الفصل العاشر

الترابطية رؤية للكل

إن التجزئة على رأس المهارات التي تطوَّرت في الحضارة الغربية المعاصرة. إنها مهارة تقسيم الأشياء إلى مكوِّناتها الصغرى المحتملة. ونحن كفء في هذا، كفء لدرجة أننا نميل إلى نسيان إعادة الشَّظايا إلى بعضها البعض مجدَّدًا. من الناحية الأخرى، تميل الأُنْثَوية إلى رؤية كل جزء في سياقه، بوصفه جزءًا من صورة أوسع. ويمكن أن يَهبَنا حدسنا رؤية للكل.

مع «مبدأ الترابطية»، تَنبثق كل الخصائص الأُنْثَوية عن مغزًى للتواصل الداخلي. الشعور والرعاية والتَّلقي والتعاون والحدس، جميعها قائمة على مَغزًى للاعتماد المتبادَل، ووعي حادٍّ بالعلاقة مع الآخر ومع الكل. وعلى العكس من ذلك، اقتفى العلم خُطى الطريق الذُّكُوري، طريق المنطق والتحليل القائم على الفَصْل والتجزئة إلى أقسام. هذا الطريق ذو قوة عظمى ونجمَتْ عنه مُعجِزات التكنولوجيا الحديثة، ولكنه أدَّى أيضًا إلى مشاكل من قبيل تلوُّث البيئة. وإذ يَعتاد الباحثون على الاقتران بالأُنْثَوية يصبح في إمكانهم أن يُركِّزوا على الأجزاء فرادى بينما يُقيمون في الآن نفسه اعتبارًا لعلاقتهم بالبيئة. يمكن لمبدأ الترابطية في الأُنْثَوية أن يهب العلم منظورًا أكثر كُلَّانيَّة.

في عملية تدوين هذا الكتاب، رُحتُ أتأمل انفلاتي عن النظرة الميكانيكية للعالَم. لقد دَرَستُ الكيمياء الحيوية في كلية الدراسات العليا، بحثًا عن أصول أُسس الحياة. ثم دَرَستُ ميكانيكا الكوانتم ونظرية المَدار الجُزيئي، وأخذتُ الكيمياء الفيزيائية كتخصُّص فرعي، لكي أتفهَّم التفاعلات في الكيمياء الحيوية. إن تاريخي الشخصي، بمغزًى ما، يُلخِّص مسار العلم الحديث، ما دمتُ قد بحثتُ دومًا عن شذراتٍ أصغر وأصغر من أَجْل تفسير سِحر عالَمنا، واستبد بي الأمل في أنني إذا عزَلتُ الخلايا على انفراد ودرَستُها، لاستطعتُ تَفهُّم الحياة.

ومن الشائق حقًّا، أنني في غمار خوضي في أعماق المادة، بما فيها من عدد هائل لا يُحصَى من الجُسَيمات دون الذرية، اخترت مشروعًا للبحث لا يَئُول إلى المُقارَبة الاختزالية بمفردها. وعلى مستوًى لا شعوري، كان الجانب الأُنْثَوي فيَّ يقاوِم طريق التحليل الخالص. مَشاعري قادتْ خطاي. اهتممتُ اهتمامًا شخصيًّا بالحكايات المأساوية عن ناس لديهم استعداد وراثي لرد فعل إزاء التخدير هو الارتفاع المفاجئ (أحيانًا القاتل) في درجة حرارة الجسم. النظريات التي تتناول آلية التخدير ترى أن التخدير يُقلِّل الانتقال عبر الأعصاب. إلا أنه لا نظرية تُفسِّر الأعراض الجانبية الشَّتَّى للتخدير، من قَبيل هذا الارتفاع في درجة حرارة الجسم. وقد بَيَّنتُ أن العقاقير المخدِّرة تُقلِّل قوة النبض في خلايا القلب المنفردة في نَسيج مُستزرَع؛ أي خلايا غير مُتصلة بأعصاب. أجَل أخذتُ بالمُقارَبة الاختزالية وذلك عن طريق النظر في الخلايا المنفرِدة، إلا أن خطوتي التالية كانت ربط هذا الكشف بالجسم ككل عن طريق التساؤل عمَّا هو مشترك بين آلية نبض خلايا القلب وآلية الانتقال العصبي. ووجدتُ أن بروتينات الربط بالكالسيوم، وهي بروتينات تنظيمية تحكم عددًا من الوظائف في الجسم، إنما تضبط إيقاع الآليَّتَين كلتيهما. واستأنفتُ مسار بحثي كما لو كان رقصة بين مستوى الجزيء ومستوى الخلية ومستوى الجسم ككل.

لقد جذبني علم نَفْس يونج بسبب من تركيزه على الكُلَّانية. فليست تنحصر مهمة علم النَّفْس في التكيُّف مع القواعد التي يتخذها المجتمع، ولا في بلوغ حالة ثُبوتية من الكمال. والأحرى أن تكون هذه المهمة هي تطوير إمكانِيَّاتنا بأسْرِها، أن نحيا حياة زاخرة وعميقة، أن نجعل كل المتقابِلات النفسانية لدينا تدخل في علاقة، أن نحقق الحياة بكل ثرائها وغموضها. وإذ يكون الهدف هو تحقيق كُلَّانيَّة النَّفس، تتكون عملية التحليل عند يونج من فحص وقَبول جوانب من نفوسنا كنا قد أنكرناها، واستعادة الاتصال والتدفق بين جوانب من حياتنا كنا قد جزَّأْناها إلى أقسام مُحكَمة الحدود. إن الكُلَّانية، باختلافها عن نزعة الكمال التي تنم عن تفكير رجْعِي ضَيِّق، إنما هي تفاعُل دينامي بين المتقابلات يُشبه الخَفقان بين الين واليانج في الطَّاوِيَّة.

وفي مُقابِل العلم الحديث، الذي يتناول الأشياء منعزِلة ويحللها إلى ما لا نهاية، جسَّدَت لي هيلدجارد البنجنية Hildegard of Bingen المُقارَبة الأُنْثَوية. إنها أبرز عالِمة في العصور الوسطي، وكانت في حالة عِشق للطبيعة. نظرَت إلى التواصل الداخلي والاعتماد المتبادَل بوصفهما صميم خامَة الكون. كتبَت: «كل شيء، هذا الذي في السماء، وما على الأرض، وتحت سطحها، يتغلغل فيه التواصل، تتغلغل فيه الترابطية.»١ لم تُجزِّئ هيلدجارد حياتها إلى أقسام. وفي عملها وصَلَت العلم بالرُّوحانية والفن. لقد قارَبت العلم من حيث هي عارفة عاطفية.
وبعد هذا بثمانمائة عام، يصف إدجار ميتشيل E. Mitchell شعورًا مُماثلًا بالتواصل في الكون. لقد وقَف، كرائد فضاء في رحلة أبوللو، على سطح القمر وارتَدَ ببصره إلى كوكبنا البَهِي الصغير بزُرقته وبياضه، وهالته رُؤية هذا المكان لسُكْنَى الحياة، والوعي والكينونة:
في طريق العودة وجهتُ انتباهي للنظر إلى الأرض والكون النظامي [الكوزموس]. وعلى غير المتوقَّع، مَر بخبرتي مَغزًى بهيج مفاده أنني والكون كيان واحد؛ أي إنه ليس إلا امتدادًا لذاتي، وأن كلًّا مِنَّا جُزء مكمِّل من الوجود عينه. هذه الخبرة أدارت رأسي كثيرًا، كانت مثيرة ومبهجة ومُحيِّرة. تبينت للوهلة الأولى أنني أنظر إلى كائن عضوي وفي الوقت نفسه تقريبًا أدهش جيم لافلوك المجتمع العلمي بفرضه؛ فرض جايا. وصف فَرْضه الأرض كما أدركتُها من أغوار الفضاء، وصف الكون كما رأيتُه كُلًّا واحدًا، وكيف تعمل ككائن عضوي، وليس كمادَّة جامدة جافَّة بَكْماء، كما نتصور نحن في العلم.٢

إن ميتشيل مؤسِّس معهد العلوم الفكرية، وهو يستشهد الموضوعية بوصفها إحدى زَلَّتَي العلم. الزَّلَّة الأخرى التي يراها هي الاختزالية، اختزال الطبيعة إلى أجزاء أصغر وأصغر كي نقوم بتحليلها:

إني أرى زَلَّتين أساسيتين في المنهج العلمي. إحداهما هي الموضوعية … الافتراض المغالط الآخَر في العلم هو كالآتي: إذا اختزلتَ كل شيء إلى جُسَيماته الصغرى النهائية، تستطيع أن تَردَّها معًا مُجدَّدًا وتتفهَّم الشيء الكلي. ونحن نعلم طبعًا أن هذا ليس صادقًا. إننا نحيا في كون غير خَطِّي، كون يضيف عناصر من التَّعقيد والجمال كلما تلاقت جُسيماته معًا في كيان عُضوي كُلَّاني. في كل مستوًى من مستوَيات النَّماء والتنظيم تظهر خصائص جديدة لم يكن من الممكن أبدًا التَّنبُّؤ بِها أو تَفهُّمها عن طريق العناصر ذاتها. عليك النظر إلى الكائن العضوي ككل لكي تتفهمه، وليس أن تنظر فقط إلى أجزائه.٣
على أية حال، لا يزال رهط من العلماء يَتعلقون بنموذج السِّير إسحق نيوتن للكون الأبدي الميكانيكي الذي يعمل كما تعمل الساعة. وحتى أَينشتَيِن وهو على فِراش الموت في خمسينيات القرن العشرين، كان عازفًا عن التَّخلِّي عن النموذج السُّكوني للكون الأبدي. ويظل الهدف النهائي للفيزياء هو تحديد الجُسَيمات الأساسية أو المجالات، وتَفَهُّم كيف تعمل معًا. يأمل هؤلاء الفيزيائيون في صياغة نظرية كل شيء، في تفسير الكون بصياغة بسيطة يمكن طَبْعها على ظهر قميص قطني [تي شيرت] نرتديه. يُعبِّر ليونارد سسكيند L. Susskind وهو فيزيائي نظري في ستانفورد، و«مُعجِّل ستانفورد الخَطِّي»، عن هذه النظرة الجامعة المانعة للكون:
لا أعتبر نفسي فيلسوفًا بل ميكانيكيًّا. وما لدينا هنا هو سيارة ضخمة جدًّا نحن لا نعرف كيف تعمل، ومن ثَم نَتفكَّر فيها نحن ندفع الإلكترونات في هذا الطريق، ندفعها في ذلك الطريق، نستخدم المُعجِّلات. ونأمل في أن نستخلص أخيرًا القواعد التي تعمل السيارة بمقتضاها.٤

لا أحد ينكر أهمية عَزْل وتقسيم أجزاء الطبيعة. لقد أدَّى هذا إلى اكتشافات مثيرة للعجب والإعجاب، وإلى إحراز خُطى تقدُّمية في معرفتنا بالطبيعة. لقد اكتشفْنَا الفيروسات والبكتيريا التي تُسبِّب المرض، اصطنَعْنَا موادَّ جديدة مثل اللَّدائن ووضعنا الإنسان على سطح القمر. تُيسِّر الآلات الكثير من العمل الشاق القاصم للظهر، وتُضخِّم من قوة الفرد؛ المُعدَّات ذات البِنية المُعقَّدة تُستخدَم في بناء السدود وناطحات السحاب والطائرات. بَيْد أنَّ المُقارَبة الميكانيكية وحْدَها لم تَعُد كافية. كثير من مشكلات العلم باتت الواحدة منها لا تستجيب لهذه المُقارَبة؛ علاج السرطان، التَّنبُّؤ بالزلازل، توقُّعات الطقس طويلة المدى، وظيفة الجهاز العصبي المركزي، جوانب من سلوك الحيوان، البيولوجيا الارتقائية، تَطوُّر العقل والوعي.

ولعل أهم ما يمكن أن تسهم به النِّسْوية في العلم هو رؤية الكُلَّانية. إن تفضيل الكُلَّانية مأخوذ من الترابطية وهي مبدأ أساسي مُميِّز للأُنْثَوية. تعني الترابطية النَّظر إلى العلاقات بين الأشياء، رؤية الأشياء في سياقها، استبصار الروابط التي تربط الأشياء جميعًا معًا، الرجوع خُطوة إلى الوراء من أَجْل رؤية الصورة الكبرى، بل أيضًا جدَل العمل والحياة معًا. وإذ نفعل هذا، نَجِد الكل يَهَب المعنى للأجزاء. يضطلع الكل بوظائف لا تَطرحُها الأجزاء. يَعتقد الفيزيائي النظري بول دافيس P. Davies أن الاختزالية تُنكِر حقيقية المستويات الأعلى من التنظيم من قبيل الكائن العضوي البيولوجي! «إذ تبلغ المادة والطاقة حالات أعلى وأكثر تعقيدًا، تنبثق كيفيات جديدة حتى إن وصْف مستوًى أدنى لا يمكن أبدًا أن يستوعبها. كثيرًا ما نَستشهد على هذا بالحياة والوعي اللذين لا يَعدُوان أن يكونَا لغوًا يخلو من المعنى مثلًا على مستوى الذرات.»٥ الرؤية الأُنْثَوية للكُلَّانيَّة ترى أن كل مستوًى من مستوَيات تَطوُّر المادة يجلب قوانينه الخاصَّة به والتي لا يمكن اختزالها إلى قوانين المستوَيات الأدنى. المنهج الاختزالي يَتجاوز القوانين التنظيمية من قبيل التعاون أو الخصائص الجمعية للمنظومات المعقدة، ما دامت هذه القوانين لا يمكن اشتقاقها من القوانين الفيزيائية الكامنة. ويمكن أن نتناول المُقارَبة الاختزالية التقليدية تناولًا معاصرًا عن طريق المُقارَبة الكُلَّانية.

كانت رؤية الكُلَّانية، شأنها شأن كل جوانب الأُنْثَوية، حاضرة دومًا في العلم، ولكنها تظل تلعب دورًا صغيرًا. مثلًا، مشروعات العِلم التي تظفر بأكبر قدْر من التمويل الآن هي المشروعات التي يُسوِّغها الافتراض الاختزالي القائل إنه إذا كانت الأجزاء الأساسية مفهومة، فسوف يتم إذن تفسير البقية الباقية من الطبيعة. هذه المشاريع تشمل تحديد الجُسَيمات الأساسية بمُعجِّلات الجُسَيم، وتَتابُع الجينوم البشري.

توازن المُقارَبَتين الاختزالية والكُلَّانية

أجَل المُقارَبة الاختزالية في غاية القوة، بيد أنها تَنفعنا أكثر إن هي تزاوجَت مع المَنظور الكُلَّاني. إن المشكلة في أُحادية الجانب. ولن يكون الطَّرف الأقصى الآخر؛ أي العلم من دون تحليل، أفضل حالًا. في هذه الحالة سوف تَغمُرنا شبكة من الاتصالات غير قابلة للاختراق. وإذ ننظر دائمًا بعين إلى الأنموذج الشامل لكي نرى ما الذي يفعله تَدخُّلنا في الأمر، نكون في حاجة إلى عملية تحليلية كي تُعينَنا على فك الخيوط. وكما هو الأمر في كل مَسعًى، ثَمَّة دومًا السؤال حول توازُن المنظور. أية زاوية للنظر تحكم تفكيرنا؟ ما الذي نبحث عنه بحثًا دءوبًا؟ هل نرى العالَم بوصفه مُكوَّنًا بشكل جوهريٍّ من وحدات للبناء، أم نراه ككل لا خطوط فاصلة فيه؟ عن طريق التفاعل بين المُقاربَتين الاختزالية والكُلَّانية، يقيم الفيزيائي ديفيد يوم D. Bohm تمثيلًا مع الموسيقى:
من المهم جدًّا وأنتَ تعزف الموسيقى تحديد أي الألحان تعطيه الدَّور الأساسي، وأيها تعطيه الدَّور الثانوي. وإذا بدلت الأدوار بينهما سوف تعزف مقطوعة مختلفة تمامًا. وما يحدث أن الدَّور الرئيسي يعطى لهذا اللحن، والمقصود هو الانحياز إلى الكل والأجزاء. وأنا أقترح أن نجعل له الدور الثانوي ونجعل للآخر دورًا رئيسيًّا.٦
سلفيا بُولاك S. Pollack أستاذ عامِل في قسم البِنية البيولوجية في كلية الطب بجامعة واشنطن. القسم الذي تعمل فيه قسم غير عادي من حيث إن نصف الأساتذة العامِلِين فيه من النساء. تخصَّصتْ بولاك في علم المناعة الخَلَوي، وهي مهتمة بدراسة نشأة ونُمو الخلايا الليمفاوية، خلايا الدم البيضاء في الجهاز المناعي. تريد أن تعرف ما الذي يحكم نشأتها ونُموَّها، وكيف يكتمل نُضج نمط من الخلايا بحيث يَتحوَّل إلى نمط آخَر له شكل مختلف أو وظيفة مختلفة. وهي تحاول دائمًا أن تُوازِن بين المُقارَبتين الكُلَّانية والاختزالية:
لأن ما أفْعَله بالِغ التعقيد، أكون في حالة صراع دائم بين كَوني اختزالية، وهذا ما أراه ذكوريًّا تمامًا، وبين كوني كُلَّانيَّة أو تَكامُلية، وهذا ما أراه أكثر أُنْثَوية. أعرف أنَّنِي لن أصل إلى أي شيء إذا لم أكن اختزالية. كان عليَّ تشريحه إلى قطع صغيرة والنَّظر فيه. على الأقل أحاول دائمًا أن أتذكر أنني أبحث الأجزاء حتى نستطيع أن نَتفهَّم المنظومة ككل. وما دمتُ مُهتمَّة بكيفية تَشكُّل خلايا الدم، فمن المباح تمامًا البحث في أي شيء يحدث في سياق هذه العملية.٧

وعلى الرغم من أن بولاك تجد العمل في المنظومات ككل مُحبِطًا، فإنها تجده في النهاية أكثر إثارة؛ لأنه يطرح كل الاحتمالات. دراسة المنظومات ككل يمثِّل تُحدِّيًا أمامها لكي تكون أكثر مَهارة وأكثر تكاملًا في تفكيرها:

أنتَ تتحكَّم في أشياء كثيرة على قَدر ما تستطيع، لكن الحيوان يفعل دائمًا أشياء لا تستطيع أن تتحكم فيها. وأنتَ تتعامل مع هذا إذا كنتَ تتعاملُ مع أي شيء يعلو على المستوى الجزيئي. كان لديَّ طالب دراسات عُليا تقريبًا لم يستطع أن يعمل في مُختبَرنا. أراد حقًّا أن يكون عالِمًا مخلصًا للبيولوجيا الجزيئية يعالِج كل فئة منفصلة من التساؤلات والأشياء، استطاع أن يعمل فيها، كاشفًا عن بِنيَة الطبيعة. أما ما كنا نفعله نحن فقد كان بالنسبة له دياجير من الظلام.٨

تبتهج إنجريث ديرب-أولسن ابتهاجًا كبيرًا بعملها في دراسة رخويات البَزَّاقة العريانة. وعلى الرغم من أن مُقارَبتها المنهجية اختزالية، فإن منظورها الاستشرافي الذي ينقض هذا هو التفكير في موقع الحيوان من بيئته ككل:

كنتُ دائمًا مُهتمَّة بأشياء من قبيل المبحث الباهر في كيفية تأثير ارتقاء الجنين على وظائف الأعضاء والتغيُّرات التي تَحدُث مع الميلاد. أُحبُّ التفكير في موقع الحيوان من بيئته ككل. وأحسب أن اختزالِيَّتي تنتهي حين أعمل؛ وذلك بسبب ما لدَيَّ من صنوف المناهج، وخَلفِيَّتِي العامَّة. على أن انشراح صدري بهذا المجال، وإسهامي فيه كمُعلِّمة قد تأثَّر كثيرًا بالفكرة الكُلَّانية القائلة إن من حقي التفكير في المشاكل في سياق أوسع، حتى ولو كنتُ لا أملك أن أفعل شيئًا حيال هذا بما لديَّ من تِقنيات في منظومتنا المُعيَّنة.٩

والآن لنستكشف كيف ينعكس مبدأ الترابطية هذا في علوم ناشئة حديثًا؛ من قبيل عِلم البيئة، والطِّب الكلاني، وعلم الشَّواش، ونظرية الكوانتم.

علم البيئة، علم التَّرابطية

أدَّت النظرة إلى الطبيعة كآلة ميكانيكية إلى مشاعر الانفصالية، ونَجَم عنها استغلال مَوارد الطبيعة. هَذه المُقارَبة الاختزالية تُقابل الرؤية المُوحَّدة التي يطرحها علم البيئة، عِلم العلاقات المُتبادَلة بين الكائنات الحية وبيئاتها، إنَّ علم البيئة من حيث هو علم مُتعدِّد الأنظمة، يُجسِّد الرُّؤية العامَّة الكُلَّانية التي تُميِّز المبدأ الأُنْثَوي. إنه يشمل النبات، والحيوان، وعلم البيئة، وديناميات السكان، والسلوك والتطور، وعلم تصنيف الأحياء، وعلم وظائف الأعضاء، وعلوم الوراثة، علم الأرصاد الجوية، وعلم التربة والجيولوجيا، علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والإلكترونيات. تشتمل الأجزاء التطبيقية من عِلم البيئة على الحياة البَرِّية وتدبير مجالها، والإنتاج الزراعي والاتجاه نحو مشاكل تُلوُّث البيئة. إن علم البيئة الذي طويلًا ما رحَّله كثيرون من أهل العلم إلى مَرتبة الدرجة الثانية، ينبثق الآن واحدًا من أهم جوانب البيولوجيا.

تَحدَّت البيولوجية راشيل كارسون الفكرة القائلة إن العلم ينتمي إلى «مقصورة منفصلة خاصة به، بمَعْزل عن الحياة اليومية». كان هدف العلم بالنسبة لكارسون هو اكتشاف الحقيقة وإلقاء الضوء عليها، مما يَتضمَّن الكشف عن الجمال في الطبيعة.١٠ لم تكن تخجل من استجابتها العاطفية لقوى الطبيعة. وبوصفها عالِمة بيئة، ازدادت نظرتُها العريضة اتساعًا بفعل الاقتراب الروحي الذي شعرَتْ به إزاء المخلوقات المنفردة التي كتبَتْ عنها.
قبل أن تنشر كِتابها «الربيع الصامت»١١ في العام ١٩٦٢م، لم يكن أحد قد أدرَك الدمار المُستديم في الأرض الذي يكاد يُمثِّل النشاط الصناعي عِللًا ثابتة له. رأتْ كارسون القتل الجماعي لطيور وحشَرات غير ضارة بفعل الكيماويات السَّامَّة، وعملت على حماية الجمال في العالَم الحي. لقد أدركَتْ أن البيئتين الإنسانية والطبيعية تتغلغل الواحدة منها في الأخرى، وأن الحضارة الحديثة تُسمِّم مَوطِن الإنسان بالمعنى الحَرْفي للكلمة. تَطلَّب هذا من كارسون نصًّا يقع في ثلاثمائة وخمسين صفحة مُزوَّدة بخمس وخمسين إحالة مرجعية لكي تُبيِّن كيف أن رشَّ المبيدات المُخلَّطة؛ مثل الدي دي تي يُسبِّب دمارًا بيولوجيًّا واسع النطاق ومستديمًا. ولأن أحدًا لم يتوقَّع مثل هذه الضَّرر البيئي، وجَب على كارسون أن تَطرَح وتشرح العديد من المبادئ البيولوجية والبيئية التي تُفسِّر هذا الضرر.
فرضت كارسون بكتابها «الربيع الصامت» على القُرَّاء أن يُعيدوا بناء تصوُّرهم للعالَم. وكان الأثر الفوري لهذا الكتاب هو حظر استخدام الدي دي تي كمُبيد حَشري؛ أما الأثر بعيد المدى، كما طرَحه أحد المُحرِّرين، فقد كان تغيير العالم: «ما إن قالت بضع آلاف من الكلمات، إلا واتَّخذَ العالَم اتجاهًا جديدًا»١٢ حينما ظهر «الربيع الصامت» لأول مرة كانت الفكرة القائلة إن التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تفتك بنا عن طريق إهلاك في موطننا غير قابل للاسترداد تُعد تفكيرًا ثوريًّا، تفكيرًا يستثير النقاش والسِّجال عَبْر أرجاء المجتمع، وتتلقاه الحكومة والصناعة بالحذر والمشاكَسة. وعلى الرغم من أن المُحاجَّة بين البيئيين وبين الحكومة والصناعة مُستمرَّة إلى يوم الناس هذا، فإنها لم تَعد تساؤلًا حول ما إذا كان التصنيع والتكنولوجيا يُسبِّبان الدمار للبيئة، بل بالأحرى إلى أي حد يمكن أن يكون الدمار مقبولًا.
على أن راشيل كارسون لم تكن أول من انزعج بشأن الوطأة على الإنسان في البيئة. في القرن الثاني عشر كانت هيلدجارد البنجنية مهمومة هي الأخرى بشأن التلوث. قامت بتصنيف الأسماك في الراين لكي تدرس مردود إغراق النُّفايات في النهر. اعتقدَت هيلدجارد أن الإثم في نهاية المطاف إثم بيئي؛ يُسبِّب فسادًا في الكون المنتظم، فسادًا في العلاقات؛ لأن ثَمَّة توازُن يعتمد على شروط مُتبادَلة بين المخلوقات قد أبانَته لنا، والإضرار به يُدمِّر الحياة بأسْرِها، بما في ذلك حياتنا نحن. تأتينا صيحة هيلدجارد عَبْر ثمانية قرون: «لا ينبغي الإضرار بالأرض. لا ينبغي تدمير الأرض. من دون الطبيعة لا يمكن أن يبقى الجنس البشري.»١٣

وعلى الرغم من تحذيرات هيلدجارد، وراشيل كارسون بأن الطبيعة بأَسْرها تعتمد على بعضها البعض، لا يزال الاتجاه الذُّكُوري نحو التقسيم إلى أجزاء منفصلة هو السائد. وعلى الرغم من أننا الآن نعرف بالعقل أن كل شيء متصل اتصالًا داخليًّا، فكثيرًا ما نتصرف كما لو كنا في انعزال عن الأنشطة التي لا تُؤثِّر على حياتنا اليومية. ويستمر تدمير البيئة، تُسوِّغه تبريرات قصيرة المدى: الغابات التي نمَت عَبْر السنين الطويلة في ولاية واشنطن تُجتَث لتَحُول دُون فُقدان وظائف في صناعة الأخشاب، تَختفي الغابات الاستوائية المَطيرة بمعدَّل مائة فدان في الدقيقة من أَجْل زراعة حقول تُطعِم الجَوعى، النُّفايات السامة مقبولة في المناطق المُخصَّصة للهنود الحمر في أمريكا؛ لأنها تخلق وظائف. المزيد والمزيد من الأنواع الحية من قَبيل غوريلا الجبل مهدَّدة بالانقراض بسبب احتياج الإنسان إلى أراضٍ، نَتغاضى عن بُقَع الزَّيت الطافية على سطح البحر كثمن يدفعه مجتمعنا الاستهلاكي. وعلى الرغم من أن الحاجات قصيرة المدى هي واقع مُلِح، فإن التضحية بالبيئة لسَدِّها لا يفعل أكثر من إرجاء الأزمة التي هي قاب قوسين أو أدنى. وفي حالات كثيرة تنجم مشكلات أخطر وأوسع في مداها عن تجاهُل التساؤلات البيئية الأساسية وفرض تَورُّطات عَجلى لا تبالي بالمسائل الأعمق.

عِلم البيئة يُصوِّب انتباهنا إلى التواصل الداخلي في شَبكة الحياة. تَتأثِر المنظومة بأَسْرها حين استئصال نوع واحد من الأنواع الحية؛ بسبب من ذلك الاعتماد المتبادَل بينها. تنحو المنظومات البيئية نحو النُّضج، أو الثبات، وفي هذا تَنتقل من حالة أقل تعقيدًا إلى حالة أكثر تعقيدًا. وحين نَستفيد من أيَّة منظومة بيئية، ونستمر في هذا الاستغلال، كما يحدث حين تجفيف بُحيرة ضَحلة لتَجُور عليها النباتات المُجاوِرة أو حين إزالة غابة بفعل قُطعان الماشية، تتأثر المنظومة البيئية ويتأجَّل تناميها. أنواع كثيرة من النبات والحيوان تستلزم غابة عتيقة استمرَّت عَبْر قرون طويلة لكي تقوم تلك الأنواع بدورها في الكل المركَّب، في الشبكة الرهيفة … شبكة الحياة التي تُدعِّم الغابة. وحتى الشُّدَف الميِّتة من الغابة؛ مثل الحطب، والأغصان الذاوية، والأشواك الملقاة على أرضية الغابة، تدخل في عملية إعادة تدوير، وتُمثِّل مواطن سكنى في الحياة البَرِّيَّة. والشُّدَف الميتة مُفتقَدة تمامًا في غابة حديثة العهد.

أما أولئك فلن يستطيعوا من دون رؤية الكُلَّانية إلا إعطاء حلول جزئية لمشكلات البيئة، طالما يَظلُّون مُنحصرين في تفكير التقسيم والتجزئة. مَثلًا، حين تقدَّمَت حركة الأنواع الحية المُعرَّضة للخطر Endangered Species Act بالمَعونة للحيلولة دون انقراض البومة المُرقَّطة (وهي نوع يمثل علامة المنظومة البيئية للغابات طويلة العهد في نَمائها) لم تَتوجَّه الحركة نحو التساؤلات الأرحب عن التنوع البيولوجي وإنعاش الأنواع الحية الأخرى في الحياة البرية وإعادة تدريب أولئك الذين قد يَفقدون وظائفهم، اقترح قسم الداخلية في الحركة حلولًا لإطعام البوم في البَرِّية يتراوح مَداها من إعادة غرس بيض البوم إلى برامج لرعاية البوم في الأَسْر. حين يتم تهديد أحد الأنواع، يُشير هذا إلى خطر يُهدِّد المنظومة البيئية بأسْرِها. ولعلنا إن فَهِمنا التواصل الداخلي بين الأشياء جميعًا، سوف نستطيع حينئذٍ أن نصطنع حركة المنظومة البيئية المُعرَّضة للخطر بدلًا من حركة الأنواع الحية المُعرَّضة للخطر التي تَصون المَوطن البيئي فقط بعد أن يصل النوع الحي إلى حافة الانقراض. لقد تَحالَف العلماء والمواطنون مع جماعات الحفاظ على البيئة من قبيل؛ منتدى سلاسل الجبال، ومجلس تنظيم الطبيعة، وجمعية الحياة البَرِّية، والسلام الأخضر، وبات هذا التحالف هو النَّصير الممتاز لِسَن قوانين من أَجْل حماية بيئتنا.
إن «الاقتصاد البيئي» مجال جديد، وهو لمثال على النَّظرة العريضة المطلوبة لكي نقتحم المستقبل. المساهمون في هذا المضمار يحاولون ترجمة قِيم مثل الحفاظ على الموارد الطبيعية إلى خُلاصة القول في لغة الأنشطة الاقتصادية-المال. تَشكَّلت الجمعية الدولية للاقتصاد البيئي العام ١٩٨٨م، وعَقدَت أول اجتماع لها في مايو ١٩٩٠م، ولها جريدتها الخاصة بها، جريدة «الاقتصاد البيئي». نُظِّمَت هذه الجمعية لكي تُمثِّل معبرًا بين العلوم الطبيعية وعلم الاقتصاد، وهي تَجمع بين الناس المُهتمين بمراجعة تصوُّراتنا الاقتصادية حتى تتوافق مع القوانين الفيزيائية والبيولوجية. يُؤمِن أعضاء الجمعية بأن هناك حدودًا للتَّقدُّم، والبعض يعتقد أنَّنا قد وصَلنا فعلًا إلى هذه الحدود. كثيرون يَرون أن الوقت قد حان للاقتصاد القائم على «التنمية المستدامة»، لا على التقدم. يعمل الاقتصادي هرمان ديلي H. Daly في البنك الدولي، ووفقًا لرؤيته يستدعي هذا أن نستبدل بالنموذج القياسي القديم للاقتصاد بوصفه منظومة مكتفية بذاتها، بنموذج قياسي آخَر يعالِج الاقتصاد بوصفه فئة منظومة فرعية داخل المنظومة البيوفيزيائية. يقول إنه في الوقت الراهن «لا توجد نقطة التقاء بين الاقتصاد في مَداه الواسع وبين البيئة». يقول ديلي: إن الكتب الدراسية الرائدة في علم الاقتصاد لا تَتضمَّن مجرَّد مَدخل لموضوعات؛ من قبيل الموارد الطبيعية، والتلوث، والاستنزاف؛ لأن معظم علماء الاقتصاد يُعالِجون الدَّوالَّ البيئية بوصْفِها مسائل خارج المنظومة.»١٤
إحدى مَدارات الحديث التي برزَت في الاجتماع الأول للجمعية كانت «الحفاظ على الحقوق فيما بين الأجيال المتعاقبة – اتخاذ القرارات التي لا تنتهك حياة الأجيال المقبلة. من الناحية التقليدية، افترض الاقتصاديون أن الموارد بأَسْرها تخص الجيل الراهن. إن الاهتمام بالحاضر أكثر من المستقبل يَتَّسم بقِصَر النظر، ويعني على سبيل المثال أن الأخشاب بطيئة النمو لا يمكن أن تُنازِع سدًّا يأتينا بأرباح فورية. وقد قال كولن كلارك C. Clark، وهو عالِم رياضيات في جامعة بريتيش كولومبيا: «مُعظَم التقدم الاقتصادي البادي قد يكون في — واقع الأمر — وهمًا خادعًا قائمًا على الإخفاق في تفسير تناقُص رأس المال الطبيعي.»١٥
وفي عصرنا هذا نجد مردود إنكار الأُنْثَوية، إنكار التواصل الداخلي بين الأشياء جميعًا، قد تَمخَّض عن المنظومات البيئية المعرَّضة للخطر، والتلوث البيئي، والأمطار الحمضية، وارتفاع حرارة الأرض، وأخطار الكوارث النووية. إن رؤية الكُلَّانية التي هي أساسية في علم البيئة يمكن أن تكون إحدى القوى المُوحِّدة التي تستطيع أن تُعِين في إبراء الأرض. وكما قال رائد الفضاء السوفيتي يوري أرتوخين Y. Artyukhin حين شاهد الأرض من الفضاء: «لا يهم في أي بحر أو أية بحيرة رأيت بقعة التلوث … فأنتَ تقف حارسًا أرضنا بأسْرها.»١٦

منظور الأنظمة المتعدِّدة والتفكير التَّكاملي

يعطينا علم البيئة نموذجًا للجَمْع بين ذوي الخبرة في مَجالات عديدة مختلقة. إنه يضم أشخاصًا من علم النَّفْس، والبصريات، والفيزياء، وعلم وظائف الأعضاء، والتشريح، والفيزياء الحيوية، والهندسة، وقياس النَّظر والرمد، وأنظمة أخرى على قَدَم المساواة. هذا المنظور متعدِّد الأنظمة يمكن أن يُثرِي تقريبًا أية زاوية من زوايا العلم. والأمر كما تطرحه دافيدا تلر، الخبيرة الرائدة في بصريات الأطفال، على النحو التالي:

هدفي هو أخْذ بيانات ومفاهيم ربما تكون قد نشأت في أنظمة عديدة مختلفة، وأحاول غزْلَها معًا في كل فريد. هذه هي نظرتي للعمل، وما أحاول أن أُعلِّمه للطلاب. وأحسب أن ولعي بهذا المجال المُعيَّن، وتدريسي فيه قد تأثَّرَا كثيرًا بولعي بتكامُل الأفكار الآتية من المصادر جميعها.»١٧

وكما ذَكرْنا، نظرَت تلر من نافذة منزلها إلى بحيرة يونيون في سياتل. وقالت إنها تشعر دائمًا بفحوى من الهدوء يغمرها وهي ترقُب الماء والبَط. إنها أستاذ علم النَّفْس في جامعة واشنطن، وكانت قد تم تعيينها في قسم علم وظائف الأعضاء، والفيزياء الحيوية بكلية الطب، وفي برنامج دراسات المرأة. وأدارت مجموعات أبحاث يتراوح مداها بين خمسة باحثين، وخمسة عشر باحثًا.

بعد عشر سنوات قضتها في دراسة إبصار البالغين، انتقلَت إلى سؤال أكثر تعقيدًا: كيف يرتقي الإبصار عند المواليد؟ وقد كانت التساؤلات الارتقائية من تلك المجالات التي حاقَ بها صِيت غير مُشجِّع، إذ يصعب اقتحامها باستخدام المُقارَبة الجزئية غير التكاملية. ومن الشائق حقًّا أن هذا التبدُّل في مَسار أبحاثها قد حدث بعد أن أنجبَت طفلين، مما أثار لديها تساؤلات عن كيفية رؤية الوليدين للعالَم. ووجدَتْ أن العطف الذي تنامى لديها فيما يتعلق بطفليها قد أسهم إسهامًا هائلًا في قدرتنا على مُلاطفة رُضع أعمارهم شهران وثلاثة أشهر حتى يكشفوا عمَّا يَرونه. وبوصفها رائدة في هذا المجال، قامت بتطوير منهاج يمكن بواسطته أن يُخبِرها الرُّضَّع بما يَروْنه مُستخدِمين نزوعهم الطبيعي إلى الحملقة في الأشياء والآن يستخدم هذا الأسلوب الفني في العيادات لاختبار بصر الطفل الرضيع، وما إذا كان ينمو نموًّا طبيعيًّا. لقد أودعت تلر كل خبرة حياتها في قلب عملها، شأنها في هذا شأن نساء أخريات كثيرات.

منذ بضع سنوات دخلتُ المستشفى لإحساسي بألم باطني حادٍّ. كان الوقت في بدايات المساء وإجراءات التشخيص تسير بواسطة الأشعة السينية والمَوجات فوق الصوتية. استشار طبيبي اثنين من الاختصاصيين، كان اختصاصِي أمراض النساء مقتنعًا بأنني مُصابة بالتهاب في الحوض، أما اختصاصي الجهاز الهضمي فقد اعتقد أني مصابة بالتهاب الزائدة الدودية. كل من الطَّبيبَين نظر إلى جسدي فقط في حدود تَخصُّصه. كِلاهما أراد إجراء عملية جراحية لي فورًا. تركوني في غرفتي بالمستشفى ومعي استمارة لأُوقِّع عليها فتأذن لهم بإزالة زائدتي الدودية، وقَناتَي فالوب والمبيضين ورَحِمِي، وأي شيء آخر يُجاور هذا يرونه مَوضع المشكلة. عادوا إلى غرفتي وقالوا إنهم لن يستطيعوا إجراء العملية الجراحية حتى وقت متأخِّر من الليل؛ لأن الأدوات ليست مُجهَّزة في غرفة العمليات وأنهم تأخَّروا عن الدَّفْع، حينئذٍ اخترتُ البديل الذي طرحوه عليَّ كفكرة متأخِّرة، وهو أن أتناول مُضادَّات حيوية رُباعية وأرى كيف سأشعر في الصباح. ولحُسن الحظ، شعرتُ بتحسن ولم أَحتَج إلى عملية جراحية. يَظل سبب شعوري بالألم سرًّا غامضًا. هذه الخِبرة بيَّنتْ لي درجة التَّشظِّي في منظومة الرعاية الصحية لدينا وأظهرَت أن الأطباء الاختصاصيين يَتدرَّبون على تلوين تأويلهم للأعراض المَرَضية. حيثُ يختلف الخبراء والمتخصصون، مَن الذي يَفصِل القول في مسار العمل؟ من ذا الذي نلتجئ إليه لأنه يَتفهَّم التفاعل بين سائر المَنظومات المُعقَّدة في أجسادنا وعقولنا وأرواحنا؟

على المستوى القومي، يُستَبان التقسيم التجزيئي للرعاية الصحية بواقعة مفادها أن المعهد القومي للصحة العقلية، والمعهد القومي للصحة في وكالتين مُنفصلتَين إداريًّا. تَقع المعاهد التي تُغطِّي أمراض العيون، والقلب، والرئة، والتهاب المفاصل والعضلات، وداء السكر، وأمراض الجهاز الهضمي، والحساسية، والأمراض المُعْدية، تقع جميعها تحت مِظَلَّة المعهد القومي للصحة، أما المعهد القومي للصحة العقلية فهو وكالة منفصلة تمامًا داخل جهاز الصحة العامة. يعكس مثل هذا التقسيم بوضوح الفَصْل السائد في الطب بين العقل والجسم. إلا أن علم الطب أحد المجالات التي تتحرَّك في اتجاه مقارَبة أكثر كُلَّانيَّة. تَشكَّلَت الرابطة الأمريكية للطِّب الكُلَّاني العام ١٩٧٨م، وتضم الآن ستمائة عضو، وبرغم أن العضوية فيها ٠٫٢٥٪ فقط من العضوية في الرابطة الطبية الأمريكية (تضم ٢٤١٠٠٠ عضو)، فإن المعهد القومي للصحة العقلية يَقود الآن حركة لتوسيع نطاق المُقارَبة المُيَمِّمة شَطْر العقاقير في «ممارَسة الطب»، وذلك من أجل احتواء المفهوم الأوسع «للشفاء». تؤكد هذه الجماعة الرائدة على تكامُل المَناحي الفيزيائية، والعقلية، والعاطفية، والروحية، مع الانسجام البيئي. إنهم يَتحدَّثون عن الشِّفاء بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا المعنى هو الكُلَّانية.

يمكن أن تَنبثق رؤية الكُلَّانية عن الوظيفة الحدسية، وتُعَد عالِمة الكيمياء الحيوية باتريشيا توماس P. Thomas عالِمة حدسية إلى حد كبير، وهي تعمل على تحقيق التكامل بين المُعْطَيات المأخوذة من تجاربها، والمُعْطَيات المأخوذة من أبحاث الآخَرِين، وغالبًا ما تجد أن الأبحاث المتنوعة، التي تبدو وكأنها تقول أشياء مُتقابِلة، تقول في حقيقة الأمر الشيء نفسه، وتغدو مفهومة حين ننظر إليها في حدود المنظومة ككل، أو من خلال عدسة نظرية تكاملية جديدة. إنها، لسوء الحظ، تجد صعوبة في توفير التمويل اللازم لهذا الربط بين العمل التجريبي والعمل النظري. والمجلَّات العلمية عادة ما تعيد إليها أبحاثها، وتَطلُب منها أن تحدد مجالًا ضيِّقًا لكل بحث. وهي مهمومة بأن مجالها اختزالي، حتى إنه أكثر وصفيةً، وأن العمل التكاملي لا يظفر بالتمويل. وحتى الأبحاث في هذا المجال لا تُقدِّم إلا تراكمًا للمعلومات، بدلًا من أن تُحاوِل خلق قصة متكاملة للمنظومة ككل. تشعر بالإحباط وتؤمن بأن العلم يمكن أن يغنم من تدعيم نَمطِها الحدسي من «علم التفكير» الذي يجمع معًا خيوط باحثِين كُثُر. «في علم عصرنا هذا لا تجد دعمًا للمقارَبة التكاملية؛ لأنك لا تمارسها علمًا تجريبيًّا. إنها علم تفكير. وتقريبًا لا مجال لعلم نظري على الإطلاق؛ لأن نستخدم مُعْطَيات الآخَرين وتصنع تلك الروابط المفتقدة».١٨

إحدى شِراك العلم هي اتباع طريق تجريبي يُؤدِّي إلى نقطة إبهام، أن تطرح أسئلة أصغر وأصغر حتى تفقد في النهاية مُواءمة البحث التي تسقط في مُستنقَع المُعْطَيات. إن الاحتفاظ بعين مفتوحة على الصورة الكبرى يَقِي الباحثين من الضياع في خضم عدد مهول من التفاصيل، ويُوجِّهُهم توجيهًا منضبطًا إلى التجارب المطابقة لمُقتضى الحال، ويساعدهم على ربط عملهم باحتياجات المجتمع.

شيء منفرد هو الذي يفيد في تذكرة العلماء ﺑ «الصورة الكبرى». مثلًا، تكون عالمة الحيوان إيمي باكن أسعدَ حالًا وهي تنظر إلى الخلايا من خلال المِجْهر. وحين قَضَت أكثر من ثلاثة أيام بعيدًا عن طاولة المُختبَر، بدأ يَتسرَّب إليها المَلل وعدم الارتياح وشَدَّها المُختبَر مُجدَّدًا. وهي الآن تدرس بنية ووظيفة الكروموسوم في خلايا بيضات الضفدع الأولية frog oocytes، يتراوح مدى عملها من النظر في المادة الجينية مُنعزِلة باستخدام تقنيات البيولوجيا الجزيئية، إلى مُشاهَدة البيضات من خلال المجهر وهي تَتخصَّب، ومشاهدة الجنين وهو يبدأ في الانقسام. وعلى الرغم من ضغوط الحصول على التمويل من خلال طلبات المِنَح، تشعر باكن أن كتابة طَلَب المِنْحة يساعدها على وصْل عملها بالتساؤلات الأرحب:
على قدر ما يمكن أن أشكو من كتابة طلبات المِنح، فإنها تُفيد كدالَّة بالِغة الجودة في حدود تَدفَعك إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء، إلى النظر فيما تفعله، وترى أين يقع مكانه في الصورة الكبرى في الأُسس المُتَّبعَة بين الحين والحين، نقوم فقط بعزل الواحد بعد الآخَر من الرنا RNA [وهو الحمض النووي المتصل بالدنا DNA المُتضمَّن في تخليق البروتينات]، ولهذا السبب يمكن أن تفقد استبصارك للتساؤلات الكبرى، وأيضًا يمكن أن يصبح هذا مُملًّا جدًّا … جدًّا.
مَهما كان ما أفعله، فإن الأسئلة التي أطرحها تعود دومًا لترتبط ببيولوجيا الخلايا الأولية في البيضات. لم أشعر أبدًا باستثارة حقيقية في دراسة كيمياء بروتين الرنا. كان عليَّ أن أضع في اعتباري حدود ما يمكن أن يحدث لجزيء الرنا حين يخرج من النواة إلى السيتوبلازم. حقيقة أشعر شعورًا قويًّا جليًّا بأهمية أن تَمتلك خلفية عريضة في البيولوجيا حتى تستطيع أن ترى الصورة الكبرى وتعود إليها باستمرار.١٩

تزدهر باكن في عملها. تقول ضاحكة إنها ستظفر بالسعادة القصوى إن هي بُعِثَت في الحياة الأخرى عالِمة بيولوجيا. تَغنم الابتهاج الأكبر من دراستها للمنظومات ككل، في حالتها الخلايا الأولية في البيضات، لا من مواد الكيمياء الحيوية غير المرئية في أنبوبة الاختبار:

أستطيع أن أدفع نفسي إلى العمل في الجزيئات التي لا أستطيع أن أراها في أنبوبة الاختبار، لكني لا أستمتع بهذا كثيرًا. أشعر ببهجة غامرة حين أكون قادرة على رؤية شيء «حي»، مثلًا حين تنضغط الخلية الأولية إلى اثنتين، إنها عملية مُعجِزة! لقد قمتُ ببعض التجارب مؤخرًا على الأجسام المضادة، ونظرتُ إلى البروتينات المختلفة التي يمكن أن يرتبط بها الرنا، أقسام مختلفة في الخلايا، أوقات مختلفة خلال تشكُّل الخلايا الأولية في البيضات، لكن أسَتمسِك دائمًا بالرجوع إلى السؤال حول ما يعنيه هذا في حدود الخلايا الأولية للبيضات ككل، وكيف يُساهم في تكوين الجنين حين يحدث التخصيب.٢٠

الكُلَّانية في الشَّواش

يتحدث علم الشَّواش الجديد هو الآخَر بمفهوم الكُلَّانية. إنه يهبنا طريقًا لرؤية النظام والأنموذج في مواضع لم يكن فيها سابقًا إلا العشوائية، لقد لُوحظ ما هو شارد وغير قابل للتَّنبُّؤ. إن علم الشَّواش مجال للأنظمة التَّعدُّدية، شأنه في هذا شأن علم البيئة. والواقع أن نُتَف أحبولة الشَّواش قد اكتُشِفَت في مواقع متنوعة من العلم؛ الرياضيات، وعلم المناخ، وبيولوجيا السكان، وعلم وظائف الأعضاء، والفيزياء، والفلك، وعلم الاقتصاد، واستغرق الأمر عقودًا من السنين كي ترتبط هذه النُّتف وتُغزَل معًا. واليوم، تكتسب مُكتشَفات علم الشَّواش الهوينى ثِقَلها على الطريقة التي ينظر بها الباحثون في سائر المجالات إلى العالم.

من على حدود الرياضيات، قَصَف علمُ الشَّواش الجديد، مرة واحدة وإلى الأبد، الفكرة الاختزالية القائلة إن المنظومة تكون مفهومة عن طريق تجزئتها ودراسة كل جزء من أجزائها. وبالوسائل الرياضية تُثبِت نظرية الشَّواش أن سلوك المنظومة المُعقَّد يمكن أن يتأتَّى كمحصِّلة لتفاعلات بسيطة ولا خَطِّية فقط بين عدد بسيط من المكوِّنات. يعطينا علم الشَّواش إطار عمل تصوريًّا نَصِف داخِلَه السلوك النوعي لمنظومات تختلف فيما بينها بقدر ما تختلف السُّحُب عن التشويش الكهربي وعن نبضات القلب. التفاعل بين المُكوِّنات في مقياس نِسبي واحد يمكن أن يُؤدِّي إلى سلوك مُعقَّد شامل في مقياس نسبي أوسع، وبشكل عام لا يمكن استنباط هذا من معرفة المُكوِّنات المنفردة. إن الكل في المنظومة اللاخَطِّية أكثر كثيرًا من مجموع أجزائه، ولا يمكن اختزاله أو تحليله في حدود وحدات فرعية بسيطة تعمل معًا. غالبًا ما تكون الخصائص المتحصِّلة غير مُتوقَّعة ومُعقَّدة، ويصعب معالجتها رياضيًّا. ينظر إدجار ميتشيل إلى نظرية الشَّواش بوصفها دفعًا عظيمًا إلى الكُلَّانية في العلم:

تلوذ نظرية الشَّواش بالفرار من الاختزالية والتفكير الخَطِّي حيث يمكنك الحصول على الإجابة بمجرَّد إضافة حلول جديدة. تقول نظرية الشَّواش إن الكون لا خَطِّي. عليك أن تدرسه من الزاوية الكُلَّانية، أعانَنا الحاسب الآلي على هذا؛ لأنه لا تُوجد معادَلة يمكن أن تكتبها وتحصل على الإجابة. إنها محاوَلة وخطأ. عليك أن تخوض في الحل وترى إلى أين سيمضي. عليك أن تشق الطريق وترى إلى أين سيذهب بك. إذا قمتَ بتغيير الشروط الأوَّلية النَّذْر اليسير من التغيير وخُضتَ في الطريق مجددًا، قد يُفضِي بك إلى مآلٍ مختلف تمامًا. هذا النوع من المُقارَبة يُعين العلماء على تَفهُّم الطبيعة الكُلَّانية — أو اللاخَطِّيَّة — الكامنة وراء كل مسارات هذا الكون. الأشياء اللاخَطِّيَّة مُعقَّدة؛ لذلك لم ننظر فيها من قبل. أما الآن فنحن مدفوعون إلى هذا، وهذا يعني مُقارَبة كُلَّانيَّة، «ودراسة الشَّواش». من قبلُ كان العلم دائمًا يَفترض مُسبقًا أن الكون المنتظم بدأ عن حادثة عشوائية، عارضة، عن حدَث راجع إلى تَشوُّش عشوائي في الكون. ولكننا اكتشفْنا في نظرية الشَّواش أنك كلما تَعمَّقتَ أكثر وأكثر في النَّظر إلى ما يُسمَّى بالحركة العشوائية، رأيتَ أن ثَمَّة دائمًا أنموذجًا على مستوًى عميق. وهو ليس عشوائيًّا على الإطلاق. ثَمَّة نظام داخل العشوائية.٢١
يعرف الفيزيائيون كل المُعدلات التي تصف السلوك العادي للأشياء من قبيل؛ التيارات المتموِّجة، والبندول المتأرجح، والذبذبة الإلكترونية. وتبدو الميكانيكا مفهومة تمامًا. إلا هذه المنظومات تبدو أعقد من أن تخضع للتحليل حين تنتقل على طريق الشَّواش، مثلما يحدث حين يتحوَّل التيار المتدفق بنعومة إلى سيل جارف. إنَّ تفهُّم السلوك طويل المدى لمثل هذه الأنساق على مستوى كوكب الأرض يبدو مستحيلًا. هذا عالِم الرياضيات ميتشل فايجنباوم M. Feigenbaum واحد من الرُّواد في عالَم الشَّواش، وعن طريق آلته الحاسبة أبان أن المُعادَلات المفهومة جيدًا غير مطابقة لمقتضى الحال حين تقترب من المنظومات المتحوِّلة إلى الشَّواش، فقد لاحَظ أن:
جملة التقليد الفيزيائي هو أن تعزل الآليات، وحينئذٍ تنساب أمامك البقية الباقية. وهذا في حد ذاته يسقط تمامًا. ها هنا أنتَ تعلَم المعادَلات الصحيحة بَيْد أنها غير ذات نَفْع بالمرة. أنت تجمع على شظايا العالَم المتناهي في الصِّغر وتجد أنك لا تستطيع أن تَمدَّ نطاقها إلى المدى الطويل. إنها ليست ما يهم في المشكلة. ومعنى أن تَفهم شيئًا ما يَتغيَّر تغيُّرًا كُلِّيًّا.٢٢
حينما تتحرك المنظومة في اتجاه اللانظام، تبدأ بالانقسام إلى تيارين، على الطريقة التي يتصاعد بها الدخان من لفافة التَّبْغ. ثم ينقسم كل من هذين التيارين مجدَّدًا، لتتشكل أربعة تيارات. يستمر هذا الانقسام حتى يغدو شلالًا في عملية تُدعى «ازدواج الدورة period doubling» اكتشف فايجنباوم رقمًا كونيًّا، مفطورًا بهذه المنظومات في طريقها إلى اللانظام إنه ثابت أساسي تمامًا مثل الثابت الرياضي ، ممثلًا النسبة في المقياس التناسبي لنقاط الانتقال خلال عملية الازدواج. هذا الثابت، وهو ٤٫٤٤٩٢٠١٦٠٩٠ يتنبأ متى ستحدث الانقسامات. ووجد أن المنظومة حين تبدأ بذاتها في الانقسام مرة وأخري فإنها وبمنتهى الدقة تكشف عن التغير في النقطة عينها على طول المقياس التناسبي. مرجعية مثل هذه المنظومات كامنة في ذاتها؛ أي إن السلوك على أحد المستوَيات أو المقاييس التناسبية يسترشد بالسلوك على مستوًى أو مقياس آخَر مختف داخله. كان من الصعب على الفيزيائيين أن يَتقبَّلوا هذه العمومية، حيث تسلك المنظومات المختلفة سلوكًا متطابقًا. ولكن الثابت ٤٫٤٤٩٢٠١٦٠٩٠ قد تم اكتشافه في منظومات متنوعة من قبيل تعداد الحيوانات ومجموعة الدارات الكهربائية، ودورات رأس المال في الأنشطة الاقتصادية. يومئ هذا إلى أن إدراكنا لبنيات المنظومات يتوقَّف على الطريقة التي ننظر بها إلى المنظومات. إذا نظرْنا إليها بطريقة مُعيَّنة، سوف نراها تُكرِّر نفسها في المقاييس التناسبية المختلفة. بعض الخصائص تظل ثابتة بينما تَتغيَّر كل الأشياء الأخرى.

توصَّل فايجنباوم إلى اكتشافه العام ١٩٧٦م، ومن المثير للسخرية حقًّا أنه أمضى عامين يبحث عن مجلة علمية تنشر بحثه؛ وذلك لأن اكتشافه يطوي بين دَفَّتيه الرياضيات والفيزياء، على الرغم من أن هذا البحث أصبح نقطة تحوُّل في الرياضيات، لا يزال أحد رؤساء التحرير يُجادل في أنه لا يناسب قراء مجلته من أهل الرياضيات التطبيقية. وهذا مثال جيِّد لما يمكن أن يُفقدنا التقسيم التجزيئي إياه.

«مثال الفراشة» في علم الشَّواش يصف لنا هو الآخَر التواصل الداخلي بين الأشياء جميعًا، يقول هذا المثال إن رفرفة فراشة بجناحيها اليوم في طوكيو يمكن أن تَتحوَّل إلى منظومات لعاصفة تَهبُّ الشهر القادم في نيويورك. وهذا الذي يمكن التعبير عنه بمصطلَحات فَنِّية أكثر هي «الحساسية للشروط الأوَّلية»، إنما يصف التأثير الدرامي الذي يمكن أن تُحدِثه تغيُّرات طفيفة في منظومات كبيرة من خلال شبكة مباطنة من العلاقات.

اكتسب تأثير الفَراشة اسمه في بواكير الستينيات من القرن العشرين، وذلك بفضل عالِم أرصاد جوية في الولايات المتحدة الأمريكية يُدعَى إدوارد لورينز E. Lorenz كان يستخدم حاسبًا آليًّا من أَجْل حلِّ معادلات خَطِّية تحاكي. نموذجًا مُبسَّطًا لمنظومة طقس. أعاد أحد التَّنبُّؤات من أَجْل مراجعة بعض التفاصيل، وها هنا استخدم أرقامًا كانت تدور في ثلاث خانات عَشْرية بدلًا من سِتٍّ كما كانت الأرقام المستخدَمة في المحاوَلة الأسبق. وذُهِل حين اكتشف أن التَّنبُّؤ الجديد يختلف اختلافًا كُليًّا. إن الاختلاف الطفيف بين أرقام الخانات العَشْرية الثلاث، والخانات العَشْرية السِّتِّ قد تضخَّم تَضخُّمًا هائلًا عن طريق التكرار، إعادة حل المعادَلة نفسها، في كل مرة نَستخدم الإجابات من الحسابات الأسبق، مثل الفائدة المُركَّبة على وديعة بالبنك.

حينما أدرك لورينز أن مثل هذه التغيُّرات الطفيفة في شروط درجة الحرارة والضغط الجوي الأولية يمكن أن يَنجُم عنها منظومات مختلفة مثل هذا الاختلاف البائن، استنتج أن «رفرفة جناح الفراشة يمكن أن يُغيِّر الطقس». الطبيعة التكرارية للمُعادَلات اللاخَطِّيَّة تُمثِّل الطبيعة المتواصلة داخليًّا للمنظومات الديناميكية. في مثل هذه المنظومات لن تساعدنا أية تفاصيل إضافية في الوصول إلى تَنبُّؤ دقيق. هذه المنظومات حسَّاسة لدرجة أن أضأل التفاصيل يمكن أن يُؤثِّر فيها. تتجسد هذه الحساسية الفائقة في شكل عدم القابلية للتَّنبُّؤ، الشَّواش. وحيثما يحاول العلماء عزل وقياس منظومات ديناميكية كما لو كانت مُكوَّنة من أجزاء، فلا مندوحة لهم عن تدوير المُعْطَيات في نقطة ما. وطالما سيكون ثَمَّة دائمًا «معلومات مفتقَدة»، فلن تكون المنظومات الديناميكية مثل الطقس قابلة أبدًا للتَّنبُّؤ جملة وتفصيلًا.

هكذا قصفت نظرية الشَّواش النظرة الحتمية للعالَم، عن طريق الإثبات الرياضي للتواصل الداخلي في المنظومات الطبيعية، والإبانة عن أسلوب هذه المنظومات اللاخَطِّيَّة في تضخيم التغيُّرات الطفيفة. إنها تقول إن ثَمَّة إرادة حرة. ما يفعله شخص واحد في العالَم يمكن أن يحدث تغييرًا.

ترابطية الكوانتم

الفلسفة التحليلية الذُّكورِيَّة التي انتصرتْ لها الجمعية المَلكية في لندن أدَّت إلى تصوُّر مفاده أن الكون يُشبه الساعة، كل جزء فيه مستقل ويتفاعَل مع الجزء الآخَر عن طريق دَفْع وجَذْب لتروس وقُضبان. لم يَعتقدوا أن قُوى تفاعُل الجذب والدفع تؤثِّر في الطبيعة الداخلية للأجزاء. وعلى الرغم من كشوف النسبية ونظرية الكوانتم، تظل هذه الفكرة القائلة إنك تستطيع أن تختزل كل شيء إلى آلة ميكانيكية هي المُقارَبة الأساسية لمُعظَم العلماء في يومنا هذا. يفترض أنصار البرنامج الميكانيكي أن كل شيء يمكن في آخِر الأمر معالجته بهذه الطريقة. يقول ديفيد بوم، وهو في طليعة علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالَم، عن هذا النموذج للطبيعة:

النموذج الميكانيكي يجعل الطبيعة وسيلة لغاية. إنه ينطوي على أن الطبيعة هنالك من أَجْلِنا لنغتَنِم كل ما نَرُومه منها. وأنا أُجاهر بأن هذا النموذج غير مقبول. لستُ أناهض معالَجة الأشياء بوصفها أجزاء. ولكن يجب علينا أن نفهم ما الذي تَعنيه كلمة جزء. ليس للجزء معنًى إلا في حدود الكل. أما الفكرة القائلة بمعالَجة كل شيء فقط من حيث هو أجزاء فيمكن العمل بها فقط في عملية قصيرة المدى، لكنها لا تصلح حين مواصلة المسير.٢٣

يظل معنى نظرية الكوانتم غامضًا، على الرغم من أنها ذات قيمة تَنبُّؤية عُظمى. وفي مقابل عالَم نيوتن الصلود، يُوصَف عالَم الكوانتم الغائم بواسطة تلك المفاهيم المُقلِقلة؛ مثل: التعقد، واللايقين، والإمكان، والاحتمالية، والنَّفقية، وثُنائية الموجة/الجسيم، والعشوائية، والتوليد، وتأثير المُلاحظ. تشبه نظرية الكوانتم، من بعض النواحي الطفل المعتوه المَلقِيَّ به في سقيفة على سطح المنزل ليتجاهله كل شخص بشكل ما. لقد بُذِلَت بضعة محاولات لربط هذه المفاهيم بعالَم الحياة اليومية، جزئيًّا لأن فيزيائِيِّي الكوانتم يتعاملون مع نظرية الكوانتم تعاملًا رياضيًّا فحسب، من دون أن يأخذوا في الاعتبار ما تعنيه فيما يتجاوز هذا المستوى. وأيضًا أصبح العلم تخصصيًّا، حتى إن العلماء الآخَرِين لا يمتلكون إلا فكرة غامضة عمَّا يفعله المُنظِّرون في مجال ميكانيكا الكوانتم. ومع هذا وَجد بُوم أن نظرية الكوانتم تُزوِّدنا بأُسس نظرية ﻟ «التواصل الداخلي بين الأشياء جميعًا» الذي وصفته هيلدجارد وآخرون. ومن الغريب حقًّا، أن نظريته في الكُلَّانية جعلته منشقًّا عن زملائه العِلميِّين، وسخر منه بعضهم بأنه عالِم «يجوب التِّلال». على أية حال، كانت أوراق اعتماده لا غبار عليها.

لقد حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بركلي، وكان آخِر طالب دراسات عليا يدرس على يد ج. روبرت أوبنهايمر قبل أن يذهب هذا الأخير إلى لوس آلاموس ليباشر مشروع القنبلة الذَّرية. وحينما كان يُدرِّس في برينستون كَتب مرجعًا دراسيًّا هو «نظرية الكوانتم» ١٩٥١م. وأصبح هذا الكتاب الذي أثنى عليه ألبرت أَينشتَيِن مرجعًا كلاسيكيًّا في مجال ميكانيكا الكوانتم. وأيضًا يشيع في الجامعات الرجوع إلى كُتبه في المعنى الفلسفي لنظرية الكوانتم والنسبية، وهي: «العِلِّيَّة والمُصادَفة في الفيزياء الحديثة» ١٩٥٧م، و«النظرية النِّسبية الخاصة» ١٩٦١م. ولاحقًا كُتُب «الكُلَّانية والنظام المتضمن» ١٩٨٠م، و«العلم والنظام والإبداع» ١٩٨٧م. لقد حاز على إعجاب زملائه بفضل عمله الذي تناول البلازما في المَجالات المغناطيسية، ومده لنطاق نظرية البلازما إلى المعادن، وإسهاماته في تَصميم آلات مثل المُسرِّع الحلقي cyclotron والمُسرِّع الحلقي التزامني synchro-cyclotron. بل إن ثَمَّة ظاهرتين معروفتين باسمه وهما «انتشار-بوم»، و«مفعول بوم-آهارونوف Bohm-Aharonov effect». وحتى وفاته العام ١٩٩٢م، كان يشغل منصب أستاذ متقاعِد للفيزياء النظرية في كلية بربك، بجامعة لندن.
يعمل جون بريجز J. Briggs على نَشْر وإشاعة أفكار بوم، ويصفه بأنه «رجل شاحب الوجه خجول تراه مرتديًا سُويترات بياقة صوفية، وسترات الأساتذة المصنوعة من الصوف الخشن، ويجلس لفترات طويلة بمظهر يبدو سلبيًّا بينما هو يُنصِت إلى النِّقاش الدائر من حوله. ولكن حين يتطرق مدار الحديث إلى العلم أو التحوُّل، يتغيَّر وجهه. يعلو صوته، تتحرَّك يداه، ترتعش أصابعه كقرون الاستشعار التي تَهدي إلى الطريق على الرغم من الانقلابات الدَّواهي في المَنطق التي تُبِهتُ بنصوعها. يتحول بوم إلى شخصية كاريزمية خلال اللَّحظات التي يُعبِّر فيها عن علمه وفلسفته للكُلَّانيَّة».٢٤

إن دراساته لتضمُّنات نظرية الكوانتم على مدار الخمسين عامًا الماضية قد تأدَّت به إلى استنتاج مفاده أن عالَم الذَّرة عالَم محبوك من دون خطوط وصل ولا ينبغي النظر إليه بوصفه مُكوَّنًا من مجموع أجزاء غير مترابطة. ارتأى النظام المخبوء يعمل تحت سطح ما يبدو من شواش وعدم اتصال بين جُسَيمات المادة الفُرادى التي تَصفها ميكانيكا الكوانتم. ووضع لهذا البُعد الخبيء مصطلحًا هو «النظام المُتضمِّن»، وهو منبع جماع المادَّة المَرئية (السافرة) في كوننا الزماني المكاني. وبينما تُحاوِل الفيزياء الحديثة تَفهُّم الكل فهمًا اختزاليًّا عن طريق البدء بأكثر الأجزاء أولية، يقترح بوم فيزياء ما بعد الفيزياء الحديثة، الفيزياء التي تبدأ بالكل.

يستخدم بوم تشبيهًا مَجازيًّا بالصورة المُجسَّمة ثلاثية الأبعاد hologram لكي يعطي تصوُّرًا ثُبوتيًّا لنظريته في الكل، نظرية «النِّظام المتضمَّن». الصورة المجسَّمة ثلاثية الأبعاد هي تسجيل فوتوغرافي عن طريق ضوء الليزر. وإضاءة شُعاع ليزر خلال اللوحة يَخلق إسقاطًا ثلاثي الأبعاد. وتختلف الصورة المختزَنة على اللوحة الفوتوغرافية عن الصورة الفوتوغرافية العادية، في أنها لا تماثل الموضوع الأصلي. وبدلًا من هذا يحوي كل قطاع من اللوحة بيانات عن الإسقاط ككل. إذا تخارَج جزء من لوحة هذه الصورة المُجسَّمة ثلاثية الأبعاد وأُضيء بشعاع من الليزر، فإنه يظل يسقط الكل، فقط بشكل غائم. تُوعِز لنا الصورة المُجسَّمة ثلاثية الأبعاد بفهم جديد للكون، حيث تَكون المعلومات عن الكل مَطويَّة في كل جزء، وحيث تكون موضُوعات العالَم الشَّتَّى ناتجة عن بَسْط تلك المعلومات. بَيْد أنَّ الصور المجسَّمة ثلاثية الأبعاد لا تقتنص الحركة الديناميكية التي يراها بوم أساسية لنظام التَّضمُّن الشامل في الكون، حيث كل «جزء» من الأجزاء المنسابة يحمل في داخله صورة ضِمنِيَّة للكل دائم التغيُّر والمنبسط.

كَوْن بوم هو مسار من الحركة، انبساط واشتمال دائم لكل بلا خطوط وصل. ولكي يساعدنا بوم على تَخيُّل هذه الحركة الكلية، يستخدم حيلة مُكوَّنة من أسطوانَتين زجاجيَّتَين مُتَّحدَتَي المركز، الأسطوانة الداخلية مُثبَتة والخارجية يمكن أن تدور. بين الأسطوانتين سائل غروي مثل الجلسرين. حين تُوضَع قطرة من حِبْر غير قابل للذوبان في السائل وتدور الأسطوانة الخارجية ببطء، سوف تنسحب بقعة الصبغة لتغدو خيطًا. وفي النهاية، يغدو الخيط رفيعًا حتى يصبح غير مَرئِي. والآن إذا عادَت الأسطوانة الخارجية للدوران ببطء في الاتجاه المعاكس، سوف ينقلب السائل عائدًا على طريق خُطاه السابقة بمنتهى الدِّقَّة، وفجأة تتشكل بقعة الحبر وتغدو مرئية مجدَّدًا. لقد اشتمل الجلسرين بقعة الحبر، وعادَت لتنبسطَ مُجدَّدًا بالحركة المعاكسة. إذا أُضيفَت بقعة حِبْر ثانية بعد اشتمال الجلسرين للبقعة الأولى، وعادت الأسطوانة إلى الحركة في الاتجاه المعاكس، سوف تظهر وتَختفي البقعتان في أوقات مُتفاوِتة. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو وكأنه جُسَيم يَعبُر الحَيِّز، فإن المنظومة ككل، في واقع الأمر، مُتضمَّنة دائمًا. كل أجزاء الكون، عند بوم، متواصلة داخليًّا في الأساس، تُشكِّل كُلًّا منسابًا غير قابل للفصم أو القصم:

تقول الفيزياء الكلاسيكية إن الواقع في حقيقته جُسَيمات ضئيلة تُقسِّم العلم إلى عناصره المستقلة. وأنا الآن أقترح العكس، وهو أن الواقع الأساسي اشتمال وانبساط، وتلك الجُسَيمات تجريدات من هذا. إنَّنا نستطيع أن نرسم صورة للإلكترون ليس بوصفه جُسَيمًا يوجد بصفة دائمة، بل بوصفه شيئًا يدخل ويخرج ثم يجيء مجدَّدًا. إذا وضَعْنا هذه الاعتبارات الشَّتى معًا، فإنها تُداني المسار. الإلكترون في حد ذاته لا يمكن أن ينفصل عن الحَيِّز ككل، الذي هو خلفيَّته.٢٥

يتراءى لبوم أن إدخال التنوع يُثْرِي الكل، تُثريه المَناحي المختلفة للأجزاء الفُرادى المختلفة، وإحراز «وحدة التنوع». بالنِّسبة له، الموسيقى الحقيقية في الكون هي وحدة الوحدة والتَّنُّوع، أو كُلَّانيَّة الكل والأجزاء. لقد وصَفْنا في الفصل السادس هذا الطريق الآخر للنظر إلى النظام (الوحدة) داخل الشَّواش (التَّنوُّع)، حيث النظام والشَّواش مُتشابكان ومُتوازنان. وأيضًا يتحدث علماء البيئة عن قيمة التنوع إذ يَتَّجه عمَلُهم نحو الحفاظ على تَنوُّع الأنواع الحية والمنظومات البيئية.

بينما تَعتبِر الصورة الميكانيكية الأشياء المنفصلة هي الواقع الأوَّلِي، وأن اشتمال وانبساط الكائنات العضوية بمثابة ظواهر ثانوية، يرتَئي بوم أن الحركة الجامعة holomovement، الحركة غير القابلة للفصم، هي الواقع الأَوَّلي. وثمة جانب جوهري لما يَرتئيه وهو أن الكون ككل هو اشتمال فعَّال بدرجة أو بأخرى في كل جزء من الأجزاء. وبينما ترتبط الأجزاء في النَّظرة الميكانيكية ببعضها البعض فقط من الخارج، فإن تأويل بوم هو تأويل للترابطية الجُوَّانية. ويُبين في كتاباته المتخصصة كيف يمكن فَهْم القوانين الرياضية لنظرية الكوانتم من حيث هي وصف للحركة الجامعة، حيث ينبسط الكل في كل قطاع من قطاعاته، والكل يشتمل على القطاع.

يقول بوم، حول ربط تأويله لنظرية الكوانتم بأصل الكون:

تخيَّلْ بحرًا لا متناهيًا من الطاقة التي تملأ الفضاء الخالي، وحركة المَوجات تَجوب في أرجائه، وبين الحين والآخَر تَتجمَّع معًا لينجم عنها خَفْقَة مُكثَّفة. ولنَقُل إن خَفْقة واحدة معيَّنة تتجمع معًا وتتمدَّد؛ لتُشيِّد بهذا كونَنا، كون المكان-الزمان والمادة. ولكن يمكن أن يكون ثَمَّة خَفقات أخرى مماثِلة. بالنسبة لنا تبدو تلك الخفقة كانفجَار كبير؛ على أنها في السياق الأعظم، هي جعدة بسيطة. كل شيء ينبثق عن انبساط في الحركة الجامعة، ثم يعود ليشتمل عليه في النظام المُتضمَّن. أنا أُسمِّي عملية الاشتيال تَضمُّنًا، وعملية الانبساط سُفورًا. التَّضمُّن والسُّفور فيض، كُلَّانيَّة لا انفصام فيها. كل جزء من أجزاء الكون يترابط مع كل جزء آخَر لكن بدرجات متفاوتة.٢٦
تُشبه المادة جَعدة صغيرة في محيط هائل من الطاقة، ذي قَدْر نِسبي من الاستقرار ومن البيان.٢٧

الحياة المتكاملة

إن العلماء العِظام حقًّا؛ أمثال: هيلدجارد، وأينشتين، وفينمان، وبوم، لا يقومون بتقسيم حيواتهم إلى مَقولات شخصية ومَقولات علمية. لا يستبعدون من مَضامين مشاغلهم «ما هو سؤال فلسفي، ما هو سؤال في الميتافيزيقا». بل على العكس من ذلك، يترك عملهم تأثيراته في رؤيتهم الشخصية للعالَم، الروحية والفلسفية. يدركون الثِّقل الكبير لارتقائهم السيكولوجي وحياتهم الجُوَّانية على عملهم. لقد فاز عالِم الفيزياء النظرية فولفجانج باولي W. Pauli بجائزة نوبل لصياغته «مبدأ الاستبعاد exclusion» في نظرية الكوانتم، وكان يلتقي مِرارًا وتكرارًا مع عالِم النَّفس كارل يونج من أَجْل تبادُل خَصيب للأفكار حول العلاقات بين الفيزياء النظرية وعِلم النَّفْس. وكتب أَينشتَيِن «أَستمسِكُ بأن الشعور الديني الكوني هو أقوى وأنبل دافعٍ للبحث العلمي.»٢٨
وبشكل مُكثَّف، تبادَل بوم أفكارًا مع كريشناموري، وأيضًا مع قداسة الديلاي لاما بالتبت. وهو يختلف عن مُعظَم العلماء الذين يَسْتَبْقون أفكارهم الروحية كأمر شخصي، فقد قام بنشر مناقشاته الميتافيزيقية مع كريشناموري في كتابَي «الحقيقة والواقع الفعلي» ١٩٧٨م، و«نهاية الزمان» ١٩٨٣م، ونُشِرت مناقشاته مع الديلاي لاما في كتاب رينيه ويبر R. Weber «حوارات مع علماء وحكماء» ١٩٨٦م.

إن الأفكار التي تدور حول الكُلَّانية ليست مَحْض مفاهيم فلسفية ميتافيزيقية مجرَّدة. إنها تُحدِّد الطريقة التي ننظر بها إلى العالَم. تُؤثِّر على الطريقة التي نُشخِّص ونُعالج بها الأمراض. يمد بوم أواصر القُربى بين نظرياته في الكُلَّانية وبين حَيواتنا اليومية:

لسنا نتصور أن مُقاربتنا المُتشظِّية للواقع تُمثِّل مشكلة؛ لأن غالبيتنا لديهم افتراض ميتافيزيقي لا واعٍ بأن الطبيعة مصنوعة من أجزاء مُنفصِلة. العين جُزء والأذن جُزء آخَر، والجزءان يتفاعلان. وأزعم أن الواقع ليس على هذه الشاكلة. إذا كان لديك عَطَب ما في عينيك، يقول اقتراضنا إن المتاعب تنشأ في هذا الجزء. لكنها قد لا تكون هكذا. قد تنشأ في الجسد ككل، في العقل، أو في المجتمَع.

مثلًا، قد تكون المشكلة إرهاقًا أو تلوثًا، المجتمع الذي شَيَّدناه قد يُسبِّب انهيارًا لكل صنوف الأجزاء. قد تَقوم برأب الأجزاء بشكل راهني، لكن هذا يُشبه صَبَّك التلوث عند منبع النهر وأنت في الوقت نفسه تحاول إزالة النِّثار من المصب.

إن التلوث ذاته مثال مُطابق للمقارَبة المتشظية. ولعله أسطع الأمثلة. كل شخص ينجز شيئًا ما، يجمع ثروته، ويُخرج ما يُنتجه، وبالتالي يضيف قليلًا من نِثار التلوث. ولأن العالَم مُتناهٍ، كل هذه النِّثارات البسيطة تؤثِّر في بعضها البعض، حتى تَتسمَّم التربة والهواء، وتموت الأسماك، ويتبدَّل الطَّقس.٢٩

دعا بوم إلى عِلم ما بعد العلم الحديث، علم لا يفصل بين المادة والوعي، حتى إن الوقائع والمعنى والقيمة، جميعها تقوم سواسية بتبصير العلم. حينئذٍ سوف يمتلك العلم أخلاقياته المتأصِّلة، ولن ينفصل عن الحقيقة والفضيلة مثلما ينفصل عنهما في الواقع الراهن. إن اقتراح بوم يسبح عكس تيار النظرة السائدة التي تقول إن العلم ينبغي أن يكون طريقة مُحايِدة أخلاقيًّا لمُعالجة الطبيعة، مُحايدة بإزاء الخير أو بإزاء الشر، تبعًا لخيارات أولئك الذين يقومون بتطبيقه:

إذا استطعنا أن نمتلك شعورًا حدسيًّا وخياليًّا بالعالم ككل بوصفه مُشيَّدًا كنظام مُتضمَّن، وأيضًا نَشتمل نحن عليه، سوف نستشعر أنَّنا وهذا العالَم شيء واحد. ولن نعود لنقنع فقط بمعالجَته بالوسائل الفَنِّية من أَجْل مصالحنا المفترضة، بل سنشعر بِحُب حقيقي له. سوف تَستبِد بنا الحاجة للعناية به، كما هو الأمر إزاء أي شخص قريب منا ونَضمُّه نحن كجزء لا يتجزأ منا.

ولأن العالَم يشملنا اشتمالًا لا انفصام فيه، من دون قسمة نهائية بين المادة والوعي، فإن المعنى والقيمة جوانب مُكمِّلة للعالم بقدر ما هي جوانب مُكمِّلة لنا نحن. أما إذا واصل العلم طريقه سائرًا في اتجاه لا يعرف الأخلاقيات، فإن العالَم في نهاية المطاف سوف يستجيب للعِلْم بطريقة مدمِّرة.٣٠

ثَمَّة مغالاة في التشديد على المُقارَبة الاختزالية، في غضون هذا قليلًا ما يُولي العلماء انتباهًا للمنظور الكلانِّي. وإذ نفعل هذا، نهدر فرصًا لحل مشاكل سالفة عسيرة المراس. وعن طريق مواصلة هذه المُقارَبة الأحادية الجانب قد نجعل الكوكب، في خاتمة المطاف، غير قابل للسُّكنى فيه. وكما يجب أن تتكامل الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية في الأفراد إبَّان رحلتهم إلى الكُلَّانية، بالمثل تمامًا يجب أن يُعانق العلمُ الأُنْثَوية لكي يُقدِّم نفعًا أكثر اكتمالًا لهذا الكوكب.

في الفصل التالي سوف ننظر في امتدادات علمٍ، الكُلَّانيةُ هي نغمته السائدة.

١  Gabriele Uhlein, Meditations with Hildegard of Bingen (Santa Fe: Bear & Co., 1983), p. 41.
٢  إدجار ميتشيل، «خلْق واقع جديد»، ورقة عُرِضت في المؤتمر العلمي السَّنوي الثالث عشر للاتحاد الأمريكي للطب الكُلَّاني، ٣١ مارس ١٩٩٠م، في مدينة سياتل بولاية واشنطن، وقد حصل إدجار ميتشيل على دكتوراه العلوم، وكان واحدًا من رُوَّاد الفضاء في رحلة أبولو ١٤، وسادِس رَجُل يَسير على القمر، وهو أيضًا من مؤسِّسي كل من معهد العلوم العقلية، واتحاد رُوَّاد الفضاء، ومؤلِّف كتاب «استكشاف النَّفْس: تحدٍّ أمام العلم».
٣  المصدر نفسه.
٤  Martin Lasden, “Closing in on Creation,” Stanford (March 1990), p. 26.
٥  Paul Davies, The Cosmic Blueprint (New York: Simon & Schuster, 1988), pp. 198-199. ودافيس هو أستاذ الفيزياء الرياضية في جامعة أدِلييد في أستراليا.
٦  Renee Weber, Dialogues with Scientists and Stages: The Search for Unity (London: Routldge & Kegan Paul, 1986), p. 29.
٧  مُقابَلة مع سلفيا بولاك في ١١ نوفمبر ١٩٩٠م.
٨  المصدر نفسه.
٩  مقابَلة أُجْرِيت مع إنجريث ديرب-أولسن، في ١١ يناير ١٩٩٠م.
١٠  Barbara Sicherman and Carol Hurd Green, ed., Notable American Women: The Modern Period (Cambridge, Mass.: Belknap Press, 1980), p. 140.
١١  صدرت لهذا الكِتاب المهم ترجمة عربية بقلم د. أحمد مستجير، صادرة عن دار نَشر جامعة القاهرة.
١٢  Sicherman, Notable American Women, p. 140.
١٣  Uhlein, Meditations with Hildegard of Bingen, p. 10.
١٤  Constance Holden, “Multidisciplinary Look at a Finite World,” Science 249 (July 6, 1990), pp. 18-19.
١٥  Ibid.
١٦  Kelley, The Home Planet, p. 71.
١٧  مقابلة مع دافيدا تلر في ١٤ يناير ١٩٩٠م.
١٨  مقابلة مع باتريشيا توماس في ٢ يناير ١٩٩٠م.
١٩  مُقابَلة مع إيمي باكن، في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
٢٠  المصدر نفسه.
٢١  إدجار ميتشيل، «خلق واقع جديد».
٢٢  Gleick, Chaos: Making a New Science, pp. 174-175.
٢٣  John Briggs, “Quantum Leap, an Interview with David Bohm,” New Age Journal (September/October 1989), p. 49.
٢٤  Ibid., p. 46.
٢٥  John Briggs and F. David Peat, “Interview: David Bohm,” Omni 9 (January 1987), p. 72.
٢٦  المصدر نفسه.
٢٧  Weber, Dialogues with Scientists and Sages, p. 51.
٢٨  Albert Einstein, Ideas and opinions (New York: Bonanza Books, 1954).
٢٩  Briggs, “Quantum Leap,” p. 49.
٣٠  David Bohm, “Postmodern Science and a Postmodern World,” in David Ray Griffin, ed., The Reenchantment of Science (New York: State University of New York Press, 1988), p. 67.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤