نسمعهم إلا من خلال كتاباتهم، نتكلم عنهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونا إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم، وسنجد في هذه المؤلفات عبارات تُبعث حية بعد رقاد طال أمده آلاف السنين؛ لأنها يمكن أن تقدم الإجابة عن أسئلة نطرحها اليوم، بل إننا لنستطيع أن نتوصل من قراءة النصوص المشهورة إلى كشوف قادرة على تغيير آراء كنا نحسبها ثابتة.

والتعامل مع الموتى لا يقوم إلا على الخشوع والاحترام، كأنما نقول لأنفسنا: أليس من الممكن أن ينهضوا فجأة من رقادهم ونراهم أمامنا؟! وكيف نتحمَّل المسئولية تجاههم، بماذا نرد عليهم إذا سألونا عما قلناه عنهم؟ إن دعاة الواقعية التافهة هم وحدهم الذين يتصورون أن الموتى قد ماتوا، وهم الذين لا يطلبون عندهم شيئًا. وربما تطلَّعنا — في ساعات الحسرة والاكتئاب — إلى أجيال أخرى تنصفنا بعد موتنا ممن يشوهون أعمالنا ويسيئون إليها. ويدفعنا الشعور بالمخاطر التي تهدد ذاكرة التاريخ إلى القيام بواجبنا وتقديم كل ما في وسعنا للمحافظة على معاني الجلال والحقيقة التي يزخر بها وإلقاء الضوء عليها. وإزاء المحاولات المستمرة التي تُبْذَل دون طائل منذ عهد الفراعنة لمحو آثار الماضي ونسيانه وإفساده، يمكننا أن نتصور مدى الرعب الذي أحس به نيتشه عندما تخيَّل أن من الممكن أن يظهر في المستقبل وحش رهيب يُسخِّر التاريخ بأسره لخدمته، ويعمل على تشويهه، وتزييفه، وتدميره. وإذا كانت العاطفة الصادقة التي تدفع الإنسان للمحافظة على نقاء ذاكرته التاريخية مرتبطة بوجوده الزمني، فإن هذه العاطفة نفسها تصدق على الوجود الأصيل الحميم الذي يحيا في الزمان ويعلم في الوقت نفسه أن التاريخ في مساره الموضوعي ليس هو الحساب أو القضاء الأخير. إن المتعالي وحده هو المرجع الأخير، ولا يمكن لإنسان أو شعب، بل لا يمكن للجنس البشري بأسره، أن يستأثر به لنفسه. وقد كان الاعتقاد بأن التاريخ العالمي يمثِّل القضاء الأخير هو الخطأ الذي وقع فيه فكر انغلق على نفسه داخل حدود المباطنة (أو المحايثة). ومع ذلك يصدق على الوجود الحميم في الزمان أن الماضي هو الأساس الذي يستند عليه، وأن تذكُّر التاريخ واستيعابه هما لُبه وجوهره. ولهذا فسوف نحافظ على عاطفتنا نحو التاريخ ما بقينا أحياء، وسنشعر نحوه بعاطفة أكبر إذا عرفنا كيف نتمثل تجارب أولئك الذين حققوا العلو فوق الزمان وتمكَّنا من استيعاب أفكارهم. هناك، في هذا العلو، لا يكون الموتى أمواتًا، بل أحياء حاضرين، وكل ما نفعله الآن معهم، كل ما يدور بينهم وبيننا، يتصل اتصالًا مشحونًا بالأسرار بذلك الحاضر الأبدي الذي اختفى فيه كل صراع ونزاع؛ لأن الحكم الأخير قد صدر فيه بكل حسمٍ ووضوح.

هنا والآن يتم التحصيل التاريخي واستيعاب معطيات التاريخ. وعلى حياتنا الخاصة — وعليها وحدها — يعتمد الفلاسفة العظام لكي نردَّهم إلى الحياة.

ولكننا بهذا لا نكاد نلمس إلا لُبَّ المشكلة التي تستحوذ على اهتمامنا، ولا نعبر عما يحدث حقًّا في أثناء البحث التاريخي بمعناه الحقيقي. فلا بد هنا من العمل المضني، ولا بد من تحصيل المعارف الضرورية والمعلومات الممكنة حتى نقترب، في اللحظات المشرقة، من العقول الكبرى، ونبلغ الحاضر الأبدي للتاريخ.

يمكننا إذن أن نصور الصعود التدريجي نحو ما هو جوهري وأساسي في الخطوات التالية:
  • (١)

    نذكر في البداية العلم الخارجي: المعرفة التجريبية بالوقائع، والقضايا والأبنية أو السياقات، والتأثرات والتأثيرات، وهذا هو ميدان تاريخ الفلسفة بوصفه علمًا متخصصًا.

  • (٢)

    ويأتي بعد ذلك تمييز الأشكال، والصور، والمجاميع الكلية ذات الطابع الشخصي أو النسقي. هنا تبقى المعطيات الواقعية موضوعية خالصة، تُرى عن بُعد، بنظرة النسر المحيطة الشاملة، كأنها مشاهد متتالية، وتكون رؤية الأعمال الكبرى المؤثرة رؤية باردة غير ملتزمة، وموضوعية ذات مسحة جمالية.

  • (٣)

    وأخيرًا يأتي دور الاستيعاب، فيبدأ التحاور والجدال مع شخصيات تُعد مُثُلًا ونماذج أو خصومًا وأعداء، وفي أثناء هذا الاستيعاب يتنبَّه الإنسان لنفسه ويفهم نفسه. ويتحول الموضوعي البحت إلى دالة على الوجود الحميم، ويصبح الغريب خصوصيًّا، ويصير الماضي حاضرًا، والوقتي العابر أبدية، وتتبدل الملاحظة السلبية فتصبح إعدادًا للوجود الحميم الفعال. ومن خلال هذا الاستيعاب عن طريق التواصل الشخصي يصير الإنسان نفسَه.

    والخطوة الثالثة والأخيرة مسألة تخص كل فرد على حدة. أما العرض الموضوعي فيستلزم الخطوتين السابقتين، وإذا كانت تلك الخطوة الثالثة التي تحرِّك الدفعة وتدل على الهدف تتراجع خلف الخطوتين الأخريين، فإنها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها إلا من خلالهما ولهذا فإن ما ندركه منها بشكل غير إرادي يبقى أمرًا مباشرًا.

(٢-٤) النقطة المرجعية ليست وجهة نظر معينة، بل هي الانفتاح على الوجود الواقعي (أي على الحقيقة بوصفها الشامل الأبدي)

إن إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة لا يتم بتطبيق معيار من الخارج عليه. وهو لا يتم كذلك باللجوء إلى حقيقة جزئية معيَّنة تشغل حيزًا من ذلك التاريخ وتطمح مع ذلك إلى السيطرة عليه كله وإصدار حكم القاضي عليه، وباختصار لن نفهم تاريخ الفلسفة إذا سطَّحناه وأخضعناه لحقيقة معروفة سلفًا، وسنخفق أيضًا في محاولة فهمه إذا لجأنا إلى نظام كلي شامل للوجود، يعدُّ كل تفلسف سابق مجرد إسهام جزئي فيه، أو إلى معيار التقدم في المعرفة أو تتبع التطورات والتحولات التي طرأت على المشكلات وحلولها.

وكذلك لن نفهمه إذا أدرجناه تحت تصنيفات شكلية ومقولات تقويمية، أو أحلنا جميع أفكاره إلى أفكار نسبية تخضع للتعسف والهوى.

وسيكون من العبث أيضًا أن نحوِّل هذا التاريخ إلى ميدان حرب يُقسَّم فيه المفكرون السابقون إلى خصوم تفكيرنا الخاص وأصدقائه.

وأخيرًا لن نفهم تاريخ الفلسفة إذا اعتمدنا على التصورات الاجتماعية البشرية في مجموعها، أو ربطناه بغاية مطلوبة أو منفعة يمكن أن تعود على أهداف نسعى إلى تحقيقها في الوقت الحاضر.

كل هذا الذي ذكرناه يمكن أن يُستغل في عملية استيعاب التاريخ كما يمكن أن يكون أداة في يد البحث العلمي، وأن يسمح بإنشاء سياقات معينة. وبهذا يمكن أن تتضح الواقعة التاريخية بفضل إحدى الحقائق التي تفتح أمامي — حتى ولو رفضتها — آفاقًا جديدة، وتكشف لي عن إمكانات كامنة فيها. وبهذا أيضًا يمثِّل الجدل المستمر بُعدًا ثابتًا من أبعاد الحوار المتنوع بين الفلاسفة.

غير أن هدفنا النهائي هو الوصول إلى تصور لتاريخ الفلسفة في مجموعه؛ تصور يتغلغل إلى الأعماق وتصلح الأسس التي يقوم عليها لأن تكون نقطة مرجعية يرتبط بها الكل؛ أريد أن أرى كيف يرتفع الإنسان — في حياته الزمنية — إلى الوعي الباطن بالوجود، وكيف يتوصل إلى اليقين بالمتعالي انطلاقًا مما يعرف عن الخليقة، وكيف يتخذ هذا اليقين لديه صورة موضوعية في فكرته عن الله، ومعرفته بالعالم، وتصوُّره لوجود الإنسان. وأحب — من خلال تجربتي للإمكانات — أن أفتح مغاليق الوجود الأصيل، كما أتوق كذلك — وأنا أغوص فيما يقدمه كل مفكر من شيء فريد في تاريخيته — أن أتوصل إلى تأمل الجوهر الذي يحمل كل فكرة جوهرية ويحيط بها إحاطة شاملة.

(٣) الخصائص الأساسية لتصور تاريخ الفلسفة تصورًا له معناه

سنحاول الآن أن نضع أيدينا على العناصر الجوهرية العميقة في علاقة الفلسفة بتاريخها، وذلك من خلال تصور كلي يفسر هذا التاريخ في مجموعه، ويتصف بالخصائص التالية:

(٣-١) يجب أن يكون تاريخ الفلسفة عالميًّا

(أ) امتداده في المكان والزمان (تناهي المكان الأرضي وتفرد اللحظة التاريخية)

تتم اليوم حركة فذة غير مألوفة مهَّد لها قرن من الزمان؛ فقد أصبح الناس على وعي بأن الكرة الأرضية التي يعيشون عليها مكان محدود. وبدأت الشعوب يتعرف بعضها بعضًا في مواجهة واقع واحد، وأخذ البشر يشعرون بمستقبلهم ويخططون له، واضعين المكان الأرضي المحدود نُصب أعينهم؛ فلم يعد في إمكان الجغرافي أن يقصر ملاحظاته على مناطق معينة، بل أصبح من واجبه أن يتوسع فيها لتشمل الكوكب كله. ورجل الدولة يجد اليوم لِزامًا عليه أن يضع في حسابه موازين القوة المؤثرة على مصير الكرة الأرضية قبل أن يتخذ قراراته المهمة، والسياسة العالمية لم تعد فكرًا على مستوى القارات فحسب، وإنما تغلغلت في الواقع في وعي الرأي العام؛ والتاريخ بوجه عام قد أصبح تاريخًا عالميًّا لا مجرد تاريخ غربي مغلق على نفسه على زعم أنه هو تاريخ العالم. بهذه المعاني كلها تغير كذلك تاريخ الفلسفة. فالمفكر يهتم اليوم بالضرورة بكل فكر حقيقي يتم على وجه الأرض، وفي حين يكافح رجل الدولة لتدعيم مجال الواقع وتشكيله، نجد رجل الفكر يكافح في سبيل الوصول إلى العمق ورحابة الأفق اللذين تتيحهما له أصالة وضعه الإنساني، يؤيده كل المفكرين الحقيقيين ويشدون أزره حتى يجد نفسه. ولن يشعر الإنسان حقًّا بأن العالم قد أصبح بيته حتى يجتاز كل نقد يتعرض له من أي مكان، ويحس أنه قد وسَّع أفقه وثبَّت خطاه.

إن المكان الأرضي لا يملؤه إلا التاريخ، ونحن لا نبلغ الرؤية العالمية حتى نتغلغل في أعماق الزمن، ولا يكون الإنسان إنسانًا بحق، ولا يفهم نفسه، إلا عن طريق الماضي؛ فمعرفة التاريخ هي التي تفتح أمامنا العالم على اتساعه، وهي التي تسمح لنا بفهم الوجود الإنساني في مجموعه بوصفه وجودنا الخاص، ولهذا فنحن في حاجة إلى تاريخ عالمي للفلسفة البشرية بأسرها.

إننا نأمل، ونحن نتفلسف على هدي التاريخ، أن نكون معاصرين لكل المفكرين الأصلاء، أو نأمل — والأمر سواء — في أن نجعلهم معاصرين لنا. ونحن نطمح لتوسيع أفق حاضرنا بحيث نعايش تلك اللحظة الفذة التي تمَّت فيها صحوة الإنسان على وجوده في العالم، وندرك بأنفسنا أن صحوة الوعي هذه كانت فعلًا فريدًا متسقًا، وأنها قد تمت — من وجهة النظر الكونية الشاملة — في لحظة خاطفة نسميها التاريخ العالمي. ونحن نتمنى أيضًا أن تكون لدينا القدرة الكافية على التحليق فوق قرون من التطور المتصل بحيث تتقلص في لحظات تبدو في مجموعها جهدًا واحدًا نشارك في كفاحه من أجل الوضوح، والواقع، والأبدية.

ونحن نرجو أخيرًا أن نتمكن من الوثوب في الحاضر الأبدي للوجود؛ هذا الحاضر الذي يتجلى في كيان الإنسان على تلك الصورة التاريخية.

ونحن نحاول، بقدر ما في وسعنا، أن ننفذ إلى الأزمنة السحيقة والأماكن الموغلة في البعد، حريصين على التحرر من كل وجهات النظر التي نجدها فيها لكي نحتفظ بالمرونة الكافية للمشاركة في كل واحدة منها. ويظل هدفنا الأخير — ونحن نتغلغل بأرواحنا في الأبعاد الشاسعة — هو تولي مسئولية وضعنا الخاص في التاريخ وتحقيقه بمزيد من الحرية والتصميم والوعي، بحيث لا نتخلى عنه إلا بالموت؛ إذ إن الأبدية وحدها هي التي تجعله أمرًا نسبيًّا وهي التي تحفزنا على إطاعة الحقيقة الواحدة.

(ب) العالمية بوصفها مرآة

إن النظر إلى الواقع البشري في سياق التاريخ العالمي هو الطريق المؤدي إلى الوجود الإنساني في تمام حريته ونقائه؛ فالصورة العالمية وحدها هي المرآة المستوية الصافية التي يمكن أن يرى فيها الإنسان نفسه ويفهم نفسه. وفي هذه المرآة وحدها تتحقق جميع الإمكانات الإنسانية، ويتم إدخال التعديلات الضرورية على الصورة المحدودة المرتبطة بمعرفة الذات. غير أن الحصول على هذه المرآة العالمية — التي لا تتوافر أبدًا بصورة مكتملة — أمرٌ يتوقف على المستقبل ويحتاج إلى المعرفة المحيطة الشاملة، كما أن بحثنا الدائب عنها هو الذي يحفزنا على تفجير كل الحدود وتخطيها. إن الحدود تشدنا إليها بقوة، ولكن الاستثناء الخارق يسطع أمامنا كالمنارة. وما يبدو لأعيننا كأنه أغرب الغرائب يستثير شغفنا ويؤثر علينا عن كثب.

وبعد أن نحبس أنفسنا داخل عالم ثقافي رائع ومتنوع إلى أبعد حد، نجد أنفسنا مندفعين للرجوع إلى الأصل الذي نبع منه، هنالك نعود لاكتشاف الخصائص الأولية للإنسان، وننفتح على دوافعه الأساسية ومواقفه الجدية. ونعتقد عندئذٍ أننا نتعرف شيئًا ظل خافيًا عنا في كل ثقافة رفيعة، ونحاول أن نلتمسه في جذور الحضارات الكبرى؛ عند الإغريق وغير الإغريق، وعند الشعوب البدائية. ويدفعنا تعطشنا إلى أصلنا إلى الإمساك بمرآة تعكس كل الأصول الأخرى. إن الجوهر الذي انبثقت منه الفلسفة الحقيقية قد كان ولا يزال كامنًا في أنفسنا منذ عهود بعيدة ممتدة إلى ما قبل التاريخ، دون أن نشعر به في أي وقت من الأوقات شعورًا واضحًا جليًّا، ولكننا نبدأ في تعرفه في التاريخ العالمي، هذا التاريخ العالمي في مجموعه هو مرآة الوجود الإنساني التي تكشف عما يكمن فينا من إمكانات، وما حققناه في الواقع، وما لا يزال راقدًا في أعماقنا. وتاريخ الفلسفة هو أداة استيعاب الفلسفة بصورة عالمية، وهو في الوقت نفسه مرآة الوجود الإنساني كما هو مرآة الفلسفة التي نحققها في أنفسنا.

(ﺟ) العالمية في تعدد الظواهر

هناك شيء واحد غير محدد — متعلق بالوضع الإنساني، والوجود، والعلو — يخاطبنا من ثنايا التاريخ العالمي ويشدنا إليه، دون أن نتمكن من الإمساك به بصورة مباشرة، ولهذا نسأل أنفسنا: كيف نتوصل إلى هذا الشيء الواحد من خلال ما هو عالمي، ما دمنا لا نطلب هذا الأخير إلا من أجله؟

إن التفكير الفلسفي — بكل ما يتسم به من التشتت واتساع الرقعة — يتجه نحو تفهم الأصيل تفهمًا حقيقيًّا. ولا بد لهذا السبب أن يكون تاريخ الفلسفة جذريًّا؛ فتتبع جذور الأفكار هو الذي يمكِّنه من فهم فروعها، وكلما تقدم هذا البحث اتضح أن الوجود يتجلى في العالم بصور مختلفة وأساليب متباينة، فهناك عدة لغات أولية تعبِّر عن الأصول الفلسفية، لدينا بالمعنى الحرفي اللغات الهندو-أوروبية واللغات الصينية، ولدينا بالمعنى المجازي الأشكال الأساسية للمقولات العقلية ورموز الكتابة بالشفرة.

غير أن هذه الأصول الفلسفية المتجاورة ليست منقطعة الصلة فيما بينها؛ فتعدد الأصول يتيح للناس من كل مكان أن يحتكوا بعضهم ببعض عبر جسور التاريخ، وأن يتبادلوا الأفكار ويفهم بعضهم بعضًا، وتنشأ بينهم أواصر قرابة تربطهم بالأصل — على الرغم من اختلاف ظواهره؛ قرابة تجمع بين كل أولئك الذين مروا في حياتهم وفكرهم بتجربة تجلي الوجود، وعرفوا كيف يعبِّرون عن هذه التجربة وينقلونها إلى غيرهم. والواقع أن كثرة الأصول التاريخية لا تحول دون التواصل بل تجعله أمرًا مطلوبًا؛ فالحقيقة تتوق دائمًا إلى التعبير عنها، وتتجه بندائها إلى الآخرين، وتنتظر الجواب منهم، وتضع نفسها منهم موضع الاختبار. والتنافر الشديد بين اللغات المختلفة التي تعبِّر عن الأصل يدفعهم إلى اللقاء والمواجهة. ويمكن أن يمتد التواصل ليشمل الأرض بأسرها، وذلك بقدر ما يستيقظ الوعي بوحدة البشرية في ضمير كل إنسان، بل يبدو أن كل الحركات العقلية تستمد أهميتها من حتمية كونها مسألة تهمُّ البشرية جمعاء.

إن العالمية هي الاستعداد لهذا التواصل والقدرة عليه، والدولة أو المجتمع الذي يغلق حدوده في وجه إبداعات المجتمعات الأخرى في الفكر والعلم والدين والفلسفة والفن أو يحرمها من إبداعاته هو مجتمع أنكر إنسانيته. عندئذٍ تتصدع الإنسانية، وتفقد القدرة على سماع صوتها وفهم ذاتها. والواقع أن عملية التواصل التي تعبر عن القدرة العالمية على تلقي التأثير الروحي وممارسته عملية ذات مستويات متنوعة ومعاني متعددة.
  • (أ)

    إننا نفهم ماهية الشيء الجزئي فهمًا أعمق إذا عرفنا شيئًا آخر نقارنه به ونضعه في مقابله، بحيث تظهر أوجه التباين بينهما، والمقارنة هي التي توجه الرؤية وتثير التساؤل. وكلما اتسعت آفاق المقارنة اتضحت نقط الالتقاء والافتراق، وظهرت عوامل الاختلاف والاتفاق.

    إنني أقارن ما هو خاص بي بما هو غريب عني، وأحاول عن طريق هذه المقارنة أن أنظر إلى أفكاري بأقصى حد ممكن من التجرد. وبهذه المقارنة تتدرب عيني على اكتشاف أنواع التحيز فيما أسلِّم به كأنه أمرٌ بديهي. وتتضح هذه التحيزات عندما أقابل بينها وبين ما هو غريب عني. فالفكر الصيني على سبيل المثال يمكنه أن يحرِّرنا، على الرغم من أنه هو نفسه ظل أسير أفكار مسبقة عن العالم لم يستطع التخلص منها.

    بيد أن المقارنة بين ما يجيء مني وما يأتي من مصدر أجنبي عني تقتصر دائمًا على ما تم إبداعه والتفكير فيه، وما أريد قوله أو تصوره، ولا تنصبُّ أبدًا على الأصل. تلك هي حدود المقارنة. فهي تتطلب النظر من الخارج، وتقتضي الوقوف من بعيد، فإذا تعلق الأمر بالوجود الأصيل الحميم أصبحت المقارنة من المحال، وإذا حاول المرء القيام بها أضاع وجوده وفَقَد صدقه. إنني هنا لا أنظر من الخارج، وإنما ألتمس الأساس التاريخي الذي تقوم عليه إنسانية واحدة شاملة. وأنا لا أريد أن أتحول إلى كائن محدود ضيق الأفق، وإنما أحاول — بقبول الوضع التاريخي لوجودي — أن أكون إنسانًا ممتد الجذور إلى أعماق هذا الوجود، غنيًّا بمضمونه. وليس يكفيني كذلك أن أميِّز نفسي عمَّا هو غريب عني، وإنما أطمح إلى استيعابه وتمثله، وأتواصل معه لكي أعارضه وأتحد به في آن واحد؛ فلا أنا أقلده، ولا أنا أنكره، بل أسعى إلى صحبته على الطريق المؤدي إلى قلب التواصل.

  • (ب)

    ربما صوَّر لي الظن أني بالغ هذا كله بالفهم، فأنا أفهم ما لا أحتاج أن أكونه أو أصير إليه. وباستطاعتي أن أفهم أفلاطون دون أن أكون أفلاطون. والفهم يمكِّنني من مشاركة غيري في الموضوعات التي يفكر فيها، والدوافع التي يصدِر عنها، والمشاعر التي يحسها، والانفعالات التي يجيش بها وجدانه. والفهم — أو بالأحرى التفهم — أداة صالحة لإدراك حركات النفس، والعقل، والوجود. وإذا فهمت غيري ووجَّهت جهدي نحو الإنسانية بأسرها فقد صرت عالميًّا، وشعرت كأني في كل مكان في بيتي.

    لكن الأمر في الواقع ليس كذلك.

    فالاعتقاد بأنني أصبحت كل شيء لمجرد أنني فهمت كل شيء لا بد أن يلغي ذاتي ويردني إلى نقطة اللاوجود والملاحظة الصرف، ويحيل حياتي إلى شيء عَرَضي لا مطلب له ولا مصلحة فيما يفهمه. كما أن الفهم نفسه يضيق أفقه ويزداد شحوبه كلما قل وجودي أنا نفسي، هنالك يفلت مني الآخر في الوقت الذي اعتقدت فيه أنني فهمته وأصبحت قادرًا على التصرف فيه، وربما صوَّرت لي معرفتي المزعومة — حين أشبهها تشبيهًا خاطئًا بالمعارف التي تقدمها العلوم الطبيعية — أنني أستطيع أن أستخلص منها مناهج فعالة وصالحة للتحكم في الجماهير والسيطرة على شعوب أخرى وأناس آخرين يحيون حياة تاريخية مختلفة عن حياتي.

    إن الحد الذي يميز الفهم يتمثَّل في أنه لا يكون تأملًا موضوعيًّا خالصًا إلا في مرحلة انتقالية عابرة؛ فأنا في النهاية لا أفهم إلا إذا كنت قادرًا على أن أكون أنا نفسي، كما أنني لا أتقدم في الفهم إلا إذا حولته إلى فعل باطن، إلى استيعاب، وحركة وحركة أخرى مضادة، وأزمات يتولَّد عنها وجودي الحميم.

  • (جـ)

    إن الفهم من خلال التواصل يعني في الوقت نفسه أنه صراع، وهو صراع من نوع خاص، لا من أجل القوة، بحيث ينتصر طرف على طرف، بل من أجل الحقيقة التي يكتشف فيها الطرفان نفسيهما.

    والجدال خاصية أساسية من خصائص التواصل الفلسفي، ولكن الجدال المنحرف أو المجادلة هي التي تصر على أن تنتصر، وأن يكون معها الحق، وأن تستبعد الطرف الآخر وتجعله نسيًا منسيًّا … إلخ. وهي تلجأ في سبيل ذلك إلى تطبيق مناهج نفسية وحيل تقنية معينة، وكلما وجدنا الجدال يُساء استخدامه بهذا المعنى في تاريخ الفلسفة كان ذلك دليلًا على أن هذا التاريخ قد جانب الحقيقة، غير أن التواصل مع تفكير آخر مختلف يتخذ شكل الصراع، والتساؤل، والاعتراض، والدحض، كما يدفعه إلى أن يضع نفسه موضع السؤال وينصت بأمانة لما يدور في نفسه.

    وهكذا تستقر سكينة الحقيقة وصفاؤها في هذا الصراع الأخوي الفيَّاض بالحب، ويعمل الجدال على تدعيم أواصر المشاركة الروحية الباقية.

  • (د)

    إن التواصل العالمي يعمل بصفة أساسية على توسيع أفق الوجود الإنساني عن طريق الاستيعاب المتبادل بحيث يكسب طرفا الحوار ويزدادان ثراء، وهو يفتح لهما الطريق إلى أعماق الوضع الإنساني، ويثبت في الوقت نفسه انتماءهما إلى جذور التاريخ العالمي. ولهذا تدل المشاركة في التاريخ العالمي على تفتح إمكانات الإنسان من هذا الأساس التاريخي هنا والآن، في هذا الموقف وهذا الزمان.

(د) العالمية هي الطريق المؤدية إلى الكلية

تقوم التاريخية الخاصة على أساس تاريخية الكل:
  • (أ)

    ينبغي التفرقة بين العالمية المشتركة بين الجميع، والكل التاريخي الواحد الذي يشارك فيه كل منا؛ فالمعرفة الدقيقة الملزمة، وبعض القوانين والمطالب الأخلاقية، والقدرة على التفاهم المتبادل — أيًّا كان نوعه وكانت حدوده — كلها أمور عالمية. أما صور الإيمان وأساليبه، وفعل العلوِّ، ورؤية ماهيات الموجودات، فلا تتحقق إلا في الكل التاريخي أو من خلال التاريخ في كليته.

    وينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة عالميًّا؛ أن يجذب إلى دائرته أغرب الأشياء وأبعدها عنا، أن يقترب من صميم الكل وأساسه، ويلمس ذلك الذي يربط كل إنسان بكل إنسان — وليس هذا الرباط مجرد وسط أو مجال عام يجمع بينهم، وإنما هو ذلك الذي ينشئ العلاقة بين جميع الأفكار ويجعلها تتبادل التأثير والتأثر بصورة حية مباشرة.

    إننا نحس بهذا الكل الشامل ينبثق أمامنا كلما استمعنا إلى شيء يكلمنا بصوت يختلف عن صوت «العام» وحده ويزيد عليه، وكذلك نحس بأننا ننجذب — بفضل فكرة التواصل العالمي الممكن، وارتباط جميع العبارات بعضها ببعض — نحو الحضور الأبدي الذي يحتفظ بوحدته على الرغم من تغير الظواهر وتشتتها. بذلك نجرب الوحدة التي هي أصل الكل وهدفه، وهي وحدة المتعالي التي تتخطى كل وسائط التعبير العالمي ووحدة تاريخية العالم والوجود الإنساني.

    ومن الخطأ الظن بأن هذه الوحدة يمكن أن توجد في عالمية الوعي بوجه عام، أو في فكرة روح كلي تعبِّر الحضارات عن بنيته «هيجل» ويحتل فيه كل شيء مكانه العضوي، وكأن التاريخية بما هي كذلك ليست إلا عنصرًا يدخل في تكوين الكل ويمكن معرفته عن طريق هذا الكل المعروف من قبل.

  • (ب)

    ذلك أن كلية الواحد التاريخي لا تكون أبدًا تحت تصرفنا، فنحن نميل بطبعنا إلى تمثلها — بالإحساس المسبق — في صورة عمومية عالمية أو شكل نوعي ونهائي للتاريخية، ولكن الفكرة المحركة لتاريخ الفلسفة تظل هي الكشف عن أقصى درجة من الوحدة في التفكير وفي الصورة. وهذه الوحدة تتجلى في تفتح العقل، والحرص الدائم على التواصل، لا في معرفة تامة منتهية.

    ولن نجد الكلية أبدًا، لا في العام ولا في حقيقة ندَّعي أننا قد اكتشفناها في مكان ما من العالم، وأنها هي الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن يهتدي الناس بها، والوحي الخاص الذي ينبغي أن يلتزم به الجميع.

  • (جـ)

    إن فكرة الفلسفة العالمية المقبلة فكرة لا مفر منها، ولكنها لن تتحقق في مذاهب ماسخة تتظاهر بأنها عالمية، ولا بالرجوع إلى الرواقية القديمة، ولا في لغة براجماتية «نفعية وعملية» أنجلوسكسونية، تُسمَع اليوم في كل مكان من الكرة الأرضية؛ فالفلسفة العالمية لن تصبح حقيقة إلا بالانفتاح على الكل الذي يتجلى تجلِّيًا تاريخيًّا في انعكاسات النور الأصلي وإشعاعاته المتشابكة المتتالية.

    إن الفلسفة العالمية المقبلة ستكون بالضرورة هي المكان الذي يزداد فيه وضوح التاريخية النوعية لكل تفكير فلسفي خاص بقدر اتصاله بتاريخية الوجود الإنساني في مجموعه.

    وستكون الفلسفة العالمية هي أورجانون (أداة) العقل، والنسق الكامل لجميع إمكانات الفكر؛ إنها تخلق الانفتاح غير المحدود للفهم، وتمهِّد الأرض الصالحة لتحقيق التاريخية الخاصة — والمطلقة بغير أن تكون نهائية — لكل إنسان، وتهيئ أنضج صياغة ممكنة للأفكار، وتحرص على أن تكون صورة التاريخ العالمي للفلسفة كلية وتاريخية إلى حد مطلق.

(٣-٢) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة عيانيًّا (أو حدسيًّا)

(أ) لا يوجد عيان (أو حَدس) إلا بما هو جزئي خاص

لا تتكشَّف ماهية العمل أو المؤلَّف حتى يُستعاد العالم والموقف الذي أُبدِع فيه، ويتجدد التفكير في الفكرة التي ألهمته بكل ما تزخر به من معانٍ، وعندئذٍ تتجلى الفلسفة الخالدة من خلال وضعه التاريخي.

  • (أ)

    ينبغي إعادة التفكير في كل ما أنجزه المفكر بمعايشة الموقف الذي وجد نفسه فيه، والظروف والعالم الذي قضى حياته في ظلِّه، ولا غنى عن المعرفة التاريخية بالتفصيلات الدقيقة لكل الموضوعات التي استوحى منها أفكاره، واستمد منها تشبيهاته واستعاراته؛ وذلك للاقتراب من مضمون تلك الأفكار وإدراك معانيها الدالة ودوافعها ومقاصدها.

  • (ب)

    ثم ينبغي أن تُدرَك الفكرة نفسها في نقائها وتكاملها؛ فالتغلغل في النص بغية تفسيره تفسيرًا شاملًا مستقصيًا يقتضي التوقف عند أدق التفصيلات، والعناية بتتبع تطوراته وأخص تفريعاته، ولا تتضح الفكرة إلا من خلال عمق مضمونها الموضوعي. ويتعين على مَن يعيد التفكير في أفكار مؤلف قديم لتبين دلالتها أن يهتم بالموضوع أو المشكلة المطروحة، وأن يفهمها ويطرحها على نفسه كما لو كانت مشكلته الخاصة؛ وبذلك يستخلص القيم الموضوعية والكامنة في النص المأثور. ولا بد من الفهم النافذ لما يدور حوله النص من الناحية الموضوعية؛ إذ إن الفهم الكامل للنص يشترط أن يطرح القارئ أو الشارح على نفسه المشكلة التي يطرحها النص، أو أن يجعل الموضوع الذي يدور حوله موضوعًا خاصًّا به؛ عندئذٍ يمكن أن يتوصل الشارح إلى فهم المؤلف أفضل مما فهم به هذا المؤلف نفسه (وذلك على حسب تعبير كانط).

  • (جـ)

    وأخيرًا فإن العيان الفلسفي يتيح إدراك الأبدي فيما هو جزئي ذو صفة تاريخية.

    إن الفلسفة الخالدة وكل الأشكال التي تتخذها الأبدية لا يمكن أن تدرَك كما هي في ذاتها، بل تدرَك من خلال الظواهر التاريخية، فالأبدي لا يوجد أبدًا بصورة مطلقة أو نهائية في أي شكل من الأشكال الجزئية، وإنما يوجد في كل مكان وزمان، في كل موجود جزئي، وفي مجموع حركات هذه الموجودات تجاه بعضها، وهو لا يتجلى إلا للعيان الفلسفي الذي ينفذ في اللانهائي، والذي يحقق العلو على نفسه حين يحقق نفسه، لا في ذلك النوع من العيان الذي يكتفي بملامسة الظواهر ولا يتجاوز سطوح الأشياء.

(ب) الرؤية العيانية تلجأ للنماذج والصور

يتعرض العيان للضياع في اللانهائي إذا لم يتشبِّث بصور تظل على الدوام مؤقتة ونسبية، وكل الروايات التاريخية تبلور في صور ما قد كان في حينه حركة حية، وتوحِّد وتثبِّت وتتم ما لم يكن في الواقع إلا توترًا، وتصدُّعًا، وتخطيطًا غير مكتمل. ولكن العيان لم يكن ليتسنى له، بغير هذه النماذج والصور، أن يصل إلى الثبات والاستقرار، أو يرى نفسه رؤية واضحة، أو يتقدم في سيره في الأعماق المضيئة.

صحيح أنه لا توجد صورة صادقة في ذاتها؛ فهي تتوقف على النشاط العياني، كما أنها مجرد وسيلة يلجأ إليها العيان وليست شيئًا بلغ ذروة الكمال. ولهذا يجب التفكير من الناحية المنهجية في وضع نماذج واضحة وملموسة، ثم يجب بعد ذلك وبالوضوح نفسه أن نجعلها نسبية، وأن نذيبها ونلقي بها مرة أخرى في تيار الحركة، وذلك بعد أن تكون قد نجحت — ولو للحظة واحدة — في خلق الوهم بالكمال.

(ﺟ) الارتباط بين مَلَكَة العيان والعالمية

إن الانفتاح على العالمية ليتوه في الفراغ إذا استغنى عن الرؤية العيانية واكتفى بالتعميمات المجردة. كذلك تضل الرؤية العيانية للجزئي في الغموض والاضطراب الذي لا حد له إذا لم تستند إلى العالمية.

إن الكل ينعكس في الجزئي كما ينعكس العالم في قطرة الماء، والمعرفة الكاملة بالجزئي مساوية للمعرفة بالكل؛ لهذا يتعذر الوصول للعالمية الأصيلة بغير الرؤية العيانية العميقة للجزئي، كما أن الطاقة اللازمة للنفاذ في الجزئي تستمد قوتها من رحابة العالمي. ولا تتحقق العالمية إلا بقدر ما تقوم في أساسها على التغلغل في صميم الجزئي.

إن تجميع الدقائق والتفاهات التي لا نهاية لها، وإطلاق التعميمات الفارغة، أمران متلازمان تلازم الرؤية العيانية الخصبة للجزئي والعالمية الغنية بالمعنى والمضمون.

والاستقطاب (أو التقابل الضدي) بين الرؤية العيانية والعالمية هو الذي تتولد عنه المناهج المتنوعة التي تلقي الضوء على تاريخ الفلسفة. ويتحقق هذا على أفضل صورة في المؤلفات التي تعرض لموضوع واحد أو شخصية واحدة (المونوجرافات). وهو يستلزم في كل مرة أن نحاول تقديم صورة تخطيطية عامة لتاريخ الفلسفة؛ هذه الصورة التي تكون بحسب الفكرة المقصودة منها أهم شيء، في حين أنها في الواقع شيء هشٌّ وواهٍ إلى أبعد حد. ويرجع هذا إلى أن المفكر الفرد يعجز بطبيعته عن التعمق الحقيقي المطلق إلا في المواضع القليلة النادرة، ولهذا يضطر في بقية الحالات إلى الاكتفاء بالنتائج التي تقدمها له «المونوجرافات»، والقناعة ببعض الحقائق التي يعثر عليها بالصدفة المواتية. ولكن إذا تيسَّر وجود مفكر تعمَّق تاريخ الفلسفة تعمقًا حقيقيًّا فينبغي عليه أن يغامر بتقديم لوحة إجمالية عنه؛ لأن ذلك في الواقع واجب يتعين القيام به مرة بعد مرة. ولو لم تكن لدينا مؤلفات تضم المعرفة الشاملة المحيطة بتاريخ الفلسفة لما كان للمونوجرافات مكان بيننا.

(د) بهجة العَيَان الفلسفي

يبلغ الإنسان ذُرى الحكمة والبصيرة عندما يتحالف عالم الفكر مع فهمنا للنص فنكتشف بأعيننا ما ينطوي عليه الموضوع (الذي يتناوله هذا النص) من غنًى وثراء، ويتضح أمامنا صدق العبارة، وتوافق الأسلوب مع استخدام الكلمات، ونشعر أن هذا كله قد تآلف مع وضوح الوعي المعبِّر عن نفسه، واتحد مع الدوافع والقوى المبدعة التي اكتسبت لغة تنطق بها، ومع المتعالي الذي يُفصِح عن نفسه في هذه الرموز والشفرات؛ عندئذٍ تتخذ الظاهرة التاريخية العينية شكلًا مجازيًا يرمز لذلك الذي يعود عَودًا أبديًّا، ذلك الذي يُعد فريدًا نسيج وحده، والذي يختلف اختلافًا جذريًّا عن أي شكل من الأشكال التي تتصف بالعمومية.

ما أروع السعادة والبهجة التي نشعر بها إذا استطعنا أن نهب أنفسنا لمثل هذا التأمل العياني! لن نشاهد أحلامًا، بل سنعاين الواقع الحاضر الحي. ولن نكون بصدد بناءات عقلية مصطنعة، بل سنجرِّب — عبر هذه البناءات التي استعان بها التفسير — ذكريات عن الواقع الذي استعدناه. وسوف يفتح المنهج التجريبي أبوابه لأعجب التجارب قاطبة، فكل ما تلقيته من الخارج على هيئة معلومات تاريخية أحفظها في ذاكرتي يصبح كأنه ذاكرتي الخاصة، ويلقي أضواءه الساطعة على ما كنت أعرفه من قبل، وليس هذا تأملًا سلبيًّا، وإنما هو النشوة التي تحلِّق بوجودي، والأصل الذي ينبع منه نشاط جديد. وهذا هو الذي يعبِّر عنه «جوته» في الجزء الثاني من فاوست حين يقول:
أشعر أن الروح الحيَّ تغلغل فيَّ،
تتراءى لي الأشكال جليلة،
والتذكارات أجل.
(البيتان رقم ١٧٨٩ و١٧٩٠)

(٣-٣) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة بسيطًا

لو نظرنا إلى تاريخ الفلسفة نظرة خارجية لوجدنا أن مادته لا حد لها ولا نهاية، وعندما يركز هذا التاريخ في كل واحد، يتحول غياب الحد والنهاية إلى تجربة باللانهائية.

وينبغي على تاريخ الفلسفة في مجموعه أن يتوخَّى البساطة (فدوائر المعارف وحدها هي التي تحرص على تجميع المادة المهمة، أو المادة التي يمكن أن تصبح مهمة في يوم من الأيام). كما يجب أن يجتهد تفسير هذا التاريخ في إلقاء الضوء على الفكرة الأساسية، وأن يحرص على البساطة دون تبسيط، ويبرز الجوانب الجوهرية مع العدول عن الجوانب العَرَضية والثانوية. ولا تتأتَّى البساطة بلصق الشعارات السريعة، وإجراء التصنيفات السطحية، بل بالنظرة النافذة التي تدرك البسيط وتفطن لإمكانية التطور اللامتناهية الكامنة فيه. وليس تأثر المرء إلى حد الانفعال، ولا شغفه بتحقيق هذه الغاية أو تلك، دليلًا على البساطة، وإنما الدليل عليها هو أن تستولي عليه وتأخذ بمجامع نفسه. وليس البسيط هو ما نفهمه في سهولة ويسر، وإنما هو الذي يساعد على تركيز العقل وتجمُّع الروح.

ويتحتم على تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي أن يحاول إدراك الأصول والخصائص الأساسية، بجانب إدراك الوثبات الجديدة والقمم الرفيعة؛ بحيث يجعلنا نفهم علاقتها بالكل، ونشعر بتعبيرها الأمين عن الواقع. كذلك يتعين عليه أن يتخلَّى عن الاهتمام بالوفرة في المعلومات التي يسهل الحصول عليها لكي يتمكَّن من إظهار الثراء الكامن في الأفكار والحقائق التي تملك النفس وتستولي عليها. وينبغي عليه في النهاية أن يتوصل إلى عنصرها البسيط الذي يحسم الأمر ويفصل في اتخاذ القرار.

بهذا يمكن لهذا التاريخ — الذي يسير على طريق البحث عن المبادئ الأساسية، وحركات الوعي المطلق ومواقفه الكبرى، والعوالم والأبنية الرئيسية — أن يتحول إلى مدخل إلى الفلسفة. إنه يكشف لنا عن المسار الفلسفي نفسه، وما انتهى إليه خلال صيرورته عبر الظواهر والأشكال التاريخية، ولكنه يكشف عن هذا المسار في بساطته، وهذه البساطة تكثِّف حضور الفكر، وتحول دون تلاشيه في التجريدات، وهي تبرز من أعماق الباطن وتحقق في الحاضر ما لو رأيناه من الخارج لوجدناه يتبدد في تشتت الآراء وتعددها بغير نهاية.

(٣-٤) ينبغي أن يكون تاريخ الفلسفة نفسه فلسفة

لماذا نشغل أنفسنا بتاريخ الفلسفة؟

ربما كان الدافع على ذلك هو الفضول: لكي نتعرف تاريخ الأوهام البشرية، أو ربما كان وراءه الاعتقاد بضرورة نفسية واجتماعية مزعومة؛ لفهم مرحلة منتهية من مراحل التطور الإنساني، وهي المرحلة السابقة على عصر العلم، وتتبع سياق الأسباب والمسببات العجيبة التي أدت إلى اكتشاف الصواب من ثنايا الخطأ، وظهور الحق من خلال طوايا الباطل. وربما جاء الاهتمام بتاريخ الفلسفة عن ميل إلى الترف العقلي: فينكَب الإنسان على لعبة عقيمة يملأ بها أوقات فراغه، أو عن حذلقة جوفاء تسجل كل ما وقع بحذافيره، وتضع كل ما يمكن أن تطلق عليه صفة الفلسفة في موسوعة تضم وقائع التاريخ العقلي التي لا حصر لها.

غير أن أمثال هذه الدوافع وما شابهها غير كافية؛ وهي ترتد في النهاية إلى نفي الفلسفة وإنكار حقيقتها. إنها تبين أن السبب الكافي للاشتغال بتاريخ الفلسفة لا يمكن إلا أن يكون هو التفلسف أو التأمل الفلسفي نفسه، ولن يكون لهذا الاشتغال معنًى إلا إذا انشغلنا بالأسئلة والأجوبة التي نلتقي بها في تاريخ الفلسفة. وإذا لم نفعل هذا فلن يخرج الأمر عن تحصيل معلومات عقيمة، معلومات خارجية عن واقع مضى ولم يعد يعنينا في شيء. أو ربما لا نخرج — بإنكارنا للفلسفة على هذه الصورة — عن تحقيق بقية من الفلسفة أو فلسفة سلبية تتسلَّى باللهو الطائش بالأفكار الفلسفية، وتفرغها من معانيها، وتعبث مع ذلك بعظام أجسادها الميتة عبث المشعوذين، أو تستخدمها في تعذيب النفس.

ولا معنى لتاريخ الفلسفة إلا بالقياس إلى التفكير الفلسفي نفسه، الذي يشعر بانتمائه الأصيل إلى الشخصيات التاريخية المعبِّرة عنه، ويحرص على تأكيد حياته بمداومة النظر فيها. إننا نريد أن نجد فيه ما يحثنا على التفلسف، نريد أن نجرب في الحاضر ما هو بطبيعته أبدي، وإن كان لا يظهر في التاريخ إلا في صور وأشكال جزئية. ونحن نفهم أنفسنا حين نفهم تاريخ الفلسفة، ونستمد الشجاعة من النماذج التي يقدمها لنا. كما أننا نتواضع ونعرف حدودنا عندما نرى أن كل ما هو عظيم قد كُتب عليه الفناء والعزلة، وأنه يظل في نهاية المطاف شخصيًّا وفريدًا. ونحن ندخل في حوار باطن مع الماضي، ونمد آفاق حاضرنا عبر آلاف من السنين، إن هذه الآلاف من السنين لم تنطوِ بالنسبة إلينا، فعلى كل واحد منا أن يقرر بنفسه ماذا يبقى منها حيًّا، وماذا يستحق أن يُبعث للحياة، ماذا سيطويه النسيان، أو سيلحق بنا على جناحيه، أو يتركنا في حال من اللامبالاة وعدم الاكتراث.

إن إقبالنا على تاريخ الفلسفة عن رغبة واهتمام هو نفسه نوع من التفلسف. ولا بدَّ الآن من توضيح هذا عن كَثَب:
  • (١)

    لن يفهم الفكرة الفلسفية إلا مَن يَقدِر على التفلسف. ويعتقد بعض الناس اعتقادًا ساذجًا أن معرفة اللغة التي كُتِبَ بها النص الفلسفي تكفي لفهمه فهمًا عقليًّا واضحًا، ويأخذون هذه المسألة كأنها أمر بديهي. ولكننا نطرح هذا السؤال: وماذا نفهم نحن حقًّا من فلسفة الماضي؟ إن الإحاطة بالمؤلَّفات الموجودة، ومعرفة المضمون العقلي للأفكار المثبتة فيها، والإلمام باستدلالاتها الصورية، والقدرة على تحديد التصورات والمفاهيم؛ كل هذا الذي ذكرناه لا يرقى إلى مستوى الفهم؛ فالفهم معناه أن نضع أنفسنا فيما نريد فهمه، لنتمكن من إعادة التفكير فيه انطلاقًا من الأصل الذي انبثق عنه، تتبع الفكرة العقلية لإدراك الحَدْس (أو العيان) اللامعقول الذي عبَّرت عنه ومشاركة المؤلف فيه، السماح لما لا يمكن قوله باللغة المباشرة بالتأثير على أنفسنا، الإنصات لما أراد المفكر أن يوصله إلينا بطريقة غير مباشرة. مثَل هذا الفهم الحقيقي لا يتيسَّر إلا في حدود معينة، وبشروط ترجع إلى القارئ نفسه الذي يسعى إلى الفهم، وترتبط بحياته العقلية، وموقفه، وواقعه.

    إن الذي يقدر على طرح السؤال الفلسفي هو الذي يستطيع أن يكتشف الجوانب الفلسفية المهمة في النص. والقاعدة تقول: «لا يدرك الشبيه إلا الشبيه.» ولكن ليس معنى هذا بحال من الأحوال أن نلتمس من النص تأييد رأي أو فكرة تشغلنا، وليس معناه كذلك أن تاريخ الفلسفة «ترسانة» نستخرج منها الأسلحة والحجج التي تبرر تفكيرنا الراهن (وكأن أمر التاريخ في ذاته سواء، أو كأن الحاضر يمكنه أن يستقل بنفسه ويستغني عن أساس يستند عليه). فالواقع أن الأمر على العكس من ذلك، وأن القارئ الذي يتفلسف بنفسه يستطيع أن يدرك الأفكار الفلسفية ولو كانت مضادة له، غريبة عليه، نابعة من أصول أخرى مختلفة عن أصوله تمام الاختلاف. إن المهم في الحقيقة هو التفلسف في حد ذاته، فهو الذي يتيح لي أن أتفلسف مع كل فيلسوف وأن أشارك في كل فلسفة ممكنة. ومع ذلك فثمة حدٌّ جديد يقف عقبة أمامنا، ويتصل بما نسميه «المستوى». فعلى المستوى الذي يستند إليه وجودنا وتفكيرنا يتوقف فهمنا لما هو قريب منا، أو مضاد لنا وغريب عنا. ومن السهل علينا أن ننفذ ببصرنا إلى المستويات الدنيا ونحيط بها، أما المستوى الذي يرتفع عن مستوانا فيظل عصيًّا ممتنعًا علينا. من أجل هذا يثير فينا التفلسف الأصيل موقفًا أساسيًّا: فنكون على استعداد لتسلق المستوى الأعلى، أو على الأقل لرؤيته والانتباه إلى وجوده، بحيث يصبح بالنسبة إلينا حدًّا ودافعًا يحفزنا على التقدم، ويدلنا على سر لم ينكشف حتى الآن، وهذا الموقف الذي ذكرناه يتطلب القدرة على الإنصات وردِّ الفعل، والشعور بأننا لم نفهم بعد، وأن علينا أن نبذل الجهد للتوصل إلى الفهم، بحيث يكون هذا الفهم فعلًا باطنًا تكابده النفس بكل كيانها لا مجرد نظر عقلي.

    وينتج عن هذا من ناحية أخرى أن نفقد كل اهتمامنا بالمؤلف الذي اعتقدنا يومًا — وهذا أمر نادر — أننا قد أحطنا بتفكيره كله؛ ذلك لأن مثل هذا المؤلف لن يكون في نظرنا فيلسوفًا، ولن يبقى منه إلا الفكر العقلاني الذي يتعامل مع المفاهيم، ويعرفها، ويوفِّق بينها، ويتصور أنه قد وضع يده على الكل. بيد أن المفكرين الذين لهم شأن في تاريخ الفلسفة هم أولئك الذين يكافحون ويصارعون، أولئك الذين لا يدَّعون أن السر قد كشف لهم القناع عن وجهه، والذين ندرسهم فلا نتعلم منهم مادة معرفية فحسب، بل يشدوننا في مجرى الصراع الدائر في داخلهم، ويعينوننا على تجربة دوافعهم ومطامحهم. ولن تكون لدراسة تاريخ الفلسفة أية قيمة ما لم يستمر فيه الكفاح المتصل للوصول إلى الرؤية الفلسفية الخاصة.

    لنتمسك إذن بالتواضع ونحن نقبل على هذه الدراسة، فلم يتسنَّ حتى الآن لإنسان واحد أن يطَّلع على جميع مؤلفات جميع الفلاسفة، أو يعرف كل اللغات التي تم بها التفلسف معرفة كافية. أضف إلى هذا أن حدود تفلسفنا الخاص هي نفسها التي تحد من قدرتنا على تصور تاريخ الفلسفة وفهم قدامى الفلاسفة. ولهذا فإن هذه القدرة تنمو وتتزايد بمقدار نمو تفكيرنا الخاص واتساع أفقه.

  • (٢)

    إن استيعاب تاريخ الفلسفة متضايف مع التفلسف الشخصي. وليس معنى هذا على الإطلاق أن يوَجَّه هذا التاريخ أو يُبنى ويقوَّم من وجهة نظر فلسفية محددة؛ لأننا بهذا سننظر إليه من الخارج نظرة غير تاريخية. ولن يكون استيعابنا لتاريخ الفلسفة فلسفيًّا إلا إذا وفَّقنا في الاحتفاظ بوعينا بالشامل، وتمسَّكنا بفضل هذا الوعي بقدرتنا على الحركة وسط وجهات النظر المتعددة، وحرصنا على الانفتاح العالمي على كل ما يتسم بالطابع الفلسفي الحق.

    من أجل هذا كله تتعذَّر كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر محددة؛ فليست الفلسفة عبر تاريخها كالوجه الإنساني الذي يمكننا رؤيته ووصف ملامحه بنظرة واحدة؛ من حيث مراحل تطوره الموضوعي، وظروفه وشروطه الاجتماعية والنفسية والبشرية … إلخ (فكل هذه مناهج بحث مفيدة تتصل بوقائع، وظواهر، وجوانب جزئية مختلفة، دون أن تمس ماهية الفلسفة نفسها). وليس من سبيل إلى الفلسفة إلا بالتفلسف نفسه ومن داخله؛ قد يستطيع الإنسان أن ينفذ إليه، ولكنه لن يستطيع أن يحيط به إحاطة شاملة.

    والنفاذ إلى صميم التفلسف لا يعني تبنِّي وجهة نظر محددة، كما أن الاستيعاب التاريخي لا يعني تطبيق نسق ثابت أو تخطيط مسبق. إن فهم أفكار التراث وفلسفاته بفضل المعرفة المشتركة التي يكفلها «الشامل» هو الذي يجعلنا قادرين على التواصل الذي تتضح الأصول في ضوئه. ومَن يدرس مؤلفات أحد الفلاسفة السابقين في إطارها التاريخي، ويلمس أعماقها الدفينة، سيحسُّ هو نفسه بواقعه التاريخي الخاص، وتنكشف له أعماقه التي لا يُسْبَر غورها. والمهم قبل كل شيء هو مدى توغل ذلك الشيء — الذي ينبثق من التاريخ ليوقظني — في أعماق الشامل الذي أكونه أنا نفسي. والمهم أيضًا هو مَن ينصت في داخلي وما الذي يُنصت إليه. إن التفلسف المشترك لينفذ — عبر التاريخ — في مجال إنسانيتنا ويكوِّن التاريخية الواحدة التي يقوم عليها وجودنا بأكمله، والذي يهدينا ويقود خطانا هو وعينا بالأصل الواحد، والمصير الإنساني المشترك. كذلك فإن تاريخيتي الخاصة وتاريخية المفكر الغريب عني لا تفصلنا فصلًا مطلقًا، وإنما تربط بيننا برباط التاريخية المشتركة التي لن نتمكن أبدًا من إدراك كنهها أو تحديد شكلها، وإن كان التواصل هو الذي سيجعلنا نشعر بها في صيرورة الوجود الكوني بأسره.

    لهذه الأسباب لا توجد حقيقة وحيدة في صورة وجهة نظر أو نَسَق محدد. ولا يمكن أن تدَّعي الحقيقة أنها هي الحصيلة النهائية للمعرفة الراهنة وأن كل معرفة يجب أن تُرتَّب على أساسها بحيث تكون مجرد إعداد وتمهيد لها.

    وليس في تاريخ الفلسفة كذلك مركز واحد أو نقطة ثابتة ونهائية — كتلك التي يتصوَّرها التفسير المسيحي للتاريخ في صلب المسيح، بل هنالك المكان اللانهائي الذي تعبِّر فيه الحقيقة عن نفسها بأصوات متعددة المعاني. وكل محاولة لتثبيت دائرة المفكرين العظام ستكون أشبه بلاهوت جديد، إن لم تكن نوعًا من التعبير الجمالي عن عدم الإحساس بالمسئولية.

    لا شكَّ أن المفكرين الكبار يتفوقون علينا تفوقًا لا حد له في عظمتهم وقوة إبداعهم وعمق وجودهم، ولكنهم بشر يشاركوننا المصير نفسه وليسوا آلهة. وإذا كنا ننظر إليهم نظرتنا إلى القدوة والمَثَل، فليس معنى هذا أن نقلِّدهم أو نقتفي آثارهم على طريق محدد مرسوم، بل معناه أن نتابعهم في السير على الدروب الباطنة التي لم تُكتشَف بعد.

  • (٣)

    إن رفض تجميد تاريخ الفلسفة في مجموعة من الحقائق الموضوعية، القطعية، النهائية، لا يمنع ضرورة اكتسابه شكلًا ملائمًا، فلا بدَّ له من أن يتخذ شكلًا كليًّا بالنسبة لعصره ولقدرة المفكرين المعاصرين على الفهم. وهذا التصور التاريخي الشامل يُسهم في تحديد شكل التفلسف الحاضر. فإذا تغيَّر التفلسف تغيَّرت معه طريقة تصور تاريخ الفلسفة واستيعابه.

    ومعرفة هذه التغيرات تؤثر حتمًا على طريقة الاستيعاب. صحيح أن هذا الاستيعاب يلجأ إلى صور ثابتة، ولكنه يحرص على الاحتفاظ بقدرته على الحركة والتغير الممكن. وتنشأ رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة عندما يتغير التفكير الفلسفي نفسه فجأة بحيث تبدو الصور التي دَأَب تاريخ الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين محرَّفة أو مشوهة، ويطرح الناس على أنفسهم هذا السؤال: ما الصورة التي يجب أن يتخذها تاريخ الفلسفة في ظل الظروف والأوضاع الجديدة؟ كيف نتصوره، على سبيل المثال، تصورًا وجوديًّا؟ وكيف يتعرف تفكيرنا الفلسفي الخاص على تفكير العصور القديمة؟ بل كيف نعرف أن تفكيرنا — الذي تصوَّرنا للحظة واحدة أنه جديد كل الجدة — ينعكس على صفحة التفكير القديم الموغل في القِدَم؟ وكيف نقضي على وهم الجدة بحيث تشفُّ من خلال الثوب التاريخي المعاصر تلك الفلسفة الخالدة التي تربطنا بجميع الفلاسفة السابقين؟

  • (٤)

    إذا كان الاستيعاب الأمثل للفلسفة يقتضي التخلي عن كل وجهة نظر، وإسقاط كل نَسقٍ أو تخطيط مسبق، فإن رائدنا في ذلك لن يكون شيئًا قليلًا (كأن نقع في السوقية والفوضى)، بل سيكون كثيرًا، سيكون هو الواقع وهو الحقيقة التي نحيا عليها، ونقيس ونحكم، ونقبل ونرفض وفقًا لها، بحيث لا نجمد أو نثبت عند معيار موضوعي معين. وسيكون علينا أن نحافظ على رَحابة هذا الواقع وعمقه وثراء معانيه كما خَبِرناه في تفكيرنا الفلسفي، وتعرَّفناه في فلسفات الماضي. وستزداد قدرتنا على الكشف بمقدار قربنا من الواقع.

    إن أية محاولة تهدف للوصول إلى معرفة ثابتة — حتى ولو كانت غامضة — بالواقع والحقيقة بمعناهما الفلسفي ستكون في النهاية معرفة غير كافية، وستلجأ إلى التفسير السطحي الذي يبسِّط كل شيء، سواء في ذلك أَقُدِمَت المنفعة العملية للمعرفة أم جُعِلَت الصدارة للدقة اليقينية الملزمة. وسترجع بوجه خاص إلى المعرفة التجريبية والموضوعية في علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الحياة (وعندئذٍ تصبح الفلسفة وظيفة للحياة، ويستوي في ذلك أن تمدَّ الناس بالأوهام الضرورية وتحجب عنهم العيوب والشرور، أو أن تصبح نوعًا من العلاج النفسي أو قوة دافعة على الانطلاق)، أو تُرَد إلى الوضوح العلمي للوعي بوجه عام، أو إلى الأخلاقية التي تضع المُثُل العليا وتشرع قواعد السلوك. لا شك أن كل هذه الاتجاهات تحتوي على جزء من الحقيقة، ولكن التفسير الذي يستوعب تاريخ الفلسفة بأكمله ينبغي عليه أن يجعل تعدد أبعاد حقيقة فعلية تتمثل في تشابكها اللانهائي وحركتها المتصلة (ولا تجعل منها مجموعًا مركَّبًا من عناصر بسيطة)، كما ينبغي عليه ألا يهمل المعطيات المباشرة الملموسة (كالمواقف الاجتماعية والأمراض العقلية … إلخ) بل يقبلها على ما هي عليه، ويسجِّلها ويحدد أهميتها، دون أن يتجاهل الجوانب الخيالية العجيبة، بل يحاول جهده أن يكتشفها ويستخلص منها مضمونًا واقعيًّا. غير أن تعدد التفسيرات على هذه الصورة أمر يتهدده التشتت والتفتت، فأين نجد المركز؟ أين نعثر على الواحد والكل الذي يتعلق به كل شيء ويرجع إليه كل تفسير؟ إنه تكشُّف الوجود في الإنسان؛ فمن خلال جميع أشكال الشامل — الذي يكون هو نفسه، ويعرف فيه نفسه بوصفه وجودًا يستشرف العالي — يحقق الإنسان ما يدرك أنه وجوده الأبدي تحقيقًا تاريخيًّا، بحيث يرتبط وجوده بالمعرفة التي يحصِّلها، ويصبحان شيئًا واحدًا.

  • (٥)

    إذا كان «الشامل» هو الأصل في كل محاولة لاستيعاب تاريخ الفلسفة، وهو الموضوع الذي لا سبيل للوصول إليه، فإن هذا الاستيعاب يتمُّ بطريقة عينية ومحددة من خلال موضوعية المعطى في الواقع؛ أي من خلال دلالته، وتخطيطه، ومشروعه، والهدف منه … إلخ، وينظر مؤرخ الفلسفة فيرى أمامه المجال الشاسع الذي تتراكم فيه مواد لا حياة فيها، ويبدأ بفرز هذه المواد على مستوى الوقائع ووضعها في غربال النقد العلمي. والحقيقة أن «الشامل» هو المعنى والواقع في آن واحد، وكلاهما لا يُفهم إلا بطريقة غير مباشرة في شيء اتخذ صورة موضوعية محدودة. وعلينا أن نتحسس حركات الشامل من خلال الوقائع. ولهذا ينبغي البدء بفحص الوقائع وتمحيصها للتأكد مما حدث في الواقع، ثم تأتي لحظة الإنصات والاستبار واستكناه حقيقة ما كان.

    بهذا ينشقُّ الواقع للحظة إلى واقع تجريبي وآخر جوهري. ونلاحظ شيئًا يتحقق بأعمق ما للتحقق من معنى، ولكنه يبقى معزولًا، معدوم الأثر، ويسقط في النسيان. ومن طبيعة الذروة العالية أن تتخذ محاولة الاقتراب منها في تاريخ الفلسفة هذا الطابع المؤقت؛ فليس من الممكن أن نثبتها في صميم الأصل، بل يتحتم محاصرتها والدوران حولها من الخارج — ربما يستطيع المؤرخ أن ينفذ إليها بتفسيره، ولكن يستحيل عليه الإحاطة بها. وأسباب تأثيرها أو عدم تأثيرها على مجال الواقع لا تكمن فيها هي وحدها، وإنما ترجع كذلك إلى مواقف جزئية وشروط خارجية؛ بحيث إن التفسيرات التجريبية التي تقدَّم لها لا تكون أبدًا تفسيرات نهائية شاملة.

    وعمليات التحريف والتعديل التي تتعرض لها «الذروة» وتجعلها تتحول إلى أشكال تساعد على انتشارها واتساع نطاق تأثيرها عمليات ملازمة لطبيعتها، ولكنها ليست قوانين مطلقة بغير استثناء؛ فهي تلقي الضوء على النتائج، ولكنها لا توضح الجوهر نفسه.

    إن تاريخ الفلسفة بمعناه الحقيقي هو حركة صيرورة التفلسف الذي ندركه عندما نقترب منه لمحاولة فهمه، ونتأمل عالمه، ونتدبَّر نتائجه، ولكن أصول هذا التفلسف هي الحد الذي ينطلق منه كل شيء، ويتجه إليه كل شيء، وإن كان من المحال أن تصبح موضوعًا أو واقعًا يمكن بيانه بطريقة موضوعية محددة. وأكثر تفسيرات تاريخ الفلسفة حظًّا من التفلسف هي تلك التي تمكننا من الإحساس بالذُّرى، والأصول التي يتوقف عليها كل شيء، وتساعدنا على ألا نفقد علاقتنا معها، وأن نبقى على صلة مستمرة بها.

    بهذا يمكن أن يتحول البحث في تاريخ الفلسفة في نهاية الأمر إلى مصدر تأثير وفاعلية فلسفية متجددة، فلا يُستبعد أن ينطوي المجال الفسيح — الذي تتكدَّس فيه أنقاض المواد والمعلومات التي يخيم عليها الموت — على بذور خفية يمكن أن تُبعَث إلى الحياة أو أن تدبَّ فيها الحياة لأول مرة، وذلك إذا استطعنا أن نعثر عليها، ونتعرفها، ونعيد غرسها مرة أخرى. لقد كان هنا شيء لم يُسمع له صدى، وهو ينتظر مَن يستخرجه من النصوص ويفسره، عندئذٍ يظهر للنور وتزدهر فيه الحياة. ولا يندر في التاريخ أن نعثر على حركات جديدة انبثقت من معطيات أو «لُقى» تاريخية تم الكشف عنها، فقد تعلَّم الإنسان كيف يقرأ نصًّا ويفك رموزه، بعد أن ظل قرونًا طويلة ضحية عدم الفهم أو سوئه.

  • (٦)

    إن مؤرخ الفلسفة يجد أمامه فرصة اختيار المفكرين الذين يمكنه أن يرتبط بهم ويتخذهم قدوة أو يعدهم على العكس أضدادًا له، وهناك تنفسح أمامه طرق ودروب غير مطروقة يكون حرًّا في أن يسير فيها أو يتجنبها. كذلك فإن وضوح اختياره هو الذي يلقي الضوء على ميوله ودوافعه.

    لهذه الأسباب كلها تكون دراسة تاريخ الفلسفة دراسة فلسفية. وينبغي أن يكون التاريخ الصحيح للفلسفة مدخلًا إلى صميم الفلسفة نفسها، كما يتحتم أن يؤدي الاشتغال به إلى تعمق التفكير الفلسفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤