الفصل الأول

حَجْب الجانب الأُنْثَوي من العلم

على مدار الخمسين عامًا الماضية، أسفَرَت الإنجازات الرائعة للعلم والتكنولوجيا عن عواقب وخيمة لم يتوقَّعْها أحد، تَعصِف بصميم بناء الطبيعة. إن الفيزياء التي هَبطتْ بالإنسان على سطح القمر، قد نجم عنها أيضًا عالَم واقع في شِبَاك التهديد بحرب نووية. والكيمياء التي طوَّرَت تنوعًا هائلًا من اللدائن، خَلَّفتْ أيضًا رُكامًا من نُفايات لا تستطيع الطبيعة أن تستوعبها. والبيولوجيا التي قادت الثورة الخضراء قُدمًا من خلال المُخصِّبات، ومبيدات الحشائش الضارة، والمبيدات الحشرية تُهدِّد بأن تُفضي بنا إلى ربيع صامت.

وبَيْنا أشعر بخيبة الأمل والخوف بشأن الطريقة التي نَتخيَّرها لاستغلال قوة العلم، أشعر أيضًا بالاحترام لتلك القوة وتبجيل إنجازاتنا العقلية. إني لعميقة الاهتمام بما يحدث على سطح هذا الكوكب للنوع البشري وللأنواع الأخرى على السواء. عندما أقرأ عن الكارثة الإيكولوجية الأخيرة، أستشعر الألم بِصميم وُجودي أشعر أيضًا بعناء الأصدقاء والزملاء الذين يجاهدون للبقاء في مؤسَّسات علمية لا تَأبَه بهذا أو لا تنشغل به. ودونت كتابات عن الأمل في تَغيُّرات تلحق بطرائق الأفراد للتفكير بشأن الأولويات والأهداف والعواقب وصميم مسار العلم، تَغيُّرات يمكنها أن تُحيل العلم إلى قوة للحرية، والحقيقة، والإبداع للكائنات طُرًّا. وأحسب أن الأُنْثَوية الكامنة في كل منا — هذا الجزء منا الذي يرى الحياة في سياق، في التواصل المتبادَل بين كل الأشياء وعواقب أفعالنا على الأشياء المقبلة — يمكن أن تساعد في إبراء جراح كوكبنا. لهذه الأسباب نَحَّيتُ العلم التجريبي جانبًا، وكَرَّستُ سنواتٍ أربعًا من عمري لهذا الكتاب.

الكثيرون يُساوِرهم القلق بشأن تأثير التكنولوجيا في البيئة. والبعض يُحمِّلون العلم مسئولية الدمار الذي لحق بكوكبنا. الآخرون يرون العلم أداة يمكن أن تستخدم للحَسَن أو للقبيح، ويعتمد هذا على قِيم البشر الذين يَبرعون في استخدام تلك الأداة. فضلًا عن هذا، يخضع غالبية الأمريكيين للتهويل من شأن العِلم، وبالتالي يجفلون من الإسهام فيه. يتناقص عدد الطلبة الأمريكيين الذين يلتحقون بدراسة العلم. الكثيرون يَتحوَّلون عنه ليس لأنه صعب، بل لأنه يبدو جافًّا وكئيبًا وغير مُرتبط بحياتهم. عامًا إثر عام تَتَّسع الفجوة بين العلماء والعامَّة، طالمَا يتحدث الباحثون لغة تُمعِن في انعزالها. الجديد من الكلمات والألفاظ الأوَّلِيَّة تصف أجزاءً أضأَل وأضأل من الطبيعة: الكواركات والبوزونات، الإكزونات والإنترونات، إتش آي في وإيه زد تي. هذه العملية التحليلية والمنطقية التي تختزل الطبيعة إلى الأجزاء المكوِّنة لها، خاصَّة مميزة للمقارَبة الذُّكورِيَّة التي ترسم مَعالم العلم وحدوده. وحتى آونة حديثة، رأى غالبية العلماء أن الصفات الأُنْثَوية من قَبيل الشعور والعناية غير ملائمة لعملهم — إن لم تكن وخيمة العواقب عليه. أجَل نحتاج إلى لغة تصف كل أجزاء الطبيعة، لكن نحتاج أيضًا إلى استحضار الطبيعة مترابطة الأواصر في منظور أوسع.

إن العلم يَمسُّ شِغاف حياة كل مَن على هذا الكوكب. الكهرباء والسيارات، أجهزة الراديو والكمبيوتر، اللَّدائن، والمبيدات الحَشرية، والبارود، والمضادات الحيوية، جميعها من نِتاج العلم. وبسبب مِن نجاحه، يَنتظر الكثيرون منه أن يجيب عن سائر تساؤلاتهم عن العالَم. لا ريب أن المُغامرة العلمية الجليلة قد زَوَّدتْنا بمعارف مرموقة عن الكون وأنتجَت أدوات مُعجزة لتحسين الظروف البشرية. إلا أنه مع التسربل بدثار النجاح المَهيب لمقارَبة الموضوعية والاختزالية،١ تم تجاهُل أو طمْس سُبل أخرى لدراسة الطبيعة. يكشف فحْص تاريخ العلم الغربي عن واحدة من تلك المقارَبات، إنها المقارَبة التي تُمثِّل وجهة النظر الأُنْثَوية، التي تم تجاهلها منذ البداية.

المفاهيم الغربية للذكورية والأُنْثَوية

هل يَختلف الرجال والنساء فعلًا؟ ثَمَّة مستويات عديدة لهذا السؤال يَسهُل الخلْط بينها. وعلى الرغم من أن بحوثًا أنثروبولوجية وسوسيولوجية ذات اعتبار أجْرَتها مارجريت ميد M. Mead وآخرون تشير إلى أن الجَنْوَسة بِنْية ثقافية، ثَمَّة أقطاب للبيولوجيا الاجتماعية Sociobiology؛ أمثال ويلسون E. O. Wilson بَثُّوا الحياة في أعطاف الحُجَّة القائلة إن الأنماط السلوكية القياسية للذكور والإناث قد تَجدَّدَت بيولوجيًّا. إنها مُناظرة الطبيعة مُقابِل التَّنشئة، وفيما بين هذين الطَّرفين تقع مساحة واسعة من الظلال الكثيفة ووفْرَة من تساؤلات بلا جواب. مثلًا، إلى أي حدٍّ ترتبط الخصائص العقلية والعاطفية ارتباطًا محكمًا بالجَنْوَسة؟ من الناحية العقلية، ثَمَّة كوكبة من النساء المُتخصصات في العلوم والرياضيات مشهود لهن بإنجازاتهن. ومن الناحية العاطفية، ثَمَّة العديد الجَمُّ من الذكور الفنَّانين والموسيقيين والكُتَّاب أفْصَحوا عن أن الكروموسبوم y لم يَحُل بينهم وبين المَشاعر الدافقة. ويظل مَدى تحديد البيولوجيا والثقافة للخصائص السيكولوجية موضوعًا لسِجال مُتَّقد، وبِغضِّ النظر عن أيهما هو أصل الاختلافات، فإن مُعظم الثقافات تربط خصائص مُعيَّنة بأحد الجِنسين أو بالآخر.

عَكست كتابات أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) التفكير في عصره وهَيمَنت على الفكر الغربي لما يربو على ألفين من السِّنِين. إن أرسطو، وهو أعظم مَن قام بجمع وتصنيف المعارف في العالم القديم، يطرح العَرض النَّسقي الأوحد للمعارف حتى عصر النهضة. فكيف نظَر إلى العالم؟ ماذا كَتب عن المرأة؟ هل أقر بقيمة الأُنْثَوية؟

كانت تصوُّرات أرسطو عن المرأة مأخوذة من كوزمولوجيا٢ قائمة على الملاحظة والعقل. لقد آمن بأن النظام سائد وأنه يُوجَد في تَراتُبات هرمية hierarchies تتصاعد في الدهاء والتعقيد. اعتَبَر النطاق العلوي خالدًا لا يَتغيَّر، ما دمنا لا نَلحظ «الكون» و«الفساد»٣ في السموات. إن العقل والغاية يبلغان تمامَهما في السموات السرمدية، التي هي مَقام الآلهة. من الناحية الأخرى، ليس للأرض مثل هذا الدوام. من السهل ملاحظة الكون والفساد على الأرض: الفصول تجيء وتذهب، الحيوانات تُولَد وتنمو، تتناسل وتموت.
طبَّق أرسطو مُصطلَحَي الذَّكر والأنثى على الكون النظامي. تَحدَّث عن الطبيعة بوصفها شيئًا مؤنَّثًا وأسماها «الأم»، بينما أشار إلى السموات والشمس بوصفهما «المُحْدِث» و«الأب».٤ استمسك بأن كل ما هو أعلى ينبغي أن ينفصل بقصارى ما أمكن عمَّا هو أدنى، وهذا يُفسِّر لنا لماذا تنفصل السموات عن الأرض الدنيا. ولأن الذَّكر امتلك القدرات العليا للعقل والرَّوِيَّة، تَبِع هذا «أن علاقة الذَّكر بالأنثى هي بطبيعتها علاقة الأعلى بالأدنى، الحاكم بالمحكوم»٥ اعتبر أرسطو الأُنوثة «تَشوُّهًا على الرغم من أنها تَحدُث في السياق العادي للطبيعة.»٦
في فكر أرسطو، تتقدَّم بذور الرَّجل في عملية التناسل بالمبدأ الفعَّال والروح العاقلة، أما المرأة فهي أساسًا رجل مُجدِب له روح حيوان، وتُسهِم فقط بالمادة التي يعمل فيها المبدأ الفعَّال. وإذا سار كل شيء على ما يرام، ينتج عن الجماع الجنسي نَسْل مُذكَّر. ولكن، إذا كان المبدأ الفعَّال مَعيبًا، ولم يتغلب على مُقاوَمة المادة التي تتقدم بها الأنثى، فسوف يَنْتُج نَسْلٌ مؤنَّث.٧ كتب أرسطو يقول:
كما أن الطفل الصَّغير لأبوين شائِهَين، قد يُولَد شائهًا، وقد لا يُولَد هكذا، بالمثل تمامًا قد يكون الوليد الصغير للأنثى أحيانًا أنثى وأحيانًا ذَكرًا، ذلك أن الأنثى — إذا جاز التعبير — ذَكَر شائِهٌ، والطَّمث [دم الحيض الهاطل] ما هو إلا سائل مَنَوي عَكِر؛ هنالك شيء واحد فقط لا يوجد فيهن، إنه مبدأ الروح.٨

عَبْر القرون الأخيرة، أُهدِرت قيمة الروح، وتَمثَّل هذا في المعاني الدلالية التي تُوحِي بها الأُنْثَوية، وتم إسقاطه على المرأة.

وحتى يومنا هذا، يشعر رجال كثر بالأنوثة بوصفها غريبة و«آخر» تمامًا. والنساء، من حيث هُنَّ كائنات للإنجاب، يُجسِّدْن الطبيعي وغير النظامي واللاعقلاني. الرجال غالبًا لا يَفهمون المرأة؛ إنها تبدو غموضًا ولُغزًا. وفضلًا عن هذا، قد تُثير المرأة في الرجل عواطف وأحاسيس مُتضاربةً، مشاعر قد يراها غير مُؤاتية؛ الحب والكراهية، الحُبور والأسف، الخوف والحَنَق، العار والذَّنْب، تُؤثِّر على سلوك الشخص بطرق مُعقَّدة، وفي الغالب يَصعُب التَّنبُّؤ بها، لِتخلُق الفوضى والشَّواش. المرأة تَحول دون التَّفكير الواضح الفَعَّال الدقيق. ولكي يَشقَّ الرِّجال طريقهم في هذا العالَم، عَملوا على إسقاط العديد من الصِّفات المُهترِئة غير المرغوبة، على ما يبدو من الناحية التاريخية مصدرًا لها، على المرأة، حتى يُنكِروا أي مَنشأ لها عن ذواتهم. بهذه الطريقة أَلْصَق الرجال بِطاقة الأُنْثَوية على تلك الصفات التي لاحظوها في المرأة، بِمعِيَّة تلك الصفات التي ينكرونها على أنفسهم. وبالمِثْل، تم إسقاط تلك الخصائص غير المرغوبة على الناس من الأعراق والقوميات والأجيال والأديان الأخرى. الحضارة الغربية ترَى أن الرَّجُل الناجح هو الموضوعي النابه المنطقي الفَعَّال العقلاني المُستقِل، القَوِي الشَّكيمة، والمُغامِر الشجاع المُهاجِم والمنافِس، الذي يُبدِع ويخترِع ويتحكَّم في مشاعره. لقد أعْلَت الثقافة الغربية من قيمة هذه الصفات، وباتَ لها مردود مادي جَيِّد. يشعر الرجل بالإهانة إذا قيل له إنه «يفكر كما تُفكِّر المرأة».

ينتظر المجتمَع الغربي من المرأة أن تكون وَديعة، تَتقبَّل أي شيء، سلبية وعاطفية، لاعقلانية حَدْسِيَّة ذاتية، شَفوقة حساسة وحَنُونة، لا تُهاجِم ولا تُنافِس. جرَى تقليص ونَبْذ القيمة الإيجابية لتلك الصفات بوصْفِها غير ذات أهمية. يبدو الحب في حضارتنا المادية عارضًا غير ملائِم إلى أقصى حد. ويَتجلَّى هذا في واقعة مُفادها أن وظائف الخدمة الاجتماعية، من قبل أعمال الرعاية، نموذج للوظائف المُنخفضة الأجور.٩

ساد الحطُّ من قيمة الصفات الأُنْثَوية وكَبْحها في العلم الغربي، مثلا انحطت وكُبِحَت في المجالات الذُّكورِيَّة الأخرى كالأشغال الاقتصادية والقانون. ولا يزال مُصطلَحَا «الأُنْثَوية» و«العلم» بالنسبة للكثيرين يَستبعِد الواحدُ منهما الآخَر، مِن المفترَض قبلًا أن العلماء رجال. كثيرات من النساء العالمات يَقُلن جهارًا نهارًا: «آه، لا نحسب أن ثَمَّة أي شيء خاص بالنساء في العلم، العلم هو العلم.» إنهن لا يجرُؤْن على الحديث بشأن الاختلافات بين الجنسين، ويُحاوِلن إقناع الآخَرِين بأن الاختلافات لا وجود لها. كوكبة من العالِمات يُحْجمنَ عن التعبير عن الصفات الأُنْثَوية في عملهن خوفًا من أن يَفقدْنَ مِصداقيَّتهنَّ. واعترفت عالِمة مُتخصِّصة في عِلم الحيوان:

إن الحس السياسي لديَّ يُورِّطني في الاعتراف بأنه إذا كانت نوعية معيَّنة من العلم أُنْثَوية أو مُؤنَّثة، فإن هذا يجعلها من مَرتبة أدنى بِشكْل أو بآخَر. ومَغبَّة هذا تجعلني أميل إلى أن أُنكر أمام العامَّة والخاصَّة أية شائبة أُنْثَوية تَصِم علمي. ولست أفعل هذا فقط بالأصالة عن نفسي، بل أيضًا بالنيابة عن زُمرة النساء العالِمات التي لا زلت أعتبرها زمرة مُحاصَرة … ودَع عنك القول إنها طريقة أُنْثَوية مَعيَّنة للنظر إلى العلم؛ لأني أعتقد أن هذا في عصرِنا الراهن تَشويه للسمعة١٠

لسوء الحظ، نحن جميعًا سواء في الخضوع لتلك الآراء النَّمطية الشائعة عن السلوك «الأُنْثَوي» وذلك حيث يكون رَدُّ فِعلنا أن نذهب إلى الحد الأقْصَى الآخَر المُقابِل لها، فنستبعدها من مخزونِنا الشُّعوري — وننكر عليها التعبير — في حين أنَّنا نُسايرها تمامًا.

إن المُعتقدات بشأن ما هو ذُكوري أو أُنْثَوي، بشأن الطريقة التي ينبغي أن يَتصرَّف بها الرجال والنساء، تُمارِس فِعلها في أن تُقيِّدنا داخل حدود معيَّنة. تختلف التقديرات من ثقافة لأخْرَى، وعلى مدار التاريخ اضطلع الأفراد الأفذاذ بتحدي تلك الحدود، ومُساءلة الفروض المسبقة الكامنة خلف القيود المفروضة على سلوكهم. إن الحائزات على جائزة نوبل؛ أمثال: ماري كوري، وإيرين جوليو كوري، وماريا جوبيرت ماير M. G. Mayer، وجرتي كُري G. Cori، ودوروثي هودكين D. Hodgkin، وروزالين يالو R. Yalo، وبربارة ماك كلينتوك B. McClintock، وريتا ليفي-مونتالسيني R. Levi-Montalcini، وجترود إليون G. Elion، أَثبتْنَ أن النساء قادرات على التَّحلِّي بفضائل «الذُّكورِيَّة» في التفكير المتعقل الواضح. ومع هذا، لا تزال الغالبية في نطاق الثقافة الغربية١١ تَرزَح تحت نِير العقيدة الجمعية القائلة إن الصفات الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية ترتبط بشكل قطعي حاسم بأحد الجنسين أو بالآخَر. وتُمثِّل الرغبة في الظَّفَر بقبول الأقران قوة فعالة دافِعة للبقاء داخل حدود «المعتاد». ولا تزال كثيرات من الفتيات اليافعات يُعرِضنَ عن الرياضيات والعلوم بوصفها ليست أُنْثَوية، أو أن المُدرِّسين أخبروهنَّ أنهنَّ لن يَستطِعنَ فَهْم هذه المواد. وهاك امرأة تَتذكَّر خبرة لها في مدرسة عُليا للفيزياء:

إني أتذكَّر إجابة عن سؤال المُعلِّم حول كيفية عمل الطائرة. وكان هذا شيئًا أفهمُه تمامًا. وبعد الاستماع لإجابتي، سادَ الفصلَ سكونٌ لبُرْهة، ثم نَظرَ المعلم إلى الأولاد في الصف الخلفي قائلا، «لا تَنزعِجوا؛ الفتيات يَستحضِرْن هذه الأشياء من الذاكرة فحسب، إنها في الواقع لا تفهمها.»

وهاك مهندسة كان أكثر من تِسعين في المائة من أساتذتها يَشدُّون من أزْرِها، وعلى الرغم من هذا تستحضر شعورها بأنها مَحجوبة في بعض فصولها الدراسية: «حين كان الأستاذ يُلقي سؤالًا، حدَث أكثر من مرة أن كنتُ أنا فقط مَن يرفع يده للإجابة. كانت عيناه تجوبُ في أنحاء الفصل الدراسي لِيعلن: حسنًا، لا أرى أحدًا يستطيع الإجابة هذا شيء لا يُصدِّقه العقل. تقريبًا أستاذ مِن بين كل عشرة أساتذة على هذه الشاكلة.»

وأحسب أن مُعظَم الرجال لا يَتصرَّفون بهذه الطريقة عن خُبث أو تعمُّد للأذى، بل عن جهل وبِلا وعْي. مثلًا، ذهبتُ مؤخَّرًا إلى الجمعية الزراعية للاستشارة بشأن فحص التُّربة في منزلنا. أعطاني البائع استمارة، وبطريقة وَدودة اقترح عليَّ أن آخذها إلى المنزل حتى يمكن أن يملأها زوجي. والآن أنا التي أقوم بفِلاحة حديقة الأسرة، وأنا كيميائية وأعرف أكثر كثيرًا من زوجي عن أمور من قَبيل الحِمْضِي والقَلَوِي، لكن كل ما في الأمر أنه لم يَخطر على بالِ البائع أن امرأة يمكن أن تكون ذات معرفة ومَقدرة في هذا الأمر. وما زِلْنَا، بطُرق عديدة، نرفع الحجاب عن الإنكار الجَمْعي. والآن يجب علينا، فردًا فردًا، أن نُرسِل أبصارنا إلى ما وراء حدود العقل الجَمْعي، ونعمَل على تَصوُّر الإمكانيات التي نَتَّفق جميعًا وبلا وعْي على إنكارها.

المَنظورات الثقافية المُتقابِلة للذكورية والأُنْثَوية

إن المفاهيم الذُّكورِيَّة كالسَّيِّد العُلْوي الذي لا يُبارَى في القدرة على الفعل والتَّعقُّل والرَّوِية، والأنثى الدُّنيا الأرضية التي تُمثِّل السلبية، والمادة، والفناء، ليست البَتَّة مفاهيم عمومية شاملة. على سبيل المثال، نقَضَت الكوزمولوجيا المصرية كثيرًا من الخصائص المُميِّزة التي نَقرِنها الآن بالذُّكورِيَّة والأُنْثَوية. فقد أرْبَكت ربة السماء «نت»، زوجها «جب» رب الأرض، وفي رسمه يَضْجَع على ظهره بقضيبه المُنتَصِب المُمتَد صَوْب نت. وحين تَلاقَى الاثنان، نشأ الخَلْق، أما «ماعت»، مبدأ النظام والحقيقة والقانون والعدالة والانسجام، فقد تجلَّتْ كربة واقترنت بالتوافق العُلوي في مجال التناسل. وكان الرَّب الذَّكر «تيفون» أو «ست» هو الذي يُمثِّل الشَّواش والفوضى والدمار. كان الرب أوزوريس إله الموت، سيد الفيضان والزَّرع. ولعبت زوجته إيزيس دورًا فعالًا في الأساطير المصرية، وذلك ببحثها عن الأشلاء المتناثرة لجسد أوزوريس المُمزَّق.

أَجَل تمثَّلَت السماء والأرض في آلهة منفصلة، لكن قدماء المصريين لم يَفصِلوا الأرض عن السماء؛ لم يكن ثَمَّة ثُنائية بين الإنسانية والطبيعة. تَجلَّت الحقيقة المُقدَّسة في شَتَّى جوانب الخلْق. عند المصريين، عكسَت الإنسانية بوصْفِها الكون الأصغر ذلك الكون الأكبر: كل ما هو بالداخل يعكس ما كان بالخارج؛ ماهِيَّات البشر وماهِيَّات الأكوان النظامية واحدة، ما هو عُلْوي يُماثِل ما هو دُنيَوي.

في عصور أحدث، سجَّلَت الأنثروبولوجية مارجريت ميد ثقافات عارضَت الأدوار المفروضة على الجنسين في الثقافة الغربية. درست على وجه الخصوص قبيلة تشامبلي في غينيا الجديدة حيث الأنماط المألوفة لسلوك الرجال والنساء خلفًا بخلاف. ها هنا النساء يُدِرْن شئون العمل، يَكسِبْن المال، يَصطدْن الأسماك ويَزرعْن ويُتاجِرن، ويَتعاوَنَّ تعاونًا وثيقًا مع بعضهن البعض، بَيْنا يقوم الرجال بالنَّحت والتصوير، يَتزيَّنون ويُثرثِرون، وكانوا مُتقلِّبِي المزاج وغارِقِين في سيل لا يتوقف من الغَيْرة التافهة والتَّزاحم مع الرجال الآخَرِين. وخَلصتْ ميد إلى أن القوالب النمطية الشائعة لسمات الأُنْثَوية والذُّكورِيَّة ليست فِطْرية، بل كانت نتاجًا للتَّكيُّف الثقافي. إن طريقة تنشئة الأطفال، طريقة الثواب والعقاب على أنماط معيَّنة من السلوك، طريقة رسم الأبطال والأشرار، هذه العناصر، وليست الخصائص المُميزة الفطرية، تُؤثِّر على ارتقاء مزاج وشخصية الطفل. وعلاوة على هذا، فإن الطريقة التي انتظم بها المُجتمَع تُحدِّد الأدوار المُنتظرَة من الذكور والإناث، وبالتالي تُحدِّد القدرات والميول التي سيجري تطويرها في الأطفال من الجنسين المَعنِيَّيْن.١٢

وبينما أرسى أرسطو أحكامًا قِيميَّة على صفات الأُنْثَوية والذُّكورِيَّة، اختلقَت ثقافات أخرى أنظمة للتصنيف لم تكن مُثْقلة بالقِيم على تلك الشاكلة. مثلًا، يصف العلماء الطاويون الصينيون المفهوم الذي يشمل الحياة بأسْرِها، وبواسطته اندرجَت في سياق الحركة، وهو مفهوم تبادُل الأدوار الثابت بين طاقَتين حَيوِيَّتين: مبدأ الين السلبي (كل ما هو مؤنَّث)، ومبدأ اليانج الإيجابي (كل ما هو مُذكَّر). وعن الين واليانج معًا ينشأ كل شيء في العالم، «الأشياء العشرة آلاف».

في هذا النظام، لا يملك جانِب بمفرده الحياة، بل يُوجَد كلاهما في تفاعُل تكاملي مع الآخَر. الين واليانج كلاهما يُعاوِن الآخر؛ وهما معًا يُشكِّلان التوازن والانسجام. وعلى الرغم من التقابُل، لا تَعارُض بينهما ولا تَضاد: وعلى الرغم من الاختلاف، يتمم كلٌّ منهما الآخَر. ثَمَّة حركة متواصلة بينهما، بلا بداية وبلا نهاية، عندما يَصِل اليانج إلى لحظته الخِتامية، يَتجلَّى الين حينئذٍ؛ وحينما يكتمل الين يبدأ اليانج مُجدَّدًا، وبدلًا من التَّراتُب الهَرَمي (الهيراركي) لصفات عُليا ودُنيا، نَجدُهما يُمثِّلان ثُنائية تَتواجد في علاقة انسجاميه، بوصْفِهما جُزأين ضَروريَّيْن من الكل.

الرمز الرامز لهذه العلاقة هو الدائرة التي انقسَمت إلى مُنحنَيين متساوِيَين، الجزء الأيمن المُظلِم يُمثِّل الين، والجزء الأيسر المُنير يُمثِّل اليانج. في سويداء الين بقعة من اليانج، وفي سويداء اليانج نقطة من الين، بما يُبيِّن أن كلًّا منهما يَحوي عنصرًا من الآخَر. يتحرَّك الخط الممتد بينهما حركة مَوجِيَّة مُمثِّلًا لتواصل قوة الحياة، التي هي حركة. ويختلف هذا اختلافًا بائنًا عن تصوُّر أرسطو للعلوي الذي لا يتحرَّك ولا يتناسل، وأن التَّغيُّر فَساد.

الين اليانج
استسلام قوة أولية
مُتلقٍّ، هامد مُقتحِم، فعَّال، ديناميكي
الشعور التفكير
الإيروس، مبدأ الترابطية اللوجوس،* مبدأ الاهتمام الموضوعي بالواقع والمنطق
تطبيق المعرفة المعرفة من أجل المعرفة
الشمولية التحليلية
لا انضباطية انضباطية
الشَّواش النظام
البهجة، المتعة الإنجاز والفعالية
الأمان، الألفة التجربة، المغامرة
حس الجماعة التنافس
الوعي المشتت تركيز الانتباه
الروح، الجسد الرأس، الذكاء
الحدس المعرفة المجتناة عن طريق الحواس
غير المحسوس المحسوس
الاسترخاء التركيز والتصميم
الخضوع، التحفظ المتابَعة، البناء
ناعم صلب
الأرض، الماء النار، الهواء
رطب جافٌّ
الظلام، الليل النور، النهار
القمر الشمس
بارد حار
الشتاء الصيف
سلبي إيجابي
أفقي رأسي
الخضروات اللحوم
الإيروس واللوجوس مبدآن متقابلان في الفلسفة الإغريقية، الإيروس هو مبدأ العِشق، واللوجوس هو مبدأ العقل، وقد تَسلَّلا بالدلالة نفسها إلى لغات حديثة كالإنجليزية. (المترجمة)

هكذا احتوى العِلم الصيني منذ بواكيره على صفات جرَى تعريفها في الغرب على أنها أُنْثَوية. وبدلًا من استلهام الهيمنة على الطبيعة، اتَّخذ الصينيون العلاقة الانسجامية مع الطبيعة مثلًا أعلى لهم:

لم يوجد الكون خِصِّيصى من أجْل إشباع حاجات البشر. كان دَورُهم في الكون أن «يُسانِدوا عمليات تَحوُّل واغتذاء السماء والأرض»، ولهذا يقال كثيرًا إن الإنسانية تُشكِّل ثالوثًا مع السماء والأرض. لم يكن للإنسان أن يُسائل السماء ولا أن يُباريها، بل بالأحرى يَنتظِم في سياقها إذ يُشبِع حاجاته الأساسية … من هنا كانت الكلمة المِفتاح دائمًا هي «الانسجام Harmony»؛ بحث الصينيون القُدامى عن النظام والانسجام خلال الظواهر الطبيعية، وجَعلُوا هذا مثالًا لكل العلاقات الإنسانية. هكذا لم يَكُن العالَم الطبيعي، بالنسبة للصيني، شيئًا مُعاديًا أو شِريرًا، يجب دائمًا إخضاعه بصلابة الإرادة والقوة الضارية، بل هو شيء ما أقرب شبهًا بأعظم الكائنات الحية طُرًّا، يجب فَهْم المبادئ الحاكمة إياه كي نستطيع أن نعيش الحياة في انسجام معها.١٣

كان الطَّاوِيُّون في الصين هم المسئولين أساسًا عن تقدُّم العلم التجريبي، بينما نجد الدارس الكونفوشي لا يَقبَل أبدًا أن يلطخ يديه بعمل من أي نوع، اعتبر الطاوي العلم التجريبي جانبًا من بَحثِه عن الطاو.

لم يَفصِل العلم الصيني الرُّوح عن المادَّة البتة، أو العقل عن الجسد. أعرضت فيزياؤهم عن المادية الميكانيكية، والاختزالية الفيزيائية، وظلَّت مُخلِصة لنموذجها الأصلي وهو النظرية المَوْجية للين واليانج، والعناصر الخمسة (الماء، والنار، والخشب، والمعدن، والأرض). وأبدًا لم تخضع هذه الأفكار للاختزالية؛ لأن العناصر المكونة ظلَّت دائمًا مترابطة معًا وغير قابلة للانفصام في الكل المُتَّصل. وما أمكن البتة فصْل الين عن اليانج، ولا عَزْل الواحد منهما عن الآخَر أو تخليصه، ولا حتى من ناحية النظرية. تَجنَّب العلم الصيني تلك المعرفة المُجرَّدة لمنطق إما «أ» أو «لا أ» وذلك من أجْل علاقات القُوَّتين التي لا تُستبْعَد أيهما. لقد أعلى الطاويون من شأن الشِّدَّة من دون خشونة، والطاقة بغير حِدَّة، والحيوية بغير تَوتُّر.

تكشف النَّظرة الفاحصة للعلم الصيني عن أن التَّوجُّه الغربي نحو استنزاف التكنولوجيا في الهيمنة على الطبيعة، والاستهلاك الحادِّ للطاقة في إزالة الغابات، والتَّعدين، والزراعة القائمة على أساس الكيمياء، ليس هو الطريق الوحيد لاستغلال القوة الهائلة التي وهَبَنا العلم إياها. يعمل الطب الصيني التقليدي على التكامل بين الروح والعقل والبدن، الحمية والأحلام، تَدفُّق الطاقة والاستشعار الفيزيقي، ويظل يُحرِز النجاح التجريبي، بينما يقاوم كل الجهود الرامية لإدخاله في حدود مَقولات الاختزالية الفسيولوجية. وعلى سبيل المثال، يَعجز العلم الغربي عن تفسير فاعلية الوَخْز بالإبر.

لسوء الطالع، هَيمنَت على العلم الصيني بيروقراطية الصفوة التي قاومَت إدخال العلم الحديث والتكنولوجيا ما لم يُحقِّق هذا منافِع ملموسة للبيروقراطية. وحينما بلغَت الصين وضعًا اجتماعيًّا مستقِرًّا نسبيًّا، قليلًا ما عَمِل كبار الموظَّفِين الصينيين على تشجيع الابتكار أو الاتصال التجاري مع العالَم الخارجي. وكنتيجة لهذا، تَخلَّفَت الصين عن الغرب في المهارات التكنولوجية، وخضَعَت لقوة الغرب العسكرية.

نموذج كارل يونج للذكورية والأُنْثَوية

يُقدِّم علم نَفْس الأعماق مع يونج تعريفًا للذكورية والأُنْثَوية أكثر مرونة إلى حدٍّ ما، وإن يكن مرتبطًا بالثقافة، يصف يونج نمَطين مُجرَّدَين للسلوك الإنساني لَيسَا مُتوشِّجَين بالجَنْوَسة التشريحية: إنهما الإيروس وهو مبدأ الترابطية (relatdness) الأُنْثَوي، واللوجوس وهو مبدأ الاهتمام الموضوعي الذُّكُوري. وإذ يعتبرها يونج مَبدأَي السلوك الإنساني، فإنه يرى الإيروس واللوجوس يُمارسان فِعلَهما في النَّفس كمتقابلين أبديين. وربط الإيروس بهذه الصفات: العاطفية، الجمالية، الروحانية، إضفاء القيمة عن طريق الشعور، الدَّهاء، التَّوْق إلى الترابط، إلى القيمة، إلى التواصل، الخَوض في غَمْرة الأشياء والناس، الوصول إلى لُبِّها، التَّماس معها، الارتباط بها، الاستغراق في خِضمِّها … بدلًا من التجريد والتنظير. يَتطلَّب معنى الترابطية هذا أن نُكيِّف احتياجاتنا ورغباتنا مع احتياجات ورغبات الشخص الآخَر ومع مُقتضَيات الموقف. ولكي نفعل هذا لن نستطيع البقاء على تَوجُّه ثابِت، بل لا بُدَّ من المُرونة.

ربط يونج اللوجوس بالعقل، والتفكير الواضح، والفاعلية، والتَّعقُّل رفيع المستوى، وحل المشاكل، والتمييز، وإصدار الحكم، والاستبصار، والتجريد، والحقيقة اللاشخصية التي نصل إليها بموضوعية. ولأن يونج لاحَظ أن التطور الأحادي الجانب لهذا المبدأ أو للآخَر له تأثيرات مُعوِّقة، فقد أكَّد أهمية ترابطية الإيروس بالنِّسبة للرجال، وأهمية تَوجيه اللوجوس بالنسبة للنساء. ولاحَظ أن النمو الذي يُشدِّد على جانب واحد يجعل الفرد مُعاقًا وعاجزًا وفاقدًا للمرونة:

بعد مرحلة مُنتصف العمر، نجد أن الافتقاد الدائم للأنيما [المبدأ الأُنْثَوي في الرجل] يَعنِي تناقُص الحيوية والمرونة والوداعة الإنسانية. عادة ما تكون مُحصِّلةُ هذا افتقادًا للنُّضج يَتمثَّل في التَّصلُّب، والخشونة، والنمطية، وأُحادية الجانب التَّعصُّبية، والعناد، والحَذْلقة، أو نجد خلافًا لذلك؛ الاستكانة، والكَلالة، وعدم الاعتناء بالنَّظافة، وعدم تحمُّل المسئولية …١٤
اعتقد يونج أن المهمة الأساسية لنا في الحياة، وهي عملية النماء السيكولوجي في اتجاه الكُلَّانية (wholeness)، تَتطلَّب تكامُل مَبدأَي الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية. وشَدَّد على أن كل فرد يبلغ الكُلَّانية فقط عن طريق ارتقاء وتكامُل كِلا المبدأين في حَدِّ ذاتهما. وهذا يَهَب الفرد خيارات أوسع، ومصادر للتفاعل مع العالَم. ومن الشائق حقًّا، أن الرجل كُلَّما ارتقى بصفات الترابطية؛ مثل الرعاية والتلقي، لن يبدو أُنْثَويًّا، بل ذا ذكورية أرسخ، ولكن من دون هشاشة الدفاع بعنف الرجولة. وبالطريقة نفسها، حين تستجمع امرأةٌ صفات التَّمييز والتفكير الواضح، تستطيع أن تفعل هذا بطريقة مُوغِلة في الأُنْثَوية، حيث يُخفِّف الحنو من حِدَّة العقل الذُّكُوري.
وأيضًا، الارتكان على أحد جانبي الوعي، الذُّكُوري أو الأُنْثَوي، ارتكانًا يَستبعِد الجانِب الآخر، من شأنه أن يُثبِّط تطوُّر الوعي ذاته في الفرد، طالما أنه لا واحد من المَبدأين يمكنه بلوغ إمكاناته الكاملة من دون الإحالة المُستمِرة إلى مُقابِله. وتُلاحِظ المعالِجة النَّفسية، والكاتبة سوكي كولجريف أن الشخص الذي يُفرِّط في التَّقيُّد بمبدأ التمييز الذُّكُوري قد يشعر أن الحياة فَقدَت معناها.١٥ إن الشخص الذي يتأرجح بين الغرور والقنوط، يشعُر باغتراب متزايد عن الآخرِين وعن الذات. تُمْعِن الذُّكورِيَّة في التمايز، غير مُستهدِية بالتأثير المُتمِّم للأُنْثَوية، بوظائفها في الكشف عن الارتباطات والعلاقات. ومن دون الترابطية، يشعر الشخص بالجفاف ويَفقد مغزى اتجاهه في الحياة. عند هذه النقطة، لا تَستعيد النَّفْس الحياة إلا عن طريق المَلكات الأُنْثَوية في الإنصات، والاستسلام، والقَبول، والانتظار، والتصديق. تخلق الأُنْثَوية العلاقات الضرورية للطبيعة الجُوَّانية والبَرَّانية التي تَستعيد معنى الحياة وغايتها.

والعكس بالعكس، الارتكان المُفرِط على مبدأ الأُنْثَوية يستدرج الوعي إلى خِضَم من حيث تَحتجب كل الاختلافات. يفقد الشخص القدرة أو الإرادة للفعل والتفكير كفرد. إن مبدأ الذُّكورِيَّة ضَروري من أجْل القُدرة على تعيين الصفات الأُنْثَوية المختلفة وتَفهُّمها. إنه يَهَب الشخص القُدرة على تَمييز وخَلْق مَغْزى الذات المُستقِلة، وهو جوهري. من أجْل التَّفهُّم العقلي. كلٌّ من هذين المبدأين يَرى العالَم بعدسات مختلفة، وبالتالي يستقبل عوالم مختلفة. تَطوير نمطي الوعي يجعل الشخص قادرًا على خلْق صورة أكثر ثراء واكتمالًا. وعلى مدى سنوات من المِران والعمل، تَمثَّلت النساء العالمات القدرات «الذُّكورِيَّة». على التمييز، والتحليل، والتفكير العقلاني، والتجريد، وهي قدرات ضرورية لمُمارَسة العلم. أحيانًا تضيع الأُنْثَوية في هذه العملية؛ لأن العلم يحدِّد ذاته بالحدود الذُّكورِيَّة لدرجة أن الأُنْثَوية تبدو غير موائمة لهذه العملية الموضوعية التجريبية.

وبينما تومئ الحتمية البيولوجية إلى أن خصائص الذَّكَر والأنثى مُتوشِّجَة ومحكومة بالجينات (المورثات) والهورمونات، يومئ المنظور التطوري لارتقاء الوعي إلى أن هذه الخصائص سِمات إنسانية مُتاحة لنا جميعًا. وعلى الرغم من أن الصفات يمكن أن تَتطوَّر في سياق مختلف، أو يُعبِّر عنها النساء والرجال بطُرق مختلفة، فإن غرَض كل شخص هو تطوير إمكانياتنا الإنسانية الكاملة. ودَعْنا الآن نُلقي نظرة على الأُنْثَوية والذُّكورِيَّة داخل سياق نظرية كارل يونج في ارتقاء الوعي. وأعتَقِد أن هذا المنظور يمكن أن يضفي المعنى على التطورات التاريخية (هذا كمُقابِل للخوض في المَلام والعتاب)، ويعلو بالنقاش فوق مستوى المسائل التي ارتبطَت ارتباطًا وثيقًا بالجَنْوَسة. وبالطريقة نفسها التي نظَر بها يونج والطاويون إلى الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية، الين واليانج، سوف أشير إلى هذين المبدأين، ليس بوصفهما تعريفين تَحدَّدَا بحسم، بل بالأحرى بوصفهما حاوِيَيْن مَرِنَين طَيِّعيْن لصفات معيَّنة يمتلكها النساء والرجال كلاهما.

الارتقاء النَّفْسي وتطوُّر الوعي

تمامًا كما تمر الأجِنَّة البشرية ببنية أولية هلامية عَبْر مراحل تطوُّرية،١٦ فإنَّ ارتقاء وعي الفره يُوجِز الوعي الثَّقافي. ومن الطبيعي أن يحوي هذا التطور طيفًا واسعًا من التغيُّر بين الأفراد. وبينما يفشل بعض الأفراد في إظهار إمكانية الوعي الذي تكشف عنه ثقافتهم، فإن آخَرِين قد يكونوا روَّادًا لارتقاءات مُستجدَّة في التطوُّر المُتنامِي للوعي.

يضع إريش نيومان في كتابه «أصول الوعي وتاريخه» تخطيطًا مُوجزًا لمراحل ارتقاء الوعي قائمًا على أساس نظرية يونج. وعن طريق تناوُل تطوُّر التصورات الأسطورية يُناقش نيومان تاريخ الوعي الغربي، وكيف أنه يُوازي ارتقاء الوعي في الفرد. وبالنسبة لما نستهدفه الآن، سوف نقتصر على استعراض عامٍّ مُوجَز للمراحل الكبرى في هذا السِّياق للارتقاء.

في البدء كان التَّمام والكُلَّانية؛ في جنَّات عدن، قبل السقوط الكبير. الكل في واحد، الأفعى التي تَلتفُّ على ذاتها في دائرة وتَعض ذَيلها، تَرمُز لهذه المرحلة الكائنة قبل ترسيم حدود المُتقابِلات والفَصْل بينها.

هذه الكُلَّانية اللَّاواعية تُناظِر التَّشارُك الرُّوحي في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث يعجز الأفراد عن التمييز بين ذواتهم وبين الشيء ويشعرون أنهم والموضوع شيء واحد. اللاوعي يَتضمَّن الأنا (ego) ؛ الإنِّيَّة تَدخل في ذات الهُوِيَّة مع الأشياء والأحداث الخارجية. إنَّ فردية الشخص لم تَرتَقِ بعد الأم والأب والمنزل، وكَلْب الأسرة كلها جزء من «ذات» الطفل. عندما يَفقِد الطفل دُمْيَته الأثيرة، يشعر كما لو كان قد فَقَد نفْسَه تَعرِف النَّفْس في هذه المرحلة مَغزًى عميقًا للتواصلية، لكن فقط لأنها لا تستطيع الكشف عن الفارق بين الأنا والآخَر. تَختلط كل المُتقابِلات. تأخذ الدهشة بجنان الطفل، إذ تتراءى له احتمالات لا حصر لها.
رويدًا رويدًا يصبح الطفل واعيًا بالأم كموضوع منفصل، بينما يظل معتمدًا عليها. ومن زاوية التاريخ النفسي، ترتبط مرحلة الاعتماد على الأم تلك بالثقافات التي تعبد الآلهة. ها هنا يَسود اتجاه نازِع للسلام والسكون والتأمُّل مما يُفسِح المجال للأم الكبرى، والقُوى الأَوَّلية لكي تُؤدِّي عمَلَها. في هذه المستوَيات المُبكِّرة من الارتقاء النفسي تُمارِس الثقافات السِّحر التقليدي، من قبيل مُمارَسة الجماع في حقول الذُّرة لكي تَزدَاد خصوبة الأرض. يُمارِس الصَّياد سِحرًا على حيوان لديه تصوير له. كان كل شيء في العالَم مُحمَّلًا بالمعنى. في هذه المرحلة الأمومية، سادت الأُنْثَوية على الذُّكورِيَّة، وغلَب اللاوعي على الأنا والوعي. وبينما كان النفوذ في تلك الحقبة التاريخية السَّحيقة للآلهة، كانت الأُنْثَوية في الخلاء وسافرة. أما المعادَلة الرَّمزية الأساسية للأُنْثَوية، المرأة = الجسد = الوعاء، فقد تَضمَّنَت في هذه الصياغة المرأة = الجسد = الوعاء = العالم.١٧ بَيْد أنَّ هذه الحقبة الأمومية السابقة على التاريخ قد افتقرَت إلى الوعي، إلى إدراك ذاتها. ويُبيِّن جوليان جاينز في كتابه «أصل الوعي وانهيار العقل ثنائي الشرائع» كيف أن الشعوب القديمة لم تكن تستطيع أن تُفكِّر كما نفكر نحن الآن، وأنها لهذا لم تكن قد امتلكَت الوعي بعدُ.١٨
وفيما بعدُ، يَنفصِل الأنا عن الوعي الأمومي ويَتحرَّك صَوْب الاستقلال والفردية. وعن طريق ارتقاء الموضوعية التحليلية، تَنسلِخ الأنا عن السياق الطبيعي للعالم المحيط وعن اللاوعي. من الناحية التاريخية، تَختفِي الحُورِّيَّات وآلهة الحقول من المراعي، مع انحسار التَّشارُك الروحي الطفولي. يَرتفِع الرب والملائكة إلى السماء بعيدًا عن العالم الفيزيقي. ومن النَّاحية الأسطورية، وُلِد البطل في العالَم حاملًا للذكورية، يتميز بالفعل والإرادة والتحليل والنِّضال والمُنافَسة. من الناحية الفردية، يَشِبُّ البَنون والبنات عن الطَّوق، يَتركون آباءهم، ويُرْسون دعائم استقلالهم في العالم. من الناحية الثقافية تَشكَّلت مُجتمَعات الرجال التَّراتُبيَّة الهَرَمية كقوة للارتقاء بالذكورية، وارتقاء وَعْي الرَّجُل بذاته. كانت الشجاعة وقوة الإرادة؛ براهين الذُّكورِيَّة ورسوخ الأنا. شَكَّلَت جماعة الذكور بطقوسها الافتتاحية مَعالم الفَردِية، وعن هذا نشأت الثقافة الأبوية بأسْرِها.١٩
بَيْد أنَّ الأنا كعضو الإدراك، تَقوم بوظيفتها كمركز للوعي في الذُّكور والإناث كليهما. إلى هذا الحَد تصف نظرية يونج انفصال الصبي عن الأم، بوصفه يسير مُتساوقًا مع ارتقاء هويته الجنسية المنفصلة. وتُوعِز النظرية الأولية لارتقاء النساء بأنهن يَنفصِلن عن الوعي الأمومي خلال ارتقاء العلاقة مع الأنيموس [مبدأ الذكورة الداخلي] لديهن، الذي يقوم بدوره كمَعْبَر للعالم الخارجي. تَصف بولي ينج أيزنْدراث، وفلورانس فيدِمان في كتابهما «السُّلْطة المؤنثة: تمكين النساء من خلال العلاج النفسي» مَراحل ارتقاء الأنيموس كما ترتبط بارتقاء الأنا في النساء.٢٠
كثيرون من الفلاسفة وعلماء النفس يَعتبرون انبثاقة الأنا المُنفصِلة قِمَّة التطوُّر الإنساني.٢١ ولكن حينما فَصَمت الإنسانية الغربية ذاتها عن عالَم الطبيعة لكي تُؤسِّس الهُوِيَّة المنفصلة، كان ثَمَّة شيء ما لا محيص عن تنحيته جانبًا. فهذا الانفصال للأنا عن العالَم انقسمَت معه الوحدة اللاواعية بين السماء والأرض، بين النور الظُّلمة، العقل والجسد، الوعي واللاوعي، الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية. الشق الثاني من هذه المُتقابلات أُلقِي به في الظلال المُعتمة. ومَثلًا يحدث خلال فترة المراهقة، تُواصِل الأنا الاستحكام والتَّمايُز عن اللاوعي. ومع تنامي الوعي والقدرة المُتضخِّمة على الفعل، يتزامن مع هذا إقصاء لقوى اللاوعي المُثبِّطة. مثل هذا الانفصال ليس مستحِقًّا للوم على طُول المدى. يمكن النظر إليه بوصفه مَرْحلة أساسية من مراحل الارتقاء يحتاج فيها العقل إلى أن ينأى عن الجسد وعن المادة لكى ينظر إليهما من علٍ. فلا يمكن أن يكون ثَمَّة منظور حين تكون جميعها متداخلة ومُتمازِجة. يكون مثل هذا الانفصال ضارًّا فقط حين يَستمرُّ إلى ما بعد الأمد الضروري له في غضون الارتقاء السيكولوجي للفرد أو للثقافة.
وبالإضافة إلى الانفصال عَن الوعي الأمومي، هناك مِضمار آخر للتمايز ذو نمط سيكولوجي. ذلك أن كل فرد (أو كل ثقافة) تَتبنَّى اتجاهًا إزاء العالَم إما انطوائيًّا وإما انبساطيًّا،٢٢ مثلما يتمايَز نمَط مُفضَّل من الوظائف مثل التفكير أو الشعور أو الحدس أو الإحساس (وسوف نناقش هذا بتفصيل أكثر في الفصل الثالث). الوظائف التي لم تَنَل حظَّها من الارتقاء تروح في غياهب اللاوعي وتَبقَى في جانب الظِّلال المُعتِمة من الشخصية. وإذ يشرع الناس في احتساب مسئوليات العالَم الخارجي وأعبائه، يتناقَص الإحساس الشبابي باحتمالات لا نهاية لها، تَضمحِل الطاقة، تذوي الدَّهْشَة. تُشيِّد الأنا بِنيات، تُدافع عن ذاتها، وبهذا تضرب طوقًا حول نفسها.

إن ارتقاء الأنا يتيح لنا معالَجة خُسران الأشخاص والأشياء؛ لأنه قد أصبح ثَمَّة مسافة بيننا وبينهم، لكنَّنا بِتْنا في اغتراب متزايد عن الطبيعة وعن وَعْينا. هذا هو الثمن الذي ندفعه كلَّما ارتَقَت الأنا. نفقد جذورنا المُمتدَّة في شيء ما أرْحَب من ذواتنا. في البداية، إذ يَستبِد بنا الجَيَشان نحو أن نصبح نحن أنفسنا، نجد الحرية مَلهاة عُظمى. على أية حال، يَتخلَّى الكثيرون في منتصف العمر عن الحرية التي غنموها في أواخِر المُراهَقة، وأوائل العشرينيات من العمر. يبدأ حِس الاغتراب عن الكل يُؤلِمُهم ويَستبِدُّ بهم الخوف. يبدو أن شيئًا ما قد سار في طريق خاطئ. الدَّهْشة، والجمال، والإبداعية، والاحتمالات غير المحدودة كلها تَذوِي. قد يؤدي هذا إلى الاكتئاب وافتقاد الطاقة المتاحة. وكَردِّ فِعْل لهذا الاكتئاب ثَمَّة اتجاه كبير نحو الارتكاس، نحو مُحاوَلة الأوبة إلى الماضي الآمن الذي يُشدُّنا إليه حَنين مَرَضي (نوستالجيا)، نحو الارتداد إلى أساليب عملت في الماضي.

عند هذه النقطة، نجد أن ما يفيد تَقدُّم الوعي هو إعادة تشكيل ارتباط رمزي بنظام طاقة أكبر كُنَّا قد فَقدنَاه، بناء معبر حي نحو إنعاش الأُنْثَوية التي خلَّفْنَاها وراءنا. ليس يَعْنِي هذا العود مُجدَّدًا إلى التَّشارك الروحي في الطفولة. فنحن لا نَتخلَّى عن الأنا فِينا، بل نعمل على إثرائها من خلال ارتباط أفض بخلفية أوسع. بعض الأفراد ذَوُو الصفات البطولية الذين يَشقُّون هذا الطريق يعملون على استنقاذ تلك البكورية المفقودة من وكر التِّنِّين، استنقاذها من تِنِّين الأمان، وتِنِّين المنزلة، وأنساق المعتقَدات القاطعة الجازمة، توقُّعات المجتمَع وقواعده، وبهذا يُطلِقون الإبداعية، والدهشة، والطاقة المُستجَدة.

عن صعود الأنا وهَيمنَته ينشأ الوعي أُحادي الجانب. وبانبثاق الذكورة كقوة حاكمة للتمايز، تَتراجَع الأُنْثَوية إلى مضمار مَطمور تحت السطح وتصبح، في واقع الأمر، القوة الحاكمة لللاوعي. وكشأن خسوف القمر، تُفضي الذُّكورِيَّة إلى خسوف الأُنْثَوية وتسحبها مؤقَّتًا إلى الظلال المُعتِمة. وبينا اعتبر فرويد اللاوعي مَقْلب نُفايات تُلْقى فيه صنوف الكبت الجنسي، وجَد يونج في اللاوعي منبعًا للإبداعية والتجديد. كَتب يونج في وقت مُبكِّر، أثناء علاقته بفرويد، يقول إنه يرى هدَف حركة عِلم نَفْس الأعماق ينبغي أن يكون في استنقاذ الأُنْثَوية. ومن حيث المبدأ، لا بُدَّ أن يجيء الوقت الذي يرتفع فيه مجدَّدًا هذا الكيان المطمور تحت السطح.

في هذا السياق، يمكن النَّظر إلى بزوغ الأُنْثَوية بوصفه الخطوة الطبيعية التالية في تَطوُّر الوعي. لقد فَقدت الأُنْثَوية بخسوفها التَّجلِّي والقوة. بَيْد أنَّ هناك خبرات مُعيَّنة لا يكتسبها المرء إلا في المنفى أو في الظِّلال المُعتِمة. وعلى مدار القرون، استجمَعت الأُنْثَوية نوعًا مختلفًا من القوة والحكمة. وإذ تبزغ الأُنْثَوية مُجددًا، فإنها تبزغ بوصفها قوة واعية وأكثر وعيًا إلى حد كبير، وبدلًا من التباكي على خسوف الأُنْثَوية، دَعْنا نتناول قُواها كما هي كائنة في الظلال المُعتِمة ونستكشف معا كيف نستطيع أن نُعاوِن في بزوغها.

من الناحية التاريخية، يُمثِّل العلم قوة مُهمَّة في تطوُّر الوعي. وبدلًا من السَّير في طريق الخوارق أو التسليم بأقوال السُّلطات الكنسية، يفحص العلم العالَم مباشَرة ويختبر الافتراضات. وعن طريق النَّظر إلى العالم في حدود الاستقطابيات ورَد الطبيعة إلى الأجزاء المكوِّنة لها، كدَس العلم المعارف الشاسعة والقوة. لقد وصَلْنا الآن إلى النقطة التي تَتفاعَل فيها الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية، ونستطيع أن نتطلع إلى اتحادهما الذي ينشأ عنه شيء ما أعظم وأهَم من كليهما، شيء ما مُستجد بالكلية.

أعتقد أن المنظور الأوسع للارتقاء السيكولوجي الفردي، وتطوُّر الوعي في الثقافة الغربية إنَّما يستحضر هدفًا أبعد من مجرد شَد أزْر المزيد من النساء للالتحاق بالعلم. إنها مُهمَّة مُشترَكة، يضطلع بها الرجال والنساء على السَّواء. وما دُمْنا قد فحَصْنا اتجاه ارتقاء الوعي والتاريخ السيكولوجي للنوع البشري، فإننا نَتبيَّن بمزيد من الجلاء كيف غَنِمنا من تطورات الماضي. وأيضًا نستطيع أن نرى مَهامَّنا الراهنة، والتي تَقتضِي منَّا أن نجعلها مَحَط عنايتنا، لكي نقطع الخطوة التالية في المسار.

إن الافتراض المَبدئي لهذا الكتاب هو أن مآتي الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية كِلتيهما تُثْري كل فرد، وبالمِثل تُثْري المؤسَّسات الثقافية كالعلم. والآن سوف نَنظُر بعين الفَحْص كيف تَحدَّدتْ مَعالم العلم بالمَنزع الذُّكُوري إلى التمييز والتَّوجُّه نحو هدف، والطريقة الاختزالية في دراسة الطبيعة.

ميلاد العلم

على الرغم من أن الكلمة اللاتينية scientia (scire) ، (أن يتعلم، أن يعرف) بمغزاها الواسع تعني التعلُّم أو المعرفة، فإن كلمة العلم (science) قد باتت تشير إلى العلم الطبيعي، المعرفة بالطبيعة. في القرن السابع عشر، واصل العِلم الغربي تَضييق نطاق هذا التعريف ليشتمل فقط على المَعرفة المُجتَناة بواسطة إجراءات معيَّنة، بواسطة المنهج العلمي. في يومنا هذا، يُصدِّق غالبية العلماء على التعريف القائل إن العلم يفيد ضِمنًا عملية أو مَسارًا أو إجراءات لخلق مباحث عن العالَم، ولتقييم الافتراضات التي تنشأ عن تلك المباحث؛ المنهج العلمي.٢٣ إلا أن ثَمَّة اعترافًا متناميًا بأن العلم مُنتَج ثقافي واجتماعي. وتُشدِّد المقرَّرات الجامعية في تاريخ العلم على أن مَسار العلم تُشكِّله اتجاهات المَعنِيِّين بالأمر وأولويَّاتهم، ومناهجُهم، ومعتقداتُهم. وبهذا المعنى كشَف العِلم عن وجه ذكوري سافِر.

لا يتخذ القالب النمطي لرَجُل العلم صورة العُنف، الفتى الوسيم لرجل إعلانات مارلبورو، مَتين البنية، مفتول العضلات، حَليق الذقن، ذو الملامح القوية. بل على العكس، تستند سُلطة العلم على قوة الذهن بدلًا من القوة الجسدية. رجل العلم في قالبه النمطي هزيل جافُّ المَشاعر، تَترسَّم سيماؤُه كرجل العَقل ذي الظَّهْر المُحني الذي يرتدي مِعطف المُختبَرات الأبيض. وحتى وقْت قريب كانت المرأة العالِمة اجتماعًا لِلفظَين مُتناقضَين، وتضادًّا بين حَدَّين.

يمكن تَتبُّع كهنوت الذكورة في العلم إلى مسيحية العصور الوسطى.٢٤ ومبكرًا ارتبط الذين نذروا أنفسهم للعلم بالأكاديميات الكنسية، كانوا يدرسون العالَم الطبيعي في تَلمُّسهم للنور الإلهي. لقد نشأ عِلم صعْب المِراس عن رُهبان هذه الأنظمة الدينية المُتقشِّفة، بثقافتهم القائمة على العُزوبية والجِنس الواحد وكراهة الجدَل؛ إذ كان بحثُهم في حقيقة الرَّب مُتَّقدًا مُتوهِّجًا.
بمجيء المسيحية حلَّت قصة آدم وحواء مَحل كوزمولوجيا أرسطو، لكن ظَلَّت المفاهيم الأساسية عن تَفوُّق الذَّكر وتَدنِّي الأنثى مَاثِلة بلا تغيير. كَتب جوزيف جلانفيل، وهو واحد من كبار مؤسِّسي الجمعية المَلكية في لندن، يقول: «ما زالت المرأة فِينَا تواصل الخداع، مثلًا بدأت خديعتها في الفِرْدوس، واقترنَت حواء في أذهاننا بالقضاء المُبْرَم بوصفها أرومة بُؤسنا بأسره.»٢٥ وكان جلانفيل كمُتحدِّث باسم أول جمعية علمية في أوروبا، يستمسك بأنه لا فرصة أمام الحقيقة إن «أمسكَت العواطف بالبندقية، وحكمت النساء».٢٦ كان العالِم المِثالي جافَّ المَشاعر مُحايدًا، أدواته المنطق والتحليل. لقد تَشكَّلَت الجمعية المَلكية في العام ١٦٢٢م لكي تُمثِّل مُنتدًى يمكن أن يجتمع فيه الفلاسفة الطبيعيون لكي يَفحَصوا الاكتشافات الجديدة والنظريات القديمة ويُناقشوها وينقدوها. وكَتب هنري أولدنبرج (H. Oldenburg)، أول سكرتير للجمعية ومُحرِّر أول جريدة علمية احترافية، يقول: «إن مُهمَّة الجمعية هي الرَّفْع من شأن الفلسفة الذُّكورِيَّة … حيث يمكن أن نَرتقِي بعقل الرجل عن طريق معرفة الحقائق الثابتة.»٢٧ وبصميم التعريف الذي وضعوه لأنفسهم، لم يكن للنِّسْوية دَور في الجمعية المَلكية. وبالفعل، سَفَّه العلماء الإنجليز منافسيهم في فرنسا بأنْ أطلَقوا عليهم لقَب «المُتأنِّثِين»، وهاجَم فرنسيس بيكون الفلسفة الأرسطية بأنها سَلبية وضعيفة وأُنْثَوية.٢٨
بَزغَت بَراعِم عمل العلماء في القرن التاسع عشر عن المنهج التجريبي الذي كان فرنسيس بِيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) F. Bacon أوَّل مَن طرحه.٢٩ تسجيل الوقائع الموجودة، ابتداع تَجارِب، والخروج باستنتاجات عامَّة لتفسير الظواهر، ثم اختبار هذه الاستنتاجات عن طريق تجارِب أبعد، تلك هي العملية الاستقرائية. التي أصبحَتْ أساس المنهج العلمي. أصبح بيكون ذا تأثير واسع النطاق بوصفه النصير المُتحمِّس لهذا المنهج. أَجَل، يمكن اعتبار المنهج التجريبي في حد ذاته محايدًا ومقارَبة موضوعية لدراسة الطبيعة، إلا أنه مع ذلك انبَثَق عن سياق اجتماعي يَحكم أولئك الذين استخدموه، ونمط المعرفة الذي كانوا ينشدونه، وأين بحثوا عن الإجابات؟ وكيف استخدَموا تلك المعرفة؟ ما هو الغرض الذي من أجْلِه استخدموا هذا المنهج؟٣٠
دافَع بيكون عن استخدام الفلسفة التجريبية الجديدة تدشينًا ﻟ «الميلاد الحقيقي للعصر الذُّكُوري»؛ لكي يقود الرجال إلى «الطبيعة بسائر بَنِيها، وقد أصبحَت مُلزَمة بخدمتكم وبأن تكون جارية لكم … قَهْرُها وإخضاعُها، من أَجْل زلزلة أركانها». وبينما كان العلم في العصر الوسيط يَكدُّ من أجْل مَحض الاسترشاد بمسار الطبيعة، استحَثَّ بيكون الباحِثِين على استخدام منهجه لاكتشاف الأسرار التي لا تزال مُستغْلقة في أحضان الطبيعة، لاقتحامها أكثر وأكثر … لِشَقِّ الطريق إلى خزائنها المكنونة … لمهاجَمة واحتلال قِلاعها وحصونها، «وتوسيع حدود إمبراطورية الإنسان.»٣١ تعكس كِتابات بيكون التَّبدُّل الدراماتيكي في أهداف العلم الذي حدَث إبَّان القرنين السادس عشر والسابع عشر، تبدَّلَت الأهداف التكاملية للحِكْمة، وفَهْم نظام الطبيعة، والعيش في وِئام معها، إلى هدَف الهيمنة والسَّيطرة على الطبيعة.٣٢
وآمن رينيه ديكارت (R. Descartes) (١٥٩٦–١٦٥٠م) بأن المعرفة بأسْرِها يُمكِن اشتقاقها من مبادئ أولية، وأن الرياضيات هي لغة الطبيعة. وعن طريق المُقارَبة العقلانية الاستنباطية التَّحليلية، استمْسَك بأن سائر جوانب الظواهر المُعقَّدة يمكن فَهمُها عن طريق اختزالها إلى الأجزاء المُكوِّنة لها. اصطنع ديكارت قِسمةَ حادَّة بين الروح والجسد، بين العقل والمادة، فيما بَعدُ أصبح هذا مُعتقَدًا عامًّا. لم يكن العالَم الطبيعي بالنسبة له إلا آلة ميكانيكية مَحكومة بقوانين رياضية دقيقة. ورأى أن الفيزياء قابلة للاختزال إلى الميكانيكية، حتى الجسم البشري اعتبرَه مماثلًا للآلة الميكانيكية. تسير الطبيعة وفقًا لقوانين ميكانيكية، ويمكن تَفسير كل شيء مادي في حدود انتظام أجزائه وحركَتها. مَثَّلت هذه الصورة الميكانيكية للطبيعة نبراسًا للمُلاحظة العلمية بأسْرِها ولصياغة سائر النَّظريات عن الظواهر الطبيعية حتى جاءَت فيزياء القرن العشرين التي أحدَثَت تغييرًا جذريًّا. رؤية العالم كآلة ميكانيكية حَلَّت مَحل رؤية العصور الوسطى للكون العضوي الحي الروحاني. إن إزاحة الروح من الطبيعة أتاح للباحِثِين تشريح أوصالها، من قبل كان هذا التفويض ممتنِعًا؛ احترامًا لقدسية الكائن العضوي.
جمع السير إسحاق نيوتن (I. Newton) (١٦٤٢–١٧٢٧م) بين منهج بيكون الإمبيريقي٣٣ الاستقرائي، ومنهج ديكارت العقلاني الاستنباطي في عملية معروفة الآن بِوصفِها المنهج العلمي. شدَّد نيوتن على أن النظرية الموثوق بها لا يمكن الوصول إليها عن طريق التَّجارب من دون التأويل النظامي، ولا عن طريق الاستنباط من المبادئ الأولية من دون البَيِّنة التَّجريبية.
ومع نهايات القرن التاسع عشر، بدَا الحلم بالسيطرة على الطبيعة من أجْل منفعة الجنس البشري قابَ قوسين أو أدنى. كانَت صورة العالَم العقلاني المفهوم تَتخلَّق شيئًا فشيئًا عن المُختبَرات والجامعات. واشْتطَّ الفيزيائي لورد كلفن Lord Kelvin كثيرًا في تعبيره عن الرِّثاء لحال أولئك الذين سَيأتُون بعده هو وزملائه، اعتقادًا منه بأنهم لن يَجدوا شيئًا ليفعلوه أكثر من قياس الأشياء بمقاييس تَمتَدُّ إلى الكَسْر العشري الأصغر.
وعلى الرغم من أن المُقارَبة التجريبية حرَّرَت العلم من كثير من الفروض الأولية والمبادئ الأرسطية أو تلك القائمة على الخوارق؛ فإنَّ العلم الغربي واصَل دأبه على حَجْب الجانب الأُنْثَوي منه. رحَّب الرجال بالعلم منذ أُولَى بشائره بوصفه بنيانًا ذكوريًّا خالصًا. تعكس لغة العلم وتعبيراته المَجازية المثال الأعلى الذُّكُوري للتفكير الموضوعي العقلاني المنطقي الخَطِّي.٣٤ انحطَّت الأُنْثَوية، وانخفَضَت قيمتها، وشاهَت سُمعَتُها كانت المقارَبة الاختزالية لدراسة الطبيعة أحَدَ المَعالم المُميِّزة لتلك المقارَبة الذُّكورِيَّة.
استبعاد المرأة من العلم يعكس استبعادًا للأُنْثَوية وبَخسًا لقيمتها. أُحادِيَّة الجانب هذه لها تَضمُّنات مترامية الأبعاد، طالما أن العلم لا يقتصر على التأثير في حياتنا المادية، بل أيضًا يَصُوغ صميم مفاهيمنا عن الواقع. يُحدِّد العلم مَوقعنا في الكون. يُخبرُنا مَن نحن، وما الذي نفعله هنا. وبهذا المَغزى، يُناضِل العلم مِن أجْل الإجابة على التساؤلات عينها التي تبحث الأسطورة والديانة عن الإجابة عليها. مثلًا، يُخبرُنا العلم الحديث بأن الكون بدأ بالانفجار الكبير، وأن الأرض تَدور حول الشمس، وأن المكان والزمان نِسبِيَّان، وأن الدنا.D.N.A هي المادة الجينية المسئولة عن وِراثَتنا.

العلم بوصفه فلسفة ذُكورية

أجَلْ، لم يأتِ العلم الغربي أبدًا عن ضربة واحدة أو كخامة متجانسة، إلا أنه كمؤسَّسة اجتماعية، أو طريقة لاكتساب المعرفة، اكْتسَى بعوائد وتوجُّهات مُعيَّنة في استشرافه للأمور: وانعكس الوعي الذُّكُوري في هذه المؤسَّسة؛ لأن الغالبية العظمى من العقول المسئولة عن تَشييد العلم كانت ذُكورًا.

استبَدَّ الأمل برجُل العلم في أن يستطيع ملاحَظة العالَم من حوله ملاحَظة دقيقة، وذلك عن طريق الاستمساك بنظرة مُنفصِلة للعالم، غير مُتأثِّرة برغباته الشخصية أو حُبِّه لآرائه الخاصة. ومن ثَمَّ استخدَم المنطق والعقل لاستنباط عِلل الظواهر الطبيعية، ولتكوين نظريات، والتَّنبُّؤ بما سيجيء. لقد رفَع من قيمة الموضوعية؛ فالعواطف البشرية تُعرقِل انتظام التفكير. تنعدم الكفاءة مع الإصغاء لصوت المشاعر. إن المُقارَبة العاطفية للمباحث العلمية تجعل المجال مفتوحًا أمام العالم لتحريف تأويل المُعطَيات، وتُفقِده ثِقة الآخَرِين بعمله. لا يثق رجُل العلم إلا بما يُستطاع قياسه وإعادة إجرائه بطريق يُمكِن التعويل عليها.

من موقع خارج الطبيعة، يُصوِّب الباحث المتجرِّد تفكيره على أجزائها الأصغر والأصغر. وما كان الإنسان يستطيع أن يأمل في تُفهُّم مسارات عمَل الطبيعة إلا عن طريق اختزال تعقيدات نِظامها. إن التفكير الخَطِّي والتحليل الكَمِّي الدقيق خلَعَا مَغزَى النظام على الشَّواش البادي في العالَم الذي يَلتفُّ كالدَّوَّامات حول الباحث. أفْضَى التبسيط والتجريد إلى التَّوصيف الرياضي للمبادئ الكامنة وراء سير الطبيعة. تَفكَّر رجل العلم في أنه عن طريق اختزال الطبيعة إلى فِئة من المعادَلات أو من الوحدات البنائية، سوف يستطيع أن يفهم الكل، بأن يعيد بناء المُعادلات أو الوحدات البنائية معًا مرة أخرى.

استبصار الاطراد والأنماط النظامية قد حَمل في طَيَاته مَغزى الأمان. أمكن الركون إلى الطبيعة: الليل يعقب النهار، الربيع يتلو الشتاء، وليس يَعني الكسوف الشمسي نهاية العالَم. دلَّ التَّنبُّؤ الدقيق على نجاح النظرية. نَظَّم العلم الفوضى الضاربة في العالَم، مانحًا الإنسان الأمل في تأمين بقائه عن طريق السيطرة على بيئته. على أن العلم يرفض كل ما لا يطابق العقل، وبهذا عَزل نفسه تمامًا عن مجال اللاوعي الذي يبدو لاعقلانيًّا وشواشيًّا. العلم في الهند على العكس مِن هذا، يَتضمَّن «العلم الجُوَّاني» ويدرس الحالات البديلة لللاوعي. وعادة ما يَعتَبر الغرب هذا المجال مرتبطًا بمَقولة العلم الزائف، ما دام يُعالِج ظواهر لا يمكن قياسها بِتقنيَّاتِنا الراهنة.

أفضى تحديد قوانين الطبيعة إلى خَلْق أدوات وتِقنِيَّات مُعقَّدة لمعالَجة أمر البيئة. تَبوَّأ العلم مَوقِع السُّلطة في الثقافة الغربية، بِفضْل قُدرة المنهج العلمي وفاعليته. وعن طريق إيضاح الارتباطات بين العِلَّة والمعلول، حلَّ العلم مَحل الخوارق. والآن يَنتظِر منه المجتمع أن يَخلق مَوادَّ جديدة وأساليب لإثبات كفاءتها وأنها آمنة ويمكن الارتكان إليها. وحتى وقت حديث نسبيًّا، آمَن مُعظَم الناس أن سائر المشاكل سوف تجد مع مرور الوقت حلًّا عن طريق تطبيقات العلم والتكنولوجيا.

افتخار العلم بسُلطانه على الطبيعة أدَّى إلى الغرور. أدارت بالرءوس القُدرة على التحكم في الطبيعة والسيطرة عليها. صوَّر شِعار دي بونت (Du Pont) «حياة أفضل من خِلال الكيمياء» عالَمًا شكَّله الرجل ويتحكم فيه؛ حيث يستطيع العيش في رغَد ورفاهة. أما العواقب الرهيبة لقَلقَلة توازُن الطبيعة الحصيف فلم تكن قد تراءت بعدُ.
لم تُحدِّد القِيَم الذُّكورِيَّة العلم فحسب، وبالتالي استبعدَت الأُنْثَوية، بل أيضًا أصبح العلم أداة لحرمان المرأة من حقوقها. مثلًا، كان الكرانيولوجي (Craniology؛ أي عِلم قياس حجم الجمجمة والمخ، مبحثًا علميًّا مهمًّا خلال القرن التاسع عشر؛ حيث أُجرِيت الكثير من الأبحاث على القدرات الذهنية والمخ. رأى علماء الكرانيولوجي أن الذكاء يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحجم المخ، وبالتالي راحوا يَقيسون أحجام الأدمغة، أو بالأحرى أحجام الجماجم. ولما كانت جماجم النساء، في المُعدَّل العام، أصغر من جماجم الرجال، استنتج علماء الكرانيولوجي أن النساء أدنى في الذكاء من الرجال، وبالتالي أقل قُدرة على التفكير. راح العلماء يُخبِرون المرأة أن المَناشط العقلية عبء ثقيل على أجهزتهن العصبية الحسَّاسة، وتُقلِّل من مُعدَّل خصوبتهن. وحتى الآن لا يزال التَّحيُّز ضد قُدرة النساء على التفكير ماثلًا في مجالات من قَبيل البيولوجيا الاجتماعية.
أجرى إيان ميتروف (I. Mitroff) مقابَلات شخصية مع أربعين عالمًا بارزًا درسوا صخور القمر في رحلات أبوللو، ولاحَظ أن العلم لا يزال أحادي الجانب حتى يوم الناس هذا. هيمَنَت الذُّكورِيَّة على روح برنامج غزو القمر إلى درجة علَّق عليها ميتروف قائلًا:
ليس الجنس البشري، بل الرجل بجسده وروحه ونَفْسه هو الذي اصطحبَنَا إلى القمر، حط على سطحه، وهو الذي عاد ببعض من أحجار القمر الثَّمينة، وفي النهاية هو الذي يُحلِّل خامات القمر. ليس للمبدأ الأُنْثَوي أي حضور في كل هذا … لا بُدَّ من الاعتراف بالتحدِّي لكي نتعلم كيف نُمارِس العلم بالعاطفة، وكيف نرتقي بعلم يُعْرَف بمنهجيته العاملة وبروحه ماذا تعني العاطفة.٣٥
وبينما يُمثِّل المنهج العلمي أداة فعَّالة، فإنه يُستخدَم دائمًا في سياق ما. نموذج القرن السابع عشر للكون الذي يَسير كساعة مُكوَّنة من أجزاء مُستقِلَّة. قد تطور بارتقاء الآلات الأكثر تعقيدًا، حتى إن النموذج الحديث للكون هو نموذج الكمبيوتر الفائق. إن تصوُّر الطبيعة القابلة للتفكيك وإعادة التركيب طوعًا لِتحكُّم الإنسان، إنما يُمثِّل طرازًا اختزاليًّا للعلم أساسيًّا في المقارَبة الذُّكورِيَّة التحليلية. أَجَل لا مجال لإنكار قوة وقيمة هذه المقارَبة، إلا أنها تُهْمِل ترابطية الأجزاء. الكل في مَسارَاته أكثر من مُجرَّد مجموع أجزائه. حينما تُفكَّك الخلية إلى الأجزاء المُكوِّنة لها، تُفقَد وظيفة الكل، وحين تشريح الكيان البشري إلى أنساق من الأنسجة والأعضاء، تَضيع ماهية الشخص. ينشأ الوعي والفَرْدية عن الوظيفية المُتكامِلة للكل (whole). ويستطيع مبدأ الترابطية الأُنْثَوي أن يَهَب العلم هذا المنظور الكُلَّاني (holistic).٣٦ وحين الاستفادة من الذُّكورِيَّة في اقترانها بالأُنْثَوية، يستطيع الباحث أن يُركِّز على الأجزاء الفَردية، وفي الآن نَفْسه يضع في اعتباره علاقتها بالبيئة.
وعلى الرغم من أن العِلم يَسوده انحياز ذكوري، يكشف الأفراد والأنظمة داخِل العلم عن مَدى من الخصائص المُميِّزة تسير عَبْر مُتَّصل الذُّكورِيَّة / الأُنْثَوية. ينظر إلى العلوم الموضوعية «الصُّلبة» كالفيزياء والكيمياء على أنها تَفوق في ذُكوريَّتها دراسة علم النَّفس الأكثر «ليونة» والأكثر ذاتية. إلا أن بعض العلماء يُجادلون في أن علم النفس ليس علمًا حقيقيًّا، وهذا يُؤدِّي بالباحثين في ذلك الميدان إلى أن يَتَّسِموا هم الآخرون بمزيد من الذُّكورِيَّة في مقارَبتهم؛ لكي يُثبِتوا قِيمة علم النَّفْس كعِلم. يبحث علماء النَّفس أولئك عن احترام المُجتمَع العلمي، وفي هذا راحوا يَصبُّون اهتمامهم على السلوك القابل للملاحَظة والتكميم، ويَنأَوْن بأنفسهم عن الموضوعات غير الملموسة، من قبيل دراسة الإبداع٣٧ أو الأحلام.

انبثقَتْ مُؤخَّرًا جوانب من مبدأ الأُنْثَوية في عدَّة فروع من العلم، في صورة طُرق مُستجَدة لرؤية العالَم، كتلك التي يُعبِّر عنها الفيزيائيون الجُدد، وبالمثل كذلك في صورة التمثيل الأكبر للنساء في العِلم. وما دامت النساء بشكل عام أكثر وَعيًا بالأُنْثَوية من الرجال، فإن مشاركتهن في المشروع العلمي يمكن أن تُسهِم في تَغيُّرات تصل إلى أعمق مستوًى.

أزمة العِلم في مُنتَصف عُمره

وإذ واجهتُ مسائل شخصية تتعلق بمنتصف العمر، فقد راعني أنَّ العلم ذاته يُواجِه المشاكل المُميِّزة لمنتصف العمر. لقد كوَّنْت نفسي في هذا العالَم خلال النصف الأول من حياتي، واستقر بي الأمر في نماذج سيكولوجية مألوفة. وحين بلَغْت السادسة والثلاثين تُوفِّيَت أمي؛ وبات دُنُو أجَلِي أنَا حقيقة ماثلة. بدأ الشَّيْب يغزو مفرقي، وزحفت التجاعيد إلى وجهي. وعلى الرغم من أن وظيفتي تُدرُّ عليَّ دخلًا جيدًا، فقد بدَتْ روتينية مُملَّة وغير ذات مَعنًى. أحسَستُ أنني أتحرَّر من الوهم، وأُصابُ بالإحباط في الحياة، يَتملَّكني الحُزن لفقدان شيء ما غامِض. أرَدتُ ما هو أكثر، ولكن ليس الأكثر من الشيء نفسه، لقد حَلَّت بي أزمة مُنتصَف العمر. ولكي أتفهَّم قَلقِي، عُدْت إلى عِلم نفس يونج، وهو عِلم نفس يُصوِّب اهتمامه على مسائل تُواجِهنا في النصف الثاني من الحياة.

حلم الشباب بأن «نحيا إلى الأبد في سعادة» يتبدَّد مع إدراكنا لحدود الحياة في مُنتصَف العمر، وهذا نموذج نمطي. بعد مراجعة حياتنا، نترك خَلْفَنا حِسَّنا الأسبق بالهُوِيَّة، وهَمَّ الاستغراق في تَصاعُد ونَماء مُتَّصل، افتراضاتنا عمَّا نكونه نحن في علاقتنا بالآخَرين، أحلامنا وتوقعاتنا في المستقبل المنتظر. تبدو إنجازاتنا جوفاء. إحساس بالفقدان يُؤجِّج تبدلًا جوهريًّا في مُنحَنى حياتنا وفي العالَم. وإذ يتساقط قِناعنا، تحدث إعادة هيكلة عميقة للنَّفْس، مقرونة بانطلاق عناصر مَكبوتة ولا واعية في الشخصية. نَقفل راجعين إلى الداخل لنعيد تقييم أهداف حياتنا ومِثالياتنا. نغدو أكثر عِناية بإيجاد غاية في الحياة. التَّكرُّس للنجاح الخارجي يحل به التعديل والتكييف ليستوعِب العناية بالعمق، والمعنى، والقِيم الروحية. يَتغيَّر التشديد، في النصف الثاني من الحياة، فلا يعود مُنصبًّا على العالَم الخارجي بل على علاقة واعية بالعالَم الجُوَّاني.

وإذا أتيح المجال لأن تَتكشَّف هذه العملية، يَشرَع الانبساطيون في تطوير الجانب الانطوائي من طبيعتهم ويجدون قُوت قلوبهم في قضاء الوقت على انفراد. يَشرَع ذَوُو نمط التفكير في اكتشاف أن التفكير فحسب له حدوده. أجَل يظل التفكير نافعًا، إلا أنه لا يعود شَيِّقًا أو مثيرًا للتَّحدِّي. في مُنتَصف العمر، يبدأ ذَوُو نمط التفكير في تطوير مَصادر أخرى: الإحساس، الحدس، وأخيرًا الشعور (سوف نسير بهذا إلى مجال أوسع في الفصل الثالث). وبينما يرتحل البعض لاكتشاف جوانب جديدة من ذواتهم، فإن البعض الآخَر قد يَفِر إلى أبنية خارجية؛ مثل الزواج أو الوظيفة، ليبحثوا عن الجزء المُفتَقد فيهم في قَرين شاب أو مغامرات خارجية. الموظفون الذين احترفوا الصعود السريع «يتوقفون فجأة» في منتصف العمر أو «تلين عريكتهم»، ويَقضُون وقتًا في تَنمية الجانب الأُنْثَوي فيهم؛ وربما عَمِلَت ربَّات البيوت على تطوير الجانب الذُّكُوري فيهن من خلال الالتحاق بِدُنيا العمل.

إن مَهام الانفصال عن هُوِيَّة أسبق ومواجَهة جوانب مَكبوتة من ذواتنا تحدُث أيضًا خلال حِقَب انتقالية أخرى في الحياة. ومع هذا تَنفرِد نَقْلة مُنتَصف العمر بواقعة مفادها أنَّنا خلالها نتلَّمس في أنفسنا طبيعة الجنس المُقابِل لنا، الذي أنكَرْنا قُوَّته وتَهرَّبْنا منه؛ يُجابِه الرَّجُل أُنْثَويته اللاواعية، وتُجابِه المرأة ذُكورِيَّتها اللاواعية. تتميز نَقْلة منتصف العمر تَميُّزًا حادًّا بِسمَة الصراعات اللاحقة ومعناها وما نعمد إليه من استجوابات، وتكون حاسمة في محصلتها.

وبالتَّماثُل مع هذا، قضى العلم النصف الأول من «حياته» فاحصًا عالَم الطبيعة الخارجي ومُقيِّمًا دعائم ذاته في العالم كفلسفة ذكورية. وفي صورة مُستصفاة للأنا الواعية، بات العلم هو البطل في حضارتنا، يأخذ بالزِّمام ويمتد نِطاقُه إلى الخارج وإلى الأمام. لقد غدَا العلم رديفًا للتقدُّم. وكشأن البطل، يبادِر العلم ويُباغِت العدو، يَتبوَّأ الصدارة مُسخِّرًا استراتيجيات عدوانية، ويظفر بالمجد. ينتهك العالَم البطولي أسرار الطبيعة عن طريق غزْوها وقهْرها.

يشعر الفرد بِدنُو الأجَل في مُنتَصف العمر، وبالمِثل تمامًا نواجه الآن الموتَ المُحتمَل لكوكبنا في صورة الأخطار النووية والبيئية، من قَبيل النُّفايات السامَّة، والتَّلوُّث، وانقراض أشكال من الحياة، والثُّقب في طبقة الأوزون، كلها باتَت مُحتمَلة بفعل مُنتجات العلم والتكنولوجيا. وبهذا المعنى حطَّ العِلم على أعتاب مُنتصَف العمر. بدأْنَا نُدرِك الآن أننا قد لا «نحيا إلى الأبد في سعادة» وبينما اعتقَدْنا في يوم من الأيام أن العلم قد يستطيع أن يحل مشاكلنا بأَسْرها، يُدرِك البعض مِنَّا الآن أن العلم له حدوده. طَفِق بعض الدارسين في مُراجَعة نقدية لقصة حياة العلم. فُقدان الحلم بالتحكم الكامل في الطبيعة يَبثُّ الحُزن في جوانح بعض العلماء ويبدءُون في استكشاف علاقة مختلفة معها. بعض الكُتَّاب يعيدون تقييم مُثُل العلم وأهدافه، مُعرِضين عن خُيلاء السَّيْر المتواصل في طريق التقدم. شرع بعض الباحثين في دراسة العلوم الجُوَّانية قافِلِين إلى الداخل من أجْل سَبْر أعماق الطبيعة. وثُلَّة من العلماء تبحث في أخلاقيات وعواقب عِلمنا الذي افترضناه مُحايدًا.

وكما عرَضْنا فيما سبق، اعتمد العِلم على الملاحظة والقياس والتفكير، ورفض الشعور والحدس. يُصنَّف هذان العنصران في ظِلال لاوعْيِنا المُعتِمة على أنهما أُنْثَويان. ومُهمَّتنا الآن أن نَستحضرهما في علاقة مع الوعي الإنساني. الأخطار التي تُهدِّد العبور الناجح في نقلة مُنتَصف العمر إنما تأتي من اتجاه نكوصي يَتمثَّل في دفاعات الأنا الطبيعية، وهي تلتقط القناع القديم، والأبنية القديمة لِتُعيدها مُجدَّدًا إلى مواقعها. فاستعادة مَعالِم الهُوِيَّة السابقة تَهب إحساسًا بالأمان. يمكن رؤية هذه الخَنْدقة الدفاعية، والعود القهقرى إلى النماذج السابقة مع أولئك الذين يَتوقَّعون أن مُجرَّد تطبيق المزيد من العلم والتكنولوجيا سوف يَصُون هذا الكوكب.

ليس يعني الإبحار الناجح لنَقْلة مُنتصف العمر هُجران العلم والتكنولوجيا، بل بالأحرى الدخول في علاقة جديدة مع عناصر جَرى سابقًا كَبتُها، وعلى وجه التعيين العناصر الأُنْثَوية. على أية حال، يُمكننا توقُّع أن التكامل مع الأُنْثَوية عملية بطيئة وعسيرة. من الناحية السيكولوجية، يَظلُّ الجانب المَكبوت غير المستخدم بدائيًّا وغير مُتمايِز. قد ينبثق في وقت غير ملائم وبطُرق فجَّة، مُسبِّبًا ذلك النوع من الارتباك الذي يجعلنا نُنكر فورًا ومن جديد التعبير عنه. من المطلوب الصبر والإيمان بالمنافع طويلة المدى للخصائص المكبوتة.

في المرحلة النهائية من مُنتصَف العمر نُعاود التكامل بين المتقابلات ونقطع خطوة أبعد نحو الكُلَّانيَّة يتبدَّى أمامنا جانبان من المعارف لهم تأثيرات بعيدة المدى على البقية الباقية من حياتنا وهُما: معرفة دقيقة بالحدود، ومُهمتنا في الحياة بمداها الواسع. يُزوِّدنا هذا بِلُب هويتنا الجديدة وغَرضنا في الحياة. تَتطوَّر الاستبصارات التي نظفر بها خلال منتصف العمر إلى التزام أخلاقي بخدمة مُتطلَّبات الحضارة، وبالمِثل تمامًا صَوْن التَّعهُّد بالعالَم الجُوَّاني. إن المحصِّلة المُثلى لنَقلة منتصف العمر هي إبداع العمل المتجدد في بناء مَغزًى واعٍ بالهُوِيَّة، أكثر شمولية من الناحية السيكولوجية، وبالتالي أكثر تعقيدًا.٣٨ وعن طريق دفْع المياه في النهر الدافق بَيْن أنا العلم وأعماق اللاوعي، يمكن أن تغدو المغامَرة العلمية رحلة بمَجامع النَّفْس.

أما وقد وقَفْنا على أعتاب النصف الثاني من حياة العلم، فإننا في حاجة إلى أن نعيد مُجدَّدًا طرح السؤال: ما هي أهداف العلم؟ هل هي التَّنبُّؤ بمسارات الطبيعة وتأمين بقاء الإنسان؟ تَحسين مستوى معيشه الجنس البشري؟ التحكم في الطبيعة والسيطرة والهيمنة عليها؟ العيش في وفاق مع الطبيعة؟ أن نفهم الحقيقة؟ أن نعرف الله؟ أن نعرف أنفسنا؟ المشارَكة في إبداعية قُوَّة الخالق؟ أن نرتقي بِتطوُّر الوعي؟

أحسب أن الوقت قد حان للاضطلاع بمهمة تكامُل الأُنْثَوية مع الفلسفة الذُّكورِيَّة للعلم. على مدار هذا الكِتاب سوف نُعاين معًا المقارَبة الذُّكورِيَّة أُحادِيَّة الجانب وكيف كانت تُعرقِل العلم دائمًا، ولا بُدَّ أن يبحث الآن عن الأُنْثَوية، عن الين، لكي يتوازن. سوف نعيد اكتشاف خصائص من الظِّلال المُعتِمة يمكنها أن تجعل «الإنسان» والطبيعة مُتوشِّجَين معًا، وسوف ينتج عن هذا تَحرُّك صوب الكُلَّانية في تصوُّرنا للكون. كانت الأُنْثَوية حاضرة دومًا في العلم، كامنة في كل إنسان بدرجات مُتفاوتة، لكنَّها كانت مَحجوبة. والآن يَستكشِف بعض من النساء والرجال قيمة الأُنْثَوية في أنفسهم وفي عَملِهم؛ وجدوها تمنح رؤية قَشيبة للعالَم، طريقة جديدة للتفكير. إنها تنفخُ الرعاية في رُوح العلم، وتَفتَتِح منابع خفية. تَهَبُنا مرونة وخيارات أكثر، وتتقدَّم بمعنى جديد يمكن أن تَتغيَّر معه أولوياتُنا. ومع إعادة تقييم الأُنْثَوية، يُغيِّر بعض العلماء أفكارهم عن «التقدم» وما الذي يصنعه العلم «الجيد». ثُلَّة تواصل المدى حتى تجاهر بأن بقاءنا على كوكب الأرض مُرتَهن بالتكامل بين الأُنْثَوية وصَميم العِلم.

١    Reductionistic اختزالية أو ردية، لعل ردية أدق، لكن اختزالية هي الأوسع انتشارًا والأكثر أُلفَة.
٢  الكوزمولوجيا Cosmology: هي تَصوُّر نظام الكون بشكل عام. كانت قديمًا من أخصِّ خصائص الفلسفة، والآن تَداخَل فيها أو كاد يستأثر بها عِلْم الفَلك المُعاصر بنظرياته المُتطوِّرة عن نشأة الكون وأغواره السحيقة وثقوبه السوداء … إلخ. وهي مأخوذة من كلمة إغريقية ما زالت تُستعمَل في الإنجليزية إلى الآن، وتَتردَّد كثيرًا على صفحات هذا الكتاب وهي كلمة cosmos التي تعني: كَوْن مُنتظِم محكوم بقوانين تجعله يسير سيرًا مُطردًا، وقد وضعنا أعلاه مُقابلًا لها: كَون نظامي، وفي بعض الأحيان اقتصرْنَا على تعريبها، قائلين «كوزموس» حسبما يقضي السياق.
٣  الكون والفساد في مُصطلحات أرسطو هي الوجود الحادث وفناؤه. (المترجمة).
٤  Aristotle, On The Generation of Animals, translated by A. L. Peck (Portsmouth, N.H.: Heinemann Educational Books, 1953). p. 11, 716a.
٥  The Politics of Aristotle, translated by E. Barker (Oxfrod: Oxford University Press, 1946), p. 13, 1254 and p. 327, 1335b.
٦  Aristotle, “On the Generation Of Animals,” in the works of Aristotle, translated Rthur Platt, from vol. 2 of The Great Books of the Western World (Chicago: William Benton. puplisher for Encyclopedia Brintanica, 1952), p. 278, 737a.
٧  Brian Easlea, Witch Craft, Magic and the New Philosophy (Atlantic Highlands, N. J.: Humanities Press, 1980), pp. 48-49.
٨  Aristotle, “On the Generation of Animals,” translated by Arthur Platt, p. 278, 737a.
٩  Webster’s Ninth New Collegiate Dictionary يُعرِّف قاموس النفس بأنها «المبدأ الذي يَبُث الحياة … المبدأ الروحي المطمور في كل الكيانات البشرية … الطبيعة الخلقية والعاطفية للإنسان … الخاصية التي ينشأ عنها العاطفة والوجدان … شُعور إيجابي قَوي (كما يَحدُث في حالة الحساسية الحادة والتَّحمُّس العاطفي)» أيضًا تسقط النفس على السود، بوصفها خاصة مميزة لثقافتهم.
(springfield. Mass.: Merriam-Webster, 1989), pp. 1126-1127.
١٠  في مقابَلة أُجرِيت مع إنجريث ديرب-أولسن، في ١١ يناير ١٩٩٠م. وهي أستاذة في قسم علم الحيوان في جامعة واشنطن بسياتل بولاية واشنطن. حصَلت على درجة الدكتوراه العام ١٩٤٤م، والآن تُدرِّس الفيزيولوجيا العامة وظواهر غشاء الخلية، وعلى وجه الخصوص تعقيدات مُخاط البَزَّاقة العريانة.
١١  في هذا الموضع وفي مواضع أخرى تقول المؤلِّفة our culture، أحيانًا تبدو ترجمتها «الثقافة الغربية» أفضل من الترجمة المباشرة وهي «ثقافتنا» أو «حضارتنا»، وذلك لكي تُعطي القارئ العربي المعنى المقصود. وجميل أن يرى القارئ العربي ما تَحرِص المؤلِّفة على إظهاره من وجوه الغبن الضِّمْني والصريح الذي تُلاقيه المرأة عمومًا والمرأة العالِمة خصوصًا في الحضارة الغربية. ولْنَستحضِر هذا في الأذهان حين تُطنْطِن دعاويهم بضرورة فَرْض الوصاية علينا وتذويب حضارتنا العربية في الشرق الأوسط الجديد من أَجْل تحرير المرأة العربية وتمكينها!
١٢  Margater Mead, Sex and Temperament in Three Primitive Societies (New York: William Morrow, 1935).
١٣  J. Needham, “History and Human Values: A Chinese Perspective for World Science and Technology,” in H. Rose and S. rose, eds., Ideology of/in the Natural Sciences (Cambridge, Mass.: Schenkman. 1979), pp. 255-256.
١٤  C. G. Jung, The Archetypes and the Collective Unconscious, vol. 9 in The Collected Works of C. G. Jung, translated by R. F. C. Hull (Princeton: Princeton University Press, 1957), p. 71, 147.
١٥  Sukie Colgrave, Uniting Heaven and Feminine in Human Consciousness (Los Angeles: Jeremy P. Tarcher, 1979).
١٦  في قانون الإعادة المُختصَر ينص إرنست هيكل على أن تاريخ نُمُو الفرد «الأنطوجوني» يعيد باختصار تاريخ تطوُّر السلالة «الفيلوجوني». بعبارة أخرى، الارتقاء الجَنِيني للبويضة أو الكائن الحي كفرد (الأنطوجوني) يُكرِّر الارتقاء التطوري لتاريخ السلالة (الفيلوجوني). ولأن الحيوانات تطوَّرتْ، سلالةً إثر الأخرى، يَفترِض هيكل أيضًا أن «الفيلوجوني يُسبِّب الأنطوجوني»؛ أي إن تطوُّر أجِنَّة السلالات يَمُر بهذا التَّتابُع نفسه للمراحل الارتقائية. والآن، يُدرِك البيولوجيون أن هذا القانون غير صحيح ويُفْرِط كثيرًا في تبسيط التطور. تَستمسِك النظريات الأحدَث بأن التطور المُستجِد يحدث بواسطة الحيود عن المسار الارتقائي، حيث إن سبلًا جديدة لارتقاء الجنين أو اليَرقة تَتفرَّع عن بعض النقاط في المسار التطوري الموجود سَلفًا.
١٧  Erich Neumann, The Greater Mother: An Analysis of the Archetype, translated by Ralph Manheim (Princeton: Princeton Unversity Press, 1955), p. 43.
١٨  Julian Jaynes, The Origin of Consciousness and the Breakdown of the Bicameral Mind (Boston: Houghton Mifflin, 1976).
١٩  Erich Neumann, The Origin and History of Consciousness, translated by R. F. C. Hull (Princton: Princeton University Press, 1954), pp. 140–144.
٢٠  Polly Young-Eisendrath and Florence L. Wiedemann, Female Authority: Empowering Women through Psychotherapy (New York: Guliford Press. 1987).
٢١  Connie Zweig, ed., To Be a Women: The Birth of the Conscious Feminine (Los Angeles: Jeremy P. Tarcher, 1990), p. 5.
٢٢  كارل يونج هو الذي أدخل إلى عِلم النَّفْس مفهوم الشخصية الانطوائية والشخصية الانبساطية، أثبَت هذا المفهوم فعاليته وجدْوَاه، أخذَت به المدارس العديدة على الرغم من اختلافها مع يونج أو حتى رفضها إياه. وقد ارتبط يونج في البداية بعلاقة حميمة مع فرويد، ثم اختْلَف معه اختلافًا حادًّا وانفصل عنه انفصالًا بائنًا، وسوف تشير المؤلِّفة إلى هذا الانفصال بعد قليل. (المترجمة)
٢٣  Sigma Xi, the Scientific Research Society, A New Agenda for Science (New Haven, conn.: Sigma Xi, 1986).
٢٤  David F. Noble, “A World Without Women,” Technology Review (May/June 1992). pp. 53–60.
٢٥  Joseph Glanvill, The Vanity of Dogmatizing (New York: Columbia University Press, reproduced for the Facsimile Text Society, 1931 [1661]), p. 118.
٢٦  Ibid., p. 135.
٢٧  Brian Easlea, Witch Craft, Magic and the New Philosophy, p. 214.
٢٨  Londa Shiebinger, The Mind Has No Sex (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1989), pp. 137-138, 279.
٢٩  لَسْنا في حاجة إلى القول إن المنهج التجريبي كان معروفًا كنظرية وكمُمارسة في حضارتنا مع جابِر بن حيان، والحسن بن الهيثم، والبيروني … وهي مرحلة تاريخ العلم العربي في العصر الوسيط، التي هي مُقدِّمة شَرْطِية للعلم الحديث. إلا أن المؤلِّفة على أية حال تَنقد الحضارة الغربِية والعِلم الغربي، وتتحدَّث عنه وتسير في إطاره. (المترجمة)
٣٠  Francis Bacon, Novum Organum, vol. 4, p. 42, and of the Dignity and Advancement of learning, p. 373, in J. Spedding, R. L. Ellis and D. N. Heath, eds., The Works of Francis Bacon (London, 1858–61: reprinted Stuttgart: Friedrich Frommann Verlag, 1963).
٣١  B. Farrington, “Thoughts and Conclusion,” in The Philosophy of Francis Bacon (Liverpool University Press, 1964), pp. 59, 62, 92, 93, 96.
٣٢  See: Carolyn Merchant’s discussion in The Death of Nature: Women: Ecology, and the Scientific Revolution (New York: Harper & Row, 1980).
٣٣  إمبيريقي empirical تعني التجريبي المتطرف المُقتصِر على الملاحَظة الحسية للوقائع التجريبية. رأينا تعريبها، وذلك تمييزًا لها عن تجريبي expermintal بمعنى أوسع إلى حد ما يفيد كل أشكال اختبار الظاهرة. (المترجمة)
٣٤  See: Evelyn Fox Keller’s analysis of the rhetoric of science in Reflections on Gender and Science (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1985).
٣٥  Ian Mitroff, The Subjective Side of Science: A Philosophical Inquiry into the Psychology of the Apollo Moon Scientists (Seaside, Calif Inter-systems Publications, 1983), p. 210.
٣٦  الكُلَّاني holistic واحد من مصطلَحات عديدة تُقابلنا في هذا الكتاب، تَنحتُها المؤلِّفة نحتًا وتُخوِّل لها دَورًا محوريًّا في فلسفتها الأُنْثَوية للعلم وأقرب أصل لغوي دارج لها هو holism، الذي يضع له قاموس أكسفورد تعريفًا بأنه اتجاه الطبيعة لإنتاج كليات wholes عن طريق وحدات هي مجموعات مُنظَّمة. بدَت لنا «كُلَّانية» أفضل مُقابِل عربي. (المترجمة)
٣٧  ولكن ثَمَّة فريق من العلماء أو مَدرسة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، في الأساس سلوكيون، انكَبُّوا على دراسة ظاهرة الإبداع من جوانب عديدة، وأخْرَجوا دراسات مَشهودة. نحسب أن ظاهرة الإبداع بالذات مَحَل اهتمام علماء النَّفْس بشكل عام. (المترجمة)
٣٨  Murray Stein, In Mid Life (Dallas: Spring Publications, 1983), p. 139.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤