الفصل السادس

معلومات إضافية

العلاقة بين الفحم والبطاطس هي علاقة تفكرتُ فيها كثيرًا، دون الوصول إلى أي تفسيرٍ مُرضٍ أكثر من كونهما مُنتجَين يخرجان من باطن الأرض، أي منتجَين ترابيَّين. وتقدم عيادة برنارد أمثلةً عديدة لتلك العلاقة غير المترابطة في حد ذاتها بوجودها إلى جانب متجر السيدة جابليت في حارة فلور دي ليس؛ وهو عبارة عن مغارة مظلمة ومخفية تحت مستوى الشارع بمسافة قدم، مُختبئة أسفل بيتٍ قديم على الجانب الغربي من حارة فيتر؛ بيت خشبي مُتغضِّن من ثلاثة طوابق يترنح بثمالة إلى الخلف بعيدًا عن الطريق وكأنه على وشك الجلوس على فنائه الخلفي.

حين مررتُ أمام هذا المستودع من المنتجات المترابطة في حوالي الساعة العاشرة صباحًا، لاحظتُ في ظلال تلك المغارة شخصًا على هيئة الآنسة أومان. رأتني في اللحظة نفسها، وأشارت لي في حزمٍ بيد تمسك بثمرة كبيرة من البصل الإسباني. اقتربت بابتسامة تظهر الاحترام والتبجيل.

«يا لها من بصلة رائعة يا آنسة أومان! وكم أنتِ كريمة لتقدميها لي …»

«لم أكن أُقدمها إليك. ربَّاه! أليست أشبه برجل …»

قاطعتها قائلًا: «ما الذي أشبه برجل؟ إذا كنتِ تقصدين البصلة …»

ردت بعنف قائلة: «لا أقصد ذلك وأتمنى أن تكفَّ عن هذا الهراء؛ رجل بالغ ويعمل في مهنة خطيرة أيضًا! يجب أن تكون على دراية أفضل.»

قلت بنبرة تأمُّلية: «أعتقد أنه يجب فعلًا.» واستطردتْ قائلة:

«مررتُ على العيادة توًّا.»

«لرؤيتي؟»

«من الذي سآتي من أجله إذن؟ هل تفترض أنني ذهبت لاستشارة التمرجي؟»

«كلَّا بالتأكيد آنسة أومان. إذن أنت لا تثقين في الدكتورة، على أي حال!»

كشرت الآنسة أومان عن أنيابها (وبالمناسبة لديها أنياب بحالة ممتازة جدًّا).

قالت بنبرة مهيبة: «جئتُ بالنيابة عن الآنسة بيلينجهام.»

وعلى الفور اختفى حسُّ الفكاهة من عندي. وقلتُ بقلقٍ مفاجئ أثار ابتسامةً ساخرة من جانب الآنسة أومان: «آمل ألا تكون الآنسة بيلينجهام مريضة.»

ردَّت قائلة: «كلَّا، ليست مريضة، ولكن يدها جُرحت جرحًا سيئًا جدًّا. يدها اليمنى، ولا يمكنها الاستغناء عن استخدامها، فهي ليست رجلًا ضخمًا وفحلًا متنطعًا يمشي متعثرًا؛ لذا، من الأفضل أن تذهب وتضع لها بعض العقاقير عليها.»

وبعد هذه النصيحة، انطلقت الآنسة أومان ناحية اليمين واختفت في غياهب المغارة مثل الساحرة ووكي، بينما أسرعتُ أنا إلى العيادة لأتزوَّد بالمعدات والمواد الضرورية، ومن هناك انطلقت إلى نيفيلز كورت.

أوجزت الخادمة المساعدة للآنسة أومان التي فتحت الباب لي الظروف الحالية بعبارة مُحكمة.

«السيد بيلينجهام في الخارج يا سيدي، ولكن الآنسة بيلينجهام في الداخل.»

وما إن قالت هذا حتى انسحبت إلى المطبخ وصعدتُ الدرج، حيث وجدتُ على رأس الدرج الآنسة بيلينجهام في انتظاري وقد ربطت يدَها اليُمنى بما يشبه قفاز ملاكمة أبيض اللون.

قالت: «سعدتُ بقدومك. لقد ربطتْ فيليس — الآنسة أومان كما تعرفها — يدي، ولكن أودُّ أن ترى ما إذا كانت بخير.»

ذهبنا إلى غرفة الجلوس، حيث وضعتُ أدواتي على الطاولة بينما كنت أستفسر عن تفاصيل الحادثة.

قالت: «من المؤسف جدًّا أن يحدث هذا الآن.» بينما جاهدت لفكِّ واحدة من تلك العقد النسائية الاستثنائية، وبدا وكأنها تتحدى أقصى جهود البراعة البشرية لفكِّها، ورغم ذلك فلهذه العُقَد عادة فريدة لتنحل من نفسها في اللحظات غير المناسبة.

سألتها: «لماذا الآن تحديدًا؟»

«لأن لديَّ بعض الأعمال ذات الأهمية الخاصة التي يجب عليَّ القيام بها. أوكلت لي سيدة مثقفة جدًّا تؤلف كتابًا تاريخيًّا مهمًّا جمْع كل المطبوعات المتعلقة برسائل تل العمارنة، وهي ألواح مكتوبة بالخط المسماري خاصة بأمنحوتب الرابع، كما تعرف.»

قلت بهدوء: «حسنًا، أتوقع أن تكون يدك على خير ما يرام قريبًا.»

«أجل، لكن هذا لن يجدي. يجب أن يتم إنجاز العمل على الفور. يجب أن أُرسل ملاحظاتٍ متكاملة في وقت أقصاه أسبوع من اليوم، وسيكون هذا مُستحيلًا تمامًا. أنا مُحبطة بشدة.»

في هذا الوقت، كنتُ قد فككت الضمادات الكثيرة وكشفت الجرح — كان عبارة عن جرح عميق في راحة اليد تفادى بأعجوبة قطع شريان كبير الحجم. من الواضح أن اليد ستكون عاطلة عن العمل لمدة أسبوع كامل.

قالت: «أظن أنك لا تستطيع معالجتها سريعًا بحيث يُمكنني الكتابة بها؟»

هززت رأسي:

«كلَّا، يا آنسة بيلينجهام. ينبغي أن أضعها في جبيرة. لا يمكننا تحمل المخاطرة بجرح عميق كهذا.»

«إذن، لا بدَّ أن أتنازل عن المهمة، لا أعرف كيف ستُنجِز العميلة هذه المهمة في الوقت المحدد. كما ترى أنا أجيد أدب مصر القديمة على نحوٍ ممتاز؛ في الواقع كنت بصدد تلقي دفعة خاصة من الأموال نظير هذا العمل. ولا بدَّ أنها مهمة مثيرة للاهتمام أيضًا. ورغم ذلك، ما باليد حيلة.»

شرعتُ على نحو منهجي في وضع الضمادات، وفي الوقت نفسه أخذت أفكر مليًّا. كان من الواضح أنها تشعر بخيبة أمل شديدة. فقدان العمل يعني خسارة المال، ولستُ بحاجة لشيء سوى إلقاء نظرة على فستانها الأسود الرث لمعرفة أن هامش السماح بذلك ضئيل جدًّا. ومِن المُحتمل أيضًا أنه يُوجَد بعض الاحتياجات الخاصة التي يجب تلبيتها. بدا أن سلوكها يُوحي بوجود شيء كهذا. وعند هذه اللحظة، جاءتني فكرة رائعة.

قلت: «لست واثقًا من أنه ما باليد حيلة.»

نظرت إليَّ مُستفسرة، فاستطردت قائلًا: «سأتقدَّم بعرض، وسأطلب منكِ أن تُفكري فيه بعقل مُتفتح.»

قالت: «هذا يبدو واعدًا نوعًا ما، ولكن أعِدُك. ما العرض؟»

«هو كما يلي: عندما كنت طالبًا، اكتسبتُ مهارة مفيدة في كتابة ملاحظات مُختزلة. لست مراسلًا سريعًا، كما تعرفين، ولكن يمكنني تدوين الملاحظات من خلال الإملاء بسرعةٍ معقولة جدًّا.»

«أجل.»

«حسنًا، لديَّ بضع ساعات فراغ كل يوم — عادة تكون فترة ما بعد الظهيرة بأكملها وحتى الساعة السادسة أو السادسة والنصف — وخطر ببالي لو أنك تذهبين إلى المتحف في الصباح، يمكنك أن تجلبي كتبك وتبحثي عن الفقرات (يمكنك أن تفعلي هذا بدون استخدام يدك اليمنى)، ضعي إشارات مرجعية، ثم يمكنني أن أمرَّ عليك بعد الظهيرة ويمكنك أن تقرئي لي الفقرات المختارة، ويمكنني أن أدوِّن ملاحظات مختزلة. ينبغي أن ننجز الكثير في غضون ساعتين بقدْر ما يمكنكِ إنجازه في يومٍ من خلال الكتابة العادية.»

صاحت قائلة: «أوه، هذا كرَم منك، دكتور بيركلي! كرم شديد! بالطبع، لا يمكنني التفكير في شغْل وقت فراغك بتلك الطريقة؛ ولكني أقدِّر كرمك كثيرًا.»

شعرتُ بحزن شديد إثر هذا الرفض القاطع جدًّا، ولكني واصلتُ بوهن:

«أتمنَّى أن تقبلي. ربما يبدو من الوقاحة لشخصٍ غريب نسبيًّا مثلي أن يُقدم مثل هذا العرض لسيدة، ولكن لو كنتِ رجلًا — يمرُّ بمثل هذه الظروف الخاصة — فلسوف أتصرَّف بالطريقة نفسها، ولقبلتِ بطبيعة الحال.»

«أشكُّ في ذلك. على أي حال، لستُ رجلًا. أحيانًا أتمنَّى لو كنتُ كذلك.»

هتفتُ بحماس جعلنا نضحك معًا: «أوه، أنا متأكد من أنكِ أفضل كثيرًا كما أنتِ الآن.» في هذه اللحظة، دخل السيد بيلينجهام الغرفة وهو يحمل عدة كتب كبيرة وجديدة مربوطة بشريط.

هتف بحرارة: «حسنًا، أنا مُتيقن! ثمة أشياء لطيفة تحدث هنا. الدكتور والمريضة يضحكان كأنهما طالبان في مدرسة! ما المزحة، إذن؟»

وضع رزمة الكتب على الطاولة مُحدثًا صوتًا قويًّا واستمع مبتسمًا بينما كنت أوضح مُزحتي اللاواعية.

قال: «الطبيب مُحق تمامًا، أنتِ أفضل كما أنتِ عليه فعلًا يا جميلتي، ولكن الله أعلم أي نوع من الرجال كنتِ ستنتمين إليه. خذي بنصيحته ودعي الأمور على حالها.»

ولمَّا وجدته في هذه الحالة المزاجية الجيدة، غامرت بتوضيح عرضي إليه لأستعين بدعمه. قابله بموافقةٍ واعية، وحين انتهيتُ التفتَ إلى ابنته.

وسألها: «ما اعتراضك، يا جميلتي؟»

ردت قائلة: «هذا من شأنه أن يرهق دكتور بيركلي بقدرٍ كبير من العمل.»

قلت: «بل سيمنحه قدرًا كبيرًا من المتعة. سيكون كذلك حقًّا.»

قال السيد بيلينجهام: «إذن، ولِمَ لا؟ نحن لا نمانع الالتزام بأوامر الطبيب، أليس كذلك؟»

صاحت بسرعة: «أوه، الأمر ليس كذلك!»

«إذن، اقْبَلِي عرضَه. هو يعني كل كلمة. إنه تصرُّف كريم وسيروق له القيام به، أنا متأكد من ذلك. حسنًا، أيها الطبيب، هي تقبل عرضك، أليس كذلك، يا جميلتي؟»

«أجل، إن كان هذا قولك، فأنا أقبل، وأنا مُمتنَّة كثيرًا.»

جاء قَبولها بابتسامةٍ رقيقة كانت في حدِّ ذاتها ردًّا كبيرًا للجميل. وبعد أن أجرينا الترتيبات اللازمة، هرعتُ في حالة من الرضا التام لإنهاء جولتي الصباحية من العمل وطلبتُ وجبة الغداء مبكرًا.

وحين جئتُ لاصطحابها بعد مرور ساعتين، وجدتها منتظرةً في الحديقة ومعها الحقيبة الرثة، التي حملتُها عنها، وانطلقنا معًا، تُراقبنا في غيرة الآنسة أومان، التي اصطحبتها حتى البوابة.

لم أكن أصدق حظي السعيد وأنا أسير في الحارة وإلى جواري هذه الفتاة الرائعة. بوجودها معي ووجودي معها والسعادة الناتجة عن ذلك تحولت كل الأشياء المحيطة الوضيعة إلى أشياء عظيمة، وحتى الأشياء الأكثر شيوعًا تبدلت إلى أشياء جميلة. فعلى سبيل المثال، كم كان فيتر لين شارعًا مبهجًا بسحرِه الجذاب وزخارف القرون الوسطى! شممتُ رائحة الجو المعبأة بالكرنب، وبدا كأني أتنفس عبير زهور البروق. حتى منطقة هولبورن بدت وكأنها جنات عدن، وبدت الحافلة التي حملتنا غربًا كأنها عربة المجد، والأشخاص الذين يحتشدون بأعداد غفيرة على الأرصفة كانوا يشبهون الأبرار.

الحب شيء أحمق بحكم معايير العمل اليومية، أفكار العاشقين وتصرفاتهم هي حماقة تفوق كل المقاييس. ولكن معايير العمل اليومية هي معايير خاطئة، فكل ما يفعله العقل النفعي هو شَغْل نفسه بمُتع الحياة السطحية والزائلة، وخلفها تلوح الحقيقة العظيمة والأبدية للحب بين الرجل والمرأة. فتغريدة عندليبٍ في ليلة صيفية هادئة، لها مدلول أهم من حِكَم سليمان كلها (الذي، بالمناسبة، كان له باع طويل مع التجارب العاطفية الرقيقة).

فتَّشَنا الحارس الموجود في المقصورة الزجاجية الصغيرة عند مدخل المكتبة وتركَنا نمر، بمباركةٍ صامتة، إلى الردهة، حيث (حينئذٍ سلمتُ عصاي إلى رجل مهيب أصلع الرأس، وفي المقابل أعطاني قرصًا عليه ما يُشبه التعويذة) دخلنا قاعة مُستديرة ضخمة خاصة بقاعة القراءة.

كثيرًا ما تخيَّلت لو أن دُخانًا مهلكًا له خواص المواد الحافظة بشدة — كمادة الفورمالدهايد مثلًا — يمكنه أن يُخيم على أجواء هذا القسم، فإن مجموعة كاملة وشاملة من الكتب وديدانها تستحق الحفاظ عليها، من أجل توعية الأجيال القادمة، باعتبارها مُلحقًا أنثروبولوجيًّا للمجموعة الأساسية الخاصة بالمتحف، كما أنه لا يُوجَد مكان آخر على وجه البسيطة به عددٌ كبير جدًّا من الأشخاص غريبي الأطوار وغير الطبيعيين مُجتمعين في مكان واحد. وثمة سؤال غريب لا بدَّ أنه يطرأ على ذهن العديد من المراقبين؛ ألا وهو: من أين تأتي هذه المخلوقات الغريبة، وإلى أين تذهب حين تعلن دقات الساعة المميزة (المُهيَّأة لتتناسب مع مجال رؤية محبي الاطلاع) وقت الإغلاق؟ الرجل ذو الوجه التراجيدي مثلًا والذي يعقص شعره على هيئة خصلات لولبية تهتز إلى أعلى وأسفل مثل زنبركات لولبية أثناء سيره! أو الرجل القصير المسن الذي يرتدي رداء الكهنة الأسود والقبعة المستديرة السوداء، والذي يحطم أعصابك حين يستدير فجأة ويكشف عن نفسه باعتباره امرأة في منتصف العمر! إلى أين يذهبون؟ لا يراهم أحد مُطلقًا في مكان آخر. هل يتسللون وقت الإغلاق إلى غياهب المتحف ويختبئون حتى الصباح في تابوتٍ حجري أو صناديق المومياوات؟ أم أنهم يزحفون عبر المسافات الموجودة على أرفف الكتب ويقضون الليل خلف المجلدات في أجواءٍ ملائمة لرُقع الجلد والأوراق القديمة؟ من يدري؟ ما أعرفه أنه حين دخلَتْ روث بيلينجهام قاعة القراءة بدت كأنها مخلوق ينتمي لفصيلةٍ مختلفة مقارنة بهؤلاء، مثل رأس أنطونيوس، الذي كان يقف فيما سبق وسط تماثيل بورتريه الأباطرة الرومان (حيث تم نقله منذ ذلك الحين)، بدت وكأنها رأس إلهٍ موضوع وسط معرض صور لامعة لقرود البابون.

سألتها حين وجدنا مقعدًا فارغًا: «ما الذي علينا فعله؟ هل تريدين البحث في الفهرس؟»

«كلَّا، البطاقات في حقيبتي. الكتب تنتظِر في قسم «الكتب المحجوزة».»

وضعتُ قبعتي على الرف المُغطى بالجلد، ثم وضعتْ قفازها عليها — كم بدا هذا أُلفةً ورفقة مبهجة! — استبدلت الأرقام الموجودة على البطاقات، ثم توجهنا نحو مكتب «الكتب المحجوزة» لجمع المجلدات التي تحتوي على المواد اللازمة لعملنا اليوم.

كانت فترة ما بعد الظهيرة فترة باعثة على البهجة. ساعتان ونصف من السعادة الخالصة قضيتهما على ذلك المكتب اللامع المُغطى بالجلد، مُوجِّهًا قلمي الرشيق عبر صفحات دفتر الملاحظة. قدَّمني إلى عالم جديد — عالم اختلط فيه الحب والعلم والألفة الرائعة وعلم الآثار العتيق بأغرب الاكتشافات وأكثرها خيالًا ومتعة أكثر ممَّا يتخيل العقل البشري. وحتى هذه اللحظة، كانت هذه التواريخ المُعاد سردُها بعيدة تمامًا عن إدراكي. لقد سمعت عن أمنحوتب الرابع المُنشق الرائع — على أكثر التقديرات كان مجرد اسم؛ والحيثيون كانوا مجرد عرق أسطوري ليس لهم وطن؛ والألواح المكتوبة بالخط المسماري كانت بالنسبة إلى ذهني مجرد نوع من رقائق أحفورية غريبة تناسب مَعِدة نعامة قادمة من عصور ما قبل التاريخ.

الآن، تغير كل هذا. بينما كنَّا نجلس على كرسيينا المُلتصقين ببعض، همست في أذني المصغية قصة تلك العصور المثيرة — حيث إن الحديث ممنوع منعًا باتًّا في قاعة القراءة والاطلاع. الأجزاء المُفككة رتَّبت نفسها على هيئة مغامرة لها سحر عظيم. العصور المصرية والبابلية والآرامية والحيثية والممفيسية وعصور حماة ومجدو؛ التهمتُها جميعًا لحُسن الحظ، ودوَّنتها، وطلبت المزيد. أحرجت نفسي مرة واحدة فقط. مرَّ علينا قسٌّ مُسن ذو طابع زاهد وقاسٍ، تعلو وجهه نظرة رفضٍ واضحة، وكأنه يُصنفنا بكل وضوحٍ تحت بند العشاق المُتطفلين؛ وحين قارنت التفسير المُحتمل للقس بخصوص الرسائل الهامسة التي تُصب في أُذني بكل رقةٍ وسرية، والواقع الأليم الذي أعيشه، ضحكتُ بصوت عالٍ. ولكن شريكتي في المهمة توقفت لبُرهة، وهي تضع إصبعها على الصفحة مُبتسمة لتوبخني، ثم واصلت الإملاء. كانت فتاةً مجدة في العمل بكل تأكيد.

كانت لحظة تدعوني إلى الفخر، بعد أن ردَّت مُرافقتي على استفساري «حسنًا!» بقولها: «هذا كل شيء.» وأغلقت الكتاب. لقد استخرجنا عصارة ستة مجلدات كبيرة في ساعتين ونصف.

قالت: «لقد أبليتَ على نحوٍ أفضل من وعدك. كنتُ سأستغرق يومين كاملين من العمل الشاق فعلًا لتدوين الملاحظات التي كتبتها منذ أن بدأنا. لا أعرف كيف أشكرك.»

«لستِ بحاجة إلى ذلك. لقد استمتعتُ بوقتي وأصقلتُ مهارتي في تدوين الملاحظات المُختزلة. ما الخطوة التالية؟ سنحتاج إلى بعض الكتب للغد، أليس كذلك؟»

«أجل، لقد أعددتُ قائمة، فإذا كنتَ ستأتي معي إلى مكتب الفهرسة، فسأبحث عن الأرقام وأطلب منك تدوين البطاقات.»

انشغلنا لمدة ربع ساعة أخرى في اختيار دفعة جديدة من المراجع، وبعد أن سلَّمنا المجلدات التي قتلناها بحثًا، سلكنا طريقنا نحو الخروج من قاعة القراءة والاطلاع.

«أي طريق سنسلكه؟» سألتني أثناء مرورنا من البوابة، حيث وقف رجل شرطة ضخم الجثة، وكأنه ملاك حارس لأبواب الجنة (ولكن حمدًا لله! لم يكن يحمل في يده سيفًا من لهبٍ ليمنع الدخول مرة أخرى).

أجبت قائلًا: «سنذهب إلى شارع المتحف، حيث يُوجَد محل ألبان يمكننا أن نحتسي فيه فنجان شاي رائعًا.»

بدت وكأنها بصدد الاعتراض، ولكن انصاعت أخيرًا، وسرعان ما جلسْنا مُتجاورَين على الطاولة الصغيرة ذات السطح الرخامي، واسترجعْنا الموضوع الذي قُمنا بتغطيته أثناء العمل في فترة ما بعد الظهيرة، وناقشنا عدة نقاط مثيرة للاهتمام أثناء تناولنا إبريق شاي مُشترَكًا.

سألتها وهي تناولني فنجان الشاي الثاني: «هل تقومين بهذا النوع من العمل منذ وقتٍ طويل؟»

أجابت قائلة: «من الناحية المهنية، منذ حوالي عامين فقط؛ في الواقع منذ انهيار منزلنا. ولكن قبل ذلك بوقتٍ طويل اعتدتُ زيارة المتحف مع عمي جون — ذلك الذي اختفى بتلك الطريقة الغامضة جدًّا كما تعرف — ومساعدته على البحث في المراجع. كنَّا صديقين حميمين، أنا وهو.»

قلتُ مُستفسرًا: «أظن أنه كان رجلًا مثقفًا جدًّا؟»

«أجل، بطريقةٍ معينة؛ طريقة تليق بأفضل هواة الجمع، كان رجلًا مثقفًا جدًّا بالتأكيد؛ كان يعرف محتويات كل متحف في العالم، طالما أنه ذو صلةٍ بالآثار المصرية، وكان يدرس عينةً تلو الأخرى. وبالتالي، نظرًا لأن علم الآثار المصرية هو علم المتاحف بوجه عام، فهو عالم آثار مُثقف. ولكن كان اهتمامه الحقيقي مُنصبًّا على الأشياء، لا الأحداث. بالطبع، كان يعرف الكثير — الكثير جدًّا — عن التاريخ المصري؛ ولكنه قبل كل شيء من هواة الجمع.»

«إذن ما الذي ستئول إليه مجموعته إذا كان ميتًا حقًّا؟»

«الجزء الأكبر منها سيذهب إلى المتحف البريطاني حسب وصيته، والباقي ترَكه لمُحاميه، السيد جيليكو.»

«للسيد جيليكو! ربَّاه، ما الذي سيفعله السيد جيليكو بالآثار المصرية؟»

«أوه، هو أيضًا عالم آثار مصرية، ومُتحمس جدًّا. لديه مجموعة تماثيل جعران وغيرها من التماثيل الصغيرة التي يمكن الاحتفاظ بها في منزلٍ خاص. لطالما أرى أن حماسه لكل شيءٍ مصري جعله هو وعمي على هذا المستوى من الألفة والحميمية؛ ورغم أنني أومن بأنه محامٍ ممتاز، فإنه بالطبع رجل مُتحفظ وحذِر للغاية.»

«هل هو كذلك؟ لا أحسبه كذلك، بناءً على وصية عمك.»

«أوه، ولكن هذه ليست غلطة السيد جيليكو؛ إنه يؤكد لنا أنه توسَّل إلى عمي لكي يصوغ له وثيقه جديدة بشروط معقولة أكثر، ولكنه يقول إن العم جون كان ثابتًا على موقفه؛ كان رجلًا عنيدًا جدًّا. ويتبرَّأ السيد جيليكو من أي مسئولية بخصوص هذا الشأن، وينفض يديه من المسألة كلها، ويقول إنها وصية شخص مجنون. ومِن ثَم، ألقيتُ عليها نظرةً خاطفة قبل ليلةٍ أو ليلتين مَضتا، حقًّا لا أستطيع أن أتصوَّر كيف يمكن لرجلٍ عاقل كتابة هذا الهراء.»

سألتها بحماسٍ، مُتذكرًا توجيهات ثورندايك الأخيرة: «أنتِ لديكِ نسخة إذن؟»

«أجل، هل تودُّ الاطلاع عليها؟ أعرف أن والدي أخبرك عنها، وهي تستحقُّ القراءة بدافع الفضول المحض.»

أجبتُ قائلًا: «أودُّ كثيرًا أن أطلع صديقي، دكتور ثورندايك عليها؛ حيث قال إنه مُهتم بقراءتها ومعرفة شروطها؛ ولعله يكون من المُفيد إطلاعه عليها والاستماع إلى ما يقوله بخصوصها.»

علقت قائلة: «لا أرى أي اعتراض، ولكنك تعرف ما يخشاه والدي، أقصد ما يُطلِق عليه «تسوُّل النصيحة المجانية».»

«أوه، لا ينبغي أن يقلق بخصوص هذا الأمر. دكتور ثورندايك يريد الاطلاع على الوصية لأنه مهتم بالقضية. هو متحمس، كما تعرفين، ويرى الطلب كخدمةٍ شخصية يؤديها لنفسه.»

«هذا كرم ولطف بالغ منه، وسأشرح الموقف لوالدي. إذا كان على استعدادٍ لعرض نسخة من الوصية على دكتور ثورندايك، فسأرسلها أو أحضرها هذا المساء. هل انتهينا؟»

من المؤسِف أنني اعترفتُ بأننا انتهينا، وحين دفعتُ الحساب المتواضع، انطلقنا مباشرةً عائدَين في انسجام إلى شارع جريت راسل لتجنُّب ضوضاء الشوارع الكبرى وصخبها.

في تلك اللحظة، أثناء سيرنا في الشارع الهادئ والمهيب سألتها قائلًا: «أي نوع من الرجال كان عمك؟» ثم أضفتُ سريعًا: «أتمنَّى ألا تظنيني شخصًا فضوليًّا، ولكن في رأيي، أراه يقدم نموذجًا لفكرة غامضة، معضلة قانونية غير مألوفة.»

ردَّت بنبرةٍ متأمِّلة: «كان عمي جون رجلًا غريبًا جدًّا، عنيدًا جدًّا، قوي العزيمة، ما يُسمِّيه الناس «متسلطًا»، عنيدًا بشكل حازم وغير منطقي.»

قلت: «هذا بالتأكيد الانطباع الذي تُعبر عنه بنود وصيته.»

«أجل، وليست الوصية وحدها. هناك أيضًا المبلغ السخيف الذي خصصه لوالدي. كان هذا ترتيبًا سخيفًا، وظالمًا للغاية أيضًا. كان عليه أن يقسم الممتلكات كما أراد جدي. رغم ذلك، لم يكن كريمًا على أي حال، كانت لديه طريقته الخاصة وحسْب، وطريقته كانت الطريقة الخاطئة عادةً.»

واستطردتْ بعد توقفٍ قصير قائلة: «أتذكر موقفًا غريبًا جدًّا لعناده الشديد ومُكابرته. كانت مسألةً بسيطة، ولكن التصرف كان معهودًا جدًّا منه. كان لديه في مجموعة مُقتنياته خاتم صغير جميل يعود إلى الأسرة الثامنة عشرة. قيل إنه ينتمي إلى الملكة تي، والدة صديقنا أمنحوتب الرابع، ولكني لا أعتقد أن ذلك مُمكن، لأن الرسمة الموجودة عليه كانت رسمة عين أوزيريس، والملكة تي — كما تعرف — كانت تعبد آتون. ورغم ذلك، كان خاتمًا رائعًا جدًّا، كلَّف العم جون، الذي كان لديه ولع غريب بعين أوزيريس الغامضة، صائغًا ماهرًا جدًّا ليصنع نُسختَين طبق الأصل منه، واحدة له وواحدة لي. أراد الصائغ بطبيعة الحال أن يأخُذ مقاسات أصابعنا، ولكن لم يسمح العم جون بهذا؛ لأن الخاتمين من المُقرر أن يكونا نسختين طبق الأصل، والنسخة طبق الأصل لا بدَّ أن تكون في نفس مقاس النسخة الأصلية. يمكنك أن تتخيَّل النتيجة، كان خاتمي واسعًا جدًّا لدرجة أنني لم أستطع الاحتفاظ به في إصبعي، وخاتم العم جون كان ضيقًا جدًّا، فرغم أنه استطاع ارتداءه، فإنه لم يكن قادرًا أبدًا على خلعه. والموقف الوحيد الذي مكنه من ارتدائه هو أن يده اليُسرى كانت أصغر من اليُمنى.»

«إذن، أنتِ لم ترتدِي خاتمك أبدًا؟»

«كلَّا، أردت تعديله ليتناسب مع مقاسي، ولكنه اعترض بشدة، ولذا وضعته جانبًا، ولا زلتُ أحتفظ به في صندوق.»

علقت قائلًا: «لا بدَّ أنه عجوز عنيد بصورةٍ استثنائية.»

«أجل، كان عنيدًا جدًّا. وأزعج والدي بدرجةٍ كبيرة إثر إجراء تعديلاتٍ غير ضرورية في المنزل الموجود في ميدان كوين. نحن لدينا شعور مُعين تجاه ذلك المنزل؛ لقد عاش فيه أهلنا منذ أن بُني، حين صُمم الميدان لأول مرة في عهد الملكة آن، التي سُمِّي الميدان باسمها. إنه منزل عتيق وعزيز. هل تودُّ أن تراه؟ نحن الآن قريبان منه جدًّا.»

وافقتُ بحماس. وحتى لو كان كوخًا للفحم أو محل أسماكٍ مقلية، لوددتُ زيارته بكلِّ سرور، لكي أطيل من وقت تمشيتنا؛ ولكنني كنت حقًّا مُهتمًّا بهذا المنزل العتيق كجزءٍ من خلفية لغز اختفاء جون بيلينجهام.

عبرنا إلى حارة كوزمو بليس، بصفِّه الغريب من العواميد الحديدية النادرة على شكل مدافع الآن، وما إن اجتزناه حتى توقفنا لبضع دقائق لنُلقي نظرة على الميدان العتيق الهادئ والفخم. كان هناك مجموعة من الصبية يلهون بصخبٍ على صفٍّ من العواميد الحجرية التي تُشكل حارسًا حول المضخة المُحاطة بمصابيح عتيقة؛ وباستثناء ذلك كان المكان مُغلفًا بهدوء مهيب يليق بعمره ومكانته. وبدا سائغًا للغاية في فترة ما بعد ظهيرة هذا اليوم الصيفي، مع أشعة الشمس التي تلمع على أوراق أشجار الدلب المنتشرة وتُضيء القراميد الدافئة اللون لوجهات المنازل. سِرنا ببطءٍ على طول الجانب الغربي المُظلل، وبالقُرب من المنتصف توقفَتْ رفيقتي.

وقالت: «هذا هو المنزل. يبدو الآن كئيبًا ومهجورًا؛ ولكنه كان حتمًا منزلًا يعجُّ بالبهجة في الأيام التي كان يتسنى لأجدادي الوقوف في النوافذ والنظر عبر الساحة المفتوحة للميدان، ومنها إلى حقول المروج ومرتفعات هامبستيد وهاي جيت.»

وقفتْ عند حافة الرصيف تنظر بفضولٍ يشوبه الاشتياق إلى المنزل العتيق؛ تخيلتُ صورة محزنة جدًّا بوجهها المليح ومِشيتها الفخورة، وفستانها الرث وقفازها المُهترئ، تقف على عتبة المنزل الذي عاشت فيه عائلتها على مر الأجيال، والذي كان ينبغي أن يكون مِلكها، والذي كان بصدد أن يئول إلى أيدي الغرباء بعد فترة قصيرة.

نظرتُ إليه باهتمام غريب، متأثرًا بشيء كئيب وبغيض في هيئته؛ كانت النوافذ مُغلقة من القبو وحتى العلية، لا أثر لعلامة تدل على وجود حياة، صامت ومُهمل ومهجور، كان ينفث جوًّا من المأساة. يبدو أنه يرثو سيدَه المفقود بمظهره البالي والمُهمل. كان الباب الضخم داخل الرواق المزخرف الفخم مُغطًّى بالأوساخ، بدا أنه لم يعد قيد الاستخدام تمامًا، مثل مصابيح الكيروسين القديمة أو مطفأة الحريق الصدِئة التي اعتاد الخدم على استخدامها لإخماد مشاعلهم حين تصعد إحدى سيدات بيلينجهام درجات كُرسيها المذهب، أيام الملكة الجميلة آن.

وبذهن واعٍ بعض الشيء ابتعدْنا وعُدنا أدراجنا نحو المنزل من خلال شارع جريت أورموند. كانت رفيقتي مُستغرقة بعمق في الأفكار، تعود لبُرهة إلى ذلك الأسلوب الرزين الذي أثار إعجابي حين التقيتُ بها أول مرة. كنت في حالة من التعاطف المُشفِق، كما لو أن روح الرجل المختفي قد عزمتْ على الانضمام إلى صُحبتنا من المنزل المهيب الصامت.

ورغم ذلك، كانت تمشيةً مُمتعة، وحزنتُ حين وصلنا في النهاية إلى مدخل نيفيلز كورت، ثم توقفت الآنسة بيلينجهام ومدَّت يدَها قائلة:

«إلى اللقاء، وشكرًا جزيلًا على مساعدتك التي لا تُقدَّر بثمن. هلَّا أخذت الحقيبة!»

«كما تُحبين، ولكن يجب أن آخُذ الدفاتر.»

سألتني: «لماذا يجب عليك أخذها؟»

«يا إلهي، ألا يتعيَّن عليَّ أن أنسخ الملاحظات بخطٍّ مُنمق؟»

علا وجهها تعبير ينمُّ عن الصدمة التامة. في الواقع، فوجئتُ تمامًا بأنها نسيت أن تترك يدي.

صاحت قائلة: «يا إلهي! كم أنا غبية! ولكن مُستحيل، دكتور بيركلي! هذا سيستغرق منك ساعات!»

«بلى، هذا من الممكن تمامًا، وسأنجز هذه المهمة، وإلا فلن تكون الملاحظات مفيدة. هل تريدين الحقيبة؟»

«كلَّا، بالطبع، لا. ولكني مُتخوفة جدًّا. أليس من الأفضل أن تتخلَّى عن الفكرة؟»

هتفتُ بنبرة مأساوية وأنا أضغط على يدِها للمرة الأخيرة (حيث أدركتْ فجأة موضعها، وسحبتْها بسرعة جدًّا) قائلًا: «وهذه هي نهاية تعاوننا؟ هل تتخلَّين عن عمل فترة ما بعد الظهيرة بأكملها؟ أنا لا أستطيع بالتأكيد؛ إذن إلى اللقاء غدًا. سأعكف على العمل في غرفة القراءة في أقرب وقتٍ ممكن. من الأفضل أن تأخذي البطاقات. أوه، ولا تنسَي نسخةً من الوصية لدكتور ثورندايك، أليس كذلك؟»

«بلى، إذا وافق والدي، فستحصل عليها هذا المساء؟»

أخذت البطاقات منِّي وشكرتني ثانيةً، واختفت داخل الزقاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤