الفصل السابع

وصية جون بيلينجهام

بالتأكيد بدت المهمة، التي بدأتُها بمرح بالغ، عند التفكير فيها بدمٍ بارد، مُروعة جدًّا، كما قالت الآنسة بيلينجهام. ومن شأن نتيجة العمل المُنتظم لمدة ساعتين ونصف بسرعة مائة كلمة تقريبًا في الدقيقة، أن تستغرق بعض الوقت لكتابتها بخطٍّ منمق؛ وإذا كان يجب تسليم الملاحظات في موعدها صباحًا، فمن الأفضل أن أُسرع بالعمل.

وإذ أدركتُ هذه الحقيقة، لم أضيِّع الوقت، ولكن في غضون خمس دقائق من وصولي إلى العيادة، جلست إلى المكتب ونُسختي أمامي مُنكبًّا على تحويل الحروف المُترامية وغير المُعبرة إلى خطٍّ جيد ومقروء.

لم يكن النشاط بغيضًا مُطلقًا؛ فبالإضافة إلى حقيقة كونه عملًا بدافع الحب، كانت العبارات — التي كنتُ أختارها — مُعطرة بذكرى الهمسات اللطيفة التي جاءت بها إليَّ لأول مرة. ثم إن الأمر في حدِّ ذاته كان مُفعمًا بالاهتمام. حيث إنني اكتسبتُ نظرةً جديدة على الحياة، وعبرتُ عتبة عالمٍ جديد (كانت عتبة عالمها)؛ ومِن ثَم المقاطعات الدورية من المرضى كانت غير مُرحَّبٍ بها على الإطلاق، رغم أنها تعطيني فترات استراحة إجبارية.

مر المساء ببطء دون أي بادرة من زقاق نيفيلز، وبدأتُ أخشى أنَّ شكوك السيد بيلينجهام لا يمكن التغلُّب عليها؛ لا لأنني كنتُ مُهتمًّا جدًّا بنسخة الوصية؛ بل لأنني كنت مُهتمًّا أيضًا بإمكانية الزيارة، مهما كانت زيارةً وجيزة، من جانب صاحبة عملي الجميلة. ومع دقات الساعة السابعة والنصف، فُتح باب العيادة على نحوٍ مفاجئ لتهدأ مخاوفي وتتحطم آمالي في آنٍ واحد. كان القادم هو الآنسة أومان، دخلت مُمسكة بمظروف فولسكاب أزرق تُحيط بها أجواء تُشبه الحرب، كما لو أن مجيئها هو الإنذار الأخير.

قالت: «لقد أحضرت لك هذا من طرف السيد بيلينجهام. يُوجَد رسالة بالداخل.»

سألتها: «هل يُمكنني قراءتها، آنسة أومان؟»

صاحت قائلة: «بوركت يا رجل! وما الذي ستفعله بها غير ذلك؟ أليس هذا هو السبب الذي جُلبت من أجله؟»

افترضتُ أن الأمر كذلك؛ شاكرًا إيَّاها على موافقتها الكريمة، ثم ألقيتُ نظرة سريعة على الرسالة — بضعة سطور تُفوِّضني بعرْض نسخة الوصية على دكتور ثورندايك. وعندما رفعتُ نظري عن الورقة وجدت عينيها مُثبتتَين عليَّ وفيهما تعبير عن النقد أو الرفض بالأحرى.

علقت قائلة: «يبدو أنك تجعل نفسك جديرًا بالقبول لدى جماعةٍ بعَينها.»

«أنا أجعل نفسي جديرًا بالقبول عمومًا؛ إنها طبيعتي.»

قالت مُتذمرة: «ها!»

سألتها: «ألا ترَين أنني مقبول جدًّا؟»

قالت الآنسة أومان: «مداهن!» ثم علقت بابتسامةٍ صفراء على الدفاتر المفتوحة قائلة:

«لديك بعض الأعمال للقيام بها؛ تغيير كبير بالنسبة لكَ.»

«تغيير مُبهج، يا آنسة أومان. «لأن الشيطان يجد طريقه في» … ولكن لا شكَّ أنك على درايةٍ بالأعمال الفلسفية لدكتور واتس؟»

أجابت قائلة: «إذا كنتَ تُشير إلى «الأيدي العاطلة»، فسأقدم لك نصيحة. لا تذر يدك عاطلة لفترةٍ أطول مما هو ضروري حقًّا. لديَّ شكوكي تجاه تلك الجبيرة … أوه، أنت تعرف ما أقصده.» وقبل أن يتاح لي الرد، استغلت دخول مريضين وخرجت مسرعة من العيادة على نحوٍ مفاجئ مثلما جاءت تمامًا.

كان من المُقرر أن تنتهي الاستشارات المسائية بحلول الساعة الثامنة والنصف؛ الوقت الذي اعتاد فيه أدولفوس إغلاق الباب الخارجي للعيادة بدقة مواعيد مثالية. والليلة لم يكن أدولفوس أقلَّ سرعة من المعتاد، وما إن انتهى من تلك المهمة اليومية الأخيرة، وأخفض إضاءة مصباح العيادة، ونقل الحقيبة، حتى رحل.

وعندما اختفت خطواته المتقهقرة رويدًا رويدًا، وأعلن إغلاق الباب الخارجي رحيله الأخير، جلستُ ومدَّدت نفسي. كان الظرف الذي يحتوي على نسخة الوصية موجودًا على الطاولة، تفكرت فيه متأملًا؛ من المفترض أن يُسلَّم إلى ثورندايك دون تأخير، ونظرًا لأنني لا يمكن أن أثق في خروجه من بين يديَّ، يجب أن أُقدمه بنفسي.

ألقيتُ نظرة على الدفاتر. ساعتان من العمل تقريبًا تركتْ أثرًا كبيرًا على الموضوع الذي كان يتعين عليَّ نسخُه، ولكن ظل جزء كبير من المهمة لم يُنجز بعد. إلا أنني تفكرت، يُمكنني أن أقضي ساعتين أو أكثر قبل النوم، وسيكون هناك ساعة أو ساعتان فراغ في الصباح. في النهاية، وضعت الدفاتر، وهي مفتوحة كما هي، في دُرج المكتب، ووضعتُ المظروف في جيبي، وانطلقتُ إلى شارع تيمبل.

أعلن الجرس الرقيق لساعة وزارة المالية، بنغماتٍ سرية، الربع الأخير قبل دقات تمام الساعة، بينما كنتُ أقرع «الباب الخشبي» المنيع لمكتب صديقي. لم يأتِ الرد، ولم أرَ أي بصيص ضوءٍ من النوافذ بينما كنت أقترب، وكنت أفكر في إمكانية التوجُّه إلى المختبر الموجود في الطابق التالي، حين سمعتُ وقع خطواتٍ على السُّلم الحجري وأصواتًا مألوفة تُبهج أذني.

قال ثورندايك: «أهلًا، بيركلي! هل تنتظرنا مثل الحوريات على أبواب الجنة؟ بولتون بالأعلى، كما تعرف، يجرب أحد اختراعاته؛ فإذا وجدت المكتب فارغًا، من الأفضل أن تصعد وتدق باب المختبر. إنه دومًا موجود هناك في المساء.»

قلت: «لم أنتظر طويلًا، وكنتُ أفكر توًّا في إيقاظه قبل مجيئك.»

قال ثورندايك وهو يزيد إضاءة المصباح: «كان هذا صحيحًا. ما الأخبار التي جئتَ بها؟ هل أرى مظروفًا أزرق يبرُز من جيبك؟»

«أجل.»

سألني: «هل هذه نسخة من الوصية؟»

أجبته قائلًا: «أجل.» ثم أضفتُ أنني معي الإذن الكامل بعرضها عليه.

صاح جيرفيس قائلًا: «ماذا قلتُ لكَ؟ ألم أُخبرك بأنه سيأتي بنسخةٍ منها، إذا كانت موجودة؟»

قال ثورندايك: «أعترف بأنك مُتميز في التوقعات، ولكن لا حاجة للتفاخُر. هل قرأتَ الوثيقة يا بيركلي؟»

«كلَّا، لم أُخرجها من المظروف.»

«إذن، سيكون الأمر جديدًا بالنسبة لنا جميعًا، وسنرى ما إذا كان يتطابق مع وصفك.»

وضع ثلاثة كراسي مُريحة على مسافة مناسبة من الضوء، علق جيرفيس وهو يراقبه بابتسامة قائلًا:

«الآن، سيستمتع ثورندايك بوقته. بالنسبة إليه، تُعدُّ الوصية الغامضة تمامًا شيئًا جميلًا ومُبهجًا تمامًا؛ خاصةً إذا كانت مرتبطة بمشكلةٍ عويصة بعض الشيء.»

قلت: «لا أعرف أن هذه الوصية غامضة للغاية؛ الضرر يبدو واضحًا للغاية. ولكن، ها هي.» ثم ناولتها إلى ثورندايك.

قال الأخير وهو يُخرج الوثيقة ويلقي نظرة عليها: «أظن أننا يمكننا الاعتماد على هذه النسخة.» ثم أضاف قائلًا: «أوه، أجل، أرى أنها نسخة كتبها جودفري بيلينجهام، مقارنة بالنسخة الأصلية والصحيحة. في تلك الحالة، سأجعلك تقرؤها ببطء، جيرفيس، وسأقوم بعمل نُسخة تقريبية كمرجعٍ لنا. دعونا نرتاح ونُشعل غلاويننا قبل أن نبدأ.»

جاء لنفسه بلوحة كتابة، وحين جلسنا وأشعلنا غلاويننا، فتح جيرفيس الوثيقة، وبتنهيدةٍ افتتاحية بدأ القراءة.

باسم آمون هذه هي الوصية الأخيرة وشهادة منِّي أنا جون بيلينجهام المُقيم في ١٤١ ميدان كوين، أبرشية سانت جورج بلومزبيري، لندن، بمقاطعة ميدلسكس جينتلمان، إنني في الحادي والعشرين من سبتمبر لعام ألف وثمانمائة واثنين وتسعين ميلاديًّا.

  • (١)

    أمنح وأُورِّث المحامي آرثر جيليكو المُقيم في ١٨٤ نيو سكوير لينكولنز إين لندن، بمقاطعة ميدلسكس، مجموعة مقتنياتي الكاملة من الأختام وتماثيل الجعران، وتلك الموجودة في خزانتي المؤشَّرة ﺑ أ، وب، ود، بالإضافة إلى قائمة المحتويات خاصتها ومبلغ مائتي جنيه إسترليني مُعفاة من ضرائب المواريث.

    وأمنح وأورث الأوصياء على المتحف البريطاني باقي مجموعة مُقتنياتي من الآثار.

    وأمنح وأورِّث ابن عمتي جورج هيرست المقيم في بوبلارز إلثام بمقاطعة كينت مبلغ خمسة آلاف جنيه مُعفاة من ضرائب المواريث، وأمنح أخي جودفري بيلينجهام أو ابنته روث إذا تُوفِّي هو قبلي باقي مُمتلكاتي ومُقتنياتي العينية والشخصية بموجب الشروط الوارد ذكرها فيما يلي:

  • (٢)

    تُدفن جثتي مع جثث أجدادي في مدفن الكنيسة التابع لكنيسة وأبرشية الشهيد سانت جورج، إذا لم يكن هذا مُمكنًا، يتم الدفن في أي مقبرة أخرى تابعة لكنيسة أو معبد أو أي مكان آخر مُرخَّص بدفن جثث الموتى في نطاق أبرشية سانت أندرو المُندرجة تحتها أبرشية بارز والشهيد سانت جورج أو سانت جورج بلومزبيري وسانت جايلز في فيلدز. ولكن إذا لم يتم تنفيذ الشروط المذكورة في هذا البند، حينئذٍ:

  • (٣)

    أمنح وأورث باقي مُمتلكاتي ومقتنياتي المذكورة إلى ابن عمتي جورج هيرست سالف الذكر، وأنا بموجب هذا أُبطل أي وصايا وملاحق كتبتُها في أي وقتٍ مضى حتى الآن، وأعين آرثر جيليكو المذكور أعلاه ليُنفذ وصيتي بالتعاون مع الوارث والمستفيد الرئيسي جودفري بيلينجهام سالف الذكر، إذا تم تنفيذ الشروط المذكورة في البند الثاني على أكمل وجه. ولكن في حالة إذا لم يتم تنفيذ الشروط المذكورة في البند الثاني، فسيكون تنفيذ الوصية بالتعاون مع جورج هيرست سالف الذكر.

جون بيلينجهام

ممهور بتوقيع المُوصي جون بيلينجهام بحضورنا في الوقت نفسه بناءً على طلبه وفي حضوره وفي حضور بعضنا البعض نحن المُوقعين أدناه بأسمائنا كشهود.

فريدريك ويلتون، ١٦ ميدفورد روود، لندن، نورث، موظف
جيمس باربر، ٣٢ وادبيري كريسنت، لندن، ساوث ويست، موظف

قال جيرفيس وهو يضع الوثيقة بينما كان ثورندايك يُحرر آخر ورقة من لوحة الكتابة: «حسنًا، لقد مرَّ عليَّ عدد كبير من الوصايا الحمقاء، ولكن هذه الوصية ربما تتفوَّق عليها جميعًا. لا أعرف كيف يتسنى تنفيذها على الإطلاق. أحد القائمَين على تنفيذها مجرد فكرة تجريدية؛ الأمر أشبه بمسألة جبر ليس لها حل.»

قال ثورندايك: «أظنُّ أنه يمكن التغلُّب على تلك المعضلة.»

ردَّ جيرفيس بحدة: «لا أرى كيف يمكن ذلك. إذا كانت الجثة موجودة في مكانٍ معين، فإن «أ» هو القائم على تنفيذ الوصية؛ وإذا كانت موجودة في مكان آخر، فإن «ب» هو القائم على تنفيذ الوصية. ولكن نظرًا لأنه لا يمكنك العثور على الجثة، وليس هناك أدنى فكرة عن مكان وجودها، فمن المستحيل إثبات ما إذا كانت موجودة في مكان معين أم لا.»

قال ثورندايك: «أنت تضخم المعضلة يا جيرفيس. وبطبيعة الحال، من الممكن أن تكون الجثة في أي مكان في العالم بأسره، ولكن المكان الذي تقبع فيه إما داخل أو خارج حدود هاتَين الأبرشيتين. وإذا دُفنت داخل حدود أي من هاتين الأبرشيتين، فيجب التأكد من هذه الحقيقة من خلال فحص تصاريح الدفن المُصدَرة منذ التاريخ الذي شُوهد فيه الرجل المُختفي على قيد الحياة لآخِر مرة، ومن خلال مراجعة سجلات هذه الأماكن المحددة للدفن. وأظنُّ أنه إذا لم يُمكنَّا العثور على هذا المدفن داخل حدود هاتين الأبرشيتين، فستأخذ المحكمة بهذه الحقيقة كإثباتٍ بأنه لم يتم الدفن، وبالتالي فإن الجثة دُفنت في مكانٍ آخر. وهذا الحكم سيجعل جورج هيرست قائمًا على تنفيذ الوصية والوارث لباقي الوصية.»

علق جيرفيس قائلًا: «هذه أخبار سارة لأصدقائك يا بيركلي؛ حيث إننا نكاد نكون مُتأكدين تمامًا من أن الجثة لم تُدفن في أيٍّ من الأماكن المذكورة.»

وافقتُه الرأي وقلت بنبرة كئيبة: «أجل، أظن أنه ليس هناك شك في ذلك. ولكن يا لحماقة الشخص الذي يضع قائمة بكيفية التعامل مع جثته البغيضة! ما الذي يجعل اللعين يهتم بمكان دفن الجثة في الوقت الذي يكون فيه قد انتهى منها؟»

ضحك ثورندايك بصوتٍ خافت قائلًا: «هكذا هم شباب اليوم غير مُوقِّرين لشيء. ولكن تعليقك ليس مُنصفًا يا بيركلي. تدريبنا يجعلنا ماديين، ويجعلنا لا نتعاطف مع أولئك الذين يعيشون على المُعتقدات البدائية والعواطف. لقد أعرب قسٌّ فاضل، حين زار غرفة التشريح خاصتنا، عن دهشته لي من أنَّ الطلاب، الموجودين باستمرار مع رفات الجثث، يستطيعون التفكير في أي شيء آخر سوى يوم القيامة والحياة الآخرة. كان عالِم نفسٍ سيئًا. ليس هناك شيء أكثر كآبة من موضوع غرفة التشريح، وتأمُّل جسم الإنسان أثناء عملية تشريحه إلى أجزاء — أي تحليله إلى وحدات بنيته الأساسية مثل ساعة حائط بالية أو مُحرك قديم في ساعة خردة — بالتأكيد لا يُفضي إلى إدراكٍ حقيقي لعقيدة البعث والنشور.»

«بلي؛ ولكن هذا القلق السخيف إزاء الدفن في مكانٍ مُعين ليس له علاقة بالمعتقد الديني؛ إنما هو مجرد منطق سخيف.»

قال ثورندايك: «إنه منطق، ولكني لا أصفه بالسخافة. هذا الاعتقاد مُنتشر للغاية عبر الزمان والمكان لدرجة أنه علينا أن نحترمه باعتباره شيئًا متأصلًا في الطبيعة البشرية. تأمَّل — مثلما فعل جون بيلينجهام بلا شك — قدماء المصريين، الذين كان لديهم رغبة عارمة في تحقيق الراحة الأبدية للموتى. لاحظ العناء الذي تكبَّدوه لتحقيق ذلك. تأمَّل الهرم الأكبر، أو مقبرة إخناتون الرابع ذات متاهة الممرات المُضللة وغرَف الدفن المغلقة والمَخفية. تأمَّل يعقوب، حُمِل بعد موته مسافة مئات الأميال المُرهقة لكي يرقد إلى جانب آبائه؛ ثم تذكَّر شكسبير ووصيته الرسمية لذريته بأن يستريح في قبره. كلَّا يا بيركلي، ليس بمنطقٍ سخيف. أنا مثلك لا أكثرت بما ستئول إليه جثتي حين أنتهي منها، حسبما أشرتَ في عبارتك غير المُوقِّرة؛ ولكني أُدرك القلق الذي يساور البعض بخصوص هذا الأمر باعتباره شعورًا طبيعيًّا لا بدَّ من أخذه على مَحمل الجد.»

قلت: «ولكن رغم ذلك، لو كان الرجل لديه رغبة شديدة في دفن الجثة في مقبرة مُعينة، لربما تعامل مع الأمر بقدْر أكبر من العقلانية.»

أجاب ثورندايك: «هنا أوافقك الرأي تمامًا. لم تتسبَّب الطريقة السخيفة التي صِيغ بها هذا الشرط في المشكلة وحسب، وإنما جعلت الوثيقة برمَّتها ذات أهمية كبيرة في ظل اختفاء المُوصي.»

سأل جيرفيس بحماس: «ما مدى أهميتها؟»

قال ثورندايك: «دعُونا نتأمَّل البنود نقطة بنقطة ولاحظا أن المُوصي استعان بخدمات محامٍ مُحنك للغاية.»

قلت: «ولكن السيد جيليكو استنكر الوصية. في الواقع، هو اعترض بقوة على صيغتها.»

ردَّ ثورندايك قائلًا: «سنضع هذا في الاعتبار أيضًا. والآن، بالعودة إلى ما قد نُطلق عليه البنود الخلافية: الشيء الأول الذي يفاجئنا هو ظُلمها المُنافي للعقل. تركة جودفري مشروطة بدفن جثة المُوصي بشكلٍ مُعين. ولكن هذا الأمر ليس بالضرورة تحت سيطرة جودفري. فربما يُفقد المُوصي في البحر، أو يَلقى حتفه في حريقٍ أو انفجار، أو يُتوفَّى خارج البلاد حيث لا يمكن التعرُّف على قبره. فثمة عدد كبير من الاحتمالات الواردة بالإضافة إلى الاحتمال البعيد الذي حدث وحال دون استعادة الجثة.

لكن حتى إذا استُعيدت الجثة، ثمة صعوبة أخرى؛ أماكن الدفن داخل الأبرشيات مُغلقة جميعًا لعدة سنوات. ومن المُستحيل أن يُعاد فتحها بدون صلاحياتٍ خاصة، وأشك ما إذا كانت مثل هذه الصلاحيات مُعترفًا بها. ومن المُحتمَل أن يُمثل إحراق الجثة صعوبة قائمة، ولكن حتى هذا الاحتمال مشكوك فيه. وعلى أي حال، الأمر ليس تحت سيطرة جودفري بيلينجهام. إذا ثبت استحالة الدفن على النحو المطلوب، فمن المُقرر أن يُحرم من ميراثه.»

هتفتُ قائلًا: «إنه ظُلم بَيِّن وعبثي.»

وافقَني ثورندايك الرأي قائلًا: «هو كذلك، لكن هذا لا شيء مقارنة بالسخافة التي يتسلط عليها الضوء حين نتأمَّل البندين الثاني والثالث بالتفصيل. لاحِظا أن المُوصي رغب على الأرجح في أن يُدفن بمكانٍ مُعين؛ كما أنه رغب في أن يستفيد شقيقه من الوصية. دعونا نتناول النقطة الأولى ونرى كيف ضمِن أن يتم تنفيذ ما رغبه. الآن، إذا قرأنا البندين الثاني والثالث بدقة، نرى أنه جعل تنفيذ أُمنياته أمرًا مُستحيلًا من الناحية العملية؛ إنه يرغب في أن تُدفن جثته في مكانٍ مُعين وجعل جودفري مسئولًا عن الدفن بهذه الطريقة. ولكنه لم يمنح جودفري أي سلطة أو صلاحية لتنفيذ الشرط، فالأماكن تُمثل عقبات في طريقه لا يمكن التغلُّب عليها. ولن يمتلك جودفري أي سلطة أو صلاحية، إلا إذا صار قائمًا على تنفيذ الوصية، ولن يصير قائمًا على تنفيذ الوصية إلا إذا نفذ الشرط.»

صاح جيرفيس قائلًا: «إنها مُعضلة سخيفة.»

استطرد ثورندايك قائلًا: «أجل، ولكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر. اللحظة التي يموت فيها جون بيلينجهام، تظهر جثته؛ وهي مدفونة في الوقت الراهن حيثما مات. ولكن ما لم يكن قد تُوفِّي في أحد أماكن الدفن المذكورة — وهو أمر غير مُرجح لأقصى درجة — فستكون جثته في الوقت الراهن مدفونة في مكانٍ ما غير تلك الأماكن المحددة. وفي تلك الحالة، البند الثاني غير مُستوفًى في الوقت الراهن، وبالتالي يُصبح جورج هيرست تلقائيًّا مشاركًا في تنفيذ الوصية.

ولكن هل سينفذ جورج هيرست شروط البند الثاني؟ لن يفعل ذلك على الأرجح. ولماذا ينبغي عليه أن يفعل؟ الوصية لا تحتوي تعليمات بهذا المعنى. بل المهمة بأكملها تُلقى على عاتق جودفري. ومن جهة أخرى، إذا كان ينبغي عليه تنفيذ البند الثاني، فما الذي سيحدث؟ لن يكون قائمًا على تنفيذ الوصية وسيخسر مبلغ سبعمائة جنيه. ولعلنا نكون مُتيقنين تمامًا بأنه لن يفعل شيئًا من هذا القبيل. ومِن ثَم، عند تأمُّل البندَين، نرى أن أمنيات المُوصي لا يمكن تنفيذها إلا إذا كانت جثته موجودةً في أحد المدافن المذكورة، أو إذا نُقلت جثته بعد الوفاة مباشرةً إلى مشرحةٍ عامة في إحدى الأبرشيات المذكورة. وفي أي ظروف أخرى، من المؤكد نظريًّا أنه سيتم دفنه في مكانٍ آخر غير الذي رغب فيه، وبالتالي لن يحصل شقيقه قطعًا على تقديرٍ مادي أو معنوي.»

قلت: «ما كان جون بيلينجهام لينوي ذلك.»

قال ثورندايك موافقًا رأيي: «قطعًا لا، شروط الوصية تُقدم إثباتًا ضمنيًّا بأنه لم يكن ينوي ذلك. تُلاحظ أنه أورث جورج هيرست خمسمائة جنيه، في حالة تنفيذ البند الثاني؛ ولكنه لم يترك أي شيء لشقيقه في حالة عدم تنفيذ البند الثاني. من الواضح أنه لم يضع هذه الاحتمالية في الحسبان. لقد افترض، كمسألةٍ بديهية، أن شروط البند الثاني سيتم تنفيذها، واعتبر الشروط نفسها مجرد شكليات.»

قال جيرفيس مُعترضًا: «ولكن لا بدَّ أن جيليكو يُدرك خطورة عدم التنفيذ وأبلغ موكله بهذا.»

علق ثورندايك قائلًا: «بالضبط! ثمَّة لغز هنا. نُدرك أنه اعترض بشدة وأن جون بيلينجهام كان عنيدًا. الآن، من المفهوم تمامًا أن الرجل مُتمسك في عنادٍ بأغبى وأحمق تصرف في ممتلكاته، ولكن أن يصر الرجل على صياغة الكلمات بشكلٍ مُعين ثبتَ أنها ستتنافى حتمًا مع رغباته؛ هذا ما أصِفه بكونه لغزًا يتطلب دراسةً مُتأنية للغاية.»

قال جيرفيس: «لو كان جيليكو طرفًا مَعنيًّا في الأمر، لشكَّ المرء في أنه يُخفي شيئًا بعيدًا عن الأنظار. ولكن صيغة البند الثاني لا تؤثر عليه مُطلقًا.»

قال ثورندايك: «بلى، الشخص المُستفيد من المعضلة هو جورج هيرست. ولكننا نُدرك أنه كان يجهل بنود الوصية، وبالتأكيد ليس هناك ما يُشير إلى أنه مسئول عن ذلك بأي حالٍ من الأحوال.»

قلت: «السؤال العملي هنا هو: ما الذي سيحدث؟ وما الذي يُمكننا القيام به من أجل آل بيلينجهام؟»

ردَّ ثورندايك: «الاحتمال القائم هو أن الخطوة التالية سيقوم بها هيرست؛ حيث إنه الطرف المعني المباشر. على الأرجح سيتقدَّم بالتماسٍ إلى المحكمة لإصدار قرينة الوفاة وتنفيذ الوصية.»

«وما الذي ستفعله المحكمة؟»

ابتسم ثورندايك ابتسامةً جافَّة وقال: «الآن، أنت تطرح لغزًا رائعًا للغاية. قرارات المحكمة متوقفة على خصوصيات بالغة الحساسية لا يستطيع أحد التنبؤ بها. ولكن يمكن للمرء أن يقول إن المحكمة لا تُصدر قرينة الوفاة بسهولة. سيكون هناك تحقيق صارم — وأظن أنه سيكون تحقيقًا بغيضًا قطعًا — والإثبات سيستعرضه القاضي بنزعةٍ قوية نحو اعتبار المُوصي بأنه لا يزال على قيد الحياة. ومن ناحية أخرى، الحقائق المعروفة تُشير بكل وضوح إلى احتمالية وفاته؛ ولو كانت الوصية أقل تعقيدًا، ولو أن جميع الأطراف المعنية أجمعت على تأييد الالتماس، لا أرى السبب وراء احتمالية عدم إصداره. ولكن سيكون من مصلحة جودفري أن يُعارض الالتماس، ما لم يكن في استطاعته أن يُبرهن على أن شروط البند الثاني مُستوفاة — وهو أمر ليس بإمكانه من الناحية الفعلية قطعًا؛ ولعله يكون قادرًا على تقديم أسباب اعتقاد أن جون لا يزال على قيد الحياة. وحتى إن كان غير قادر على القيام بذلك، بقدْر ما هو واضح بأنه كان يفترض أنه المُستفيد الرئيسي، فمن المُرجَّح أن تكون معارضته ذات وزنٍ كبير لدى المحكمة.»

قلتُ متحمسًا: «أوه، فعلًا؟ إذن، هذا يمثل إجراءً غريبًا جدًّا من جانب هيرست. لقد نسيتُ بغباءٍ أن أُخبرك به. لقد حاول التوصُّل إلى اتفاقٍ سري مع جودفري بيلينجهام.»

قال ثورندايك: «أكيد! أي نوع من الاتفاق؟»

«كان عرضه كما يلي: لا بدَّ أن يدعمه جودفري وجيليكو في تقديم الالتماس إلى المحكمة للحصول على قرينة الوفاة وتنفيذ الوصية، وإذا تمَّ قبول الالتماس بنجاح، يدفع هيرست له أربعمائة جنيه سنويًّا مدى الحياة؛ الاتفاق على تحقيق المصلحة في جميع الاحتمالات.»

«ما الذي يقصده بهذا؟»

«إذا اكتُشفت الجثة في أي وقتٍ مستقبلًا، بحيث يمكن تنفيذ شروط البند الثاني، يحتفظ هيرست بالممتلكات ويظلُّ يدفع لجودفري مبلغ أربعمائة جنيه مدى الحياة.»

صاح ثورندايك قائلًا: «مهلًا! هذا عرْض غريب؛ عرض غريب جدًّا فعلًا.»

أضاف جيرفيس قائلًا: «ناهيك عن كونه مُريبًا، لا أتخيل أن المحكمة ستوافق على ذلك الاتفاق البسيط.»

ردَّ ثورندايك قائلًا: «القانون لا يأخذ بعين الاعتبار أي اتفاقاتٍ بسيطة تهدف إلى الالتفاف حول شروط الوصية، رغم أنه لا يُوجَد شيء للاحتجاج عليه بخصوص هذا العرض لو لم يكن هناك إشارة إلى جميع الاحتمالات. إذا كانت الوصية يتعذَّر تنفيذها على نحوٍ ميئوس منه، فليس من المُستنكر أو غير اللائق أن تعقد الأطراف المستفيدة اتفاقاتٍ سِرية فيما بينها قد تبدو ضرورية لتجنُّب الدعاوى عديمة الجدوى والتأخير في تنفيذ الوصية. فعلى سبيل المثال، إذا عرض هيرست دفع أربعمائة جنيه سنويًّا إلى جودفري طالما ظلَّت الجثة مُختفية، بشرط أنه في حالة اكتشافها، ينبغي على جودفري أن يدفع له مبلغًا مُماثلًا مدى الحياة، فليس هناك شيء للتعليق عليه. فإنه سيكون فرصة مقامرة مألوفة. ولكن الإشارة إلى جميع الاحتمالات هي مسألة مختلفة تمامًا. بالطبع، لعل الأمر مجرد طمع زائد، ولكنه يُشير إلى بعض الأفكار الغريبة جدًّا.»

قال جيرفيس: «أجل، هو كذلك. أتساءل ما إذا كان لديه أي سببٍ يجعله يتوقع أنه سيتم العثور على الجثة؟ بالطبع، هذا لا يعني أن لديه سببًا بالفعل. لعله ينتهز الفرصة التي توفرها ظروف فقر الرجل الآخر ليضمَن الجزء الأكبر من الممتلكات مهما حدث. وأقل ما يُقال عن هذا إنه تصرُّفٌ ماكر جدًّا.»

تساءل ثورندايك: «هل أفهم من ذلك أن جودفري رفض العرض؟»

«أجل، رفض، بشكل قاطع جدًّا؛ وأظن أن الرجُلين شرَعا في تبادل الآراء بشأن ظروف الاختفاء بقدْرٍ من الصراحة أكثر من الكياسة.»

قال ثورندايك: «أها، هذا مُثير للشفقة. إذا عُرضت القضية على المحكمة، لا بدَّ أن يكون هناك قدْر كبير من النقاشات المُزعجة وكذلك التعليقات المزعجة أكثر من جانب الصحافة. ولكن إذا بدأت الأطراف نفسها في التعبير عن شكوكها حيال بعضها البعض، لا أحد يعرف كيف سينتهي الأمر.»

قال جيرفيس: «كلَّا، يا إلهي! إذا بدءوا في تبادل الاتهامات بالقتل فيما بينهم، فستزداد الأمور سوءًا بالانتقام. وهذا الطريق سيؤدي في النهاية إلى المحكمة الجنائية المركزية بإنجلترا.»

قال ثورندايك: «يجب أن نمنعهم من القيام بفضيحةٍ لا داعي لها. وربما تكون الفضيحة لا مفرَّ منها، ويجب التحقق من هذا الأمر مُقدمًا. ولكن بالعودة إلى سؤالك يا بيركلي، بخصوص ما يجب فعله. سيتحرك هيرست على الأرجح ليأخذ خطوةً ما في القريب العاجل. هل تعرف ما إذا كان جيليكو سيتحرك معه؟»

«كلَّا، لن يفعل. إنه يرفض أن يتخذ أي خطوة بدون موافقة جودفري — على الأقل هذا ما يقوله في الوقت الراهن. موقفه هو موقف مُحايد تمامًا.»

قال ثورندايك: «هذا حتى الآن مُرضٍ، رغم أنه قد يُغير موقفه حين تُعرض القضية أمام المحكمة. استنتجتُ مما قلته توًّا أن جيليكو من شأنه أن يُفضل تنفيذ الوصية ويلتزم الصمت بخصوص الموضوع برمَّته؛ وهو أمر طبيعي بالدرجة الكافية، لا سيما أنه مُستفيد بموجب الوصية بمبلغ مائتي جنيه ومجموعة مُقتنيات قيمة. وبالتالي، لعلَّنا نفترض ذلك بدرجةٍ مقبولة، حتى وإن كان يحافظ على درجة حيادٍ ظاهرية، فإن تأثيره سيكون في صالح هيرست أكثر من بيلينجهام؛ وبناء عليه ينبغي أن يُنصح بيلينجهام على نحوٍ لائق قطعًا، وحين تُعرَض القضية أمام المحكمة، يتم تمثيله على نحوٍ لائق.»

قلت: «لا يمكنه تحمُّل تكلفة هذا أو ذاك. إنه فقير فقرًا مُدقعًا ولديه عزة نفس كبيرة. لن يقبل مساعدةً احترافية لا يمكنه تسديد ثمنها.»

قال ثورندايك: «أممم، هذا أمر مُربك. ولكن لا يمكننا أن ندع القضية تسير غيابيًّا، إذا جاز لنا التعبير — بمعنى أن تُخفق بسبب الافتقار إلى المساعدة الاحترافية. بالإضافة إلى ذلك، إنها إحدى أكثر القضايا المُمتعة التي قابلتها في حياتي، ولن أقف لأراها تُخفق. هو لا يستطيع الاعتراض على نصيحةٍ عامة بطريقة ودِّية وغير رسمية؛ من أصدقاء المحكمة على حدِّ قول برودريب العجوز؛ ولا شيء يمنعنا من الحثِّ على بدء التحقيقات التمهيدية.»

«وما الطبيعة التي ستكون عليها هذه التحقيقات؟»

«حسنًا، بادئ ذي بدء، علينا أن نُقنع أنفسنا بأن شروط البند الثاني غير مُستوفاة: أي أن جون بيلينجهام لم يتم دفنه داخل حدود الأبرشيات المذكورة. بالطبع، لم يتم دفنه، ولكن يجب علينا ألا نأخذ أي شيءٍ كأمرٍ مُسَلَّم به. وعلينا أيضًا أن نُقنع أنفسنا بأنه ليس على قيد الحياة، ويمكن الوصول إليه. ورغم ذلك، من الممكن تمامًا أن يكون على قيد الحياة، ومُهمتنا هي العثور عليه، إذا كان لا يزال وسط الأحياء. أستطيع أنا وجيرفيس إجراء تحقيقاتنا دون أن نقول أي شيءٍ لبيلينجهام، أخي المُثقف سيبحث في سجل الدفن — ولا تنسَ سجلات حرْق الجثث — في منطقة العاصمة، وسأتولى أنا الأمور الأخرى.»

قلت: «أنت تعتقد حقًّا أن جون بيلينجهام ربما يكون على قيد الحياة؟»

«نظرًا لأنه لم يتم العثور على جثته، فمن الواضح أنه احتمال قائم. أعتقد أنه احتمال بعيد لدرجة كبيرة، ولكن لا بدَّ من التحقيق في هذا الاحتمال البعيد قبل أن نتمكن من استبعاده.»

علقتُ قائلًا: «يبدو أنه تحقيق ميئوس منه إلى حدٍّ ما. كيف تكون البداية في رأيك؟»

«أفكر في البدء من المتحف البريطاني. ربما يستطيع العاملون هناك أن يُلقوا بعض الضوء على تحركاته. أعرف أن هناك بعض عمليات التنقيب المُهمة قيد التنفيذ في هليوبوليس. في الواقع، مدير قسم الآثار المصرية موجود هناك في الوقت الحالي، ودكتور نوربيري الذي يتولى مكانه بشكل مؤقت، هو صديق عزيز لبيلينجهام. لعلِّي أزوره وأحاول اكتشاف ما إذا كان هناك أي شيء شجَّع بيلينجهام على السفر فجأة إلى هليوبوليس، مثلًا. ولعلَّه يستطيع أن يُخبرني ما الذي جعل الرجل المفقود يسافر إلى باريس في تلك الرحلة الأخيرة الغامضة جدًّا. ربما يكون هذا دليلًا مهمًّا. وفي الوقت نفسه، لا بدَّ أن تحاول ببراعةٍ إقناع صديقك، يا بيركلي، بفكرة إطلاعنا على القضية. وأوضِحْ له أنني سأقوم بذلك بالكامل لتوسيع نطاق معرفتي.»

سألته قائلًا: «ولكن ألا يتعيَّن عليك أن تستشير مُحاميًا؟»

«أجل، من الناحية النظرية؛ ولكن على سبيل اللياقة الأدبية فقط. ولكننا سنقوم بالعمل الفعلي كله. لماذا تسأل؟»

«كنت أفكر في أتعاب المحامي، وكنت سأذكُر أن لديَّ مبلغًا صغيرًا خاصًّا بي …»

«إذن، احتفظ به لنفسك، يا صديقي العزيز؛ ستحتاج إليه عند مُزاولة المهنة. لن تكون هناك صعوبة بخصوص المحامي؛ سأطلب من أحد أصدقائي أن يتصرف بصفةٍ شكلية كخدمة شخصية لي — مارشمونت قد يقبل القضية منَّا يا جيرفيس، أنا متأكد.»

قال جيرفيس: «أجل أو أصدقاء المحكمة على حدِّ قول برودريب العجوز.»

قلت: «هذا لُطف بالغ منكما أن تتطوَّعا بالاهتمام بقضية أصدقائي، وأتمنَّى ألا يتملَّكهما العِناد وعزة النفس بكل حماقة؛ فهذا من شيم الفقراء.»

صاح جيرفيس قائلًا: «سأُخبرك بشيء! لديَّ فكرة نيرة؛ ستُعدُّ لنا عشاءً صغيرًا في دارك وتدعو آل بيلينجهام ليلتَقُوا بنا، ثم سنُقنِع أنا وأنت الرجل العجوز، وسيمارس ثورندايك سلطات الإقناع على الفتاة. هؤلاء الرجال المُتمرِّسون الذين يُعانون من العزوبية المُستعصية والمزمنة، كما تعرف، لا يمكن مقاومتهم نهائيًّا.»

علق ثورندايك قائلًا: «أنت تلاحظ مُساعدي المحترم يتَّهمني بالعزوبية الأبدية.» ثم أضاف: «ولكن اقتراحه جيد جدًّا. بالطبع، يجب ألَّا نمارس أي نوعٍ من الضغط على بيلينجهام لخدمة أغراضنا — هذا ما يرقى إليه الأمر حتى لو لم نقبل الأتعاب — ولكن حديثًا وديًّا على مائدة العشاء، سيُمكننا من طرح الأمر بدقة وعلى نحوٍ مُقنِع أيضًا.»

قلت: «أجل، أرى ذلك، الفكرة أعجبتني كثيرًا. ولكن هذا غير مُمكن لبضعة أيام، لأن لديَّ مهمة تشغل وقت فراغي بالكامل، ومن المُفترض أن أعمل عليها الآن.» أضفتُ العبارة الأخيرة في حالة ذهول مفاجئ من الطريقة التي نسيتُ بها تمضية الوقت في الاهتمام بتحليل ثورندايك للأحداث.

نظر إليَّ صديقاي نظرةً متسائلة، وشعرتُ بضرورة توضيح قصة اليد المصابة ورسائل تلِّ العمارنة؛ وهو ما قمتُ به على نحوٍ خجول جدًّا وبنظرةٍ متوترة مُثبتة على جيرفيس. غير أن الابتسامة العريضة المُتراخية، التي كنتُ أنتظرها، لم تظهر أبدًا؛ بل على العكس، لم يَسمعْني بآذانٍ مصغية واهتمام بالِغ وحسْب؛ بل حين انتهيتُ من حديثي، قال بنبرةٍ دافئة، مستخدمًا كُنيتي القديمة بالمستشفى:

«سأقول لك شيئًا واحدًا يا بولي؛ أنت صديق صالح، ولطالما كنتَ كذلك. أتمنى أن يُقدِّر أصدقاؤك في نيفيلز كورت هذه الحقيقة.»

أجبتُ قائلًا: «هم أكثر امتنانًا مما يتطلَّبه الموقف. ولكن بالعودة إلى هذا السؤال: إلى أي مدًى يُناسبكما هذا الأسبوع؟»

ردَّ ثورندايك بنظرةٍ خاطفة إلى مُساعده قائلًا: «يُناسبني.»

وقال الأخير: «وأنا كذلك. إذن، إذا كان اليوم مناسبًا لآل بيلينجهام، فسنعتبر الأمر محسومًا؛ أما إذا لم يتمكنوا من الحضور، فيجب عليك أن تُرتِّب ليلةً أخرى.»

قلتُ وأنا أقوم من مقعدي ونفضتُ غليوني: «عظيم جدًّا! سأوجِّه دعوةً غدًا. والآن، يجب أن أرحل لأستكمِل العمل بِكدٍّ لتدوين تلك الملاحظات.»

بينما كنت في طريق عودتي إلى المنزل تأمَّلتُ بمرح فكرة استقبال أصدقائي تحت سقف داري (أو بالأحرى دار برنارد)، إن أمكن استدراجُهما خارج نُسكِهما المُنعزِل. في الواقع، كانت الفكرة التي خطرت على بالي، ولكن حالت دونها طباع مُدبرة منزل برنارد. حيث إن السيدة جامر كانت من ربَّات البيوت اللاتي يجعلن أبسط الأمور مُعقَّدة، بالتحضيرات على أعلى وأروع مستوًى. ولكن هذه المرة لن يثنيَني شيء. إن كان من الممكن إغراء ضيوفي بالمجيء إلى داري المُتواضع، فسيكون من السهل تدبير أمر المواد الخام للوليمة من الخارج. استغرقتُ في التفكير في الطرق والموارد على نحوٍ مُبهج حتى وجدتُ نفسي مرةً أخرى أجلس إلى مكتبي، وأمامي مُسوَّدات كثيرة عن وقائع حرب شمال سوريا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤