٤

البيت في شارع جودة برأس التين، والهيئة في ميدان المنشية، أفر من زحمة الأوتوبيسات والعرق والملاحظات والشتائم، أخترق صفر باشا إلى نهايته، ومنه إلى شارع الميدان في تقاطعه مع وكالة الليمون، أقطع المسافة المتبقية سيرًا، حتى يطالعني ميدان التحرير.

ألاحظ في نفسي ميلًا لعد كل ما أصادفه، ما لا أعرف طبيعته في داخلي يدفعني إلى العد: قطع البازلت في شارع المسافرخانة، بلاطات رصيف الكورنيش، طوابق البنايات، النوافذ المفتوحة، والمغلقة، درجات سلم البيت والسنترال، اللمبات المضيئة في النداء الآلي، القوارب الراسية على يسار المينا الشرقية، أشجار النخيل المطلَّة على البحر.

أجاوز شوارع وميادين ودكاكين ومقاهي، ألفت رؤيتها، ربما ألف من أعبرهم فيها رؤيتي، تدفعني الألفة — أحيانًا — إلى إيماءة بالتحية.

قالت أمي إن أبي اختار لي اسم سبارتاكوس عن بطل الفيلم الذي يتذكره منذ شاهده في السينما، حذرته أمي من غموض الاسم، وصعوبة نطقه. اختارت أمي اسم أنور السادات، هو أنسب الأسماء في أيام حرب أكتوبر، وجد أبي أن تسمية أنور تنطبق على الممثل أنور وجدي، وتسمية السادات قديمة. اقترحت اسم حسني؛ لأنه خليفة السادات، لكن أبي اختار اسم بائع سوري من الباقين — عقب الانفصال — في سوق سوريا.

تضايقت — بیني وبین نفسي — حين قالت أمي لجارة الطابق الثاني إني ظللت عاجزًا عن الاستحمام بنفسي حتى جاوزت العاشرة.

لم تقتصر قراءاتي على الكتب الدراسية، قرأت في كتب استعرتها من مكتبة فارس بشارع رأس التين، أو في المكتبات القريبة من السنترال، خمسة قروش لقراءة الكتاب، بصرف النظر عن قلة صفحاته أو زيادته. القراءة التي تضيف إلى ما أعرفه، أقرأ في كل شيء، وإن ملت إلى قراءة الروايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر، حاولت — بالقراءة — أن أعوض ما فاتني من التعليم الجامعي، يداخلني اعتزاز لأني أعرف ما يغيب عن زملائي في السنترال، أكتفي بأن أعرف دون أن أحاول المشاركة فيما يدور أمامي من مناقشات، تؤنسني وحدتي، لا أجد في نفسي ميلًا لتكوين صداقات، أو علاقات. سعد كأنه حالة استثنائية في حياتي، تؤنسني وحدتي، لا أجد في نفسي ميلًا لتكوين صداقات، أو علاقات، سعد — في حياتي — كأنه حالة استثنائية.

عانيت الملل، عبرت میدان المنشية إلى العطارين، أشتري من مكتباتها ما أعود إليه حتى أنهي قراءته.

أرفض العنف، أكتم انفعالاتي، أحاذر، لا أقع في أي خطأ يضعني في موقف التوبيخ، أو المساءلة، لا يدفعني الغضب إلى مواقف تؤذيني تأثيراتها، أخشى المجازفة، أرفضها، كانت نصيحة أبي أن أمشي جنب الحيط، أبتعد عن كل ما يأتي بالمتاعب، أو يؤذيني، تخالفه أمي في إلحاحها عليَّ أن آخذ حقي بيدي، ربما نصيحة أبي هي التي أتاحت للشعور الطاغي أن يستقر في داخلي.

تملكني الخذلان، فلم أدافع عن نفسي، أستنكر ما حاولت التغلُّب عليه مراتٍ كثيرة، لكنه يظل في داخلي، يقيد كلماتي، وما أريد قوله.

أتخيل أصدقاء أحاورهم، آخذ منهم، وأعطي لهم، نتفق ونختلف، يتكلم فأقاطعه، أستدعي الكثير من الصور والذكريات والرؤى المقنعة، أعبِّر — بوضوح — عن المعنى الذي أريده، هذا هو ما سأقوله تمامًا، إن حدث — كما قدرت — موقف مماثل. الأفكار تواتیني — بسهولة — عندما أكون بمفردي، أستدعي الكلمات، أرتبها، أحذف، أضيف، حتى أصل إلى المعنى الذي أريده، الكثير من الملاحظات والدعابات والنكات والقفشات والردود على أسئلة أتوقعها، يغيب ما أعددته أمام النظرات المستحثة، والأسئلة، والكلمات المقاطعة، أذوب تمامًا، أتلاشى، في حضور زملاء السنترال، أختار الصمت ملاذًا مما أعانيه.

عندما صحوت، عرفت أني عشت حلمًا، ولعله كابوس، تلاشى باستيقاظي تمامًا. عاودني الحلم وأنا على قهوة رأس التين، لم أعرف إن كان من رأيتهم هم الناس الذين رأيتهم في الحلم، أو يشبهونهم، لكن التخويف الذي حوصرت به لم يتبدل، وإن نفضت رأسي، فلا أصرخ كما فعلت في الحلم.

قال لي المهندس طنطاوي: أنت تفعل ما أريده، لا ما تريده أنت.

يبدو الانزعاج في عينيه لأي خطأ أثناء العمل، كأن الخطأ يصعب إصلاحه، يحشر قراءاته في كلامه، ربما دون أن يحتملها السياق، يضيف إليها مفردات، ومصطلحات الإنجليزية، لا يلبث أن يترجمها. توقعت أن الحقيبة التي يضعها على الطاولة، بها مسجل، المسجل يلتقط حتى الكلمات الهامسة، يحللون المعاني الظاهرة، والخفية، ونبرة الصوت، يجدون في ذلك كله دليل إدانتي، لا حاجة بهم إلى انتزاع اعترافات بما يرهقني، وقد يرهقهم.

أشعر أنه قد نبتت لي مخالب، أنشبها في عنقه.

كيف يحتمل كل هذا الغل في نفسه؟

تعددت مذكرات لفت النظر، والاتهام بالتقصير، والخصم من المرتب، والحرمان من الحوافز، ورفض البدلات والإجازات.

لم أبدل ابتسامتي في وجهه، لا يعرف أني أبتسم تجنبًا لأذاه.

إن وجدتني في جماعة، يتملكني الإحساس بالغربة، تؤلمني النظرات التي تحيط بي من كل جانب، نظرات متسائلة، ومستريبة، ومتشككة، أعاني الريبة والتوقع والخوف من المجهول، كل حركةٍ تدعوني إلى التلفت، الأشياء بلا معنًى، والنظرات من حولي ساكنة بالغموض، أتلفت حولي، كأني محاط بأعداء أجادوا التخفي، أشعر أني أواجه تهمًا لم أرتكبها، حتى وسوسات النخيل في طريق الكورنيش، أتصورها — أحيانًا — في غير صوتها، ضبطت نفسي أدقق النظر في ما ألقى ظله خلف شجرة، عدت إلى نفسي برؤية الجوالات المكومة.

لا أعرف إلى متى سأتحمل هذه التصرفات؟

لماذا لا يبتعدون عن طريقي؟

رأيت كوثر على رصيف الكورنيش، نظراتها المتوترة كأنها تبحث عن شيء، فستانها الذي يقصر إلى ما فوق الركبتين، يختلف عن فستان البيت الذي لم تكن تبدله، حدست أنها تترقب سيارة، تبطئ سيرها، تتوقف، ينفتح لها الباب، فتدخل. أسرعت في خطواتي، اتجهت — حتى لا تراني — إلى الناحية المقابلة.

قال سعد إن والد كوثر تزوَّج على أمها بائعة خضار في شارع صفر باشا، شحمية البدن، لها شعر طويل ينسدل إلى ظهرها، لحظة الجنس عنده ترتبط بالشعر الناعم الطويل، يمسده بيديه وهو يحتضن المرأة.

كان صوتها يجتذبني — عبر التليفون — ببراءته النقية، قدرت عمرها بين الخامسة والعشرين والثلاثين، تقرأ أرقام النداء الآلي المعطلة كي أراجعها، أتبين إن كان العطل طارئًا، أم يحتاج إلى إبلاغ مهندس الوردية؟

عرفت صوتها. لم أبادر — كعادتي — بأي شيء، أوازي الخطوة التي تقطعها، لا أحاول التقدم، يواجهني ما لم أعد له نفسي، ولا أتصوره، لم أواجه ما يحرجني في علاقاتي بزميلات العمل.

فاجأتني البسمة الصافية — ذات عصر — وأنا أطمئن إلى سلامة السويتشات التي أضاءت لمباتها الصغيرة: مازن.

عرفت أنها هي، هززت رأسي، وإن عجزت عن نطق اسمها.

دفعت بالورقة الصغيرة: هذا عطل يخص رئيس تليفونات الإسكندرية.

أردفت وهي تتابع بحثي عن الرقم المعطل: صوتك يعطي سنًّا أكبر.

لم يكن أحدنا يلقي التحية على الآخر، ولا يستوقفه بالسؤال، أو الكلام، يمضي كلٌّ منا في طريقه، لا يتلفت، عندما بدأت نظرة كلٍّ منا تتجه إلى الآخر، أدركت أنها تشغلني.

المصادفة — وحدها — هي التي رتبت لقاءنا خارج مبنى السنترال. بدت مرتبكةً وهي تحمل أكياس طعام، اشترتها من سوق راتب، أخذتُ الأكياس دون أن يخطر في بالي أين تذهب بها.

قالت في لهجة معتذرة: مشواري بعيد.

لم أرد، ولا أومأت إلى أني استمعت لما قالته. واصلت السير جوارها، أنظر إلى ما حولي بعين شاردة، لا أدقق في التفاصيل، ولا أحاول إيداعها الذاكرة.

تنبَّهت إلى أني أحاول سد فراغات الصمت بأسئلة شاغلها الكلام وحده.

– أنادي تاكسي؟

حدجتني بنظرةٍ من طرف عينها: محطة الترام قريبة … البيت في كرموز.

وجدت صعوبة في الوقوف إلى جوارها على المحطة، تدافع الزحام ابتلع كلماتنا، ومحاولاتنا للاقتراب.

في انحناءة ميدان المنشية، راجعت نفسي: هل كنت موفقًا؟ هل أحسنت التصرف لما رافقتها إلى محطة الترام؟ هل عانيت التلعثم والارتباك والرغبة في إظهار التفوق، ومشاعر أخرى يمليها الانفعال؟

لاحظت أني لا أمتلك تعبيرات عاطفية، أقولها في مواقف البوح، تمنیت وأنا أجتر — في مقعدي بالأوتوبيس — ما حدث، لو أني غنيت، صفرت، قفزت إلى أعلى.

رافقني طیف فردوس في عودتي إلى البيت، شغلني عن الطريق — عبر طريق الكورنيش — إلى شارع جودة، كلمتها، واستمعت إليها، ظلت عيناها معي، أطالعهما في كل مكان، تبدو في حروف الجريدة، تملأ صورتها الصفحة. أتخيل سيرنا على طريق الكورنيش، تجاورنا في مقاعد البلكون بسينما فريال، تناولنا ساندوتشات فول وفلافل من محمد أحمد، أسند رأسها على صدري، وأسند ظهري على شجرةٍ في حديقة الشلالات، جلوسها إلى جواري — بدلًا من سعد — على القاعدة الجرانيتية لتمثال سعد زغلول.

•••

تعددت لقاءاتنا.

أدركت المعنى من تلميحاتها، لو أني أغازلها، أهمس بكلمات ترضيها. ظللت مترددًا، حتى ابتعدت. لم يكن ثمة ما أستطيع أن أقوله، فصمت.

لاحت في عينَيها نظرة قلق: أنت دائم التلفت؟

وأنا أعاني الارتباك: أخشى أن يرانا أحد.

أطلقت ضحكة هادئة: تغير الزمن، لم يعُد الناس ينظرون إلى خروج البنت مع شاب نفس النظرة القديمة.

غالبت ارتباكًا في مجاراة ميلها إلى التحرر. لم أنطق كلمات كنت أعددتها في فمي، وحزنت لأني تكلمت حين كان يلزم الصمت.

لامس كفي ظهر يدها، فارتجفت.

شدت — بتلقائية — طرف فستانها، وأسدلته على ساقَيها.

أدمنت النظر إلى كعب قدميها في الحذاء المغطى، خمنت الاستدارة الوردية، شرد خيالي بتحسس فخذها، حتى تستقر راحتي على ركبتها، تسبل عينيها، وتستسلم في استكانة. تتسلل نظراتي إلى ما تحت الجونلة، الهاجس، الحلم، الذي كان يسيطر على تفكيري. تجتاحني رغبة كالجنون في لمس بشرتها، وشم عطر جسدها.

خلعت حذاءها، وسارت — حافية — في زبد الأمواج.

فكرت في أن أخلع حذائي، وأرفع ثنية البنطلون، وأسير — مثلها — على الرمال المبتلة، لكن الارتباك قذف بي في سمواتٍ محملةٍ بالترقُّب والجنون.

شعرت أننا أقرب ما يكون كلٌّ منا إلى صاحبه، لكن الجدار ظل قائمًا، أحتفظ — في نفسي — بكلام كثير، أرجئ ما أنوي قوله إلى موعد لاحق، ثم أرجئه إلى موعد آخر، ظل البوح — بتوالي الأيام — أشبه بالحلم الذي احتواه النوم، التحفظ في تصرفاتها صنع جدارًا غير مرئيٍّ بينها وبيني، حرصت في كلماتي، فلا أضايقها، ألوك الكلمات، ثم أبتلعها، يبدو الصمت شرنقةً ألوذ بها.

مددت يدي، أتظاهر بأني أريد أن أزيح ما علق بقدمها الحافية من فوق الرمال، تغافلت ما داخلني من نشوة لملمس قدمها الناعمة، الدافئة.

نفضت رأسي من خاطر وامض، أن أنحني على موضع قدميها على الرمال، فأقبله.

أتوق للعلاقة بين الولد والبنت، لكنني أخشى التجاهل أو الرفض، إيماءة الضيق تعيد خطواتي إلى الوراء، يأخذني التردد، فلا أجد الشجاعة التي أعبر بها عن مشاعري.

ما الذي يخجلني من هذا الشعور؟ إلى متى أعاني هذه الرغبة؟ لماذا أخجل من البوح؟

لا أذكر متى بدأت تعاني الملل من علاقتنا.

كنت أسير إلى جوارها، لا أجد ما أقوله، وإن داخلتني لذة لالتصاق بلوزتها بقميصي، تمنيت أن تظل إلى جواري، لا تفارقني.

تملكني ارتباك حين أشارت إلى تاكسي: أستأذنك لأستعمل هذا الاختراع!

أحسست أني لم أعُد أمتلك إرادة، أية إرادة، لفَّني سكون، وصمت، وعجز عن التصرف.

لماذا غلبني التردد؟ وهل اتخذت — في تلك اللحظة — قرارها بأن تبتعد؟ هل أصدرت حكمها، وانتهى الأمر؟

لم أتصور أن مشاعرها تجاهي ستفتر بهذه السرعة، وأنها — إن التقتني — ستعبرني بنظراتها. استعدت جلستنا تحت شجرةٍ في نهاية حدائق الشلالات، مالت بوجهها ناحیتي، نفضت فكرة تقبيلها، خشية أن أكون قد أسأت الفهم، تمنيت أن تتكرَّر مرافقتي لها إلى البيت في كرموز، أحمل عنها ما تشتريه، لو أني وضعت يدي على كتفها، وسرنا متباطئين، نتكلم فيما يخطر لنا، مجرد أن نسير معًا، نتبادل الملاحظات عن مشاهداتنا لما في الشرفات والنوافذ والدكاكين والقهاوي وعربات الترام والمارة.

داخلني شعور أقرب إلى الموت، حين استدارت، وواجهتني: إذا أحببت شخصًا … فبالتأكيد لن يكون أنت!

اتسعت المسافة بيني وبينها. حاولت أن أستمع إليها، أراها، أتصل بها على أي نحو، تكرر إغلاق سماعة التليفون، أو تناهى صوت آخر.

أراجع نفسي، أستعيد تفصيلات دقيقة، ربما لم أحسن التصرف، أو قلت ما يضايقها.

إذا لم أكن فاتحتها في الزواج، فإن كلماتي وتصرفاتي عبَّرت عن المعنى، الزواج هو نهاية صداقتنا، وهو ما أريده.

هل أبطأت في تقديم العرض؟

هل تعجلت فردوس حدوثه؟

تبادلنا النظرات، وأنا أتجه نحو ساعة الميقات، وهي تبتعد، وتمضي ناحية المصعد، أدركت أنها تتجنب لقائي، خشيت أن علاقتنا انتهت.

ظللت واقفًا، حتى غادرت المصعد.

لاحظت نظراتي في اتجاهها، أشاحت بوجهها بعيدًا.

لامست ساعدها، أحاول أن أقول شيئًا.

نترت يدي في سخط: لا تعترض طريقي.

آلمتني نظرة عينيها، لا تبين عن معنًى محدد، وإن وشت بسخرية، أو احتقار، هذا هو المعنى الذي تصورته.

علا صوتها إلى حد اجتذاب انتباه الموظفين، كل من امتلأت بهم الصالة الواسعة، التفتوا ناحيتنا بأعين يمتزج فيها التساؤل والقلق والفضول.

أخفضت رأسي، وقلت فيما يشبه الهمس: هل أخطأت؟

رمتني بنظرة حادة: أنت تلبي ما لم أطلبه!

أمسكت بساعدها، أحاول أن أستبقيها، لا أفقدها، لكنها تملصت من قبضتي، وواصلت السير.

صارت فتاة أخرى غير التي أعرفها.

شعرت أن الأرض تميد بي، وأني أوشك أن أسقط مغشيًّا عليَّ، غابت المرئيات والأصوات، لم أعُد أرى أو أسمع شيئًا، تساندت — بعفوية — على الجدار، حاولت التماسك كي لا أقع.

تمنيت أن أموت.

تكررت رؤيتي لها — في الأيام التالية — أمام الساعة الميقاتية، أو أمام المصعد. حرصت على الوقوف بعيدًا حتى تزايل مكانها.

ناوشني سؤال، والقطار يبطئ من سرعته قبل محطة القاهرة: هل سأظل وحيدًا بقية عمري؟

حركة الركاب ابتلعت السؤال في تَهيُّئِهم للنزول. جاريتهم في سحب الحقيبتين من أعلى العربة، واتجهت ناحية الباب.

الشقة من صالة ضيقة، تتصل بحجرتين متجاورتين، المطبخ والحمام إلى يسار المدخل، في زاوية المطبخ باب يفضي إلى المنور، يطلُّ على بناية متهدمة.

صحبني قناوي البواب إلى عين شمس، عدنا بأثاثٍ وأدواتٍ منزلية، تلبي احتياجاتي.

رحلت عن الإسكندرية، لكنني لم أفارقها.

لا أتصور الإسكندرية بدون البحر يحيط بها، تمضي شوارعها إليه، تعيش على المهن المتصلة به، تمارس حياتها في تميز أجوائه، للبحر في الليل رائحة تختلف عن رائحة النهار، هو اختلاف يصعب تمييزه، لكنه هناك، أنصت إلى صوت الليل، صمت سادر، يعمقه ارتطام الموج في صخور الشاطئ، ترامي أغنية من موضع قريب. نداء، نحنحة، هدير محرك سيارة، صياح طائر ليلي، أهازيج ما قبل صلاة الفجر. أعيش النظر إلى أفق البحر، ومرسى القوارب، والبلانسات، والساحل الممتد، والشمس، وتلاحُق الأمواج، وصيحات النوارس، والصخور المعشوشبة، وورش القزق، وغازلي الشباك، وصيادي السنارة والطراحة، وشروات السمك، وحلقات الذكر، والجلوات، والموالد، وترامي الأذان من أبو العباس، وأهازيج السحر، والطائرات الورقية، وصرير عجلات الترام في انحناءة الميدان، حتى الشتاء في الإسكندرية له رائحة أخرى، ملامح مختلفة، الأمطار القليلة على القاهرة تنقلني إلى الإسكندرية: أمطارها المصاحبة للنوات: يا مطرة رخي رخي … على قرعة بنت أختي، أحتمي بالطوابق الأولى في شارع فرنسا وميدان المنشية والشوارع الجانبية.

أسير — من حول البيت — فيما يشبه الدوائر، أتبين أني عدت إلى شارع سرتُ فيه من قبل، أعرفه من واجهة دكان، بواب بادلني السلام، كشك سجاير على ناصية الطريق، أتلفت حتى لا أتوه، ثم أمضي في الاتجاه الذي أتصوره صحيحًا.

حدست أني خلفت ورائي كل ما ينغص حياتي، لكن الإسكندرية ظلت داخلي. عدت إليها في زيارات دافعها الحنين، أعرف المدينة من رائحتها، ليس الملح ولا اليود، أو الطحالب، ولا أية رائحة قد تسم المدينة، لكنها ذلك كله، وتختلف عن ذلك كله، مزيج من الروائح يصنع رائحة خاصة، أميزها عند اقترابي من المدينة، لا ألتفت إلى ما أطمئن به لاقترابي من بحري.

أجد في العلاقة بين الزيتون ومصر الجديدة ما يستعيد الحياة في أحياء الإسكندرية الشعبية وأحياء الرمل، اكتفيت بتصور الحياة في الزيتون، لا يختلفون عن ناس شارع جودة، وشوارع بحري. أقطع خطوات إلى اليمين، ثم أميل إلى الشارع العريض المؤدي إلى مصر الجديدة، جسر بين عالمين.

تركت أثاث شقة الإسكندرية، في بالي أني سأعود إليها، فلا أتركها.

لن تظل التصرفات السخيفة والاتهامات والمطاردات في حياتي إلى ما لا نهاية، حرصت أن أدفع إيجار الشقة قبل موعده، ربما دفعت إيجار أربعة أشهر، أو خمسة، دفعة واحدة.

مات أبي بعد حصولي على شهادة محمد علي الصناعية، رحلت أمي في السنة الأولى لعملي — بسعي منها — في النداء الآلي، صرت بمفردي داخل الشقة، يتناهى صدى صوت أمي، أو أبي، أتلفت ناحية الصدى.

لم أعد أتردد على بيوت أقاربي في الإسكندرية، عدا زيارتين متباعدتين لعمتي تهاني في العطارين، وخالي عبد المجيد في السكة الجديدة، أملاهما تزايد إحساسي بالوحدة، هما القريبان الوحيدان اللذان أخالطهما من عائلة أبي أو أمي.

قبل أن أتهيأ للسفر، حملت حقيبة ممتلئة بالكتب إلى العطارين. تقاضیت خمسين جنيهًا — مقابلًا لها — من مكتبة إخوان الصفا وخلان الوفا، كنت قد قرأت الكتب، فلم يستوقفني المبلغ، وإن احتجت إليه في أول أيامي بالقاهرة.

العمل هو نفسه، ما أفعله في سنترال النداء الآلي، هو ما أفعله في سنترال جسر السويس، تلقي الشكاوى، الاطمئنان إلى تواصل «الباور»، ومراقبة الخطوط، والأعطال، وتغيير الأسلاك المقطوعة، والمهترئة.

حين طالبني المهندس عاطف غيث أن أعالج عطلًا خارج السنترال، هممت أن أكلمه عن طبيعة عملي، لكنني وافقت. في بالي، ألَّا تظهر عداوات تضايقني، لا تتكرر مشكلات الإسكندرية، أعرف أن ما سأفعله كان ينبغي — من سنوات — أن يؤديه غيري، لكنني قدمت للعمل، وليس لإثارة المعارك، أفتح صفحة جديدة، أبدأ من أول السطر.

اكتشفت في السنترال عالمًا مختلفًا عن السنوات التي أمضيتها في سنترال المنشية، عالمًا أهدأ، يغيب فيه التردد والاحتراز، لا ألتفت ورائي، أصل قبل الموعد، أنتظر قدوم المهندس عاطف غيث، أعطي انتباهي حين يلقي الملاحظة، أو السؤال، يومئ إلى زملاء الوردية، يدعوهم للكلام بما يرون.

جذبتني آراء المهندس عاطف إلى المكان، غاب ما كنت أتوقعه من إحساس الغربة، حتى ميلي إلى كتم مشاعري، تخليت عنه في طرح الأسئلة التي تطلب فهمًا، أو إيضاحًا.

أستمع إلى المناقشات، الآراء المؤيدة، والرافضة، والكلمات ذات المعنى، أو التي يغيب معناها، أنتبه إلى الكلمات مهما اتسمت بالعفوية، أي تصرف، مهما يكن صغيرًا، ربما تظاهرت بالإصغاء، أرسم التعبيرات التي تعني المتابعة والفهم، أريد أن أقول رأيي، أهم بالقول، تتقافز الكلمات في فمي، لكنني أخشى الآراء الغاضبة، أو التسخيف، فأسكت، يملؤني ما يشبه الشعور بالنقص، أو أني لا أجيد التعبير عن رأيي، الخيوط التي تصلني بالآخرين متقصفة، تعاني التطاير.

ربما تهيأت لإبداء رأي، لكنني أكتم ما أنوي قوله، أخشى عدم التنبه، أو التسخيف.

يفاجئني السؤال: لماذا لا تشارك في الكلام؟

ألوذ بقاع الحيرة والارتباك.

أرتب الكلمات التي سأقولها، والأسئلة التي ستواجه أسئلتي، والآراء المؤيدة والمعارضة، وما ينبغي أن أقوله في ذلك كله.

الصمت هو الاختيار الأنسب في اختلاف الآراء، ما أطمئن إليه قد يجد رفضًا من شخص أريد صداقته، يربكني أن يوجه لي سؤال يصعب الرد عليه. ربما شاركت برأي، لكنني بعيد عن الأحزاب والتنظيمات السياسية، لا أعرف كيف تدار، ولا شأن لي بخلافاتها.

كانوا أربعة: المهندس عاطف غيث بقامته الضئيلة، وميله إلى الحركة، وكلماته السريعة، واللدغة التي تحيل الراء غينًا. يرى أن الانضباط يجعل كل شيء كما ينبغي. الحاج السيد البدوي صالح اطمأن إلى التسمية منذ أدى فريضة الحج، ناديته: يا أستاذ، رسم على شفتيه ابتسامة: قل لي يا حاج … أبرك!

يبدو أصغر بكثير من سنواته الخمسين، لأنه كان يكثر من الأسئلة، فقد أزمعت تجنبه. فيكتور المطيعي في حوالي الخامسة والأربعين، لكنني علمت بقرب إحالته إلى المعاش، زادت إجازاته، ومال إلى الصمت، وشارك في العمل بما يشبه التصوير البطيء. لم أعرف المسمَّى الوظيفي لثروت الزيات، في أوائل العقد الرابع، يدله المهندس عاطف، أو الحاج السيد البدوي على ما ينبغي فكه، أو قطعه، ويراقبان أداءه حتى ينتهي.

نجلس — في أوقات الفراغ — إلى جانب النافذة المطلة على جسر السويس، تختفي الفوارق تمامًا، تختلط الأسئلة والأجوبة والملاحظات، تعكس كلمات المهندس غيث وجهات نظر تستلفت اهتمامنا. تتكرر فيها مفردات: الديكتاتورية، الفساد، حبيب العادلي، فتحي سرور، صفوت الشريف، زكريا عزمي، كمال الشاذلي، جمال مبارك، أحمد عز، جرائم التعذيب، غسيل الأموال، التزوير، البطالة، العشوائيات، ارتفاع الأسعار، تدهور التعليم والرعاية الصحية، بيع أراضي الدولة، خصخصة المؤسسات الكبرى، توريد الغاز الطبيعي لإسرائيل.

– نحن نملك من الموارد ما لا تملكه دولة أخرى.

وعد بأصابعه: القوة البشرية … قناة السويس … صادرات الزراعة والصناعة … البترول والغاز الطبيعي … تحويلات المصريين في الخارج … السياحة …

رسم فيكتور المطيعي على شفتيه ابتسامة واسعة؛ ليشجعه على مواصلة الكلام.

– التضخم يعاني تأثيراته الفقراء، أما رجال الأعمال والتجار فيعوضون التأثيرات برفع أسعار السلع والخدمات.

أردف لنظراتنا المتسائلة: نحن نشهد مشهدًا ثابتًا من سنوات طويلة … الرئيس وأسرته والحزب الحاكم.

ولوی شفته السفلى في امتعاض: مضى على حكم مبارك ثلاثون سنة … إن كانت هذه المدة في زواج، فسيصاب أحد الزوجَين أو الاثنان بالملل!

وشت نبرة المطيعي بالضيق: الشعوب تثور على حكامها لأسباب أضعف من التي تدعو شعبنا إلى الثورة.

قال ثروت الزيات: هذا نظام فقد شرعيته من أول مرة زور فيها الانتخابات.

ثم في نبرةٍ متصعبة: نحن — في الحقيقة — لا نستحق هذا البلد!

قال الحاج فوزي النمر: لو أن أحداث سنة ١٩٥١ استمرَّت، ربما لم تكن تحتاج إلى ثورة يوليو.

أردف في لهجة تأكيد: كان الشعب هو الذي سيعلن البيان رقم واحد.

قال المهندس عاطف غيث: لا أحد من كل هؤلاء الساسة يخاف على مصر … خوفهم على استثماراتهم.

وهز قبضة يده: مصر الآن أرملة يتزاحم الجميع على خطب ودها.

بحلقت: لماذا أرملة؟

– رحل من كانت تتزوجه.

رفع ثروت الزيات حاجبيه بالدهشة: أحببت عبد الناصر إلى هذا الحد؟!

قال عاطف غيث: كان هذا هو الحال … وهذا ما نحن فيه.

قال المطيعي: صحيح، قيمة أي بلد في نخبته المثقفة، هي التي تصنع تقدُّمه.

أردف بلهجة تأكيد: للأسف، نخبنا المثقفة دينها الفساد!

قال فوزي النمر: ربما لأننا نرفع الشعارات ولا ننفذها … نفعل عكس ما تدعو إليه.

قال السيد البدوي: سعد زغلول قال: ما فيش فايدة.

قال المهندس عاطف: سعد تكلَّم عن شدة المرض وليس عن البلد.

وجال بنظراته حوله، كأنه يطلب تأييدنا لكلامه: لو أن الأوضاع استمرت على ما هي عليه، فلن يكون تسونامي البشر مفاجأة!

قال فوزي النمر: إذا واصلنا التنفس فإن التغيير ممكن.

في نبرة متعالمة، قال السيد البدوي ونحن نتهيأ للانصراف: أنت تفضل التقية … تتظاهر بالموافقة، وتضمر الرفض.

رمقته بنظرة رافضة: هذا شأن الشيعة.

وهو يطيل التحديق في وجهي: بماذا تفسر صمتك؟

– إذا تكلمت فلن أخفي رأيي.

أطلق تنهيدة مستخفة: لذلك تفضل الصمت.

أدركت أني لا أستطيع أن أقول ما أعتزم قوله، هززت رأسي، وظللت صامتًا.

أفضل الصمت، بدلًا من الخطأ في المعلومة، أو الرأي، تستغرقهم المناقشات في أمور أعرفها، لكنني لا أجيد الكلام فيها، أو أني أخشى التورط فيما لا شأن لي به. أضيق بنفسي لميلي — دائمًا — إلى المهادنة والمسايرة وعدم المواجهة، لا أبدي اعتراضًا، لا أسأل ولا أناقش، أُوثِر الابتعاد، ولو إلى داخل نفسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤