تقديم الطبعة الثانية

طبعة مُنقَّحة ومزيدة

انطلقَت الفلسفة على مدار القرن العشرين عازِفة عن بناء أنساق شامخة، لتغدو تياراتها واتجاهاتها مناهج أكثر من أن تكون مَذاهب؛ أي أسلوبًا للبحث وطريقة للنظر وليست مَصفوفة من الحقائق أو بناءً مَهيبًا من الأفكار المُطلَقة. غلب الاهتمام بالواقعي والعيني والمعيش والفعلي والنِّسبي والمتغيِّر، والنأي عن المُطلَق والمُجرَّد والذِّهني الخالص. ومن ناحية أخرى تَواترَت مُتغيِّرات القرن العشرين عميقة وشاملة، يَتصدَّرها فارس الحلبة المعرفية في العصر الحديث بجملته: العلم وتطبيقاته التكنولوجية والتي بلغَتْ حد التلاعب بقُدس أقداس الحياة وبيئاتها، وأَفضَت إلى ثورة المعلومات والاتصالات والنانو … وما إليه.

ويأتي الخبر الأصدق عن تطورات الفلسفة في القرن الحادي والعشرين من فلسفة العلم الراهنة، فلم تَعُد تقتصر على مَنطِق العلم ومنهجه، بل تنشغل أيضًا بقضايا مُستجدَّة؛ كفلسفة البيئة، وأخلاقيات العِلم، وقِيم الممارَسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسَّسات الاجتماعية الأخرى، فضلًا عن علاقته بالأشكال الثَّقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى.

في هذا الإطار برز على ساحة الفلسفة الغربية تيار يمثل إضافة حقيقية، وتجسيدًا لقيم ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية، ويعكس مُتغيِّرات وطبائع الفلسفة الراهنة، إنه الفلسفة النِّسْوِية التي ظهرَت بوادرها منذ سبعينيات القرن العشرين.

قامت من أَجْل رَفْض مُطابَقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذُّكورِيَّة، ورَفْض اعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل، والعلم، والفلسفة، والتاريخ، والحضارة جميعًا، وتَجدُّ لإبراز الجانب الآخَر للوجود البشري الذي طال قَمْعه وكَبْته. وتعمل الفلسفة النِّسْوية على خَلخَلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأُنْثَوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية سادت لتعني الأعلى والأدنى، المَركز والأطراف، السَّيِّد والخاضع. امتدَّت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الاستعمارية والإمبريالية.

وكما ذكرتُ في أكثر من موضع، تعمل الفلسفة النِّسْوية على فضح ومقاوَمة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظُّلم والقهر والقَمْع، وتفكيك النماذج والممارَسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخَر المُهمَّش والمقهور، والعمل على صياغة الهُوِيَّة وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية مِنَ التطور والارتقاء المُتناغِم الذي يَقلِب ما هو مألوف، ويُؤدِّي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا. أمعَنتْ في تحليلاتها النقدية لِلبِنية الذُّكورِيَّة التَّراتُبيَّة (الهيراركية)، وتَوغَّلتْ في استجواب قِسمَتها غير العادلة، وراحت تَكسِر الصَّمت، وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تَولَّدت عن عملية إعطاء أسماء لمُشكِلات لا اسم لها، وعَنونَة مَقولات لا عناوين لها.

الفلسفة النِّسْوية أعمق من مُجرَّد المُطالَبة بالمساواة مع الرجال. فلا بُدَّ من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري؛ لِسَبْر أعماق التَّهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أي حدٍّ كان جائرًا؛ تمهيدًا لاجتثاثه من جذوره. لا بُدَّ من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كَنِساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جَدْوى إظهارها وإيجابيَّاتها وفعالياتها، وصياغة نظرية عن الهُوِيَّة النِّسْوية. وكان امتداد الفلسفة النِّسْوية إلى مجال الإبستمولوجيا، والميثودولوجيا، وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقًّا؛ جعلتها استجابة عميقة للموقف الحضاري الراهن.

فقد كان العلم الحديث أكثر مِن سواه تجسيدًا للقيم الذُّكورِيَّة، فانطلق بروح الهَيمَنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، مِمَّا تَمخَّض عن الكارثة البيئية، واستغلال قُوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى. فترفض فلسفة العلم النِّسْوية التفسير الذُّكوري الوحيد المطروح للعِلْم بِنواتِجه السلبية، وتُحاوِل إبراز وتفعيل جوانب ومَجالات وقِيَم مختلفة خاصة بالأنثى؛ كالعاطفة، والخيال، وعُمق الارتباط بالآخَر، والرعاية طويلة المَدى، كلها جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها في عالَم العلم بحكم السيطرة الذُّكورِيَّة، ويجب أن يفسح لها المجال لإحداث توازن منشود. وبات من الضروري استحضار منهجية علمية أكثر إنسانية وأكثر كفاءة وشمولية، لا تنفي منهجية العلم السائدة أو تريد أن تَحل مَحلَّها، بل فقط أن تتكامل معها من أَجْل التَّوازُن المنشود.

هكذا تُحاوِل الفلسفة النِّسْوية أن تُضيف إلى العلم ومنهجه قيمًا أنْكرَها، فكان اشتباكها الحميم بالقضايا المُستجَدَّة التي أشَرْنا إليها كالبيئة، وأخلاقيات العِلم، وعلاقته بالمؤسَّسات الاجتماعية الأخرى، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى.

ولئن كان الشغل الشاغل للفلسفة النِّسْوية هو نَقْد العقل الذُّكُوري، عقل الهيمنة والسيطرة، فَقدْ رأَتْه يَتجسَّد في فلسفة العلم التنويرية والوضعية، يَتجسَّد في النموذج التنويري الحداثي، وهو وَجْه آخَر للمركزية الغربية التي تَعنِي أن الثقافة الغربية تَتمتَّع بالسيادة والتفوق، فتمثل معايير الحكم على الحضارات والثقافات الأخرى؛ ليكون تَقدُّمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع. أصبح ناموس كل الأشياء: إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة … تبعًا لمدى الاقتراب منه في التَّراتُب الهَرمي الجامع.

سادَت مركزية الحضارة الغربية العالَمِين بفضل المد الاستعماري، وقَهرَت ثالوث الأطراف: قَهرَت المرأة، وقَهرَت الطبيعة لِتخلُق مشكلة البيئة، وقَهرَت شعوب العالَم الثالث. والفلسفة النِّسْوية ترفض التراتُب الهَرَمي (الهيراركي) أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعة إلى تقويض مركزية العقل الذُّكُوري؛ تحريرًا للمرأة وقِيَمِها الأُنْثَوية، وبالمِثْل تحريرًا للبيئة، ثم تشعر أنها مسئولة عن مواجهة الوجه الآخر المتضخِّم للمركزية الذُّكورِيَّة؛ أي مركزية الحضارة الغربية، فكان نَقْض هذه المركزية ونَقْض مركزية كل مركز في طليعة الأهداف.

لقد وجدَت الفلسفة النِّسْوية طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقَدْر ما هي فلسفة للبيئة، وفلسفة لتحرُّر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نِير الاستعمارية والمركزية الغربية. تفخر النِّسْوية الغربية بدور النساء المكافِحات اللاتي شاركْنَ في النِّضال للتَّحرُّر من الاستعمار، شاركْنَ بأنفسهن ولم يَقتصرْنَ على إنجاب الرجال المُناضلِين. فكانت المرأة قُوَّة خَفيَّة، وقوة ظاهرة في النِّضال من أجْل الحرية وتحقيق الذات القومية.

اشتَبكَت النِّسْوية بالقضايا الشائكة المُتعلِّقة بالهُوِيَّة واللغة والقومية. تُحاوِل استكشاف وتقويم المفاهيم المُتعلِّقة بالمرأة عَبْر الثقافات المختلفة. ولا ثقافة تفوق الأخرى أو تَعتَبِر نفْسَها الأرقى، فالنِّسْوية قامَت أصلًا من أَجْل تقويض التَّراتُبيَّة. تَوهَّجَت معها قيمة التَّعدُّدية الثقافية والاعتراف بالآخر، حتى اقتحمَتْ فلسفة العلم وفرضَتْ قضية العلم مُتعدِّد الثقافات، فضلًا عن قضية التَّعدُّدية المنهجية السابقة. وفي هذا تنزع فلسفة العلم النِّسْوية إلى أن تكون تحريرية، تَمدُّ علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة؛ لِتكشف عن الشكل العادل لوجود البشر في العالَم، وترى العلم علمًا بقَدْر ما هو مُحمَّل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بُدَّ أن يكون ديمقراطيًّا يقبل التَّعدُّدية الثقافية والاعتراف بالآخَر. لقد كان استبعاد المركزية الذُّكورِيَّة من العلم استبعادًا للمركزية الغربية، وللاستعمارية، وللعنصرية.

على الإجمال كانت فلسفة العلم النِّسْوية مِياهًا جديدة حقًّا تَدفَّقَت في نهر فلسفة العلم ونَظريَّته المنهجية، ورفعًا للواء فلسفات العلم بعد الحَداثية، وبعد الاستعمارية، وبعد التنويرية، وبعد الوضعية، تبحث عن عِلم أكثر إنسانية وكفاءة وفاعلية … أكثر ديمقراطية وأكثر مسئولية إزاء الأطراف الأخرى.

•••

وكانت ترجمة كتاب «أُنْثَوية العلم» من بواكير اقتحام فلسفة العلم النِّسْوية والميثودولوجيا النِّسْوية للمكتبة العربية. صدَرَت طبعته الأُولى عن سلسلة عالَم المعرفة الكويتية المرموقة — الكتاب العربي الأول — منذ عشر سنوات (العدد ٣٠٦، أغسطس ٢٠٠٤م)، أخرجْتُ خلالها بحوثًا ودراسات وترجمات أخرى عن فلسفة العلم النِّسْوية. وشهدَتْ هذه الفلسفة — التي لا تزال تواصل النماء والعطاء — اهتمامًا من جامعات ومراكز عربية شَتى، وتتواتر الجهود فيها، بحثًا وتأليفًا وترجمة.

يظل هذا الكتاب محتفظًا بنضارته، لتتفضل دار رؤية بتقديم الطبعة الثانية، وقد زِيدَت بدراسة رصينة مُعمَّقة له ولترجمته العربية، بقلم الدكتور عادل مصطفى. اجتمع في هذه الدراسة خبرة دارس الفلسفة الدَّءوب ذي الهَمِّ الفلسفي الأصيل، والطبيب النفسي العليم بدخائل النفس ودوائها، والمُترجِم البارع القادر على استبصار مَضامِين النص الفلسفي. فكانت هذه الدراسة لِتَزيد ترجمة الكتاب تنضيدًا وثراءً. وفَّقَنا الله لما فيه خير الثقافة العربية.

يمنى طريف الخولي
جامعة أحمد بلو، نيجيريا
يناير ٢٠١٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤